الثلاثاء، 2 أبريل 2024

الجزء الثالث والرابع بدون توابع من كتاب ارشاد الفحول للشوكاني

 

المحتوي 

المحتويات المسلك الأول : الإجماع المسلك الثاني : النص على العلة المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه المسلك الرابع: الإستدلال على علية الحكم بفعل النبي ضصض كذا قال القاضي في التقريب المسلك الخامس: السبر والتقسيم المسلك السادس: المناسبة المسلك السابع: الشبه المسلك الثامن: الطرد المسلك التاسع: الدوران المسلك العاشر: تنقيح المناط المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط الفصل الخامس فيما لا يجري فيه القياس الفصل السادس في الاعتراضات الفصل السابع في الاستدلال إرشاد الفحول - الجزء الثالث

ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الإمام الشوكاني

الفصل الأول في تعريفه

 

وهو في اللغة تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به ولذلك سمي المكيال مقياساً وما يقدر به النعال مقياساً ويقال فلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه وقيل هو مصدر قست الشيء إذا اعتبرته أقيسه قيساً وقياساً ومنه قيس الرأي وسمي امرؤ القيس لاعتبار الأمور برأيه. وذكر صاحب الصحاح و ابن أبي البقاء فيه لغة بضم القاف يقال قسته أقوسه قوساً هو على اللغة الأولى من ذوات الياء وعلى اللغة الثانية من ذوات الواو. وفي الاصطلاح حمل معلوم على علوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة كذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني قال في المحصول . واختاره جمهور المحققين منا ، وإنما قال معلوم ليتناول الموجود والمعدوم فإن القياس يجري فيهما جميعاً . واعترض عليه بأنه إن أريد بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما للآخر فقوله بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لذلك فيكون تكراراً من غير فائدة. واعترض عليه أيضاً بأن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع ثبت بالقياس وهو باطل فإن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع ، واعترض عليه بأن إثبات لفظ أو في الحد للإبهام وهو ينافي التعيين الذي هو مقصود الحد ، وقال جماعة من المحققين أنه مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادة عليه في المعنى المعتبر في الحكم وقال أبو الحسين البصري وهو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد، وقيل إدراج خصوص في عموم ، وقيل إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به ، وقيل إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه ، وقيل استنباط الخفي من الجلي ، وقيل حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل ، وقيل حمل الشيء على غيره وإجراء أحدهما على الآخر ، وقيل بذل الجهد في طلب الحق ، وقيل حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه ، وقيل حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه وعلى كل حد من هذه الحدود اعتراضات يطول الكلام بذكرها ، وأحسن ما يقال في حده استخراج مثل حكم المذكور لما لم يذكر بجامع بينهما فتأمل هذا تجده صواباً إن شاء الله ، وقال إمام الحرمين يتعذر الحد الحقيقي في القياس لاشتماله على حقائق مختلفة كالحكم فإنه قديم والفرع والأصل فإنهما حادثان والجامع فإنه علة ووافقه ابن المنير على ذلك ، وقال ابن الأنباري الحقيقي إنما يتصور فيما يتركب من الجنس والفصل ولا يتصور ذلك في القياس . قال الأستاذ أبو إسحاق اختلف أصحابنا فيما وضع له اسم القياس على قولين . أحدهما أنه استدلال المجتهد وفكرة المستنبط . والثاني أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه قال وهذا هو الصحيح انتهى . واختلفوا في موضوع القياس قال الروياني وموضوعه طلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها ليلحق كل فرع بأصله . وقيل غير ذلك مما هو دون ما ذكرناه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

الفصل الثاني في حجة القياس

 

إعلم أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية . قال الفخر الرازي كما في الأدوية والأغذية وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه ضصض وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين إلى أنه أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي يرد بها السمع . قال في المحصول اختلف الناس في القياس الشرعي فقالت طائفة العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع .

 

أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دال عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع : الأول أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا و أبو الحسين البصري من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك . والثاني أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية . والثالث أن القاساني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين : إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه. والصورة الثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف . وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقسية .

 

 

وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به . ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة ، وأما القسم الثاني : وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به فهم فريقان . أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهو قول النظام ، والفريق الثاني : الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع انتهى .

 

قال الأستاذ أبو منصور : المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب . أحدهما ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة . والثاني في العقليات دون الشرعيات وبه قال جماعة من أهل الظاهر . والثالث نفيه في العلوم العقلية وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية والرابع نفيه في العقليات والشرعيات . وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني انتهى . والمثبتون له اختلفوا أيضاً ، قال الأكثرون هو دليل بالشرع . وقال القفال وأبو الحسين البصري هو دليل بالعقل والأدلة السمعية وردت مؤكدة له . وقال الدقاق يجب العمل به بالعقل والشرع وجزم به ابن قدامة في الروضة وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله لايستغني أحد عن القياس قال وذهب أهل الظاهر والنظام إلى امتناعه عقلاً وشرعاً وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار . ثم اختلف القائلون به أيضاً اختلافاً آخر وهو دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية ؟ فذهب الأكثرون إلى الأول وذهب أبو الحسين والآمدي إلى الثاني .

 

وأما المنكرون للقياس ، فأول من باح بإنكار النظام وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبدالله الاسكافي وتابعهم على نفيه في الأحكام داود الظاهري . قال أبو القاسم البغدادي فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحداً سبق النظام إلى القول بنفي القياس . قال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم أيضاً لاخلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود فإنه نفاه فيهما جميعاً . قال ومنهم من أثبته في التوحيد و نفاه في الأحكام ، وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني والمغربي والقاساني أن القياس محرم بالشرع . قال الأستاذ أبو منصور أما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو معدول عنه بفحوى النص ودليله وذلك يغنى عن القياس . قال ابن القطان ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل ولا يجوز القول به . قال ابن حزم في الأحكام ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله به والقول بالعلل باطل انتهى . والحاصل أن داود الظاهري وأتباعه لايقولون بالقياس ولو كانت العلة منصوصة . ونقل القاضي أبو بكر والغزالي عن القاساني والنهرواني القول به فيما كانت العلة منصوصة . وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ولا حاجة لهم إلى الاستدلال . فالقيام في مقام المنع يكفيهم وإيراد الدليل على القائلين به وقد جاؤوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة فلا نطول البحث بذكرها وجاءوا بأدلة نقلية فقالوا دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب والسنة والإجماع .

 

أما الكتاب ، فقوله تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة يقال عبرت على النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا جاوزها إلى ما يلازمها قالوا فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعاً للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلاً تحت الأمر . قال في المحصول فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة فقط بل هو عبارة عن الألفاظ بوجوه : الأول أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي إنه معتبر . الثاني أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار . الثالث قوله تعالى : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة والمراد الأتعاظ . الرابع يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الألفاظ لا في المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلنا فعليكم بالترجيح معنا ، فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البركان ذلك ركيكاً لا يليق بالشرع وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقة ، سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس من الشرع وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالاً على النوع الذي ليس إلا عبارة من مجموع جهة الاشتراك . قال وأيضاً فنحن نوجب اعتبارات أخر : الأول إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب ، والثاني قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ، والثالث الأقيسة في الأمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب ، والرابع أن يشبه الفرع بالأصل في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص ، والخامس الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتباراً يكون خارجاً عن عهدة هذا الأمر وثبت أن بيانه في صور كثيرة فلا يبقى فيه دلالة ألبته على الأمر بالقياس الشرعي . ثم قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين : الأول أنه يقال فلان اعتبر فاتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير . الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الانسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه لا يكون متعظاً ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته .

 

ويجاب عن الوجه الأول بالمعارضة فإنه يقال فلان قاس هذا على هذا فاعتبر، والجواب الجواب . ويجاب عن الثاني بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ فإن من نظر في شيء من المخلوقات فاتعظ به لا يقال فيه متصف بالمجاوزة لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً وأيضاً يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي وليس ما يفيد ذلك البتة ولو كان القياس مأموراً به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار لكان كل اعتبار أو عبور مأموراً به واللازم باطل والملزوم مثله . وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين ولا من العقلاء إنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان أو يجري دمع عينه أو يعبر رؤيا الرائي مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي . والحاصل أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته .

 

واستدل الشافعي في الرسالة على إثبات القياس بقوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم قال فهذا تمثيل الشيء يعدله، وقال يحكم به ذوا عدل منكم وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره انتهى . ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلاً له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل العلة جامعة وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها وليس ذلك من القياس في شيء .

 

واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم قالوا أولوا الأمر هم العلماء والاستنباط هو القياس . ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل على المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقيد أو الاجمال أو التبيين في نفس النصوص أو نحو ذلك مما يكون طريقاً إلى استخراج الدليل منه . ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصاً بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه لا بما ملحقاً بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله له بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به .

 

واستدل أيضاً بقوله إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية قال لأن القياس تشبيه الشيء فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز وذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية لأننا نعلم أنه صحيح من فعل لا يخلو من الجهالة والنقص لأنا لا نقطع بصحته بل ولا نظن ذلك لما في فاعله من الجهالة والنقص .

 

واستدل غيره بقوله تعالى: قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحداً وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما .

 

واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وتقريره أن العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية . ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلاً على المطلوب بوجه من الوجوه ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من أنواع الظنون الزائفة وخصلة من خصال الخيالات المختلة.

 

وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس فاعلم أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله ضصض فيما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال لما بعثه النبي ضصض إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ضصض قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ضصض ولا في كتاب الله قال اجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله ضصض صدره وقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله والكلام في إسناد هذا الحديث يطول وقد قيل إنه مما تلقى بالقبول . وأجيب عنه بأن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية ورد بأنه إنما قال أجتهد رأيي بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال أنه غير موجود في الكتاب والسنة . وأجيب عن هذا الرد بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثبات واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة ويكون بالتمسك بالبراءة الأصلية أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو في الخطر على اختلاف الأقوال في ذلك أو التمسك بالمصالح أو التمسك بالاحتياط وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي فليس المراد كل قياس بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها والرجوع إليها كالقياس الذي علته منصوصة والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلفة والشبه الباطلة . وأيضاً فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة وأما بعد النبوة فقد كمل الشرع لقوله : اليوم أكملت لكم دينكم ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .

 

واستدلوا أيضاً بما ثبت عن النبي ضصض من القياسات كقوله أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه ؟ قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضي . وقوله لرجل سأله فقال أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها فقال أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قال نعم قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود هل لك من أبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فمن اين قال لعله نزعه عرق قال وهذا لعله نزعه عرق وقال لعمر وقد قبل امرأته وهو صائم أرأيت لو تمضمضت بماء وقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام وقد وقع منه ضصض قياسات كثيرة حتى صنف الناصح الحنبلي جزءاً في أقيسته ضصض ويجاب عن ذلك بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه إن هو إلا وحي يوحى ويقول في وجوب اتباعه وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وذلك خارج عن محل النزاع فإن القياس الذي كلامنا فيه هو قياس من لم يثبت له العصمة ولا وجب اتباعه ولا كان كلامه وحياً بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه ضصض.

 

واستدلوا أيضاً بإجماع الصحابة على القياس . قال ابن عقيل الحنبلي وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي وقال الصفي الهندي دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين وقال الرازي في المحصول مسلك الإجماع هو الذي عول جمهور الأصوليين وقال ابن دقيق العيد عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقاً وغرباً قرناً بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال وهذا أقوى الأدلة . ويجاب عنه بمنع ثبوت هذا الإجماع فإن المحتجين بذلك إنما جاؤونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين في غاية القلة فكيف يكون ذلك إجماعاً لجميعهم مع تفرقهم في الأقطار واختلافهم في كثير من المسائل ورد بعضهم على بعض وإنكار بعضهم لما قاله البعض كما ذلك معروف . وبيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الاخوة على أقوال معروفة وإنكار بعضهم على بعض وكذلك اختلفوا في مسألة زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وأنكر بعضهم على بعض وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع وهكذا وقع الانكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم والقياس إن كان منه فظاهر وإن لم يكن منه فقد أنكره كما في هذه المسائل التي ذكرناها ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها والتي قطع فيها بنفي الفارق فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصوليين أثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل وتسافر فيها الأذهان حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء وتتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر ولا من الشريعة السمحة السهلة في قبيل ولا دبير وقد صح عنه ضصض أنه قال : تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد براهينه . وإذا عرفت ما حررناه وتقرر لديك جميع ما قررناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب على إصطلاح من يسمى ذلك قياساً وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة .

 

ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظياً وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها . وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية . ويجاب عن هذا بما قدمنا من أخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما اخبرها رسوله ضصض من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها .

 

ثم لا يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم بيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

الفصل الثالث في أركان القياس

 

وهي أربعة : الأصل والفرع والعلة والحكم ، ولا بد من هذه الأربعة الأركان في كل قياس ومنهم من ترك التصريح بالحكم وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح القياس إلا بعد التصريح به قال ابن السمعاني ذهب بعضهم إلى جواز القياس بغير أصل قال وهو من خلط الاجتهاد بالقياس والصحيح أنه لا بد من أصل لفروع لا تتفرع إلا عن أصول انتهى .

 

والأصل يطلق على أمور : منها ما يقتضي العلم بغيره . ومنها ما لا يصح العلم بالمعنى إلا به . ومنها الذي يعتبر به ما سواه . ومنها الذي يقع القياس عليه وهو المراد هنا وقد وقع الخلاف فيه فقيل هو النص الدال على ثبوت الحكم في محل الوفاق وبه قال القاضي أبو بكر والمعتزلة وقال الفقهاء هو محل الحكم المشبه به . قال ابن السمعاني وهذا هو الصحيح قال الفخر الرازي الأصل هو الحكم الثابت في محل الوفاق باعتبار تفرع العلة عليه وقال جماعة منهم ابن برهان إن هذا النزاع لفظي يرجع إلى الاصطلاح فلا مشاحة فيه أو إلى اللغة فهي تجوز إطلاقه على ما ذكر وقيل بل يرجع إلى تحقيق المراد بالأصل وهو يطلق تارة على الغالب وتارة على الوضع اللغوي كقولهم الأصل عدم الاشتراك وتارة على إرادة التعبد الذي لا يعقل معناه كقولهم خروج النجاسة من محل وإيجاب الطهارة في محل آخر على خلاف الأصل . قال الآمدي يطلق الأصل على ما يتفرع عليه غيره وعلى ما يعرف بنفسه ولم يبين عليه غيره كقولنا تحريم الربا في النقدين أصل وهذا منشأ الخلاف في أن الأصل تحريم النبيذ أو النص أو الحكم قال واتفقوا على ان العلة ليست أصلاً انتهى .

 

وعلى الجملة إن الفقهاء يسمون محل الوفاق أصلاً ومحل الخلاف فرعاً ولا مشاحة في الاصطلاحات ولا يتعلق بتطويل البحث في هذا كثير فائدة فالأصل هو المشبه به ولا يكون ذلك إلا لمحل الحكم لا لنفس الحكم ولا لدليله ، والفرع هو المشبه لا لحكمه والعلة هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع ، والحكم هو ثمرة القياس والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله ولا يكون القياس صحيحا إلا بشروط إثني عشر لا بد من اعتبارها في الأصل .

 

الأول : أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع ثابتا في الأصل فإنه لو لم يكن ثابتاً فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء أو شرع ونسخ لم يمكن بناء الفرع عليه.

 

الثاني: ان يكون الحكم في الأصل شرعياً فلو كان عقلياً أو لغوياً لم يصح القياس عليه لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي. واختلفوا هل يثبت القياس على النفس الأصلي وهو ما كان قبل الشرع فمن قال إن نفي الحكم الشرعي جوز القياس عليه ، ومن قال إنه ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه .

 

الثالث: أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية لأن ما لم تكن طريقة سمعية لا يكون حكماً شرعياً وهذا من ينفي التحسين والتقبيح العقليين لا عند من يثبتهما.

 

الرابع: أن يكون الحكم ثابتاً بالنص وهو الكتاب أو السنة وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة . قال الزركشي لم يتعرضوا له ويتجه أن يقال أن قلنا أن حكمهما النطق فواضح وأن قلنا كالقياس فيلتحقان به انتهى . والظاهر أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية كما يثبتهما بالمنطوق . وأما ما ثبت بالإجماع ففيه وجهان . وقال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وابن السمعاني اصحهما الجواز ، وحكاه ابن برهان عن جمهور أصحاب الشافعي . والثاني عدم الجواز ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله . قال ابن السمعاني وهذا ليس بصحيح لأن الاجماع أصل في إثبات الأحكام كالنص فإذا جاز القياس على الثابت بالنص جاز علىالثابت بالإجماع.

 

الخامس: أن لا يكون اصل المقيس عليه فرعاً لأصل آخر وإليه ذهب الجمهور وخالف في ذلك بعض الحنابلة والمعتزلة فأجازوه ، واحتج الجمهور على المنع بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت كان ذكر الأصل الثاني تطويلاً بلا فائده فيستغني عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول وإن لم ينعقد القياس الثاني بعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم . وقسم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هذه المسألة إلى قسمين : أحدهما أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى الذي ثبت به ويقاس عليه غيره قال وهذا لا خلاف في جوازه . والثاني أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ويقاس غيره عليه قال وهذا فيه وجهان : أحدهما وبه قال أبو عبد الله البصري الجواز . الثاني وبه قال الكرخي المنع وهو الذي يصح الآن لأنه يؤدي إلى اثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل وذلك لا يجوز وكذا صححه في القواطع ولم يذكر الغزالي غيره .

 

السادس : أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملاً له خرج عن كونه فرعاً وكان القياس ضائعاً لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل ولأنه ليكون جعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً أولى من العكس .

 

السابع : أن يكون الحكم في الأصل متفقاً عليه لأنه لو كان مختلفاً فيه احتيج إلى إثباته أولاً وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه لأن القياس في نفسه لا يشترط الإتفاق عليه في جواز التمسك به فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى . واختلفوا في كيفية الإتفاق على الأصل فشرط بعضهم أن يتفق الخصمان فقط لينضبط فائدة المناظرة . وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة . قال الزركشي والصحيح الأول واختار في المنتهى أن المعترض إن كان مقلداً لم يشترط الإجماع إذ ليس له منع ما ثبت مذهباً له وإن كان مجتهداً اشترط الإجماع لأنه ليس مقتدياً بإمام فإذا لم يكن الحكم مجمعاً عليه ولا منصوصاً عليه جاز أن يمنعه .

 

الثامن : أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل ولكنه معلل عند أحدهما بعلة أخرى يصلح كل منهما أن يكون علة وهذا يقال له مركب الأصل لاختلافهم في نفس الوصف أو لكن منع أحدهما وجودها في الفرع وهذا يقال له مركب الوصف لاختلافهم في نفس الوصف هل له وجود في الأصل أم لا وكلام الصفي الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول وخالفه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما فجعلوه متناولاً للقسمين وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط والجمهور على اعتبار وخالفهم جماعة فلم يعتبروه وقد طول الأصوليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته .

 

التاسع : أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع فان تعبدنا فيه بالقطع لم يجز فيه القياس لأنه لا يفيد إلا الظن وقد ضعف ابن النباري القول بالمنع وقال بل مع تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس الذي يفيده وقد قسم المحققون القياس إلى ما يفيد العلم وإلى ما لا يفيده وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان لعل هذا الشرط مبني على أن دليل الأصل وإن كان قطعياً وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعاً فنفس الإلحاق وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي ، وقد تقدم ابن دقيق العيد إلى مثل هذا الفخر الرازي .

 

العاشر : أن لا يكون معدولاً به عن قاعدة القياس كشهادة خزيمة وعدد الركعات ومقادير الحدود وما يشابه ذلك لأن إثبات للحكم مع منافيه وهذا هو معنى قول الفقهاء الخارج عن القياس عليه ، وممن ذكر هذا الشرط الفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم وأطلق ابن برهان أن مذهب أصحاب الشافعي جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس . وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه وكذلك منع منه الكرخي بإحدى خلال : إحداها أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته . ثانيها أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر وإن اختلفوا في علته . ثالثهما أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقاً للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفاً للقياس على أصل آخر.

 

الحادي عشر : أن لا يكون حكم الأصل مغلظاً على خلاف في ذلك .

 

الثاني عشر : أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتاً قبل الأصل لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة فلو لزم اجتماع النقيضين أو الضدين وهو محال هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل ، وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطاً والحق عدم اعتبارها . فمنها أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل ذكر ذلك بشر المريسي والشريف المرتضي . ومنها أن يشرط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد ، قال ذلك جماعة وخالفهم الجمهور . ومنها الاتفاق على وجود العلة في الأصل قاله البعض وخالفهم الجمهور.

 

واعلم أن العلة ركن من أركان القياس كما تقدم فلا يصح بدونها لأنها الجامعة بين الأصل والفرع . قال ابن فورك من الناس من اقتصر على الشبه ومنع القول بالعلة . وقال ابن السمعاني ذهب بعض القياسيين من الحنفية وغيرهم إلى صحة القياس من غير علة إذ لاح بعض الشبه والحق ما ذهب إليه الجمهور من أنها لا بد منها في كل قياس.

 

وهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذاً من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض يقال أعتل فلان إذا حال عن الصحة إلى السقم وقيل إنها مأخوذة من العلل بعد النهل وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة ، وأما في الإصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال :

 

الأول : أنها المعرفة للحكم بأن جعلت علماً على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم قاله الصيرفي وأبو زيد من الحنفية وحكاه سليم الرازي في التقريب عن بعض الفقهاء، واختاره صاحب المحصول المنهاج .

 

الثاني : أنها الموجبة للحكم بذاتها لا يجعل الله وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل .

 

الثالث : أنها الموجبة للحكم على معنى أن الشارع جعلها موجبة بذاتها وبه قال الغزالي وسليم الرازي قال الصفي الهندي وهو قريب لا بأس به .

 

الرابع : أنها الموجبة بالعادة واختاره الفخر الرازي .

 

الخامس : أنها الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم .

 

السادس : أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها وهو اختيار الرازي وابن الحاجب .

 

السابع : أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها وللعلة أسماء تختلف باختلاف الإصطلاحات فيقال لها السبب والأمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر ، وقد ذهب المحققون إلى أنه لا بد من دليل على العلة ومنهم من قال إنها تحتاج إلى دليلين يعلم بأحدهما أنها علة وبالآخر أنها صحيحة ، وقال ابن فورك من أصحابنا من قال يعلم صحة العلة بوجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها ولها شروط أربعة وعشرون :

 

الأول : أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة هكذا قال جماعة من أهل الأصول ومرادهم بالتأثير المناسبة قال القاضي في التقريب معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها ، وقيل معناه أنها جالبة للحكم ومقتضية له.

 

الثاني : أن تكون وصفاً ضابطاً بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمة مجردة لخفائها فلا يظهر إلحاق غيرها بها ، وهل يجوز كونها نفس الحكم وهي الحاجة إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة قال الرازي في المحصول يجوز وقال غيره يمتنع ، وقال آخرون إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها واختاره الآمدي والصفي الهندي واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها أي مظنتها بدلاً عنها ما لم يعارضه قياس .

 

الثالث : أن تكون ظاهرة جلية والألم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوياً له في الخفاء كذا ذكره الآمدي في جدله .

 

الرابع : أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع .

 

الخامس : أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها ووجه ذلك أن الأقوى أحق بالحكم كما أن النص أحق بالحكم من القياس .

 

السادس : أن تكون مطرودة أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقض والكسر فإن عارضها نقض أو كسر بطلت .

 

السابع : أن لا تكون عدماً في الحكم الثبوتي أي لا يعلل الحكم الوجود بالوصف العدمي قاله جماعة وذهب الأكثرون إلى جوازه . قال المانعون لو كان العدم علة للحكم الثبوتي لكان مناسباً أو مظنة واللازم باطل وأجيب بمنع بطلان اللازم .

 

الثامن : أن لا تكون العلة المعتدية هي المحل أو جزء منه لأن ذلك يمنع من تعديتها .

 

التاسع : أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة والمراد انتفاء العلم أو الظن به إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول .

 

العاشر : أن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولاً عليها ، كذا قال الأستاذ أبو منصور .

 

الحادي عشر : أن يكون الأصل المقيس عليه معللاً بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع .

 

الثاني عشر : أن لا تكون موجبة للفرع حكماً وللأصل حكماً آخر غيره .

 

الثالث عشر : أن لا توجب ضدين لأنها حينئذ تكون شاهدة الحكمين متضادين قاله الأستاذ أبو منصور .

 

الرابع عشر: أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل خلافاً لقوم .

 

الخامس عشر : أن يكون الوصف معيناً لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة .

 

السادس عشر: أن يكون طريق إثباتها شرعياً كالحكم ذكره الآمدي في جدله .

 

السابع عشر: أن لا يكون وصفاً مقدراً قال الهندي ذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافاً للأقلين من المتأخرين .

 

الثامن عشر: إن كانت مستنبطة فالشرط أن ترجع على الأصل بإبطاله أو أبطال بعضه لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح إذ الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من الاستنباط لأنه فرع له والفرع لا يرجع على إبطال أصله وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالابطال .

 

التاسع عشر : إن كانت مستنبطة فلا شرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل.

 

العشرون : إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تتضمن زيادة على النص أي حكماً غير ما أثبته النص .

 

الحادي والعشرون: أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها.

 

الثاني والعشرون: إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط.

 

الثالث والعشرون: إن لا يكون الدليل الدال عليها متناولاً لحكم الفرع لا بعمومة ولا بخصوصه للاستغناء حينئذ عن القياس .

 

الرابع والعشرون : أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالاثبات على أصل منصوص عليه بالنفي فهذه شروط العلة وقد ذكرت لها شروط غير معتبرة على الأصح منها ما شرطه فيها الحنيفة وأبو عبد الله البصري وهو تعدي العلة من الأصل إلى غيره فلو وقفت على حكم النص لم تؤثر في غيره وهذا يرجع إلى التعليل بالعلة القاصرة وقد وقع الاتفاق على أنها إذا كانت منصوصة أو مجمعاً عليها صح التعليل بها . حكى ذلك القاضي أبو بكر وابن برهان والصفي الهندي وخالفهم القاضي عبد الوهاب فنقل عن قوم أنه لا يصح التعليل بها على الإطلاق سواء كانت منصوصة أو مستنبطة . قال وهذا قول أكثر أهل العراق انتهى . وأما إذ كانت العلة القاصرة مستنبطة فهي محل الخلاف فقال أبو بكر القفال بالمنع . وبمثله قال ابن السمعاني ونقله إمام الحرمين عن الحليمي ، وقال القاضي أبو بكر وجمهور أصحاب الشافعي بالجواز قال القاضي عبد الوهاب : هو قول جميع أصحابنا وأصحاب الشافعي ، وحكاه الآمدي عن أحمد . قال ابن برهان في الوجيز كان الأستاذ أبو أسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة ويقول هي أولى من المتعدية. واحتج بأن وقوفها يقتضي نفي الحكم عن الأصل في النفي كما كان تعديها مؤثراً في الاثبات وهذا احتجاج فاسد واستدلال باطل . ومنها أن يكون وصفها حكماً شرعياً عند قوم لأنه معلول فكيف يكون علة والمختار جواز تعليل الحكم الشرعي بالوصف الشرعي . ومنها أن تكون مستنبطة من اصل مقطوع بحكمه عند قوم والمختار عدم اعتبار ذلك بل يكتفي بالظن . ومنها القطع بوجود العلة في الفرع عند قوم منهم البزدوي والمختار الاكتفاء بالظن . ومنها أن لا تكون مخالفة لمذهب صحابي وذلك عند من يقول بحجية قول الصحابي لا عند الجمهور.

 

وقد اختلفوا في جواز تعدد العلل مع اتحاد الحكم فإن كان الاتحاد بالنوع مع الاختلاف بالشخص كتعليل إباحة قتل زيد بردته وقتل عمرو بالقصاص وقتل خالد بالزنا مع الاحصان فقد اتفقوا على الجواز وممن نقل الاتفاق على ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي والآمدي والصفي الهندي وأما إذا كان الاتحاد بالشخص فقيل لا خلاف في امتناعه بعلل عقلية ، وحكى القاضي الخلاف في ذلك فقال ثم اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين فقيل لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعاً ، وقيل يرتفع بارتفاع إحدهما . وأما تعدد العلل الشرعية مع الاتحاد في الشخص كتعليل قتل زيد بكونه من يجب عليه فيه القصاص وزنى مع الاحصان فإن كل واحد منهما يوجب القتل بمجرد فهل يصح تعليل إباحة دمه بهما معاً أم لا ؟ . اختلفوا في ذلك على مذاهب :

 

الأول : المنع مطلقاً منصوصة كانت أو مستنبطة ، حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم وجزم به الصيرفي واختاره الآمدي ونقله القاضي وإمام الحرمين .

 

الثاني : الجواز مطلقاً وإليه ذهب الجمهور كما حكاه القاضي في التقريب . قال وبهذا نقول لأن العلل علامات وإمارات على الأحكام لا موجبة لها فلا يستحيل ذلك قال ابن برهان في الوجيز أنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين .

 

الثالث : الجواز في المنصوصة دون المستنبطة وإليه ذهب أبو بكر بن فورك والفخر الرازي وأتباعه وذكر إمام الحرمين أن القاضي يميل إليه وكلام إمام الحرمين هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب في نقل هذا المذهب عن القاضي كما صرح به مختصر المنتهى ولكن النقل عن القاضي مختلف كما عرفته .

 

الرابع : الجواز في المستنبطة دون المنصوصة ، حكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى و ابن المنير في شرحه للبرهان وهو قول غريب ، والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجواز ، وكما ذهبوا إلى الجواز فقد ذهبوا أيضاً إلى الوقوع ولم يمنع ذلك عقل ولا شرع .

 

وأما ما يشترط في الفرع فأمور أربعة : أحدها مساواة علته لعلة الأصل . والثاني مساواة حكمه لحكم الأصل . والثالث أن لا يكون منصوصاً عليه . والرابع أن لا يكون متقدماً على حكم الأصل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

الفصل الرابع في الكلام على مسالك العلة ، وهي طرقها الدالة عليها

 

ولما كان لا يكتفي في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل والفرع بل لا بد في اعتباره من دليل يدل عليه وكانت الأدلة إما النص أو الإجماع أو الاستنباط احتاجوا إلى بيان مسالك العلة . وقد أضاف القاضي عبد الوهاب إلى الأدلة الثلاثة دليلاً رابعاً وهو العقل ولم يعتبره الجمهور بل جعلوا طريق إثبات العلة هو السمع فقط . وقد اختلفوا في عدد هذه المسالك فقال الرازي في المحصول هي عشرة : النص والإيماء والإجماع والمناسبة والدوران والسير والتقسيم والشبه والطرد وتنقيح المناط قال وأمور أخر اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة انتهى . واختلف أهل الأصول في تقديم مسلك الإجماع على مسلك النص أو مسلك النص على مسلك الإجماع فمن قدم الإجماع نظر إلى كونه أرجح من ظواهر النصوص لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ ومن قدم النص نظر إلى كونه أشرف من غيره وكونه مستند الإجماع وهذا مجرد اصطلاح في التأليف فلا مشاحة فيه .

 

وسنذكر من المسالك هاهنا أحد عشر مسلكاً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك الأول : الإجماع

 

وهو نوعان : إجماع على علة معينة كتعليل ولاية المال بالصغر وإجماع على أصل التعليل وإن اختلفوا في عين العلة كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلل وإن اختلفوا في العلة ماذا هي . وقد ذهب إلى كون الإجماع من مسالك العلة جمهور الأصوليين كما حكاه القاضي في التقريب ثم قال وهذا لا يصح عندنا فإن القياسيين ليسوا كل الأمة ولا تقوم الحجة بقولهم وهذا الذي قاله صحيح فإن المخالفين في القياس كلاً أو بعضاً هم بعض الأمة فلا تتم دعوى الإجماع بدونهم وقد تكلف إمام الحرمين الجويني في البرهان لدفع هذا فقال إن منكري القياس ليسوا من علماء الأمة ولا من حملة الشريعة فإن معظم الشريعة صدرت عن الاجتهاد والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة انتهى . وهذا كلام يقضي من قائله العجب فإن كون منكري القياس ليسوا من علماء الأمة من أبطل الباطلات وأقبح التعصبات ثم دعوى أن نصوص الشريعة لا تفي بعشر معشارها لا تصدر إلا عمن لم يعرف نصوص الشريعة حق معرفتها . وحكى ابن السمعاني عن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز القياس على الحكم المجمع عليه ما لم يعرف النص الذي أجمعوا عليه انتهى . وهذا يعود عند التحقيق إلى نفي كون الإجماع من مسالك العلة . ثم القائلون بأن الإجماع من مسالك العلة لا يشترطون فيه أن يكون قطعياً بل يكتفون فيه بالإجماع الظني فزادوا هذا المسلك ضعفاً إلى ضعفه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

المسلك الثاني : النص على العلة

 

قال في المحصول : ونعني بالنص ما يكون دلالته على العلة ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة . أما القاطع فما يكون صريحاً وهو قولنا لعلة كذا ، أو لسبب كذا ، أو لمؤثر كذا ، أو لموجب كذا ، أو لأجل كذا كقوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل . وأما الذي لا يكون قاطعاً فثلاثة اللام وإن الباء . أما اللام فكقولنا ثبت لكذا كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وأما أن فكقوله أنها من الطوافين وأما الباء فكقوله ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله هذا حاصل كلامه . قال الإمام الشافعي متى وجدنا في كلام الشارع ما يدل على نصبه أدلة وإعلاماً ابتدرنا إليه وهو أولى ما يسلك .

 

واعلم أن التعليل قد يكون مستفاداً من حرف من حروفه وهي : كي واللام وإذن ومن والباء والفاء وإن ونحو ذلك وقد يكون مستفاداً من اسم من أسمائه وهي : لعلة كذا ، لموجب كذا ، بسبب كذا ، لمأثر كذا ،لأجل كذا ، بمقتضى كذا ونحو ذلك ، وقد يكون مستفاداً من فعل من الأفعال الدالة على ذلك كقوله عللت بكذا وشبهت كذا بكذا ونحو ذلك وقد يكون مستفاداً من السياق فإنه قد يدل على العلة كما يدل على غيرها .

 

وقد قسموا النص على العلة إلى صريح وظاهر قال الآمدي فالصريح هو الذي لا يحتاج فيه إلى نظر واستدلال بل يكون اللفظ موضوعاً في اللغة له قال ابن الأنباري ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل التأويل بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر على المعنى انتهى .

 

ثم الصريح ينقسم إلى أقسام أعلاها أن يقول لعلة كذا أو لسبب كذا أو نحو ذلك وبعده أن يقول لأجل كذا أو من أجل كذا . قال ابن السمعاني وهو دون ما قبله لأن لفظ العلة تعلم به العلة من غير واسطة بخلاف قوله لأجل فإنه يفيد معرفة العلة بواسطة أن العلة ما لأجلها والدال بلا واسطة أقوى وكذا قال الأصفهاني . وبعده أن يقول كي يكون كذا فإن الجويني في البرهان جعلها من الصريح وخالفه الرازي وبعده إذاً فإن أبا إسحاق الشيرازي والغزالي جعلاه من الصريح وجعله الجويني في البرهان من الظاهر، وبعده ذكر المفعول له نحو ضربته تأديباً .

 

وأما الظاهر فينقسم إلى أقسام أعلاها اللام ثم أن المفتوحة المخففة ثم إن المكسورة الساكنة بناء على أن الشروط اللغوية أسباب ثم إن المشددة كقوله ضصض إنها من الطوافين عليكم . قال صاحب التنقيح كذا عدوها من هذا القسم والحق أنها لتحقيق الفعل ولاحظ لها في التعليل والتعليل في الحديث مفهوم من الكلام . وقد نقل ابن الأنباري إجماع النحاة على أنها لا ترد للتعليل قال وهي في قوله إنها من الطوافين عليكم للتأكيد لأن علة طهارة سؤرها هي الطواف ولقد قدرنا مجيء قوله من الطوافين بغير أن لأفادة التعليل فلو كانت للتعليل لعدمت العلة بعدمها ولا يمكن أن يكون التقدير لأنها وإلا لوجب فتحها ولا ستفيد التعليل من اللام . ثم الباء قال ابن مالك وضابطه أن يصلح غالباً في موضعها اللام كقوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وقوله سبحانه فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم وجعل من ذلك الآمدي والصفي الهندي قوله تعالى : جزاء بما كانوا يعملون ونسبة بعضهم إلى المعتزلة وقيل هي المقابلة كقولك هذا بذلك لأن المعطي بعوض قد يعطي مجاناً . ثم الفاء إذا علق بها الحكم على الوصف وذلك نوعان:

 

أحدهما : أن يدخل على السبب والعلة ويكون الحكم متقدماً كقوله ضصض لا تخمروا رأسه فإنه يبعث ملبياً

 

الثاني : أن يدخل على الحكم وتكون العلة متقدمة كقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة والسارق والسارقة فاقطعوا لأن التقدير في زنى فاجلدوه ومن سرق فاقطعوه . ثم لعل على رأي الكوفيين من النحاة قالوا إنها في كلام الله للتعليل المحض مجردة عن معنى الترجي لاستحالته عليه . ثم إذا ذكره ابن مالك نحوه وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ثم حتى كما ذكره ابن نحو قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية حتى نعلم المجاهدين منكم حتى لا تكون فتنة ولا يخفى ما في عد هذه الثلاثة المتأخرة من جملة دلائل التعليل من الضعف الظاهر وقد عد منها صاحب التنقيح لا جرم نحو لا جرم أن لهم النار وعد أيضاً جميع أدوات الشروط والجزاء . وعد إمام الحرمين منها الواو وفي هذا من الضعف ما لا يخفى على عارف بمعاني اللغة العربية.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه

 

وضابطه الاقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعاً للاستعباد . وحاصله أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة لأته عبث فيتعين أن يكون لفائدة وهي إما كونه علة أو جزء علة أو شرطاً وإلا ظهر كونه علة لأنه الأكثر في تصرفات الشرع وهو أنواع .

 

الأول: تعليق الحكم على العلة بالفاء وهو على وجهين : أحدهما أن تدخل الفاء على العلة ويكون الحكم متقدماً كقوله ضصض في المحرم الذي وقصته ناقته فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً . ثانيهما أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك أيضاً على وجهين : أحدهما أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع مثل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا . وثانيهما أن تدخل على رواية الراوي كقوله سها رسول الله ضصض فسجد، وزنى ماعز فرجم كذا في المحصول وغيره .

 

النوع الثاني : أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً لو لم يكن علة لعري عن الفائدة إما مع سؤال في محله أو سؤال في نظيره . فالأول كقول الأعرابي واقعت أهلي في رمضان فقال اعتق رقبة فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق والسؤال مقدر في الجواب كأنه قال إذا واقعت فكفر . الثاني : كقوله وقد سألته الخثعمية أن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أفينفعه إن حججت عنه ؟ فقال : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ؟ قالت نعم فذكر نظيره وهو دين الآدمي فنبه على كونه علة في النفع وإلا لزم العبث . وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا النوع أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جواباً إذ من الممكن أن يكون الحكم استئنافاً لا جواباً وذلك كمن تصدى للتدريس فأخبره تلميذه بموت السلطان فأمره عقب الأخبار بقراءة درسه فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر بل بالاشتغال بما هو بصدده وترك ما لا يعنيه .

 

النوع الثالث : أن يفرق بين الحكمين الوصف نحو قوله ضصض للراجل سهم وللفارس سهمان فإن ذلك يفيد أن الموجب للإستحقاق للسهم والسهمين هو الوصف المذكور .

 

النوع الرابع : أن يذكر عقب الكلام أو في سياقه لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام كقوله تعالى : وذروا البيع لأن الآية سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعاً من الصلاة أو شاغلاً عن المشي إليها لكان ذكره عبثاً لأن البيع لا يمنع منه مطلقاً .

 

النوع الخامس : ربط الحكم بإسم مشتق فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية نحو أكرم زيداً العالم فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم .

 

النوع السادس : ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً أي لأجل تقواه ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي لأجل توكله لأن الجزاء يتعقب الشرط .

 

النوع السابع : تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه كقوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته .

 

النوع الثامن : إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة ولا لحكمة بقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقوله أيحسب الإنسان أن يترك سدى وقوله وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق

 

النوع التاسع: إنكاره سبحانه أن يسوي بين المختلفين ويفرق بين المتماثلين . فالأول كقوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين . والثاني كقوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقد أختلف في اشتراط مناسبة الوصف المومى إليه للحكم في الأنواع السابقة فاشترط إمام الحرمين الجويني والغزالي ، وذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه . وذهب قوم إلى التفصيل فقالوا إن كان التعليل من المناسبة كما في قوله لا يقض القاضي وهو غضبان اشترط وأما فلا يشترط واختاره ابن الحاجب ، وحكى الهندي تفصيلاً وهو اشتراطه في ترتيب الحكم على الإسم دون غيره وحكى ابن المنير تفصيلاً وهو اشتراطه في ترتيب الحكم بفعل النبي ضصض تفصيلاً آخر وهو إن كان الإسم المشتق يتناول معهوداً معيناً فلا يتعين للتعليل ولو كان مناسباً بل يحتمل أن يكون تعريفاً وأما إذا علق بعام أو منكر فهو تعليل.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك الرابع: الإستدلال على علية الحكم بفعل النبي ضصض كذا قال القاضي في التقريب

 

وصورته بفعل النبي ضصض فعلاً بعد وقوع شيء فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع كأن يسجد ضصض للسهو فيعلم أن ذلك السجود إنما كان لسهو قد وقع منه ، وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره كرجم ماعز ، وهكذا الترك له حكم الفعل كتركه ضصض للطيب والصيد وما يجتبيه المحرم فإن المعلوم من شاهد الحال أن ذلك لأجل الإحرام .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك الخامس: السبر والتقسيم

 

وهو في اللغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح فإنه يقال له المسبار وسمي هذا به لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها هل تصلح للعلية أم لا وفي الإصطلاح هو قسمان : أحدهما أن يدور بين النفي والإثبات وهذا هو المنحصر . والثاني أن يكون كذلك وهذا المنتشر ، فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه ثم اختبارها في المقيس وإبطال ما لايصلح منها بدليله ، وذلك الابطال إما بكونه ملغى أو وصفاً طردياً أو يكون فيه نقض أو كسر أو خفاء أو إضطراب فيتعين الباقي للعلية ، وقد يكون في القطعيات كقولنا العالم إما أن يكون قديماً أو حادثاً بطل أن يكون قديماً فثبت أنه حادث قد يكون في الظنيات نحو أن تقول في قياس الذرة على البر في الربوبية بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي إلا الطعم والقوت لا يصلح لذلك بدليل كذا فتعين الكيل قال الصفي الهندي وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جداً . ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللاً بمناسب خلافاً للغزالي وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها كما في مسألة الربا فأما لو لم يقع الاتفاق لم يكن هذا المسلك صحيحاً لأن إذا بطل كونه علة مستقلة جاز أن يكون جزءاً من أجزائها وإذا انضم إلى غيره صار علة مستقلة فلا بد من إبطال كونه علة أو جزء علة ويشترط أيضاً أن يكون حاصراً جميع الأوصاف وذلك بأن يرافقه الخصم على انحصارها في ذلك أو يعجز عن إظهار وصف زائد وإلا فيكفي المستدل أن يقول بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته والأصل عدم ما سواها وهذا إذا كان أهلاً للبحث . ونازع في ذلك بعض الأصوليين ومنهم الأصفهاني فقال قول المعلل في جواب طالب الحصر بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء فإن ظفرت بعلة أخرى فأبرزها وإلا فيلزمك ما يلزمني قال وهذا فاسد لأن سبره لا يصلح دليلاً ما يعلم به المدلول ومحال أن يعلم طال بالحصر الانحصار ببحثه ونظره وجهله لا يوجب على خصمه أمراً . واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره.

 

القسم الثاني : المنتشر ، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنياً ، واختلفوا في ذلك على مذاهب .

 

الأول : أنه ليس بحجة مطلقاً لا في القطعيات ولا في الظنيات حكاه في البرهان عن بعض الأصوليين .

 

الثاني : أنه حجة في العمليات فقط لأنه يحصل غلبة الظن ، واختاره إمام الحرمين الجويني وابن برهان وابن السمعاني قال الصفي الهندي هو الصحيح .

 

الثالث : أنه حجة للناظر دون المناظر واختار الآمدي ، وقال إمام الحرمين في الأساليب إنه يفيد الطالب مذهب الخصم دون تصحيح مذهب المستدل إذ لا يمنع أن يقول ما أبطلته باطل وما اخترته باطل . وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي وعزاه إلى الشيخ أبي الحسن و القاضي وسائر أصحاب الشافعي . قال وهو الصحيح فقد نطق به القرآن ضمناً وتصريحاً في مواطن كثيرة ، فمن الضمن قوله تعالى : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام إلى قوله حكيم عليم ومن التصريح قوله ثمانية أزواج إلى قوله الظالمين وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكاً . قال ابن الأنباري في شرح البرهان السبر يرجع إلى اختيار أوصاف المحل وضبطها والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها فإذا لا يكون من الأدلة وإنما تسامح الأصوليون بذلك قال ابن المنير والمسألة القاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المنفى لا يخلو بحال في نفس الأمر أن يكون مناسباً أو شبهاً أو طردا لا إنه إما إن يشتمل على مصلحة أو لا فإن اشتمل على مصلحة فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط ، فالأول المناسبة والثاني الشبه . وإن لم يشتمل على مصلحة أصلاً فهو الطرد المردود فإن كان ثم مناسبة أو شبه السبر والتقسيم وإن كان عرياً عن المناسبة قطعاً لم ينفع السبر والتقسيم أيضاً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك السادس: المناسبة

 

ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه ، ومعنى المناسبة هي تعين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السلامة عن القوادح لا بنص ولا غيره والمناسبة في اللغة الملاءمة والمناسب الملائم ، قال في المحصول الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين الأول : أنه المفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاء وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الابقاء بدفع المضرة لأن ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرة وإبقاؤه دفع للمضرة ، ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوماً وقد يكون مظنوناً وعلى التقديرين فإما أن يكون دينياً أو دنيوياً ، والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقاً إليها، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقاً إليه واللذة قيل في حدها إنها إدراك الملائم والألم إدراك المنافي . والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه . الثاني أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم انتهى .

 

وقد اختلف في تعريفها القائلون بمنع تعليل أفعال الله سبحانه بالأغراض والقائلون بتعليلها بها . فالأولون قالوا إنها الملائم لأفعال العقلاء في العادات أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء تحصيله على مجاري العادة بتحصيل مقصود مخصوص . والآخرون قالوا إنها ما تجلب للإنسان نفعاً أو ضراً ، وقيل هي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول كذا قال الدبوسي ، قيل وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر لأنه ربما يقول عقلي لا يتلقى هذا بالقبول ومن ثم قال الدبوسي هو حجة للناظر لأنه لا يكابر نفسه لا للمناظر. قال الغزالي والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد بتبين معنى المناسبة على وجه مضبوطة فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده انتهى . وهذا صحيح فإنه لا يلزم المستدل إلا ذلك . وقال ابن الحاجب أن المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحة ودفع مفسدة فإن كان الوصف خفياً أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة لأن الغيب لا يعرف الغيب كالسفر للمشقة والفعل المقتضى عرفاً عليه بالعمد في العمدية . قال الصفي الهندي وهو ضعيف لأنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنه وهو اقتران الحكم بالوصف وهو خارج عن ماهية المناسب بدليل أنه يقال المناسبة مع الاقتران دليل العلة ولو كان الاقتران داخلاً في الماهية لما صح هذا . وأيضاً فهو غير جامع لأن التعليل بالمنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة . وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها للعلية بتمسك الصحابة بها فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص إذا غلب على ظنه أن يضهيه لمعنى أو يشبهه ، ورد بأنه لم ينقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب فلا يبعد التعبد مع نوع من الظن الغالب ونحن نعلم ذلك النوع ، ثم قال إمام الحرمين فالأولى الاعتماد على العمومات الدالة على الأمر بالقياس .

 

واعلم أنه قد يحصل بالمناسب لمقصود به من شرع الحكم يقيناً كمصلحة البيع للحل أو ظناً كمصلحة القصاص لحفظ النفس وقد يحتملها على السواء كحد الخمر لحفظ العقل لأن الإقدام مساو للأحجام وقد يكون نفي الحصول أرجح كنكاح الآيسة لتحصيل التناسل ويجوز التعليل بجميع هذه الأقسام وأنكر بعضهم صحة التعليل بالثالث وبعضهم بالرابع . قال الصفي الهندي الأصح يجوز إن كان في آحاد الصور الشاذة وكان ذلك الوصف في أغلب الصور من الجنس مفضياً إلى المقصود وإلا فلا . أما إذا حصل القطع بأن المقصود من شرع الحكم غير ثابت فقالت الحنفية يعتبر التعليل به والأصح لا يعتبر سواء ما لا تعبد فيه كلحوق نسب المشرقي بالمغربية وما فيه تعبد كاستبراء جارية اشتراها بائعها في المجلس .

 

والمناسب يقسم إلى حقيقي وإقناعي . والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورة ومحل الحاجة ومحل التحسين . الأول : الضروري وهو المتضمن لحفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع بل هي مطبقة على حفظها وهي خمسة : أحدها حفظ النفس بشرعية القصاص فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختل نظام المصالح . ثانيهما حفظ المال بأمرين : أحدهما إيجاب الضمان على المتعدي فإن المال قوام العيش ، وثانيهما القطع بالسرقة. ثالثها حفظ النسل بتحريم الزنا وإيجاب العقوبة عليه بالحد . رابعها حفظ الدين بشرعية القتل بالردة والقتال للكفار . خامسها حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحة فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة . واعترض على دعوى اتفاق الشرائع على الخمسة المذكورة بأن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة وفي صدر الإسلام ورد بأن المباح منها في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ إلى حد السكر المزيل للعقل فإنه محرم في كل ملة كذا قال الغزالي . وحكاه ابن القشيري عن القفال ثم نازعه فقال تواتر الخبر أنها كانت مباحة على الإطلاق ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل . وكذا قال النووي في شرح مسلم ولفظه وأما ما يقوله من لا تحصيل عنده أن المسكر لا يزل محرماً فباطل لا أصل له انتهى . قلت : وقد تأملت التوراة والإنجيل فلم أجد فيهما إباحة الخمر مطلقاً من غير تقييد بعدم السكر بل فيهما التصريح بما يتعقب الخمر من السكر وإباحة ذلك فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم وهكذا تأملت كتب أنبياء بني إسرائيل فلم أجد فيها ما يدل على التقييد أصلاً . وقد زاد بعض المتأخرين . سادسا وهو حفظ الأعراض فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد وهو أحق بالحفظ من غيره فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه ولهذا يقول قائلهم : يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول قالوا ويلتحق بالخمسة المذكورة مكمل الضروري كتحريم قليل المسكر ووجوب الحد فيه وتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع الداعي إليها والمبالغة في حفظ النسب بتحريم النظر واللمس والتعزير على ذلك . القسم الثاني : الحاجي وهو ما يقع في محل الحاجة لا محل الضرورة كالإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وامتناع مالكها عن بذلها عارية وكذلك المساقاة والقراض . ثم اعلم أن المناسبة قد تكون جليلة فتنتهي إلى القطع كالضروريات وقد تكون خفية كالمعاني المتنبطة لا لدليل إلا مجرد احتمال الشرع لها وقد يختلف التأثير بالنسبة إلى الجلاء والخفاء .

 

القسم الثالث : التحسيني وهو قسمان . الأول ما هو معارض للقواعد كتحريم القاذورات فإن نفرة الطباع منها لقذراتها معنى يناسب حرمة تناولها حثاً على مكارم الأخلاق كما قال تعالى ويحرم عليهم الخبائث وكما قال ضصض : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومنه سلب العبد أهلية الشهادة لأنها منصب شريف والعبد القدر والجمع بينهما غير ملائم. وقد استشكل هذا ابن دقيق العيد لأن الحكم بالحق بعض ظهور الشاهد وإيصاله إلى مستحقه ودفع اليد الظالمة عنه من مراتب الضرورة واعتبار نقصان العبد في الرتبة والمنصب من مراتب التحسين وترك مرتبة الضرورة لمرتبة التحسين بعيد جداً. نعم لو وجد لفظ يستند إليه في رد شهادته ويعلل بهذا التعليل لكان له وجه فأما مع الاستقلال بهذا التعليل ففيه هذا الاشكال وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يعلم لمن رد شهادة العبد مستنداً أو وجهاً ، وأما سلب ولايته فهو في محل الحاجة لأن الأطفال تستدعي استغراقاً وفراغاً والعبد مستغرق بخدمة سيده فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحياناً كالرواية والفتوى . ثم اعلم أن المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له ، بالملاءمة والتأثير وعدمها إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما . القسم الأول : ما علم اعتبار الشرع له ، والمراد بالعلم الرجحان والمراد بالاعتبار إيراد الحكم على وفقه لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة وهو المراد بقولهم شهد له أصل معين . قال الغزالي في شفاء العليل المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه من حيث أن الحكم أثبت شرعاً على وفقه وله أربعة أحوال ، لأنه إما يعتبر نوعه في نوعه أو في جنسه أو جنسه في نوعه أو في جنسه .

 

الحالة الأولى : أن يعتبر نوعه في نوعه وهو خصوص الحكم وعمومه في عمومه كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع كونه قتلاً عمداً عدواناً فإنه قد عرف تأثير خصوص كونه قتلاً عمداً في خصوص الحكم وهو وجوب القصاص في النفس في القتل بالمحدد ومثل هذا أن يقال إنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم فالنبيذ يلحق بالخمر لأنه لا تفاوت بين العلتين وبين الحكمين وهذا القسم يسمى المناسب الملائم وهو متفق عليه بين القياسين .

 

الحالة الثانية : أن يعتبر نوعه في جنسه كقياس تقديم الإخوة لأبوين على الأخوة لأب في النكاح على تقديمهم في الإرث فإن الأخوة من الأب والأم نوع واحد في الصورتين ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح ولكن عرف تأثيره في جنسه وهو التقدم عليهم فيما ثبت لكل واحد منهم عند عدم الأمر كما في الإرث وهذا القسم دون ما قبله لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقرب من المقارنة بين نوعين مختلفين .

 

الحالة الثالثة : أن يعتبر جنسه في نوعه كقياس إسقاط القضاء عن الحائض عن إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر بتعليل المشقة والمشقة جنس وإسقاط القضاء عن الحائض على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر بتعليل المشقة والمشقة جنس وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد يستعمل على صنفين إسقاط قضاء الكل وإسقاط قضاء البعض وهذا أولى من الذي قبله لأن الإبهام في العلة أكبر محذوراً من الإبهام في المعلول .

 

الحالة الرابعة : اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ، وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف لكونه مظنة الافتراء فوجب أن يقام مقامه قياساً على الخلوة فإنها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه وهذا كالذي قبله .

 

القسم الثاني : ما علم إلغاء الشرع له كما قال بعضهم بوجوب الصوم ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان لأن القصد منها الانزجار وهو لا ينزجر بالعتق فهذا وأن كان قياساً لكن الشرع ألغاه حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير فصل بين المكلفين فالقول به مخالف للنص فكان باطلاً .

 

القسم الثالث : ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه ، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار وهو المسمى بالمصالح المرسلة وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به قال الزركشي وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك . قال الفخر الرازي في المحصول وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها ظن التفات الشرع إليها وكل ما كانت التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبراً أقوى وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبراً في حق ذلك الحكم آكد فيكون لا محالة مقدماً على ما يكون أعم منه، وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلاً ، وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشارع ألغاه أو اعتبره فذلك يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفاً مصلحاً وإلا فعموم كونه وصفاً مصلحياً مشهود له بالاعتبار وهذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة انتهى .

 

قال ابن الحاجب في مختصر المنتهى وغير المعتبر هو المرسل فإن كان غريباً أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقاً . وإن كان ملائماً فقد صرح الإمام والغزالي بقبوله وذكر عن مالك والشافعي والمختار رده وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية انتهى . وسنذكر للمصالح المرسلة بحثاً مستقلاً في الفصل السابع إن شاء الله .

 

القسم الرابع : أن المناسب إما مؤثر أو غير مؤثر وغير المؤثر إما ملائم أو غير ملائم إما غريب أو مرسل أو ملغى . الصنف الأول : المؤثر وهو أن يدل النص أو الإجماع على كونه علة تدل على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه في نوعه.

 

الصنف الثاني : الملائم وهو أن يعتبر الشارع عينة في عين الحكم بترتيب الحكم على وفق الوصف لا بنص ولا إجماع وسمي ملائماً لكونه موافقاً لما اعتبره الشارع وهذه المرتبة دون ما قبلها . الصنف الثالث : الغريب وهو أن يعتبر عينة في عين الحكم بترتيب الحكم على وفق الوصف فقط ولا يعتبر عين الوصف من جنس الحكم ولا عينه ولا جنسه في جنسه بنص ولا إجماع كالإسكار في تحريم الخمر فإنه اعتبر الإسكار في عين الحكم بترتيب التحريم على الاسكار فقط ، ومن أمثلة الغريب توريث المبتوتة في مرض الموت إلحاقاً . بالقاتل الممنوع من الميراث تعليلاً بالمعارضة بنقيض القصد فإن المناسبة ظاهرة لكن هذا النوع من المصلحة لم يعهد اعتباره في غير هذا الخاص فكان غريب لذلك . الصنف الرابع : المرسل غير الملائم وقد عرفت مما تقدم من كلام ابن الحاجب الاتفاق على رده . وحكاه غيره عن الأكثرين الصنف الخامس : الغريب غير الملائم وهو مردود بالاتفاق . واختلفوا هل تنخرم المناسبة بالمعارضة التي تدل على وجود مفسدة أو فوات مصلحة تساوي المصلحة أو ترجع عليها على قولين : الأول أنها تنخرم وإليه ذهب الأكثرون واختاره الصيدلاني وابن الحاجب لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأن المناسبة أمر عرفي والمصلحة إذا عاضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة .

 

الثاني : أنها لا تنخرم واختاره الفخر الرازي في المحصول و البيضاوي في المنهاج وهذا الخلاف إنما هو إذا لم تكن المعارضة دالة على انتفاء المصلحة أما إذا كانت كذلك فهي قادحة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك السابع: الشبه

 

ويسميه بعض الفقهاء الاستدلال بالشيء على مثله وهو عام أريد به خاص إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيهاً بالأصل بجامع بينهما وهو من أهم ما يجب الاعتناء به . قال الأبياري: لست أرى في مسائل الأصول مسألةً أغمضَ منه ، وقد اختلفوا في تعريفه ، فقال إمام الحرمين الجويني لا يمكن تحديده وقال غيره يمكن تحديده فقيل هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين كقول الشافعي في النية في الوضوء والتيمم طهارتان فأني تفترقان كذا قال الخوارزمي في الكافي . قال في المحصول ذكروا في تعريفه وجهين :

 

الأول : ما قاله القاضي أبو بكر ، وهو أن الوصف إما يكون مناسباً للحكم بذاته وإما لا يناسبه بذاته لكنه يكون مستلزماً لما يناسبه بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه بذاته . فالأول هو الوصف المناسب . والثاني الشبه ، والثالث الطرد .

 

الثاني : الوصف الذي لا يناسب الحكم أما أن يكون عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم وإما أن يكون كذلك ، والأول هو الشبه لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم ومن حيث إنه علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره انتهى . وحكى ابن الأنباري في شرح البرهان عن القاضي أنه ما يوهم الاشتمال على وصف مخيل ، ثم قال وفيه نظر من جهة أن الخصم قد ينازع في إيهام الاشتمال على مخيل إما حقاً أو عناداً ولا يمكن التقرير عليه . قال الزركشي والذي في مختصر التقريب من كلام القاضي أن قياس الشبه هو إلحاق فرع بأصل لكثرة إشباهه للأصل في الأوصاف من غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع بها الأصل علة حكم الأصل . وقيل الشبه هو الذي لا يكون مناسباً للحكم ولكن عرف اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب. واختلف في الفرق بينه وبين الطرد ، فقيل إن الشبه الجمع بينهما بوصف يوهم المناسبة كما تقدم. والطرد الجمع بينهما بمجرد الطرد وهو السلامة عن النقض ونحوه. وقال الغزالي في المستصفى الشبه لا بد أن يزيد على الطرد بمناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب الحكم قال وإن لم يريدوا بقياس الشبه هذا فلا أدري ما أرادوا به، وبم فصلوه عن الطرد المحض . والحاصل أن الشبهي والطردي يجتمعان في عدم الظهور في المناسب ، ويتخالفان في أن الطردي عهد من الشارع عدم الالتفات إليه وسمي شبهاً لأنه باعتبار الوقوف على المناسبة يجزم المجتهد بعدم مناسبته ومن حيث اعتبار الشرع له في بعض الصور يشبه المناسب والطردي ، وفرق إمام الحرمين بين الشبه والطرد بأن الطرد نسبة ثبوت الحكم إليه ونفيه على السواء والشبه نسبة الثبوت إليه مترجحة على نسبة النفي فافترقا . قال ابن الحاجب في مختصر المنهى ويتميز يعني الشبه عن الطردي بأن وجوده كالعدم وعن المناسب الذاتي بأن مناسبته عقلية وإن لم يرد الشرع به كالاسكار في التحريم . مثاله طهارة تراد للصلاة فيتعين الماء كطهارة الحدث فالمناسبة غير ظاهرة واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم المنسابة انتهى . واختلفوا في كونه حجة أم لا عى مذاهب .

 

الأول : أنه حجة وإليه ذهب الأكثرون.

 

الثاني : أنه ليس حجة قال ابن السمعاني وبه قال أكثر الحنفية وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم وإليه ذهب القاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور وأبو إسحاق المروزي وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الصيرفي والقاضي أبو الطيب الطبري .

 

الثالث: اعتباره في الأشياء الراجعة إلى الصورة.

 

الرابع: اعتباره فيما غلب على الظن أنه مناط الحكم بأن يظن انه مستلزم لعلة الحكم فمتى كان كذلك صح القياس سواء كانت المشابهة في الصورة او المعنى وإليه ذهب الفخر الرازي وحكاه القاضي في التقريب عن ابن سريج .

 

الخامس: إن تمسك به المجتهد كان حجة في حقه إن حصلت غلبة الظن وإلا فلا وأما المناظر فيقبل منه مطلقاً هذا ما اختاره الغزالي في المستصفى . وقد احتج القائلون بأنه حجة بأنه يفيد غلبة الظن فوجب العمل له ، واحتج القائلون بأنه ليس بحجة بوجهين .

 

الأول : أن الوصف الذي كان شبهاً إن كان مناسباً فهو معتبر بالاتفاق وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق .

 

الثاني : أن المعتمد في إثبات القياس على عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بالشبه . وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسباً كان مردوداً بالاتفاق بل ما لا مناسباً إن كان مستلزماً للمناسب أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو غير مردود وعن الثاني بأنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله : فاعتبروا على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن . ويجاب عن هذين الجوابين أنا لا نسلم أن ما كان مستلزماً للمناسب كالمناسب ولا يحصل به الظن بحال ولا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالة كما سبق تقريره في أول مباحث القياس .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك الثامن: الطرد

 

قال في المحصول والمراد منه الوصف الذي لم يكن مناسباً ولا مستلزماً للمناسب إذا كان الحكم حاصلاً مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع وهذا المراد من الأطراد والجريان وهو قول كثير من فقهائنا ومنهم من بالغ فقال مهما رأينا الحكم حاصلاً مع الوصف في صورة واحدة يحصل ظن الغلبة ، احتجوا على التفسير الأول بوجهين : أحدهما أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب يلحق بالغالب فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع مقارناً للحكم ثم رأينا الوصف حاصلاً في الفرع وجب أن يستدل على ثبوت الحكم إلحاقاً لتلك الصورة بسائر الصور. وثانيهما إذا رأينا فرس القاضي واقفاً على باب الأمير غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة ، واحتج المخالف بأمرين : أولهما أن الأطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع فإذا أثبتم ثبوت الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة وأثبتم عليته بكونه مطرداً لزم الدور وهو باطل . وثانيهما أن الحد مع المحدود والجوهر مع العرض وذات الله مع صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية ، والجواب أن نستدل بالمصاحبة في كل الصور غير الفرع على العلية وحينئذ لا يلزم الدور وعن الثاني ان غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكاً عن العلية وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهراً كما أن الغيم الرطب دليل المطر ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا ًوأيضاً المناسبة والدوران والتأثير والإيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ولم يكن ذلك قدحاً في كونها على العلية ظاهراً انتهى . وقد جعل بعض أهل الأصول الطرد والدوران شيئاً واحداً وليس كذلك فإن الفرق بين الطرد والدوران أن الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم والدوران عبارة عن المقارنة وجوداً وعدماً . والتفسير الأول للطرد المذكور في المحصول قال الهندي هو قول الأكثرين .

 

وقد اختلفوا في كون الطرد حجة فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة مطلقاً وذهب آخرون إلى أنه حجة مطلقاً وذهب بعض أهل الأصول إلى التفصيل ، فقال هو حجة على التفسير الأول دون الثاني ، ومن القائلين بالمذهب الأول جمهور الفقهاء والمتكلمين كما نقله القاضي عنهم قال القاضي حسين لا يجوز أن يدان الله به واختار الرازي والبيضاوي أنه حجة وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة عن الصيرفي قال الكرخي هو مقبول جدلاً ولا يسوغ التعويل عليه عملاً والفتوى به، قال القاضي أبو الطيب الطبري ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم ويقولون إنها قد صحت كقولهم في مس الذكر آلة الحدث فلا ينتقض الوضوء بلمسه لأنه طويل مشقوق فأشبه البوق وفي السعي بين الصفا والمروة إنه سعى بين جبلين فلا يكون ركناً كالسعي بين جبلين بنيسابور ولا يشك عاقل أن هذا سخف. قال ابن السمعاني وسمي أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة والإطراد دليلاً على صحة العلية حشوية أهل القياس قال ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

المسلك التاسع: الدوران

 

وهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن مسكراً لم يكن حراماً فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم فدل على أن العلة السكر . وقد اختلف أهل الأصول في إفادته للعلية فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد القطع بالعلية وذهب الجمهور إلى أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم لأن العلة الشرعية لا توجب الحكم بذاتها وإنما هي علامة منصوبة فإذ دار الوصف مع الحكم غلب على الظن أنه معرف قال الصفي الهندي هو المختار قال إمام الحرمين ذهب كل من يعزي إلى الجدل إلى أنه أقوى ما تثبت به العلل وذكر القاضي أبو الطيب الطبري أن هذا المسلك من أقوى المسالك وذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يفيد بمجرده لا قطعاً ولا ظناً واختاره الأستاذ أبو منصور وابن السمعاني والغزالي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والآمدي وابن الحاجب . واحتجوا بأنه قد وجد مع العلية فلا يكون دليلاً عليها ألا ترى أن المعلول دار مع العلة وجوداً وعدماً مع أن المعلول ليس بعلة لعلته قطعاً والجوهر والعرض متلازمان مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقاً والمتضايقان كالأبوة والبنوة متلازمان وجوداً وعدماً مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر لوجوب تقدم العلة على المعلول ووجوب تصاحب المتضايفين وإلا لما كان متضايفان .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسلك العاشر: تنقيح المناط

 

التنقيح في اللغة التهذيب والتمييز ويقال كلام منقح أي لا حشو فيه والمناط هو العلة. قال ابن دقيق العيد وتعبيرهم عن العلة بالمناط من باب المجاز اللغوي لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يفهم عند الاطلاق غيره انتهى . ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم ألبته فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فرق بينهما إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية . قال الصفي الهندي والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس وهو عام يتناوله وغيره . وكل منهما قد يكون ظنياً وهو الأكثر وقطعياً لكن حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي الإلحاق فيه بذكر الجامع لكن ليس ذلك فرقاً في المعنى بل في الوقوع وحينئذ لا فرق بينهما في المعنى . قال الغزالي تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس ولا نعرف بين الأمة خلافاً في جوازه ونازعه العبدري بأن الخلاف فيه ثابت بين من يثبت القياس وينكره لرجوعه إلى القياس وقد زعم الفخر الرازي أن هذا المسلك هو مسلك السبر والتقسيم فلا يحسن عده نوعاً آخر ورد عليه بأن بينهما فرقاً ظاهراً وذلك أن الحصر في دلالة السبر والتقسيم لتعيين العلة إما استقلالاً أو اعتباراً وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط

 

وهو أن يقع الاتفاق على علية وصف بنص أو إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع كتحقيق أن النباش سارق ، وسمي تحقيق المناط لأن المناط وهو الوصف علم أنه مناط وبقي النظر في تحقيق وجوده في الصورة المعينة . قال الغزالي وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياساً ؟ . واعلم إنهم قد جعلوا القياس من أصله ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل ، فقياس العلة ما صرح فيه بالعلة كما يقال في النبيذ إنه مسكر فيحرم كالخمر ، وقياس الدلالة هو أن لا يذكر فيه العلة بل وصف ملازم لها كما لو علل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المشتد ، والقياس الذي في معنى الأصل أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق ، وهو تنقيح المناط ما تقدم . وأيضاً قسموا القياس إلى جلي وخفي . فالجلي ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كقياس الأمة على العبد في أحكام العتق فإنا نعلم قطعاً أن الذكورة والأنوثة فيها مما لم يعتبره الشارع وأنه لا فارق بينهما إلا ذلك فحصل لنا القطع بنفي الفارق . والخفي بخلافة وهو ما يكون نفي الفارق فيه مظنوناً كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة إذ لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة ولذلك اختلفوا في تحريم النبيذ .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الخامس فيما لا يجري فيه القياس

 

فمن ذلك الأسباب . وقد اختلفوا في ذلك فذهب أصحاب أبي حنيفة وجماعة الشافعية وكثير من أهل الأصول إلى أنه لا يجري فيها . وذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يجري فيها ، ومعنى القياس في الأسباب أن يجعل الشارع وصفاً سبباً لحكم فيقاس عليه وصف آخر فيحكم بكونه سبباً ، وذلك نحو جعل الزنا سبباً للحد فيقاس عليه اللواط في كونه سبباً للحد . احتج المانعون بأن عليه سببية المقيس عليه وهي قدر من الحكمة يتضمنها الوصف الأول منتفية في المقيس وهو الوصف الآخر أي لم يعلم ثبوتها فيه لعدم انضباط الحكم وتغاير الوصفين فيجوز اختلاف الحكمة الحاصلة بهما ، وإذا كان كذلك امتنع الجمع بينهما في الحكم وهو السببية لأن معنى القياس الاشتراك في العلة وبه يمكن التشريك في الحكم. وأيضاً الحكمة المشتركة إما أن تكون ظاهرة منضبطة يمكن جعلها مناطاً للحكم أو لا تكون . فعلى الأولى قد استغنى القياس عن الالتفات إلى الوصفين وصار القياس في الحكم المترتب على الحكمة وهي الجامع بينهما فاتحد الحكم والسبب وهو الخلاف المفروض ، وعلى الثاني فإما يكون لها مظنة أي وصف ظاهر منضبط تنضبط هي به أولاً فعلى الأول صار في الحكم المترتب على ذلك الوصف فاتحد الحكم والسبب أيضاً، وعلى الثاني لا جامع بينهما من حكمة أو مظنة فيكون قياساً خالياً عن الجامع وهو لا يجوز . واحتج القائلون بالجواز بأنه قد ثبت القياس في الأسباب، وذلك كقياس المثقل على المحدد في كونه سبباً للقصاص وقياس اللواطة على الزنا في كونها سبباً للحد. وأجيب بأن ذلك خارج عن محل النزاع لأن النزاع إنما هو فيما تغاير فيه السبب في الأصل والفرع أي الوصف المتضمن للحكمة وكذا العلة وهي الحكمة وهاهنا السبب سبب واحد يثبت لهما أي الحكم وهما الأصل والفرع بعلة واحدة ففي المثقل والمحدد السبب هو القتل العمد العدوان والعلة الزجر لحفظ النفس الحكم القصاص وفي الزنا واللواطة السبب إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً مشتهى طبعاً والعلة الزجر لحفظ النسب والحكم وجوب الحد. وهذا الجواب لا يرد على الحنفية المانعين من القياس في الأسباب لأنهم لا يقولون بالقصاص في المثقل ولا بالحد في اللواطة وإنما يرد من قال بمنع القياس في الأسباب من الشافعية فإنهم يقولون بذلك. قال المحقق السعد والحق أن رفع النزاع بمثل ذلك يعني لكونه ليس محل النزاع ممكن في كل صورة فإن القائلين بصحة القياس في الأسباب لا يقصدون إلا ثبوت الحكم بالوصفين لما بينهما من الجامع ويعود إلى ما ذكرتم من اتحاد الحكم والسبب.

 

واختلفوا أيضاً هل يجري القياس في الحدود و الكفارات أم لا ؟ فمنعه الحنفية وجوزه غيرهم . احتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل كعدد المائة في الزنا والثمانين في الذف فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد والقياس فرع تعقل المعنى في حكمة الأصل وما كان يعقل منها كقطع يد السارق لكونها قد جنت بالسرقة فقطعت فإن الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب المنع من إثباته بالقياس وهكذا اختلاف تقديرات الكفارات فإنه لا يعقل كما لا تعقل أعداد الركعات . وأجيب عن ذلك بأن جريان القياس إنما يكون فيما يعقل معناه منها لا فيما يعقل فإنه لا خلاف في عدم جريان القياس فيه كما في غير الحدود والكفارات ولا مدخل لخصوصيتهما في امتناع القياس . وأجيب عما ذكروه من الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ بالنقض بخبر الواحد وبالشهادة فإن احتمال الخطأ فيهما قائم لأنهما لا يفيدان القطع وذلك يقتضي عدم ثبوت الحد بهما والجواب الجواب . واحتج القائلون بإثبات القياس في الحدود والكفارات بأن الدليل الدال على حجية القياس يتناولهما بعمومه فوجب العمل به فيهما . ويؤيد ذلك أن الصحابة حدوا في الخمر بالقياس حتى تشاوروا فيه فقال علي رضي الله عنه : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى . فأرى عليه حد الافتراء فأقام مظنة الشيء مقامه وذلك هو القياس ، واحتجوا أيضاً بأن القياس إنما يثبت في غير الحدود والكفارات لاقتضاء الظن وهو حاصل فيهما فوجب العمل به . واعلم أن عدم جريان القياس فيما لا يعقل كضرب الدية على العاقلة قد قيل إنه إجماع وقيل إنه مذهب الجمهور وأن المخالف في ذلك شذوذ ووجه المنع أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل و استدل من أثبت القياس فيما لا يعقل معناه بأن الأحكام الشرعة متماثلة لأنه يشملها حد واحد وهو الحكم الشرعي والممثلان يجب اشتراكهما فيما يجوز عليهما لأن حكم الشيء حكم مثله . وأجيب بأن هذا القدر لا يوجب التماثل وهو الاشتراك في النوع فإن الأنواع المتخالفة قد تندرج تحت جنس واحد فيعمها حد واحد وهو حد ذلك الجنس ولا يلزم من ذلك تماثلها بل تشترك في الجنس ويمتاز كل نوع منها بأمر يميزه وحينئذ فما كان يلحقها باعتبار القدر المشترك من الجواز والامتناع يكون عاماً لا ما كان يلحقها باعتباره غيره .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس في الاعتراضات

 

أي ما يعترض به المعترض على كلام المستدل وهي في الأصل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مطالبات وقوادح ومعارضة ، لأن كلام المعترض إما أن يتضمن تسليم مقدمات الدليل أولاً . الأول المعارضة والثاني أما أن يكون جوابه ذلك الدليل أولاً . الأول المطالبة . والثاني القدح وقد أطنب الجدليون في هذه الاعتراضات ووسعوا دائرة الأبحاث فيها حتى ذكر بعضهم منها ثلاثين اعتراضاً وبعضهم خمسة وعشرين وبعضهم جعلها عشرة وجعل الباقية راجعة إليها فقال هي فساد الوضع ، فساد الاعتبار عدم التأثير ، القول بالموجب ، النقض ، المنع ، التقسيم ، المعارضة ، المطالبة . قال والكل مختلف فيه إلا بالمنع والمطالبة وهذا يدل على الإجماع على المنع والمطالبة وفيه أنه قد خالف في المنع غير واحد منهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وخالف في المطالبة شذوذ من أهل العلم وقال ابن الحاجب في المختصر أنها راجعة إلى منع أو معارضة وإلا لم تسمع وهي خمسة وعشرون انتهى . وقد ذكرها جمهور أهل الأصول في أصول الفقه وخالف في ذلك الغزالي فأعرض عن ذكرها في أصول الفقه وقال إنها كالعلاوة عليه وأن موضع ذكرها علم الجدل ، وقال صاحب المحصول إنها أربعة : النقض ، وعدم التأثير ، والقول الموجب ، والقلب انتهى . وسنذكر هاهنا منها ثمانية وعشرين اعتراضاً:

 

الاعتراض الأول: النقض وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة واحدة فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحاً عند من يراه قادحاً وأما من لم يره قادحاً فلا يسميه نقضاً بل يجعله من باب تخصيص العلة وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضاً ، وينحصر النقض في تسع صور لأن العلة إما منصوصة قطعاً أو ظناً أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما المانع أو فوات شرط أو بدونهما .

 

وقد اختلف الأصوليون في هذا الاعتراض على مذاهب :

 

الأول : أنه يقدح في الوصف المدعى علة مطلقاً سواء كانت منصوصة أو مستنبطة وسواء كان تخلف الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب المتكلمين وهو اختيار أبي الحسين البصري والأستاذ أبي إسحاق والفخر الرازي وأكثر أصحاب الشافعي ونسبوه إلى الشافعي ورجحوا أنه مذهبه .

 

المذهب الثاني : أنه لا يقدح مطلقاً في كونها علة فيما وراء النقض ويتعين بتقدير مانع أو تخلف شرط وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة مالك وأحمد .

 

المذهب الثالث : أنه لا يقدح في المنصوصة ويقدح في المستنبطة حكاه إمام الحرمين عن المعظم فقال ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة . وقال في المحصول زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته .

 

المذهب الرابع : أنه يقدح في المنصوصة دون المستنبطة عكس الذي قبله حكاه بعض الأصول وهو ضعيف جداً . المذهب الخامس : أنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط ويقدح في المنصوصة حكاه ابن الحاجب وقد أنكروه عليه وقالوا لعله فهم ذلك من كلام الآمدي وفي كلام الآمدي ما يدفعه.

 

المذهب السادس : أنه لا يقدح حيث وجد مانع مطلقاً سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح واختاره البيضاوي والصفي الهندي .

 

المذهب السابع : أنه يقدح في المستنبطة في صورتين إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يقدح في صورة واحدة وهي ما إذا كان التخلف بدونهما ، وأما المنصوصة فإن كان النص ظنياً وقدر مانع أو فوات شرط جاز وإن كان قطعياً لم يجز أي لم يكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف الدليل ، وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ولا يقدح في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط واختاره ابن الحاجب وهو قريب من كلام الآمدي .

 

المذهب الثامن : أنه يقدح في علة الوجوب واحل دون علة الحظر حكاه القاضي عن بعض المعتزلة .

 

المذهب التاسع : أنه يقدح إن انتفضت على أصل من جعلها علة ولم يلزمه الحكم بها وإن اطردت على أصله ألزم حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين قال وهو من حشو الكلام لولا أنه أودع كتاباً مستعملاً لكان تركه أولى .

 

المذهب العاشر : إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه ومثله لا ينقض حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد ورده بأن النقض يفيد عدم تأثير العلة .

 

المذهب الحادي عشر: إن كانت العلة مستنبطة فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته لكون المذكور أولاً جزءاً من العلة وليست علة تامة وإن لم يتجه فرق بينهما فإن لم يكن الحكم مجمعاً عليه أو ثابتاً بمسلك قاطع بطلت عليته وإلا فلا واختاره إمام الحرمين الجويني .

 

المذهب الثاني عشر : أن يتخلف الحكم عن العلة وله ثلاث صور: الأولى أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم إطرادها فإنه يقدح . الثانية أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها لكن لمعارضة علة أخرى فهذا لا يقدح . الثالثة أن يختلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها فلا يقدح وهذا اختيار الغزالي وفي كلامه طول .

 

المذهب الثالث عشر : إن كان النقض من جهة المستدل فلا يقدح لأن الدليل قد يكون صحيحاً في نفسه وينقضه المستدل فلا يكون نقضه دليلاً على فساده لأنه قد ينقضه على أصله ويكون أصل غيره مخالفاً له وإن كان النقض من جهة قدح ، حكاه الأستاذ أبو منصور .

 

المذهب الرابع عشر : أن علية الوصف إن ثبتت بالمناسبة أو الدورات وكان النقض بتخلف الحكم عنها لمانع لم يقدح في عليته وإن كان التخلف لا لمانع قدح ، حكاه صاحب المحصول ونسبه إلى الأكثرين.

 

المذهب الخامس عشر : أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لأن العلة إن فسرت بالموجبة فلا يتصور عليتها مع الانتقاض وإن فسرت بالمعرفة فيتصور عليتها مع الانتقاض وهذا رجحه الغزالي والبيضاوي وابن الحاجب وفيه نظر فإن الخلاف معنوي لا لفظي على كل حال.

 

قال الزركشي في البحر : واعلم أنه إذا قال المعترض ما ذكرت من العلة منقوض بكذا فللمستدل أن يقول لا نسلم ويطالبه بالدليل على وجودها في محل النقض وهذه المطالبة مسموعة بالاتفاق انتهى . قال الأصفهاني لا يشترط في القيد الدافع للنقض أن يكون مناسباً بل غير المناسب مقبول مسموع اتفاقاً والمانعون من التعليل بالشبه يوافقون على ذلك وقال في المحصول هل يجوز دفع النقض بقيد طردي أما الطاردون فقد جوزوه وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه والحق أنه لا يجوز لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثراً لم يكن مجموع العلة مؤثراً وهكذا قال إمام الحرمين في هذا البرهان ثم اختار التفصيل بين أن يكون القيد الطردي يشير إلى مسألة تفارق مسألة النزاع بفقه فلا يجوز نقض العلة وإلا فلا يفيد الاحتراز عنه قال ولو فرض التقييد بإسم غير مشعر بفقه ولكن مباينة المسمى به لما عداه مشهورة بين النظار فهل يكون التقييد تخصيصاً للعلة ؟ اختلف فيه الجدليون والأقرب تصحيحه لأنه إصطلاح .

 

الإعتراض الثاني : الكسر، وهو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة هكذا قال أكثر الأصوليين والجدليين ومنهم من فسره بأنه وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه والمراد وجود معنى تلك العلة في موضع آخر معها ذلك الحكم وعلى هذا التفسير يكون كالنقض ولهذا قال ابن الحاجب في المختصر : الكسر وهو نقض المعنى والكلام فيه كالنقض ، ومثاله أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة فيقول المعترض ما ذكرته من المشقة ينتقض بمشقة أرباب الصنائع الشاقة في الحضر وفد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل ، وأما جماعة من الأصوليين منهم الفخر الرازي والبيضاوي فجعلوه من القوادح . قال الصفي الهندي : الكسر نقض يرد على بعض أوصاف العلة وذلك هو ما عبر عنه الآمدي بالنقض المكسور قال الصفي الهندي وهو مردود عند الجماهير إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بين . أما إذا لم يبين فلا خلاف أنه مردود وأما إذا بين فالأكثرون على أنه قادح وقال الآمدي والأكثرون على أنه غير قادح مردود وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في التلخيص : واعلم أن الكسر سؤال مليح والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به ويسمونه النقض من طريق المعنى والإلزام من طريق الفقه وأنكره طائفة من الخرسانيين قال وهذا غير صحيح لأن الكسر نقض من حيث المعنى فهو بمنزلة النقض من طريق اللفظ انتهى. وقد جعلوا منه ما رواه البيهقي عنه ضصض أنه دعي إلى دار فأجاب ودعي إلى دار أخرى فلم يجب فقيل له في ذلك فقال إن في دار فلان كلباً فقيل وفي هذا الدار سنور فقال السنور سبع ، ووجه الدلالة أنهم ظنوا أن الهرة يكسر المعنى فأجاب بالفرق وهو أن الهرة سبع أي ليست بنجسة كذا قيل . قال في المنخول قال الجدليون الكسر يفارق النقض فإنه يرد على إخالة المعلل لا على عبارته والنقض يرد على العبارة قال وعندنا لا معنى للكسر فإن كل عبارة لا إخالة فيها فهي طرد محذوف فالوارد على الإخالة نقض ولو ورد على أحد الوصفين مع كونهما مختلفين فهو باطل لا يقبل.

 

الاعتراض الثالث : عدم العكس ، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى كاستدلال الحنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم أذانها كالمغرب فيقال له هذا الوصف لا ينعكس لأن الحكم الذي هو منع التقديم للأذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات لعلة أخرى قال إمام الحرمين إذا قلنا إن اجتماع العلل على معلول واحد غير واقع فالعكس لازم ما لم يثبت الحكم عند انتفاء العلة يتوقف لكن لا يلزم المستدل بيانه بخلاف ما ألزمناه في النقض لأن ذاك داع إلى الانتشار وسببه أن إشعار النفي بالنفي منحط عن إشعار الثبوت بالثبوت وقال الآمدي لا يرد سؤال العكس إلا أن يتفق المتناظران على اتحاد العلة . الاعتراض الرابع : عدم التأثير ، قد ذكر جماعة من أهل الأصول أن هذا الاعتراض قوي حتى قال ابن الصباغ إنه من أصح ما يعترض به على العلة وقال السمعاني ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم التأثير ولست أرى له وجهاً بعد أن يبين المعلل التأثير لعلته وقد ذكرنا أن العلة الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها بالتأثير وقد جعله القائلون به منقسماً إلى أقسام :

 

الأول : عدم التأثير في الوصف لكونه طردياً وهو راجع إلى عدم العكس السابق قبل هذا كقولهم صلاة الصبح لا تقصر فلا تقدم على وقتها كالمغرب فقولهم لا تقصر وصف طردي بالنسبة إلى عدم التقديم .

 

الثاني : عدم التأثير في الأصل لكونه مستغنى عنه في الأصل لوجود معنى آخر مستقل بالغرض كقولهم في بيع الغائب مبيع غير مرئي كالطير في الهواء فلا يصح فيقال لا أثر لكونه غير مرئي فإن العجز عن التسليم كاف لأن بيع الطير لا يصح وإن كان مرئياً، وحاصله معارضة في الأصل لأن المعترض يلغي من العلة وصفاً ثم يعارضه المستدل بما بقي . قال إمام الحرمين والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرنا ، وقيل بل يصح لأن ذلك القيد له أثر في الجملة وإن كان مستغنى عنه كالشاهد الثالث بعد شهادة عدلين وهو مردود لأن ذلك القيد ليس محله ولا وصفاً له فذكره لغو بخلاف الشاهد الثالث فإنه متهيء لأن يصير عند عدم صحة شهادة أحد الشاهدين ركناً.

 

الثالث : عدم التأثير في الأصل والفرع جميعاً بأن يكون له فائدة في الحكم إما ضرورية كقول من اعتبر الاستنجاء بالأحجار وإما غير ضرورية كقولهم الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالظهر فإن قولهم مفروضة حشو لو حذف لم يضر.

 

الرابع : عدم التأثير في الفرع كقولهم زوجت نفسها فلا يصح كما لو زوجت من غير كفء لا أثر له فإن النزاع في الكفء وغيره سواء .

 

وقد اختلف فيه على أقوال : الأول الجواز قال الأستاذ أبو بكر وهو الأصح، والثاني المنع، والثالث التفصيل وهو عدم الجواز مع تبيين محل السؤال والجواز مع عمدة واختاره إمام الحرمين . الخامس عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفاً لا تأثير في الحكم للعلل به كقولهم في المرتدين الذين يتلفون الأموال مشركون أتلفوا في دار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي فإن دار الحرب لا مدخل لها في الحكم فلا فائدة لذكرها لأن من أوجب الضمان يوجبه وإن لم يكن في دار الحرب وكذا من نفاه ينفيه مطلقاً .

 

الاعتراض الخامس : القلب . قال الآمدي هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له أو يدل عليه وله والأول قلما يتفق في الأقسية ، ومثله في المنصوص بالاستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله ضصض : الخال وارث من لا وارث له فأثبت إرثه عند عدم الوارث فيقول المعترض هذا يدل عليك لا لك لأن معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له أي ليس الجوع زاداً ولا الصبر حيلة. قال الفخر الرازي في المحصول القلب معارضة إلا في أمرين : أحدهما أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن ، والثاني لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات أما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة قال الهندي والتحقيق أنه دعوى أن ما ذكره المستدل عليه لا له في تلك المسألة على ذلك الوجه انتهى . وجعله ابن الحاجب وشراح كلامه قسمين: أحدهما تصحيح مذهب المعرض فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما . وثانيهما إبطال مذهب المستدل إبتداء إما صريحاً أو بالالتزام . ومثال الأول أن الحنفي الاعتكاف يشترط فيه الصوم لأنه لبث فلا يكون بمجردة قربة كالوقوف بعرفة فيقول الشافعي فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة . ومثال الثاني أن يقول الحنفي في أنه يكفي مسح ربع الرأس عضو من أعضاء الوضوء فلا يكفي أقله كسائر الأعضاء ، فيقول الشافعي فلا يقدر بالربع كسائر الأعضاء هذا الصريح . وأما الإلتزام فمثاله أن يقول الحنفي بيع غير المرئي بيع معاوضة فيصح مع الجهل بأحد العوضين كالنكاح فيقول الشافعي فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ، وقد ذهب إلى اعتبار هذا الاعتراض الجمهور وأنه قادح وأنكره بعض أهل الأصول وقال إن الحكمين أي ما يثبته القالب إن لم يتنافيا فلا قلب إذ لا منع من اقتضاء العلة الواحدة لحكمين غير متنافيين وإن استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد ذلك الأصل بعينه فلا يكون قلباً إذ فيه من الرد إلى ذلك الأصل . وأجاب الجمهور عن هذا بأن الحكمين غير متنافيين لذاتهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الفرع فإذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل امتنع ثبوت الحكم الأول وظاهر كلام إمام الحرمين أنه لازم جدلاً لا ديناً، وقال أبو الطيب الطبري أن هذا القلب إنما ذكره المتأخرين من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله ضصض لا ضرر ولا ضرار في مسألة الساحة قال هذا البناء ضرار بالغاصب فقال له أصحابنا وفي بيع صاحب الساحة الساحة إضرار به قال ومن أصحابنا من قال يصح سؤال القلب قال وهو شاهد زور يشهد لك ويشهد عليك قال وهذا باطل لأن القالب عارض المستدل بما لا يمكن الجمع بينه وبين دليله فصار كما بدليل آخر وقيل هو باطل إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية . ومن أنواع القلب جعل المعلول علة والعلة معلولاً وإذا أمكن ذلك تبين أن لا علة فإن العلة هي الموجبة والمعلول هو الحكم الواجب لها . وقد فرقوا بين القلب والمعارضة بوجوه منها ما قدمنا عن الفخر الرازي وقال القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إنه معارضة فإنه لا يفسد العلة وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى والحق أنه نوع معارضة اشتراك فيه الأصل والجامع فكان أولى بالقبول .

 

الاعتراض السادس : القول بالموجب ، بفتح الجيم أي القول بما أوجبه دليل المستدل قال في المحصول وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف انتهى. قال الزركشي في البحر وذلك بأن يظن المعلل أن ما يأتي به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها مع كونه غير مستلزم قال وهذا أولى من تعريف الرازي له بموجب العلة لأنه لا يختص بالقياس . قال ابن المنير حدوده بتسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع فيه وهو غير مستقيم لأنه يدخل فيه ما ليس منه وهو بيان غلط المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله ضصض في أربعين شاة شاة فقال المعترض أقول بموجب هذا الدليل لكنه لا يتناول محل النزاع عندي كالمظنون للمستدل وليس قولاً بالموجب لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل في العدلة فتمام الحد أن يقال هو تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع حيث يكون للمستدل عذر معتبر. ومن أنواع القول بالموجب أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين ويسكت على الأخرى ظناً منه أنها مسلمة فيقول الخصم بموجب المقدمة ويبقى على المنع لما عداها. ومنها أن يعتقد المستدل تلازماً بين محل النزاع وبين محل آخر فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أن ما ثبت به الحكم في ذلك المحل يستلزم ثبوته في محل النزاع فيقول المعترض بالموجب ومنه الملازمة . والفرق بينه وبين المعارضة أن حاصله يرجع إلى خروج الدليل عن محل النزاع والمعارضة فيها اعتراف بأن للدليل دلالة على محل النزاع . قال إمام الحرمين وابن السمعاني وهو سؤال صحيح إذا خرج مخرج المانعة ولا بد في موجهه من شرط وهو أن يسند الحكم الذي ينصب له العلة إلى شيء مثل قول الحنفي في ماء الزعفران ماء خالطه طاهر والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء فيقول المعترض المخالط لا يمنع لكنه ليس بماء مطلق . قال في المنخول الأصوليون يقولون تارة إن القول بالموجب ليس اعتراضاً وهو لعمري كذلك فإنه لا يبطل العلة لأنها جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري حكمها متفق عليه أولى . واختلفوا هل يجب على المعترض إبداء سند القول بالموجب أم لا فقيل يجب لقربه إلى ضبط الكلام وصوته عن الخبط وإلا فقد يقول بالموجب على سبيل العناد وقيل لا يجب لأنه قد وفى بما عليه وعلى المستدل الجواب وهو أعرف بمآخذ مذهبه قال الآمدي وهو المختار.

 

الاعتراض السابع : الفرق ، وهو إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون مستقلة أو جزء علة وهو معدوم في الفرع سواء كان مناسباً أو شبهاً إن كانت العلة شبيهة بأن يجمع المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك بينهما فيبدي المعترض وصفاً فارقاً بينه وبين الفرع . قال في المحصول الكلام فيه مبنى على أن تعليل الحكم بعلتين هل يجوز أم لا انتهى . وقد اشترطوا فيه أمرين . أحدهما أن يكون بين الأصل والفرع فرق بوجه من الوجوه وإلا لكان هو هو وليس كلما انفرد الأصل بوصف من الأوصاف يكون مؤثراً مقتضياً للحكم بل قد يكون ملغى للإعتبار بغيره فلا يكون الوصف الفارق قادحاً والثاني أن يكون قاطعاً للجمع بين أن يكون أخص من الجمع فيقدم عليه أو مثله فيعارضه قال جمهور الجدليين في حدة الفرق قطع الجمع بين الأصل والفرع إذ اللفظ أشعر به وهو الذي يقصد منه . وقال بعضهم حقيقته المنع من الإلحاق بذكر وصف في الفرع أو في الأصل بمعنى أو معارضة العلة التي نصبها المستدل في الفرع بعلة مستقلة وهو سؤال صحيح كما اختاره إمام الحرمين وجمهور المحققين من الأصوليين والفقهاء قال إمام الحرمين ويعترض على الفارق مع قبوله في الأصل بما يعترض به على العلل المستقلة.

 

الاعتراض الثامن : الاستفسار ، وقد قدمه جماعة من الأصوليين على الاعتراضات. ومعناه طلب شرح معنى اللفظ إن كان غريبا أو مجملا ويقع بهل أو الهمزة أو نحوهما مما يطلب به شرح الماهية وهو سؤال مقبول معمول عليه عند الجمهور وقد غلط من لم يقبله من الفقهاء لأن محل النزاع إذا لم يكن متحققا لم يظهر وفاق ولا خلاف وقد يرجع المخالف إلى الموافقة عند أن يتضح له محل النزاع ولكنه لا يقبل إلا بعد بيان اشتمال اللفظ على إجمال أو غرابة فيقول المعترض أولا اللفظ الذي ذكره المستدل مجمل أو غريب بدليل كذا فعند ذلك يتوجه على المستدل التفسير . وحكى الصفي الهندي أن بعض الجدليين أنكر كونه اعتراضا لأن التصديق فرع دلالة الدليل على المتنازع فيه . قال بعض أهل الأصول إن هذا الاعتراض للاعتراضات قد جعلوه طليعة جيشها وليس من جنسها إذ الاعتراض عبارة عما يخدش به كلام المستدل والاستفسار ليس من هذا القبيل .

 

الاعتراض التاسع : فساد الاعتبار ، أي أنه لا يمكن اعتبار القياس في ذلك الحكم لمخالفته للنص أو الإجماع أو كان الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس أو كان تركيبه مشعراً بنقيض الحكم المطلوب. وخص فساد الاعتبار جماعة من أهل الأصول بمخالفته للنص وهذا الاعتراض مبني على أن خبر الواحد مقدم على القياس وهو الحق وخالف في ذلك طائفة من الحنفية والمالكية فقدموا القياس على خبر الواحد. وجواب هذا الاعتراض بأحد وجوه : الأول الطعن في سند النص إن لم يكن من الكتاب أو السنة المتواترة أو منع ظهوره فيما يدعيه المستدل أو بيان أن المراد به غير ظاهره أو أن مدلوله لا ينافي حكم القياس أو المعارضة له بنص آخر حتى يتساقطا ويصح القياس أو أن القياس الذي اعتمده ارجح من النص الذي عورض ويقيم الدليل على ذلك.

 

الاعتراض العاشر : فساد الوضع ، وذلك بابطال القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص بأن يبين المعترض أن الجامع الذي ثبت به الحكم قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان وذلك بأن يكون أحدهما مضيقاً والآخر موسعاً أو أحدهما مخففاً والآخر مغلظاً أو أحدهما إثباتاً والآخر نفياً . والفرق بين هذا الاعتراض والاعتراض الذي قبله أن فساد الاعتبار أعم من فساد الوضع فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار ولا عكس وجعلهما أبو إسحاق الشيرازي واحداً وقال ابن برهان هما شيئان من حيث المعنى لكن الفقهاء فرقوا بينهما وقالوا فساد الوضع هو أن يعلق على العلة خلاف ما يقتضيه النص وقيل فساد الوضع هو إظهار كون الوصف ملائماً لنقيض الحكم مع اتحاد الجهة ومنه الاحتراز عن تعدد الجهات لتنزيلها منزلة تعدد الأوصاف وعن ترك حكم العلة بمجرد ملاءمة الوصف للنقيض دون دلالة الدليل إذ هو عند فرض اتحاد الجهة خروج عن فساد الوضع إلى القدح في المناسبة قال ابن السمعاني وذكر أبو زيد هذا السؤال لايرد إلا على الطرد والطرد ليس بحجة وقيل هو أقوى من النقيض لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا الانتقال والنقض يمكن الاحتراز منه . وقال الأصفهاني في شرح المحصول هو مقبول عند المتقدمين ومنعه المتأخرون إلا لا توجه له لكونه خارجاً عن المنع والمعارضة . وجواب هذا الاعتراض ببيان وجود المانع في أصل المعترض.

 

الاعتراض الحادي عشر : المنع . قال ابن السمعاني الممانعة أرفع سؤال على العلل وقيل أساس المناظرة وهو يتوجه على الأصل من وجهين . أحدهما منع كون الأصل معللاً لأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فمن ادعى تعليل شيء كلف ببيانه . قال إمام الحرمين إنما يتوجه هذا الاعتراض على من لم يذكر تحريراً فإن الفرع في العلة المحررة يرتبط بالأصل . قال الكيا هذا الاعتراض باطل لأن المعلل إذا أتى بالعلة لم يكن لهذا السؤال معنى . الثاني منع الحكم في الأصل . واختلفوا هل هذا الاعتراض يقتضي انقطاع المستدل أم لا فقيل إنه يقتضي انقطاعه وقيل إنه لا يقتضي ذلك وبه جزم إمام الحرمين والكيا الطبري قال ابن برهان إنه المذهب الصحيح المشهور بين النظار واختاره الآمدي وابن الحاجب . وقيل إن كان المنع جلياً فهو انقطاع وإن كان خفياً فلا واختاره الأستاذ أبو إسحاق . وقيل يتبع عرف البلد الذي وقعت فيه المناظرة فإن الجدل مراسيم فيجب إتباع العرف وهو اختيار الغزالي ، وقيل إن لم يكن له مدرك غيره جاز واختاره الآمدي .

 

الاعتراض الثاني عشر: التقسيم وهو اللفظ متردداً بين أمرين أحدهما ممنوع . والآخر مسلم واللفظ محتمل لهما غير ظاهر في أحدهما . قال الآمدي وليس من شرطه أن يكون أحدهما ممنوعاً والآخر مسلماً بل قد يكونان مسلمين لكن الذي يرد على أحدهما غير الذي يرد على الآخر إذ لو اتحد الذي يرد عليهما لم يكن للتقسيم معنى ولا خلاف في أنه لا يجوز كونهما ممنوعين لأن التقسيم لا يفيد وقد منع قوم من قبول هذا السؤال لأن إبطال أحد محتملي كلام المستدل لا يكون إبطالاً له إذ لعله غير مراده ، مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء وجد سبب التيمم وهو تعذر الماء فيجوز التيمم فيقول المعترض ما المراد بكون تعذر الماء سبباً للتيمم هل تعذر الماء مطلقاً أو تعذره في السفر أو المرض . الأول ممنوع وحاصله أنه منع بعد تقسيم فيأتي فيه ما تقدم في صريح المنع من كونه مقبولاً أو مردوداً موجباً للانقطاع أو غير موجب . وجوابه أن يعين المستدل أن اللفظ موضوع له ولو عرفاً أو ظاهراً .

 

الاعتراض الثالث عشر : إختلاف الضابط بين الأصل والفرع لعدم الثقة بالجامع كقولهم في شهود القصاص تسببوا للقتل عمداً فلزمهم القصاص زجراً لهم عن التسبب كالمكره فالمشترك بين الأصل والفرع إنما هو في الحكمة وهي الزجر والضابط في الفرع الشهادة وفي الأصل الإكراه ولا يمكن التعدية بالحكمة وحدها وضابط الفرع يحتمل أن يكون مساوياً لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود وأن لا يكون . وجوابه ببيان كون التعليل بالقدر المشترك بينهما مضبوطاً عرفاً أو ببيان المساواة في الضابط .

 

الاعتراض الرابع عشر: إختلاف حكمي الأصل والفرع ، قيل إنه قادح لأن شرط القياس مماثلة الفرع للأصل في علته وحكمه فإذا اختلف الحكم لم تتحقق المساواة وذلك كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها قياساً على إثباتها في مالها .

 

الاعتراض الخامس عشر : منع كون ما يدعيه المستدل علة الحكم موجوداً في الأصل فضلاً عن أن يكون هو العلة . مثاله أن يقول في الكلب حيوان يغسل من ولوغه سبعاً فلا يقبل جلده الدباغ كالخنزير فيقول المعترض لا نسلم أن الخنزير يغسل من ولوغه سبعاً، والجواب عن الإعتراض بإثبات وجود الوصف في الأصل بما هو طريق ثبوت مثله إن كان حسياً فبالحس وإن كان عقلياً فبالعقل وإن كان شرعياً فبالشرع .

 

الاعتراض السادس عشر : منع كون الوصف المدعي عليته علة قال ابن الحاجب في مختصر المنتهى وهو من أعظم الأسئلة لعمومه وتشعب مسالكه والمختار قبوله وإلا لأدى إلى اللعب في التمسك بكل طردي انتهى . ومثاله أن يقول في الكلب حيوان يغسل من ولوغه سبعاً فلا يقبل جلده الدباغ معللاً بكونه يغسل من ولوغه ، وجوابه بإثبات العلية بمسلك من مسالكها المذكورة سابقاً .

 

الاعتراض السابع عشر : القدح في المناسبة ، وهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية لما تقدم من أن المناسبة تنخرم بالمعارضة ، وجوابه ترجيح المصلحة على المفسدة إجمالاً أو تفصيلاً.

 

الاعتراض الثامن عشر : القدح في إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له . مثاله أن يقال في علة تحريم مصاهرة المحارم على التأييد إنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب، ووجه المناسبة أنه يفضي إلى رفع الفجور وتقريره أن رفع الحجاب وتلاقي الرجال والنساء يفضي إلى الفجور وأنه يرتفع بتحريم التأبيد إذ يرتفع إذ يرتفع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر المفضية إلى الفجور فيقول المعترض لا يفضي إلى ذلك بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور لأن النفس حريصة على ما منعت منه إذ قوة داعية الشهوة مع اليأس عن اليأس عن الحل مظنة الفجور . وجوابه ببيان الإفضاء إليه بأن قول في هذه المسألة التأبيد يمنع عادة ما ذكرناه من مقدمات الهم والنظر وبالدوام يصير كالأمر الطبيعي .

 

الاعتراض التاسع عشر : كون الوصف غير كالرضا في العقود ، وجوابه بالاستدلال على كونه ظاهرا كضبط الرضا بصيغ العقود ونحو ذلك.

 

الاعتراض الموفي عشرين : كون الوصف غير منضبط كالحكم والمصالح مثل الحرج والمشقة والزجر فإنها أمور ذوات مراتب غير محصورة ولا متميزة وتختلف باختلاف الأشخاص والزمان والأحوال ، وجوابه بتقرير الانضباط إما بنفسه أو بوصفه.

 

الاعتراض الحادي والعشرين: المعارضة، وهي إلزام المستدل الجمع بين شيئين والتسوية بينهما في الحكم إثباتاً أو نفياً . كذا قال الأستاذ أبو منصور : وقيل هي إلزام الخصم أن يقول قولاً قال بنظيره وهي من أقوى الاعتراضات وهي أهم من اعتراض النقض فكل نقض معارضة ولا عكس كذا قيل . وفيه نظر لأن النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة وهذا المعنى يخالف معنى المعارضة ، وقد أثبت اعتراض المعارضة الجمهور من أهل الأصول والجدل وزعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح . واختلف القائلون بها في الثابت منها فقيل إنما يثبت منها معارضة الدلالة بالدلالة والعلة بالعلة ولا يجوز معارضة الدعوى بالدعوى . والمعارضة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع ومعارضة في الوصف. أما المعارضة في الأصل ، فبأن يذكر علة أخرى في الأصل سوى العلة التي علل بها المستدل وتكون تلك العلة معدومة ويقول إن الحكم في الأصل إنما كان بهذه العلة التي ذكرها المعترض لا بالعلة التي ذكرها المستدل . قال ابن السمعاني والصفي الهندي وهذا هو سؤال الفرق وذكر بعض أهل الأصول أنه لا فرق بين أن تكون العلة التي يبديها المعترض مستقلة بالحكم كمعارضة الكيل بالطعم أو غير مستقلة بل هي جزء علة كزيادة الجارح في القتل العمد العدوان في مسألة القتل بالمثقل وهذا إذا كانت العلة التي جاء بها المعترض مسلمة من خصمه أو محتملة احتمالاً راجحاً أما إذا تعارضت الاحتمالات فقيل يرجح وصف المستدل وقيل وصف المعترض وقيل لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر بل هو من التحكيم المحض ، ثم اختلفوا مع عدم الترجيح هل تقضي هذه المعارضة إبطال دليل المستدل أم لا على قولين حكاهما الأستاذ أبو منصور ،ثم اختلفوا هل يجب على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع على أقوال : الأول أنه لا يجب بل على المستدل أن بين ثبوته في الفرع ليصح الالحاق وإلا بطل الجمع . الثاني أنه يجب على المعترض البيان لأن الفرق لا يتم إلا بذلك . الثالث أنه إن قصد الفرق بين الأصل والفرع وجب عليه ذلك وإلا لم يجب وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب وجواب هذه المعارضة يكون إما بمنع وجود الوصف في الأصل أو بمنع المناسبة أو منع الشبه إن أثبته بأحدهما لأن المعارضة لا تتم من المعترض إلا إذا كان الوصف الذي عارض به في الأصل مناسباً أو مشابهاً إذ لو كان طردياً لم تصح المعارضة أو بمنع كون الوصف الذي أبداه المعترض ظاهراً أو بمنع كونه منضبطاً أو ببيان إلغاء الوصف الذي وقعت به المعارضة أو ببيان رجوعه إلى عدم وجود وصف في الفرع لا إلى ثبوت معارض في الأصل. وأما المعارضة في الفرع ، فهي أن يعارض حكم الفرع بما يقتضي نقيضه أو ضده بنص أو إجماع أو بوجود مانع أو بفوات شرط فيقول ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقضيه نقيضه أو ضده بنص هو كذا أو إجماع على كذا أو بوجود مانع لما ذكرته من الوصف أو بفوات شرط له . وقد قبل هذا الاعتراض أعني المعارضة في الفرع بعض أهل الأصول والجدل ونفاه آخرون فقالوا إن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت قال الصفي الهندي وهو ظاهر الإدعاء إذا كانت المعارضة بفوات شرط . وأما المعارضة في الوصف فهي على قسمين : أحدهما أن يكون بضد حكمه . والثاني أن يكون في عين حكمه مع تعذر الجمع بينهما ، مثال الأول أن يقول المستدل في الوضوء إنها طهارة حكمية فتفتقر إلى النية قياساً على التيمم فيقول المعارض طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية قياساً على إزالة النجاسة فلا بد عند ذلك من الرتجيح ، ومثال الثاني أن يقول المعترض نفس هذا الوصف الذي ذكرته على خلاف ما تريده ثم يوضح ذلك بما يكون محتملاً .

 

الاعتراض الثاني والعشرون : سؤال التعدية ، وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى غير ما عينه المستدل ويعارضه به ثم يقول للمستدل ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فكذا ما عللت به أنا متعد إلى فرع آخر مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر وذلك كأن يقول المستدل بكر فجاز اختيارها كالصغيرة فيقول المعترض البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغة فالصغر متعد إلى الثيب الصغيرة . وقد اختلفوا في قبول هذا إبطال الاعتراض فقبله البعض ورده البعض وأدرجه الصفي الهندي في اعتراض المعارضة في الأصل. وجوابه إبطال ما اعترض به وحذفه عن درجة الاعتبار ، واختلفوا هل يجب على المستدل أن يبين أنه لا أثر لما إليه المعترض من التسوية في التعدية أو لا يجب فقال الأكثرون لا يجب وقال بعض أهل الأصول يجب.

 

الاعتراض الثالث والعشرون : سؤال التركيب ، وهو أن يقول المعترض شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب وهو قسمان مركب الأصل ومركب الوصف ، ومرجع الأول منع حكم الأصل أو منع العلة ومرجع الثاني منع الحكم أو منع وجود العلة في فرع . وقد اختلفوا في قبوله فبعضهم قبله وبعضهم رده .

 

الاعتراض الرابع والعشرون : منع وجود الوصف المعلل به في الفرع كأن يقول المستدل في أمان العبد أمان صدر عن أهله كالعبد المأذون له في القتال فيقول المعترض لا نسلم أن العبد أهل للأمان ، وجوابه ببيان ما يثبت أهليته من حس أو عقل أو شرع وقد جعل بعضهم هذا الاعتراض مندرجاً فيما تقدم .

 

الاعتراض الخامس والعشرون : المعارضة في الفرع ، وقد تقدم بيانه في الاعتراض الحادي والعشرين.

 

الاعتراض السادس والعشرون : المعارضة في الوصف وقد تقدم بيانه أيضاً في الاعتراض الحادي والعشرين وإنما ذكرناهما هاهنا وهناك لأن كثيراً من أهل الأصول والجدل جعلوا المعارضة في الأصل اعتراضاً والمعارضة في الفرع اعتراضاً والمعارضة في الوصف اعتراضاً وبعضهم جعل الثلاث المعارضات اعتراضاً وبعضهم جعل الثلاث المعارضات اعتراضاً اعتراضاً واحداً ولا مشاحة في مثل ذلك فهو مجرد إصطلاح .

 

الاعتراض السابع والعشرون : إختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع كأن يقول المستدل بحد اللائط كما يحد الزاين لأنهما إيلاج محرم شرعاً مشتهى طبعاً فيقول المعترض : المصلحة في تحريمهما مختلفة ففي الزنا منع اختلاط الأنساب وفي اللواطة دفع رذيلة اللواطة وحاصله معارضة في الأصل بإبداء خصوصية ولهذا أدرجه بعضهم في اعتراض المعارضة في الأصل وبعضهم جعله اعتراضاً مستقلاً ، وجوابه بإلغاء الخصوصية .

 

الاعتراض الثامن والعشرون : أن يدعي المعترض المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع وهو اعتراض متوجه إلى المقدمة القائلة فيوجد الحكم في الفرع كما وجد في الأصل، وحاصل هذا أن دعوى المعترض للمخالفة إما أن تكون بدليل المستدل فيرجع إلى اعتراض القلب أو بغيره فيكون اعتراضاً خاصاً خارجا عما تقدم وقد جعله بعضهم مندرجاً فيما تقدم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

وهاهنا فوائد بهذه الاعتراضات

 

اختلفوا هل يلزم المعترض أن يورد الأسئلة مرتبة بعضها مقدم على البعض ؟ إذا أورد أسئلة متعددة أم لا يلزمه ذلك بل يقدم ما شاء ويؤخر ما شاء فقال جماعة لا يلزمه الترتيب ، وقال آخرون يلزمه لأنه لو جاز إيرادها على أي وجه اتفق لأدى إلى التناقض كما لو جاء بالمنع بعد المعارضة أو بعد النقض أو بعد المعارضة فإنه ممتنع لأنه منع بعد تسليم وإنكار بعد إقرار . قال الآمدي وهذا هو المختار ، وقيل إن اتحد جنس السائل كالنقض والمعارضة والمطالبة جاز إيرادها من غير تركيب لأنها بمنزلة سؤال واحد فإن تعددت أجناسها كالمنع مع المطالبة ونحو ذلك لم يجز وحكاه الآمدي عن أهل الجدل وقال اتفقوا على ذلك ونقل عن أكثر الجدليين أنه يقدم المنع ثم المعارضة ونحوها ولا يعكس هذا الترتيب وإلا لزم الانكار بعد الإقرار ، وقال جماعة من المحققين منهم : الترتيب المستحسن أن يبدى بالمطالبات أولاً لأنه لا اذا لم يثبت اركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة ثم بالقوادح لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحاً ثم إذا بدأ بالمنع فالأولى أن يقدم منع وجود الوصف في الفرع لأنه دليل الدعوى ثم منع ظهوره ثم منع إنضباطه ثم منع كونه علة في الأصل فإذا فرغ من المنوع شرع في القوادح فيبدأ بالقول بالموجب لوضوح مأخذه ثم بفساد الوضع ثم بالقدح في المناسبة ثم بالمعارضة ، وقال الأكثر من القدماء كما حكاه عنهم أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل إنه يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل لأنه إذا كان ممنوعاً لم نجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعاً أو مسلماً ولا كون الأصل معللاً بتلك العلة أو بغيرها ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع ثم بإطراد العلة ثم بتأثيرها ثم بكونها غير فاسد الوضع ثم بكونه غير فاسد الاعتبار ثم بالقلب ثم بالمعارضة ، وقال جماعة من الجدليين والأصوليين إن أول ما يبدأ به الاستفسار ثم فساد الاعتبار ثم فساد الوضع ثم منع حكم الأصل ثم منع وجود العلة في الأصل ثم منع علية الوصف ثم المطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وعدم ظهور الوصف وانضباطه وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك المقصود ثم النقض والكسر ثم المعارضة والتعدية والتركيب ثم منع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه حكم الأصل ثم القلب ثم القول بالموجب، وقد قدمنا قول من قال أن جميع الأسئلة ترجع إلى المنع والمعارضة ووجه ذلك أنه متى حصل الجواب عن المنع والمعارضة فقد تم الدليل وحصل الغرض من إثبات المدعي ولم يبق للمعترض مجال فيكون ما سواهما من الأسئلة باطلاً فلا يسمع لأنه لا يحصل الجواب عن جميع المنوع إلا بإقامة الدليل على جميع المقدمات وكذلك لا يحصل الجواب عن المعارضة إلا ببيان انتفاء المعارضة عن جميعها .

 

الفائدة الثانية : في الانتقال عن محل النزاع إلى غيره قبل تمام الكلام فيه . منعه الجمهور لأنا لو جوزناه لم يأت إفحام الخصم ولا إظهار الحق لأنه يتنقل من كلام إلى كلام ثم كذلك إلى ما لا نهاية له فلا يحصل المقصود من المناظرة وهو إظهار الحق وإفحام المخالف له وهذا إذا كان الانتقال من المستدل ، وأما إذا كان من السائل بأن ينتقل من سؤاله قبل تمامه ويقول ظننت أنه لازم فبان خلافه فمكنوني من سؤال آخر: فقال بعضهم الأصح أنه يمكن من ذلك إذا كان انحدار من الأعلى إلى الأدنى فإن كان ترقياً من الأدنى إلى الأعلى لو أراد الترقي من المعارضة إلى المنع لم يمكن من ذل لأنه يكذب نفسه وقيل يمكن لأن مقصوده الإرشاد. الفائدة الثالثة : في الفرض والبناء ، قالوا إنه يجوز للمستدل في الاستدلال ثلاث طرق : الأولى أن يدل على المسألة بعينها ، والثانية أن يفرض الدلالة في بعض شعبها وفصولها ، والثالثة أن يبني المسألة على غيرها . فإن استدل عليها بعينها فواضح وإن أراد أن يفرض الكلام في بعض أحوالها جاز لأنه إذا كان الخلاف في الكل وثبت الدليل في بعضها ثبت في الباقي بالإجماع وإن أراد أن يفرض الدلالة في غير فرد من أفراد المسألة لم يجز وأما إذا أراد أن يبني المسألة على غيرها فأما يبينها على مسألة أصولية وإما أن يبينها على مسألة فروعية وعلى التقديرين إما أن يكون طريقها واحدة أو مختلفة فإن كانت واحدة جاز وإن كانت مختلفة لم يجز وهذا قول جمهور أهل الجدل ، وقال ابن فورك لا يجوز الفرض والبناء لأن حق الجواب أن يطابق السؤال ، وقال إمام الحرمين إنما يجوز إذا كانت علة الفرض شاملة لسائر الأطراف . قال والمستحسن منه هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراد وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها. وحاصله إن ظهر انتظام العلة العامة في صورتين كان مستحسناً وإلا كان مستهجناً وفائدته كون العلة قد تخفى في بعض الصور وتظهر في بعض آخر فالتفاوت بالأولية خاصة والعلة واحدة. الفائدة الرابعة : في جواز التعلق بمناقضات الخصوم قد وقع الاتفاق على أنه لا يجوز إثبات المذهب إلا بدليل شرعي ولكن اختلفوا في التعلق بمناقضات الخصوم في المناظرة فذهب جماعة إلى جوازه من حيث إن المقصود من الجدل تضييق الأمر على الخصم، وذكر القاضي تفصيلاً حسنأً فقال إن كانت المناقضة عائدة إلى تفاصيل أصل لا يرتبط فسادها وصحتها بفساد الأصل وصحته فلا يجوز التعلق بها وإلا جاز.

 

الفائدة الخامسة : في السؤال والجواب . قال الصيرفي السؤال إما استفهام مجرد وهو الاستخبار عن المذهب أو عن العلة وإما استفهام عن الأدلة أي التماس وجه دلالة البرهان ثم المطالبة بنفوذ الدليل وجريانه وسبيل الجواب أن يكون إخباراً مجرداً ثم الاستدلال ثم طرد الدليل ، ثم السائل في الابتداء إما أن يكون غير عالم بمذهب من يسأله أو يكون عالماً به ثم إما أن يعلم صحته فسؤاله لا معنى له وإما أن لا يعلم فسؤاله راجع إلى الدليل . والحاصل أن من أنكر الأصل الذي يستشهد به المجيب فسؤاله عنه أولى لأن الذي أحوجه إلى المسألة هو الخلاف فأما إذا كان الخلاف في الشاهد فالسؤال عنه أولى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

 

الفصل السابع في الاستدلال

 

 

 

وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس. لا يقال هذا من تعريف بعض الأنواع ببعض وهو تعريف بالمساوي في الجلاء والخفاء بل هو تعريف للمجهول بالمعلوم لأنه قد سبق العلم بالنص والإجماع والقياس ، واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلاثة : الأول التلازم بين الحكمين من غير تعيين علة وإلا كان قياساً . الثاني استصحاب الحال . الثالث شرع من قبلنا . قالت الحنفية ومن أنواعه نوع رابع وهو الاستحسان وقالت المالكية ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح المرسلة وسنفرد لكل واحد من هذه الأنواع بحثاً ونلحق بها فوائد لاتصالها بها بوجه من الوجوه .

 

البحث الأول : في التلازم وهو أربعة أقسام ، لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس ، وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية قال الآمدي ومن أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب والمانع أو فقد الشرط ، ومنها انتفاء الحكم لانتفاء مدركه ، ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر ثم قسمه إلى الاقتراني والاسثنائي وذكر الاشكال الأربعة وشروطها وضروبها انتهى . فليرجع في هذا البحث إلى ذلك الفن ، وإذا كان هذا لا يجري إلا فيما فيه تلازم أو تناف فالتلازم إما أن يكون طرداً أو عكساً أي في الطرفين أو طرداً لا عكساً أي من طرف واحد والتنافي لا بد أن يكون من الطرفين لكنه إما أن يكون طرداً وعكساً أي إثباتاً ونفياً وأما طرداً فقط أي إثباتاً وإما عكساً فقط أي نفياً :

 

الأول : المتلازمان طرداً وعكساً وذلك كالجسم والتأليف إذ كل جسم مؤلف وكل مؤلف جسم وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين وبين النفيين كلاهما طرداً وعكساً فيصدق كلما كان جسماً كان مؤلفاً وكلما كان مؤلفاً كان جسماً وكلما لم يكن مؤلفاً لم يكن جسماً وكلما لم يكن جسماً لم يكن مؤلفاً.

 

الثاني : المتلازمان طرداً فقط كالجسم والحدوث إذ كل جسم حادث ولا ينعكس في الجوهر الفرد فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين طرداً فيصدق كلما كان جسماً كان حادثاً لا عكساً فلا يصدق كلما كان حادثاً كان جسماً ويجري فيه التلازم بين النفيين عكساً فيصدق كلما لم يكن حادثاً لم يكن جسماً لا طرداً فلا يصدق كلما لم يكن جسماً لم يكن حادثاً .

 

الثالث : المتنافيان طرداً وعكساً كالحدوث ووجوب البقاء فإنهما لا يجتمعان في ذات فتكون حادثة واجبة البقاء ولا يرتفعان فيكون قديماً غير واجب البقاء فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي وبين النفي والثبوت طرداً وعكساً أي من الطرفين فيصدق لو كان حادثاً لم يجب بقاؤه ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثاً فلا يجب بقاؤه ولو لم يجب بقاؤه فلا يكون حادثاً .

 

الرابع : المتنافيان طرداً لا عكساً إي إثباتاً لا نفياً كالتأليف والقدم إذ لا يجتمعان فلا يوجد شيء هو مؤلف وقديم لكنهما قد يرتفعان كالجزء الذي لا يتجزأ وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي طرداً وعكساً أي من الطرفين فيصدق كلما كان جسماً لم يكن قديماً وكلما كان قديماً كان جسماً.

 

الخامس : المتنافيان عكساً أي نفياً كالأساس والخلل فإنهما لا يرتفعان فلا يوجد ما ليس له أساس ولا يختل وقد يجتمعان في كل ما له أساس قد يختل بوجه آخر وهذا يجري فيه تلازم النفي والإثبات طرداً وعكساً فيصدق كل ما لم يكن له أساس فهو مختل وكل ما لم يكن مختلاً فليس له أساس ولا يصدق كل ما كان له أساس فليس بمختل وكل ما كان مختلاً فليس له أساس ، وما قدمنا عن الآمدي أن من أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب الخ هو أحد الأقوال لأهل الأصول، وقال بعضهم إنه ليس بدليل وإنما هو دعوى دليل فهو بمثابة قولهم وجد دليل الحكم فيوجد الحكم لا يكون دليلاً ما لم يعين وإنما الدليل ما يستلزم المدلول وقال بعضهم هو دليل إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم بالمدلول . والصواب القول الأول أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى . واعلم أنه يرد على جميع أقسام التلازم من الاعتراضات السابقة جميع ما تقدم ما عدى الاعتراضات الواردة على نفس العلة .

 

البحث الثاني الاستصحاب : أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي، ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك لأمر ما لم يوجد ما يغيره فيقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى وكلما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء. قال الخوارزمي في الكافي وهو آخر مدار الفتوى فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس فإن لم يجده فيأخد حكمها من استصحاب الحال في النفي والاثبات فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى . واختلفوا هل هو حجة عند عدم الدليل على أقوال الأول ؟ أنه حجة وبه قالت الحنابلة وإنما المالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الاثبات وحكاه ابن الحاجب عن الأكثرين : الثاني أنه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري قالوا لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني لأنه يجوز أن يكون وأن يكون وهذا خاص عندهم بالشرعيات بخلاف الحسيات فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك ولم يجر العادة به في الشرعيات فلا تلحق بالحسيات ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل عنه الخلاف مطلقاً . قال الصفي الهندي وهو يققتضي تحقق الاختلاف في الوجودي والعدمي جميعاً لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة قال الزركشي والمنقول في كتب أكثرالحنفية أنه لا يصلح حجة على الغير ولكن يصلح للرفع والدفع وقال أكثر المتأخرين منهم أنه حجة لإبقاء ما كان ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن . الثالث أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله عز وجل فإنه لا يكلف إلا ما يدخل تحت مقدوره فإذا لم يجد دليلاً سواه جاز له التمسك ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلاً على هذا لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل. الرابع أنه يصلح حجة للدفع وإليه ذهب أكثر الحنفية قال الكيا ويعبرون عن هذا باستصحاب الحال صالح لأبقاء ما كان على ما كان إحالة على عدم الدليل لا لإثبات أمر لم يكن وقد قدمنا أن هذا قول أكثر المتأخرين منهم . الخامس أنه يجوز الترجيح به لا غير . نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به . السادس أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح ذلك وإن كان غرضه إثبات خلاف قوله خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فلا يصح . حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض اصحابه الشافعي قال الزركشي لا بد من تنقيح موضع الخلاف فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع فنقول للإستصحاب صور . إحداهما استصحاب ما دل العقل والشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان القول المقتضى له وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض . قال : الثانية استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره كنفي صلاة سادسة . قال القاضي أبو الطيب وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع . فإن الثالثة استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات . قال : الرابعة استصحاب الدليل مع احتمال المعارض إما تخصيصاً إن كان الدليل ظاهراً أو نسخاً إن كان الدليل نصاً فهذا أمر معمول به إجماعاً . وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب فأثبته جمهور الأصوليين ومنعه المحققون منهم إمام الحرمين في البرهان و الكيا في تعليقه وابن السمعاني في القواطع لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا من ناحية اللفظ لا من ناحية الإستصحاب.

 

قال الخامسة الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي بأن يتفق على حكم في حالة ثم يتغير صفة المجمع عليه فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال . مثاله إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد وهذا النوع هو محل الخلاف كما قاله في القواطع وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها فذهب الأكثرون منهم القاضي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي إلى أنه ليس بحجة . قال الأستاذ أبو منصور وهو قول جمهور اهل الحق من الطوائف وقال المارودي والروياني في كتاب القضاء إنه قول الشافعي وجمهور العلماء فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب بل إن اقتضى القياس أو غيره ألحاقه بما قبل ألحق به وإلا فلا ، قال وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ونقله ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن خيران وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان قال واختاره الآمدي وابن الحاجب . قال سليم الرازي في التقريب إنه الذي ذهب إليه شيوخ اصحابنا فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه انتهى . والقول الثاني هو الراجح لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل قائم في مقام المنع فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذكل فمن ادعاه جاء به .

 

البحث الثالث : شرع من قبلنا ، وفي ذلك مسألتان :

 

المسألة الأولى : هل كان نبينا ضصض قبل البعثة متعبداً بشرع أم لا ؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب فقيل أنه ضصض كان متعبداً قبل البعثة بشريعة آدم لأنها أول الشرائع وقيل بشريعة نوح لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً وقيل بشريعة إبراهيم لقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقولهأن اتبع ملة إبراهيم قال الواحدي وهذا هو الصحيح . قال ابن القشيري في المرشد وعزي إلى الشافعي قال الأستاذ أبو منصور وبه نقول وحكاه صاحب المصادر عن أكثر أصحاب أبي حنيفة وإليه أشار أبو علي الجبائي . وقيل كان متعبداً بشريعة موسى وقيل بشريعة عيسى لأنه أقرب الأنبياء ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني كما حكاه عنه الواحدي . وقيل كان على شرع من الشرائع ولا يقال كان من أمة نبي من الأنبياء أو على شرعه . قال ابن القشيري في المرشد وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق . وقيل كان متعبداً بشريعة كل من قبله من الأنبياء إلا ما نسخ منها واندرس حكاه صاحب الملخص ، وقيل كان متعبداً بشرع ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله . حكاه ابن القشيري وقيل لم يكن قبل البعثة متعبداً بشرع حكاه في المنخول عن إجماع المعتزلة. قال القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين قال جمهورهم إن ذلك محال عقلاً إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضاً من نبوته . وقال بعضهم بل كان على شريعة العقل قال ابن القشيري وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة . ورجح هذا المذهب أعني عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي وقال هذا ما ترتضيه وتنصره لأنه كان على دين لنقل ولذكره ضصض إذ لا يظن به الكتمان وعارض ذلك إمام الحرمين وقال لو لم يكن على دين أصلاً لنقل فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي قال فقد تعارض الأمران . والوجه أن يقال كانت العادة انحرفت في أمور الرسول ضصض بانصرافهم الناس عن أمر دينه والبحث عنه ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما زمه عليها . وقيل بالوقف وبه قال إمام الحرمين وابن القشيري والكيا والغزالي والآمدي والشريف المرتضى واختاره النووي في الروضة قالوا إذ ليس فيه دلالة عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع . قال ابن القشيري في المرشد بعد حكاية الاختلاف في ذلك وكل هذه أقوال متعارضة وليس دلالة قاطعة والعقل يجوز ذلك لكن أين السمع فيه انتهى . قال إمام الحرمين هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ووافقه المازري والماوردي وغيرهما وهذا صحيح فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته . وأقرب هذه الأقوال قول من قال إنه كان متعبداً بشريعة إبراهيم عليه السلام فقد كان ضصض كثير البحث عنها عاملاً بما بلغ إليه منها كما يعرف ذلك من كتب السير وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره ضصض بعد البعثة باتباع تلك الملة فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها .

 

المسألة الثانية : اختلفوا هل كان متعبداً بعد البعثة بشرع من قبله أم لا ؟ . على أقوال : الأول: أنه لم يكن متعبداً باتباعها بل كان منهياً عنها وإليه ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي في آخر عمره . قال ابن السمعاني إنه المذهب الصحيح، وكذا قال الخوارزمي في الكافي ، واستدلوا بأنه ضصض لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسنة ، ثم اجتهاد الرأي وصحح هذا القول ابن حزم . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى:لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً وبالغت المعتزلة فقالت باستحالة ذلك عقلاً وقال غيرهم العقل لا يحيله ولكنه ممتنع شرعاً واختاره الفخر الرازي والآمدي . القول الثاني : أنه كان متعبداً بشرع من قبله إلا ما نسخ منه نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية وأكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين . قال ابن القشيري هو الذي صار إليه الفقهاء واختاره الرازي وقال إنه قول أصحابهم وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق واختاره ابن الحاجب وقال ابن السمعاني وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه قال القرطبي وذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية . قال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك . واستدلوا بقوله سبحانه : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية فإن ذلك مما استدل به في شرعنا على وجوب القصاص ولو لم يكن متعبداً بشرع من قبله لما صح الاستدلال بكون القصاص واجباً في شرع بني إسرائيل على كونه واجباً في شرعه. واستدلوا أيضاً بأنه ضصض لما قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قرأ قوله تعالى : وأقم الصلاة لذكري وهي مقولة لموسى فلو لم يكن متعبداً بشرع من قبله لما كان لتولاة الآية عند ذلك فائدة . واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس أنه سجد في صورة ص وقرأ قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فاستنبط التشريع من هذه الآية واستدلوا أيضاً بما ثبت في الصحيح أنه كان ضصض يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ولولا ذلك لم يكن لمحبته للموافقة فائدة ولا أوضح ولا أصرح في الدلالة على هذا المذهب من قوله تعالى : فبهداهم اقتده وقولهثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً .

 

القول الثالث : الوقف حكاه ابن القشيري وابن البرهان . وقد فصل بعضهم تفصيلاً حسناً فقال إنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول أو لسان الرسول أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ولم يكن منسوخاً ولا مخصوصاً فإنه شرع لنا وممن ذكر هذا القرطبي ولا بد من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل فإطلاقهم مقيد بهذا القيد ولا أظن أحداً منهم يأباه . البحث الرابع : الاستحسان ، واختلف في حقيقة فقيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه . وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى . وقيل هو العدول عن الحكم إلى العادة لمصلحة الناس ، قيل تخصيص قياس بأقوى منه ونسب القول به إلى أبي حنيفة وحكى عن أصحابه ونسبه إمام الحرمين إلى مالك وأنكره القرطبي فقال ليس معروفاً من مذهبه وكذلك أنكر اصحاب أبي حنيفة ما حكى عن الحنابلة قال ابن الحاجب في المختصر قالت به الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم انتهى . وقد أنكره الجمهور حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع قال الروياني معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعاً غير الشرع وفي رواية عن الشافعي أنه قال القول بالاستحسان باطل وقال الشافعي في الرسالة الاستحسان تلذذ ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعاً . قال جماعة من المحققين الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه لأنهم ذكروا في تفسيره أمور لا تصلح للخلاف لأن بعضها مقبول اتفاقاً وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقاً وما هو مردود اتفاقاً وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقول من قال إنه تخصيص قياس بأقوى منه وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويصر علي التعبير عنه لأنه إن كان معنى قوله ينقدح أنه يتحقق ثبوته والعمل به واجب عليه فهو مقبول اتفاقاً وإن كان بمعنى أنه شاك فهو مردود اتفاقاً إذ لا يثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك ، وجعلوا من المتردد ايضاً قول من قال إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس فقالوا إن كان العادة هي الثابتة في زمن النبي ضصض فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالأجماع وأما غيرها فإن كان نصاً وقياساً مما ثبت حجيته فقد ثبت ذلك به وإن كان شيئاً آخر لم تثبت حجيته فهو مردود قطعاً وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوى الدليلين كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر قال وهذا هو الدليل فإن سموه استحساناً فلا مشاحة في التسمية . وقال ابن الأنباري الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس ، ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات وله ورثة فقيل يرد وقيل يختار الامضاء قال أشهب القياس الفسخ ولكنا نستحسن إن أراد الامضاء أن يأخذ من لم يمض إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد . قال ابن السمعاني إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الانسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل ولا أحد يقول به ، ثم ذكر أن الخلاف لفظي ثم قال فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل إلى دليل أقوى منه فهذا مما لم ينكره أحد عليه لكن هذا الإسم لا يعرف إسماً لما تقاربه وقد سبقه إلى مثل هذا القفال فقال إن كان المراد بالاستحسان ما دلت الأصول بمعانيها فهو حسن لقيام الحجة به قال فهذا لا ننكره ونقول وبه وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير فهو محظور والقول به غير سائغ . قال بعض المحققين الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين : أحدهما واجب بالإجماع وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي لحسنه فهذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع . والضرب الثاني أن يكون على مخالفة ادليل مثل أن يكون الشيء محظوراً بدليل شرعي وفي عادات الناس التحقيق فهذا عندنا يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي سواء كان ذلك الدليل نصاً أو إجماعاً أو قياساً انتهى . فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً لأنه إن كان راجعاً إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار وإن كان خارجاً عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى .

 

البحث الخامس : المصالح المرسلة ، قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس وسنذكر هاهنا بعض ما يتعلق بها تتميماً للفائدة ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل . وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها اسم استدلال . قال الخوارزمي والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق . قال الغزالي هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب عقلاً ولا يوجد أصل متفق عليه . وقال ابن برهان هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي . وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب : الأول منع التمسك بها مطلقاً وإليه ذهب الجمهور ، الثاني الجواز مطلقاً وهو المحكى عن مالك قال الجويني في البرهان وأفرط في القول بها حتى جزاه إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستنداً ، وقد حكى القول بها ومنهم القرطبي وقال ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها وهو مذهب مالك قال وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني وجازف فيما نسبه إلى مالك من الافراط في هذا الأصل وهذا الأصل وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه. قال ابن دقيق العيد الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما انتهى . قال القرافي هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ولانعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك. الثالث إن كانت ملائكة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي جاز بنا الأحكام عليها ولا فلا . حكاه ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وقال إنه الحق المختار. قال إمام الحرمين ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنفية إلى تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول. الرابع إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة واختار وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة واختار هذا الغزالي والبيضاوي ومثل الغزالي للمصلحة المستجمعة بمسألة الترس وهي ماذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين وإذا رمينا قتلنا مسلماً من دون جريمة منه ولو تركنا الرمي لسلطنا الكفار على المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارىالذين تترسوا بهم فحفظ المسلمين بقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نقطع أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسمه عند الإمكان فحيث لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتاً إلأى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة على الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له اصل فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية كلية قطعية فخرج بالكلية فإذا اشرف جماعة في سفينة على الغرق ولو غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عن عدم رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القعلة . قال القرطبي هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها وأما ابن المنير فقال هو احتكام من قائلة ثم هو تصويرها بما لا يمكن عادة ولا شرعاً أما عادة فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه إذ هو عبث وعناد وأما شرعاً فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها ليستأصل شأفتها . قال وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها لتضيقه في قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده انتهى . قال الزركشي وهذا تحامل منه فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة لاحتمال وقوعها بل المستحيلة لرياضة الأفهام ولا حجة له في الحديثة لأن المراد به كافة الخلق وتصوير الغزالي إما هو في أهل محلة يخصوصهم استولى عليهم الكفار لا جميع العالم وهذا واضح انتهى . قال ابن دقيق العيد لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح لكن الاسترسال فيها وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد وربما يخرج عن الحد وقد نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة. قال وشاورني بعض القضاءة في قطع أنملة شاهد والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها وكل هذا منكرات عظيمة الموقع في الدين واسترسال قبيح في أذى المسلمين انتهى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

 

 

المقدمة

 

الفصل الأول في تعريفه

 

الفصل الثاني في حجة القياس

 

الفصل الثالث في أركان القياس

الفصل الرابع في الكلام على مسالك العلة ، وهي طرقها الدالة عليها

الجزء الرابع بدون تاااااااابع

💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦💦
إرشاد الفحول - الجزء الرابع
فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال الفائدة الأولى: في قول الصحابي. اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم على أقوال: الأول أنه ليس بحجة مطلقاً وإليه ذهب الجمهور. الثاني أنه حجة شرعية مقدمة على القياس وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول الشافعي . الثالث أنه حجة إذا انضم إليه القياس فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي وهو ظاهر قول الشافعي في الرسالة قال وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان أصح في القياس وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس انتهى. وحكى القاضي حسين وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس وكذا حكاه عنه القفال الشاشي وابن القطان . قال القاضي في التقريب إنه قاله الشافعي في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه المزني وابن أبي هريرة . الرابع أنه حجة إذا خالف القياس لأنه لا محمل له إلا التوقيف وذلك القياس والتحكم في دين الله باطل فيعلم أنه لا يقلد إلا توقيفاً . قال ابن برهان في الوجيز وهذا هو الحق المبين قال : ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تدل عليه انتهى . ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد أما إذا لم يكن منها ودل دليل على التوقيف فليس مما نحن بصدده والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمداً ضصض وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمور باتياع كتابة وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنة فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله وما يرجع إليهما قد قال في دين الله لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعاً لم يأمر الله وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو اقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل به وتصير شرعاً ثابتاً متقرراً تعم به البلوى مما لا يدان الله عز وزجل به . ولا يحل لمسلم الركون إليه ولا العمل عليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولهذا مد أحدهم لا يبلغه من غيرهم الصدقة بأمثاله الجبال ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله ضصض في حجة قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه حرف واحد ، وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي مما روى عنه ضصض أنه قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتابة والسنة وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا لم فعلت كذا لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ولم يتلعثم في بيان ذلك، وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه ضصض من قوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وما صح عنه من قوله ضصض عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين . فاعرف هذا واحرص عليه فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولاً إلا محمداً ضصض ولم يأمرك باتباع غيره ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفاً واحداً ولا جعل شيئاً منه الحجة عليك في قول غيره كائناً من كان . الفائدة الثانية : الأخذ بأقل ما قيل فإنه أثبته الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني قال القاضي عبد الوهاب وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه . قال ابن السمعاني وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر على أقاويل فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل . قال القفال الشاشي هو أن يرد الفعل عن النبي ضصض مبيناً لمجمل ويحتاج إلى تجديده فيصار إلى ما يوجد كما قال الشافعي في أقل الجزية إنه دينار، وقال ابن القطان هو أن يختلف الصحابي في تقديره فيذهب بعضهم إلى مائة مثلاً وبعضهم إلى خمسين فإن كان ثم دلالة تعضد أحد القولين صير إليها وإن لم يكن دلالة فقد اختلف فيه أصحابنا فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل ويقول إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال أن دية اليهود الثلث وحكى اختلاف الصحابة فيه وأن بعضهم قال بالمساواة وبعضهم قال بالثلث فكان هذا أقلها . وقسم ابن السمعاني إلى قسمين : أحدهما : أن يكون ذلك فيما أصله البراءة فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى لموافقة براءة الذمة ما لم يقم دليل الوجوب وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الميت إذا وجبت على قاتله فهل يكون الأخذ بأقله دليلاً. اختلف أصحاب الشافعي فيه. القسم الثاني: أن يكون مما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرضها مع اختلاف العلماء في عدد انعقادها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلاً لارتهان الذمة بها فلا تبرى الذمة عنه إلا بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعاً وفي الأقل خلاف فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين لأن هذا العدد أكثر ما قيل . الثاني : لا يكون دليلاً لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل انتهى . والحاصل أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما فيها متركباً من الإجماع والبراءة الأصلية وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل. قال ابن حزم وإنما إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام ولا سبيل إليه وحكى قولاً بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل ليخرج من عهدة التكليف بيقين . ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير أن كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد بما صح له منها من الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح إن لم يمكن وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة يتعين الأخذ بها والمصير إلى مدلولها وان كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب فلا اعتبار عند الجمهور بمذاهب الناس بل هو متعبد باجتهاده وما يؤدي إليه نظره من الأخذ بالأقل أو بالأكثر أو بالوسط . وأما المقلد فليس له من الأمر شيء بل هو أسير إمامه في جميع دينه وليته لم يفعل وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف الذي سميناه أدب الطلب وفي الرسالة المسماة القول المفيد في حكم التقليد. وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل كذلك وقع الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل وقد صار بعضهم إلى ذلك لقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقولهوما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله ضصض بعثت بالحنفية السمحة السهلة وقوله يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق ولا معنى للخلاف في مثل هذا لأن الدين كله يسر والشريعة جميعها سمحة سهلة،والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه أو الأشق مرجحاً بل يجب المصير إلى المرجحات المعتبرة. الفائدة الثالثة : لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، وأما النافي له فاختلفوا في ذلك على مذاهب . الأول : أن يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي ، نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ونقله ابن القطان على أكثر اصحاب الشافعي وجزم به القفال والصيرفي ، وقال الماوردي إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء والمتكلمين ، وقال القاضي في التقريب إنه الصحيح . وبه قال الجمهور قالوا لأنه مدع والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبيناً ولقوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في جواب قولهلن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه فإن النافي غير مدع بل قائم مقام المنع متمسك بالبراءة الأصلية ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل ، وأما قوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فهو نصب للديل في غير موضعه فإنه إنما طلب منهم البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى . المذهب الثاني : أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل وإليه ذهب أهل الظاهر إلا ابن حزم فإنه رجح المذهب الأول . قالوا لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم فمن نفى الحكم له أن يكتفي بالاستصحاب وهذا المذهب قوي جداً ، فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل. المذهب الثالث : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي دون الشرعي حكاه القاضي في التقريب و ابن فورك . المذهب الرابع : أنه يحتاج إلى الدليل في غير الضروري بخلاف الضروري . وهذا اختاره الغزالي ولا وجه له فإن الضروري يستغني بكونه ضروريا ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط أو الاعتراض الشبهة ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته وليس النزاع إلا في الضروري . المذهب الخامس : أن النافي إن كان شاكاً في نفيه لم يحتج إلى دليل وإن كان نافياً له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت ضرورية فلا نزاع في الضروريات . كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له فإن النافي عن معرفة يكفيه المثبت بإقامة الدليل حتى يعمل به أو يرده لأنه هو الذي جاء بحكم يدعى أنه واجب عليه وعلى خصمه وعلى غيرهما . المذهب السادس : أن النافي أن نفى العلم عن نفسه فقال لا أعلم ثبوت هذا الحكم فلا يلزمه الدليل وإن نفاه مطلقاً احتاج إلى الدليل لأن نفي الحكم حكم كما أن الاثبات حكم . قال ابن البرهان في الأوسط وهذا التفصيل هو الحق انتهى . قلت بل الحق ما قدمناه . المذهب السابع : أنه إن ادعى لنفسه علماً بالنفي احتاج إلى الدليل وإلا فلا . هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل واختاره المطرزي وهو قريب من المذهب الخامس . المذهب الثامن : أنه إذا قال لم أجد فيه دليلاً بعد الفحص عنه وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل وإلا احتاج هكذا قال ابن فورك . المذهب التاسع : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد ولا وجه له فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا . واختلفوا إذا قال العالم بحثت وفحصت فلم أجد دليلاً هل يقبل منه ذلك ويكون عدم الوجدان دليلاً له فقال البيضاوي يقبل لأنه يغلب ظن عمده ، وقال ابن برهان في الأوسط أن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى بل منه ولا يقبل منه في المناظرة لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذراً فيما بينه وبين الله أما انتهاضه في حق خصمه فلا . الفائدة الرابعة : سد الذرائع . الذريعة هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع وقال أبو حنفية والشافعي لا يجوز منعها . استدل المانع بمثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر وما صح عنه ضصض من قوله لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ، وقوله ضصض دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . وقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات . وقوله ضصض من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه قال القرطبي سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلاً وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً ثم قرر موضع الخلاف فقال اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع قطعاً أولاً ، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والذي لا يلزم أما أن يفضي إلى المحظور غالباً أو ينفك عنه غالباً أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول لا بد من مراعاته ، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة . قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها. قال فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ، ومنها ما هو ملغى إجماعاً كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ، ومنها هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع ، أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا . قال وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة وقوله ضصض لا تقبل شهادة خصم وظنين خشية الشهادة بالباطل ومنع شهادة الآباء للأبناء . وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس وحينئذ فليذكروا حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس . قال بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمته قالت لعائشة إني بعت منه عبداً بثمانمائة إلى العطاء واشتريته منه نقداً بستمائة ، فقالت عائشة بئسما اشتريت وأخبري زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ضصض إلا أن يتوب . قال أبو الوليد بن رشد وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع ولعل زيداً لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده . قال الزركشي وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ثم أنها أنكرت ذلك لفساد التعيين فإن الأول فاسد بجهالة الأجل فإن وقت العطاء غير معلوم والثاني بناء على الأول فيكون فاسداً . قال ابن الرفعة : الذريعة ثلاثة أقسام: أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعندهم يعني عند الشافعية والمالكية . والثاني ما يقطع بأنه لا يوصل ولكن اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع . والثالث ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها قال ونحن نخالفهم فيها إلا القسم الأول لانضباطه وقيام عليه انتهى . ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله ضصض ألا وإن حمى الله معاصيه فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه وهو حديث صحيح ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله ضصض دع ما يريبك إلى ما لايريبك وهو حديث صحيح أيضاً وقوله ضصض الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو حديث حسن ، وقوله ضصض استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وهو حديث حسن أيضاً. الفائدةة الخامسة : دلالة الاقتران ، وقد قال بها جماعة من أهل العلم فمن الحنفية أبو يوسف ومن الشافعية المزني وابن أبي هريرة وحكى ذلك الباجي عن بعض المالكية قال ورأيت ابن نصر يستعملها كثيراً. ومن ذلك استدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال فقرن بين الخيل والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعاً فكذلك الخيل وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم واحتج المثبتون إما بأن العطف يقتضي المشاركة وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى:محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار فإن الجملة الثانية معطوفة على الأولى ولا تشاركها في الرسالة ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي ولا نزاع فيما كان كذلك ولكن الدلالة فيه ليست للإقتران بل للدليل الخارجي أما إذا كان المعطوف ناقصاً بأن لا يذكر خبره كقول القائل فلانة طالق وفلانة فلا خلاف في المشاركة ومثله عطف المفردات وإذا كان بينهما مشاركة في العلة فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها لأجل الاقتران . وقد احتج الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله والأمر يقتضي الوجوب فكان احتجاجه بالأمر دون الاقتران . وقال الصيرفي في شرح الرسالة في حديث أبي سعيد وغسل الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس الطيب فهو دلالة على الغسل غير واجب لأنه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين بالاتفاق . والمروي عن الحنفية كما حكاه الزركشي عنهم في البحر أنها إذا عطفت جملة على جملة فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل الحكم لا في جميع صفاته وقال لا تقتضي المشاركة أصلاً وهي التي تسمى واو الاستئناف كقوله تعالى: فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل فإن قوله ويمح الله الباطل جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولا هي داخلة في جواب الشرط . وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه قال وعلى هذا بنو بحثهم المشهور في قوله ضصض لا يقتل مسلم بكافر وقد سبق الكلام فيه . الفائدة السادسة : دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية وحكى الماوردي والرياني في كتاب القضاء في حجية الإلهام خلافاً وفرعاً عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل وإلا فلا . قال الزركشي في البحر وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام منهم في تفسيره في أدلة القبلة و ابن الصلاح في فتاواه فقال إلهام خاطر الحق من الحق قال ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض آخر. قال أبو علي التميمي في كتاب التذكرة في أصول الدين ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرار للعباد على سبيل الالهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى واحتج بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا أي ما تفرقون به بين الحق والباطل وقوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً أي عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم لله تعالى بترك المنهيات وامتثال المأمورات وخبره صدق ووعده حق . واحتج شهاب الدين السهروردي على الإلهام بقوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وبقوله وأوحى ربك إلى النحل فهذا الوحي هو مجرد الإلهام ثم إن من الوحي علوماً تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال ضصض إن من أمتي المحدثين والمكلمين وإن عمر لمنهم وقال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها فأخبر أن النفوس ملهمة: قلت وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه قال ابن وهب في تفسير الحديث أي ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده كأنهم حدثوا بشيء فقالوه . وأما قوله ضصض استفت قلبك وإن أفتاك الناس فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة . قال الغزالي واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتى أما حيث حرم فيجب الامتناع . ثم لا نقول على كل قلب فرب قلب موسوس ينفي كل شيء ورب متساهل يطير إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور وما أعز هذا القلب . قال البيهقي في شعب الإيمان هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى أن يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ وكيف يحدث قال يتكلم الملك على لسانه وقد روى عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث يعني يلقى في روعه قال القفال لو تثبت العلوم بالإلهام لم يظن للنظر معنى ونسأل القائل بهذا عن دليله فإن احتج بغير الإلهام فهو ناقض قوله انتهى . ويجاب عن هذا الكلام بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضاً لقوله نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام كان في ذلك مصادرة على المطلوب لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع . ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة . المسألة السابعة : في رؤيا النبي ضصض ، ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أن يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي ضصض رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعاً ثابتاً ، ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا ضصض قد كمله الله عز وجل وقال : اليوم أكملت لكم دينكم ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته ضصض إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله ضصض أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .




من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد الفصل الأول في الاجتهاد المسألة الأولى: في حد الاجتهاد المسألة الأولى : في حد الاجتهاد وهو في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه ، قال المحصول وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء : فهو استفرغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفرغ الوسع فيه وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهداً وليس هكذا حال الأصول انتهى . وقيل هو في الاصطلاح بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط . فقولنا بذل الوسع يخرج ما يحصل مع التقصير فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب ، ويخرج بالشرعي اللغوي والعقلي والحسي فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهداً اصطلاحا وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي فإنه لا يسمى اجتهاداً عند الفقهاء وإن كان يسمى اجتهاداً عند المتكلمين ، ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهراً أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتى أو بالكشف عنها في كتب العلم فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي ، وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ الفقيه فقال بذل الفقيه الوسع ولا بد من ذلك فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهاداً اصطلاحاً ، ومنهم من قال هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات ، ومنهم من قال هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه . قال ابن السمعاني هو أليق بكلام الفقهاء . وقال أبو بكر الرازي الاجتهاد يقع على ثلاثة معان : أحدها القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز جودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فذلك كان طريقة الاجتهاد . والثاني ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم . والثالث الاستدلال بالأصول . قال الآمدي هو في الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه ، وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهاداً معتبراً وإذا عرفت هذا فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ولا بد أن يكون بالغاً عاقلاً قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها وإنما يتمكن من ذلك بشروط . الأول أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العربي والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال ، قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والإلتزام . وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية . قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ . واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة فقيل خمسمائة حديث وهذا أعجب ما يقال فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة ، وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف ، وقال أبو علي الضرير قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي يكفيه مائة ألف ؟ قال لا . قلت ثلاثمائة ألفظ قال لا . قلت أربعمائة ؟ قال لا . قلت خمسمائة ألف ؟ قال أرجو . قال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون العلم عن النبي ضصض ينبغي أن تكون ألفاً ومائتين . قال أبو بكر الرازي لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الأحاطة به ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى . وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين يكفيه أن يكون عنده أصل بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن للبيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام ويكتفي فيه بمواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة وتبعه على ذلك الرافعي ونازعه النووي وقال لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان التمثيل بسنن أبي داود ليس يجيد عندنا لوجهين : الأول أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها . الثاني أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى . ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها مشرفاً على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك وان يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الاسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب وما هو مقبول منها وما هو مردود وما هو قادح . الشرط الثاني : أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل . الشرط الثالث : أن يكون عالماً بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ولا يشترط أن يكون متمكناً من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك وقد قربوها أحسن تقريب وهذبوها ابلغ تهذيب ورتبوها على حروف المعجم ترتيباً لا يصعب الكشف عنه ولا يبعد الاطلاع عليه وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالماً بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى ثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظراً صحيحاً ويستخرج منه الأحكام استخراجاً قوياً ، ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصراً في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه ، والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن . قال الإمام الشافعي يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه . قال الماوردي ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره . الشرط الرابع : أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه وعليه أيضاً أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط . قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى . قال الغزالي إن عظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه . الشرط الخامس : أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ ، وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي فشرطه جماعة منهم الغزالي و الرازي ولم يشترط الآخرون وهو الحق لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية لا على الأدلة العقلية ومن جعل العقل حاكماً فهو لا يجعل ما حكم به داخلاً في مسائل الاجتهاد ، واختلفوا أيضاً في اشتراط علم أصول الدين فمنهم من يشترط ذلك وإليه ذهب المعتزلة ومنهم من لم يشترط ذلك وإليه ذهب الجمهور ومنهم من فصل فقال يشترط العلم بالضروريات كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق بالرسل بما جاءوا به ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي ، واختلفوا أيضاً في اشتراط على الفروع فذهب جماعة منه الأستاذ أبو إسحاق أبو منصور إلى اشتراطه ، واختاره الغزالي وقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان ، وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه قالوا وإلا لزم الدور وكيف يحتاج إليها وهو الذي يولدها بعد حيازته لمنصب الاجتهاد ، وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا ، وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وهو كذلك ولكنه مندرج تحت علم أصول الفقه باب من أبوابه وشعبة من شعبه . وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه الحكم الشرعي العلمي قال في المحصول المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع . قال أبو الحسين البصري المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية باختلافهم فيها لزوم الدور .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .




المسألة الثانية : هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا فذهب جمع إلا أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد قائم بحجج الله يبين للناس ما نزل إليهم قال بعضهم ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والظاهر أنه لا يتأتى في الفتوى ، وقال بعضهم الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب فرض عين وفرض كفاية وندب ، فالأول على حالين اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة ، والثاني اجتهاد فيما يتعين عليه الحكم فيه فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور وإلا كان على التراخي . والثاني على حالين . أحدهما إذا نزلت بالمستفتى حادثة فاستفتى أحد العلماء توجه الفرض على جميع وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض وإلا أثموا جميعاً . والثاني أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون فرض الاجتهاد مشتركاً بينهما فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها . والثالث على حالين أحدهما فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله . والثاني أن يستفتيه قبل نزولها انتهى . ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضاً يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد ويدل على ذلك ما صح عنه صضص من قوله لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة وقد حكى الزركشي في البحر عن الأكثرين أنه يجوز خلو العصر عن المجتهدين وبه جزم صاحب المحصول . قال الرافعي الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم قال الزركشي ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي أو من قول الغزالي في الوسيط : قد خلا العصر عن المجتهد المستقل.قال الزركشي ونقل الاتفاق عجيب والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة وساعدهم بعض أئمتنا ، والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي لا الناقل فقط ، وقالت الحنابلة لا يجوز خلو العصر عن مجتهد وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء قال ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زماناً من قائم بحجة زال التكليف إذا التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة وإذا زال التكليف بطلت الشريعة . قال الزبيري لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت ودهر وزمان وذلك قليل في كثير فأما أن يكون غير موجود كما قال الخصم فليس بصواب لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق فليس بصواب كما جاء في الخبر لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار انتهى . قال أبن دقيق العيد : هذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان . وقال في شرح خطبة الإمام والأرض لا تخلوا من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة إلى أن يتأتى أمر الله في أشراط الساعة الكبرى انتهى . وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد قد سبقه إلى القول به القفال ولكنه ناقض ذلك فقال أنه ليس بمقلد للشافعي وإنما وافق رأيه رأيه كما نقل ذلك عنه الزركشي وقال قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد مما يقضي منه العجب فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرفاعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء و الكمال جماعة منهم ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والاطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد ، وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار بل باعتبار أن الله عز و جل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأئمة من كمال الفهم و قوة الإدراك والاستعداد للمعارف فهذه دعوى من أبطل الباطلات بل هي جهالة من الجهالات ، وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم فهذه أيضاً دعوى باطلة فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد وقد كان السلف الصالح ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر فالاجتهاد على المتأخرين أيسر واسهل من الاجتهاد على المتقدمين ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي ، وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه واستصعبنا ما سهله الله على رزقه العمل والفهم وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة ، ولما هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد فمنهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني ثم تلميذه السيوقي فهؤلاء ستة أعلام كل واحد منهم تلميذ من قبله قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة عالم بعلوم خارجه عنها ، ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم والتعداد لبعضهم فضلاً عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل وقد قال الزركشي في البحر ما لفظه ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد انتهى . وهذا الاجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الإتفاق من ذلك الشافعي الرافعي . وبالجملة فتطوير البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة فإن أمره أوضح من كل واضح وليس ما يقوله من كان من إسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال وما هذه بأول فاقرة جاء بها المقلدون ولا هي بأول مقالة باطلة قالها المقصرون ، ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره فقد تجرأ على الله عز وجل ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ثم على عبادة الدين تعبدهم الله بالكتاب وبالسنة . ويالله العجب من مقالات هي جهالات وضلالات فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة وإنه لم يبق إلا تقليد الرجال الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء فإن كانت التعبد بالكتاب والسنة مختصاً بمن كانوا في العصور السابقة ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة وهل النسخ إلا هذا، سبحانك هذا بهتان عظيم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .


المسألة الثالثة: في تجزي الاجتهاد وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا ؟ بل لا بد أن يكون مجتهداً وطلقاً عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ عزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي وأبي عبد الله البصري قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد قال الغزالي والرافعي يجوز أن يكون العالم منتصب للاجتهاد في باب دون باب وذهب آخرون إلى المنع لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه. احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل واللازم منتف فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في أربع منها وقال في الباقي لا أدري . وأجيب بأنه قد يترك ذلك لمانع أو للورع أو لعلمه بأن السائل منعت وقد يحتاج بعض المسائل إلى فريد بحث يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال . واحتج الباقون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة فإنها إذا تمت كان مقتدراً على الاجتهاد في جميع المسائل وإن احتاج بعضها إلى مزيد بحث وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك ولا يثق من نفسه يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهاداً مطلقاً فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ لا يتعلقه قال الزركشي وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف باباً دون باب أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعاً والظاهر جريان الخلاف في الصورتين وبه صرح الأنباري انتهى . ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزي الاجتهاد فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق وأما من ادعى الاحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك لأنه لا يزال يجوز الغير ما قد بلغ إليه علمه فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف وتتضح مجازفته بالبحث معه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .








المسألة الرابعة : اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء صلوات الله عليهم بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلاً تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين حكى هذا الإجماع ابن فورك والأستاذ أبو منصور وأجمعوا أيضاً على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم وذلك كما قلت وقع من نبينا ضصض من إرادته بأن يصالح غطفان على ثمار المدينة وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة . فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية والأمور الدينية فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب . الأول : ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي وقد قال سبحانه إن هو إلا وحي يوحى والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقولهوما ينطق عن الهوى قد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي وقال القاضي في التقريب كل من نفى القياس أحال تعبد النبي ضصض بالاجتهاد . قال الزركشي وهو ظاهر اختيار ابن حزم . واحتجوا أيضاً بأنه ضصض كان إذا سئل ينتظر الوحي ويقول ما أنزل علي في هذا شيء كما قال لما سئل عن زكاة الحمير فقال لم ينزل علي إلا هذه الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه . ومن الذاهبين إلى هذا المذهب أبو علي وأبو هاشم . المذهب الثاني : أنه يجوز لنبينا ضصض ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه ضصض كما خاطب عباده وضرب له الأمثال وأمره بالتدبر والاعتبار وهو أجل المتفكرين في آيات الله وأعظم المعتبرين . وأما قوله وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى فالمراد به القرآن لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده لأنه ضصض إذا كان معبدا بالاجتهاد وبالوحي لم يكن نطقا عن الهوى بل عن الوحي ، وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضاً للخطأ فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى ، وأيضاً قد وقع كثيراً منه ضصض ومن غيره من الأنبياء فأما منه فمثل قوله أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك ديه . وقوله للعباس الإذخر ولم ينتظر الوحي في كثير مما سئل عنه ، وقد قال ضصض ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان . وأما ما احتج به المانعون أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة إذ لا قطع بأنه حكم الله لكونه محتملاً للإصابة ومحتملاً للخطأ فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاد يكون له حكم اجتهاد غيره فإن ذلك إنما كان لازماً لاجتهاد غيره لعدم اقترانه بما اقتران به اجتهاده ضصض من الأمر باتباعه . وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبداً بالاجتهاد لما في جواب سؤال سائل فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين . المذهب الثالث : الوقف عن القطع بشيء من ذلك وزعم الصيرفي في شرح الرسالة أنه مذهب الشافعي لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئاً منها . واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي ولا وجه للوقف في المسألة لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل : عفا الله عنك لم أذنت لهم فعاتبه على ما وقع منه ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . ومن ذلك ما صح عنه ضصض من قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى أي لو عملت أولاً ما علمت آخراً ما فعلت ذلك ومثل ذلك لا يكون فيما عمله ضصض بالوحي وأمثال ذلك كثيرة كمعاتبته ضصض على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض وكما في معاتبته ضصض بقوله تعالى : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .





المسألة الخامسة : في جواز الاجتهاد في عصره ضصض فذهب الأكثرون إلى جوازه ووقوعه . واختاره جماعة من المحققين منهم القاضي ومنهم من منع ذلك كما روي عن أبي علي وأبي هاشم ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر فأجازه لمن غاب عن حضرته ضصض كما وقع في حديث معاذ دون من كان فبحضرته الشريفة ضصض. واختاره الغزالي وابن الصباغ . ونقله الكيا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين ومال إليه إمام الحرمين . قال القاضي عبد الوهاب إنه الأقوى على أصول أصحابهم . قال ابن فورك بشرط تقريره عليه . وقال ابن حزم إن كان اجتهاد الصحابي في عصره ضصض في الأحكام كإيجاب شيء أو تحريمه فلا يجوز كما وقع في أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر فاخطأوا في ذلك وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز كاجتهادهم فيما يجعلونه علماء للدعاء إلى الصلاة لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة يلزم وكاجتهاد قوم بحضرته ضصض فيمن هم السبعون الفاً الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأخطأوا في ذلك وبين النبي ضصض من هم ولم يعنفهم في اجتهادهم ، ومنهم من قال وقع ظناً لا قطعاً واختاره الآمدي وابن الحاجب ومنهم من قال إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي ضصض أن يجتهد إذا أمره بذلك كما وقع منه ضصض من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة وإن لم يأمره النبي ضصض لم يجز له الاجتهاد إلا أن يجتهد ويعلم به النبي ضصض فيقرر عليه كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل فإنه قال لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد الله فيعطيك سلبه فقرره النبي ضصض ، والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته ضصض فيما نابه من الأمر وبين من كان غائباً عنها فيجوز له الاجتهاد وقد وقع من ذلك واقعات متعددة كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه وكان جنباً ولم يغتسل بل تيمم وقال سمعت الله تعالى يقول : ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي ضصض على ذلك وكما وقع منه ضصض من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فتخوف ناس من فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ضصض وإن فات الوقت فما عنف أحداً من الفريقين ، ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه من إلى اليمن وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل ، ومنه بعثه ضصض لعلي قاضياً فقال لا علم لي بالقضاء فقال النبي ضصض اللهم أهد قلبه وثبت لسانه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك ، ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر فأتوا علياً يختصمون في الولد فأقرع بينهم فبلغ النبي ضصض فقال لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثيرة . قال الفخر الرازي في المحصول الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه ، وقد اعترض عليه ذلك ولا وجه للاعتراض لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي ضصض كان حجة وشرعاً بالتقرير لا باجتهاج الصحابي وإن لم يبلغه كان اجهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي عند من قال بجوازه في عصره ضصض وأنكره أو قال فخلافه فليس في ذلك الاجتهاد فائدة لأنه قد بطل بالشرع .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .







المسألة السادسة: فيما ينبغي للمجتهد أن في اجتهاده ويعتمد عليه فعليه أولاً أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما فإن لم يجد نظر في أفعال النبي ضصض ثم في تقرير أنه لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة كلاً أو بعضاً ، وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي فيما حكاه عنه الغزالي أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد فليعرضها على نصوص الكتاب فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر ثم الآحاد فإن أعوزه لم يخض في القياس بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهراً نظر في المخصصات من قياس وخبر فإن لم يجد مخصصاً حكم به وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعاً عليها اتبع الإجماع وإن لم يجد إجماعاً خاض في القياس ويلاحظ القواعد الكلية أولاً ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الإسم فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص ومواقع الإجماع فإن وجدها في معنى واحد ألحق به وإلا انحدر به القياس فإن أعوزه تمسك بالشبه ولا يعول على طرد انتهى . وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى . قال الماوردي الاجتهاد بعد النبي ضصض ينقسم إلى ثمانية أقسام : أحدها : ما كان الاجتهاد مستخرجاً من معنى النص كاستخراج علة الربا فهذا صحيح عند القائلين بالقياس. ثانيهما : ما استخرج من شبه النص كالعبد لتردد شبهه بالحرفي أنه يملك لأنه مكلف وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك لأنه مملوك فهذا صحيح غير مرفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له غير أن المنكرين له جعلوه داخلاً في عموم أحد الشبهين . ثالثها : ما كان مستخرجاً من عموم كالذي بيده عقدة النكاح في قوله : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه من إجماع النص أحدهما وهذا صحيح بتوصيل بالترجيح إليه . رابعها : ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعةومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فيصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين . خامسها : ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه وإذا رجع إلى أهله فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى . سادسها : ما استخرج من دلائل النص كقوله لينفق ذو سعة من سعته فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مدين واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء أن لكل مسكين مداً . سابعها : ما استخرج من أمارات النص كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى : وعلامات وبالنجم هم يهتدون فيكون الاجتهاد في القبلة بالأمارات والدلائل عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم . ثامنها : ما استخرج من غير نص ولا أصل فاختلف في صحة الاجتهاد فقيل لا يصح حتى يقترن بأصل ، وقيل يصح لأنه في الشرع أصل انتهى . وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وحعل كل ذلك دأبه ووجه إليه همته واستعان بالله عز وجل واستمد منه التوفيق وكان معظم همه ومرمى قصده الوقوف على الحق والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب والبحر الذي لا ينزف والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح وقلب موفق وعقل قد حلت به الهداية وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائناً ما كان ، فإن استعبدت هذا المقال واستعظمت هذا الكلام وقلت كما قاله كثير من الناس إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث فمن نفسك أتيت ومن قبل تقصيرك أصبت وعلى نفسها براقش تجني وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية : لا تعذل المشتاق في اشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا هويت فعند ذلك عنف ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .







المسألة السابعة : اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي لحق فيها مع واحد من المجتهدين وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين : الفرع الأول : العقليات ، وهي على أنواع . الأول ما يكون الغلط فيه مانعاً من معرفة الله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل . قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن اخطأه فهو كافر . النوع الثاني مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقيل يكفر ، ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم . النوع الثالث إذا لم تكن المسألة دينية كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف قالوا فليس المخطئ فيها بآثم ولا المصيب فيها بمأجور إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون ملكه أكبر من المدينة أو أصغر منها ، وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب وحكى ايضاً عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد بخلاف المعاهد ، قال الزركشي وأما الحق فجعل الحق فيها واحد ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم . قال ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله وقد استشبع هذا القول منه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم قال ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه . وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فهذا مما يقطع فيه بقول اهل الإسلام . قال القاضي في مختصر التقريب اختلفت الروايات عن العنبري فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله وأما الكفرة فلا يصوبون وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة . قال ونحن نتكلم معهما يعني العنبري والجاحظ فنقول أنتما أولاً محجوجان بأن الإجماع قبلكما وبعدكما . ثانياً أن اردتما بذلك مطابقة الإعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين العقلية من الكتاب والسنة والإجماع الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة . وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه ، وقد حكى القاضي أيضاً في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني إمام مذهب الظاهر أنه قال بمثل قول العنبري وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم وقد نحا الغزالي نحو هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الاسلام والزندقة . وقال ابن دقيق العيد ما نقل عن العنبري والجاحظ أن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر فباطل وإن أريد به من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات يكون معذوراً غير معاقب فهذا اقرب لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه بما لا يطاق قال وأما الذي حكى عنه من الاصابة في العقائد القطعية فباطل قطعاً ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى . وأما المخطئ في الأصول والمجتهد فلا شك في تأثيمه وتفسيقه تضليله ، واختلف في تكفيره وللأشعري قولان . قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما وأظهر مذهبه ترك التكفير وهو اختيار القاضي في متاب المتأولين وقال ابن السلام رجع الإمام الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالموصوف . قال الزركشي وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر فقيل له ألا يكفرك فعاد إلى القول بالتكفير وهذا مذهب المعتزلة فهم يكفرون خصومهم ويكفر كل فريق منهم الآخر وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير وقال إنما يكفر من جهل وجود الرب أو علم وجوده ولكن فعل فعلاً أو قال قولاً أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى . واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كؤود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ولا يحرص عليه لأنه مبني على شفا جرف هار وعلى ظلمات بعضها فوق بعض وغالب القول به ناشئ عن العصبية وبعضه ناشئ عن شبه واهية ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين فضلاً عن هذا الأمر الذي هو مزلة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعاً لا شك فيه ولا شبهة فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب والسنة فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام . الفرع الثاني : المسائل الشرعية فذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو هاشم وأتباعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين . الأول: ما كان منها قطعياً معلوماً بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها بمصيب بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل إن قصر فهو مخطئ آثم وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم قال ابن السمعاني ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحاناً من الله لعباده ليفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى:يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقالوفوق كل ذي علم عليم . القسم الثاني : المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها ، وقد اختلفوا في ذلك اختلافاً طويلاً واختلف النقل عنهم ذلك اختلافاً كثيراً فذهب جمع جم إلى أن قول من أقوال المجتهدين فيها حق وأن كل واحد منهم مصيب وحكاه الماوردي والرياني عن الأكثرين . قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة ، وذهب أبو حنفية ومالك والشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً وحراماً . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخطئ بعضهم بعضاً ويعترض بعضهم على بعض ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقاً لم يكن للتخطئة وجه ، ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند مالك والشافعي وغيرهما أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد وقال جماعة منهم أبو يوسف إن كل مجتهد مصيب وإن كان الحق مع واحد . وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله ، وأنكر ذلك أبو إسحاق المروزي وقال إنما نسبة إليه قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه . قال القاضي أبو الطيب الطبري واختلف النقل عن أبي حنفية فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا وفي بعض كقول أبي يوسف وقد روى عن اهل العراق وأصحاب مالك وابن شريح وأبي حامد بمثل قول أبي يوسف واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه ولا يجوز إجماعهم على خطأ . قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه ولا نقول إنه معذور لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي . والثاني أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئاً، والثالث أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى . وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة ، ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية وحكى عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ولم يأتوا بما يشفى طالب الحق . وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب وهو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق اجرين وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر . فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينا وخالف الصواب بمخالفة ظاهرة فإن النبي ضصض جعل المجتهدين قسمين قسماً مصيباً وقسماً مخطئا ولو كان كل منهم مصيباً لم يكن لهذا التقسيم معنى ، وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم يوافق الحق في اجتهاده مخطئاً ورتب على ذلك استحقاقه للأجر فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهداً ، ومما يحتج به على هذا حديث القضاء ثلاثة فإنه لو لم يكن الحق واحداً لم يكن للتقسيم معنى أو مثله قوله ضصض لأمير السرية وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا . وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله عز وجل متعدداً بتعداد المجتهدين تابعاً لما يصدر عنهم من الاجتهادات فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل ومع شريعته المطهرة هي أيضاً صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاد ما هو أنهض مما تمسك به ومن شك في ذلك وأنكره فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم لبعض واعتراض بعضهم على بعض ، وأما استدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما لما كان لتخصيص سليمان بذلك معنى ، وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فهو خارج عن محل النزاع لأن سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم من القطع والترك هو بإذنه عز وجل فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وأن حكمه على التخيير بين أمور يختار المكلف ما شاء منها كالواجب المخير أو أن حكمه يجب على الكل حتى يفعله البعض فيسقط على الباقين كفروض الكفايات فتدبر هذا وافهمه حق فهمه ، وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة لمن خشي فوت الوقت وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة امتثالاً لقوله ضصض لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فالجواب عنه كالجواب عما قبله على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده وصح صدوره عنه لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده وفرق بين الإصابة والصواب فإن إصابة الحق هو الموافقة بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيباً للحق وموافقاً له ، وإذا عرفت هذا حق معرفته لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة وما فيها من المذاهب تحريراً جيداً فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فإما يجده المجتهد أو لا . الثاني على قسمين لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقاً . وإن لم يكن مع العلم ولكن قصر في البحث عنه فكذلك وإن يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي . وإن لم يجده فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه ومات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعاً وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه والأولى بأن يكون مخطئاً ، وأما التخيير يقال فيها فإما أن يقال لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا بل إجماع وتابع لاجتهاد المجتهدين فهذا الثاني من قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعه ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة والمشهور عنهما خلافه . فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن شريح في إحدى الروايتين عنه قال وأمل الثاني فقول الخلص من المصوبة انتهى.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .





المسألة الثامنة : لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد لأن دليلهما أن تعادلا من كل وجه ولم يمكن الجمع ولا الترجيح وجب عليه الوقف وإن أمكن الجمع بينهما وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما وإن ترجع أحدهما على الآخر تعين عليه الأخذ به وبهذا يعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد . وأما في وقتين فجائز لجواز تغير الاجتهاد الأول وظهور ما هو أولى بأن يأخذ به مما كان قد أخذ به . وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين عند تعادل الأمارتين ، فمن قال بالتخيير جوز ذلك له ومن قال بالوقف لم يجوز ، فإن كان للمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوعه عن القول الأول بدلالته على تغير اجتهاد الأول . إذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانياً عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكراً لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكراً جاز له الفتوى به وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانياً وإن أدى إلى موافقة ما قد أفتى به أولاً وإن لم يستأنف الاجتهاد لم يجز له الفتوى . قال الرازي في المحصول ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقاً قوياً حصل له الآن ظن أن ذلك القوى حق جاز له الفتوى به لأن العمل بالظن واجب وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده وترجع له ما يخالف الاجتهاد الأول لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية . وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاد ما حكم به حاكم آخر باجتهاده لأنه يؤدي إلى ذلك ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحكام وهي فصل الخصومات ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول مخالفاً لدليل قطعي فإن كان مخالفاً لدليل القاطع نقضه اتفاقاً ، وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده فحكمه باطل لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده وليس له أن يقول بما يخالفه ولا يحل له أن يقلد مجتهداً آخر فيما يخالف اجتهاده بل يحرم عليه التقليد مطلقاً إذا كان قد اجتهد في المسألة فأداه اجتهاده إلى حكم ولا خلاف في هذا . وأما أن يجتهد فالحق أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقاً . وقيل يجوز له فيما يخصه من الأحكام لا فيما لا يخصه فلا يجوز . وقيل يجوز له تقليد من هو أعلم منه . وقيل يجوز له أن يقلد مجتهداً من مجتهدي الصحابة ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل وليست محتاجة إلى التطويل فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .





المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد قال الرازي في المحصول اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ضصض أو للعالم : أحكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ؟ فقطع بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه وهو المختار انتهى . ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي ضصض أو المجتهد أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض وكيف اتفق له . واستدل من قال بالجواز بأنه ليس بممتنع لذاته والأصل عدم امتناعه لغيره وهذا الدليل ساقط جداً وتفويض من كان ذا علم بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها وتتباين طرائقها ولا علم للعبد بما عند الله عز وجل فيها ولا بما هو الحق الذي يرديه من عباده ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه ولا يتردد في بطلانه فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد المتمكن من النظر والاستدلال إذا بحث وفحص وأعطى النظر حقه فليس معه إلا مجرد الطن بأن ذلك الذي رجحه وقاله هو الحق الذي طلبه الله عز وجل فكيف يحل له أن يقول ما أراد ويفعل ما اختار من دون نظر واجتهاد وكيف يجوز مثل ذلك على الله عز وجل مع القطع بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية لأنه واحد من أهلها مأخوذ بما أخذوا به مطلوب منه ما طلب منهم فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره وما الذي كلف به غيره وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب مما كلف به وهل هذه المقالة إلا مجرد بحت ومجازفة ظاهرة وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد مع جهله بما في أحكام الله من المصالح فإن من كان هذا قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة وعلى ما لا مصلحة فيه.. واما الاستدلال بقول سبحانه : كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فهو خارج عن محل النزاع لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله وهم معصومون من الخطأ وإذا وقع منهم نادراً فلا يقرون عليه وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله عز وجل أو باجتهاد يقرره الله عز وجل ويرضاه وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا ضصض ووقوع الجوابات منه على ما سأله من دون انتظار الوحي وبمثل قوله ضصض لو استقبلت من أمري ما استدبرت وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة بنت الحرث لو بلغني هذا لمننت عليه أي على أخيها النضر بن الحرث أحد أسرى بدر والقصة والشعر معروفان . وأما اعتذر عن القائل بصحة ذلك بأنه إنما قال بالجواز ولم يقل بالوقوع فليس هذا الاعتذار بشيء فإن تجويز مثل هذا على الله عز وجل مما لا يحل لمسلم أن يقول به وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء وإلى المجتهدين بالنظر فليس محل النزاع إلا التفويض إلى من كان من أهل العلم أن يحكم بما شاء وكيف اتفق وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاء به جهل على جهل وظلمات بعضها فوق بعض.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .





الفصل الثاني في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتى والمستفتى وفيه ست مسائل المسألة الأولى : في حد التقليد والمفتى والمستفتى . أما التقليد فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده وفي الاصطلاح هو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقوله رسول الله صضص والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك ، أما العلم بقول رسول الله صضص وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع ، وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل على ذلك في مقصد السنة وفي الإجماع، وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها وقد وقع الإجماع على ذلك ، وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة فإنه قد الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضاً ليست قول الراوي بل قول من روى عنه إن كان ممن تقوم به الحجة . وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد من الذي قبله . وقال القفال هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أن قاله . وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله . وقيل هو قبول الغير دون حجة القول . والأولى أن يقال هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم . وأما المفتى فهو المجتهد ، وقد تقدم بينه ومثله قول من قال إن المفتى للفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول . والمستفتى من ليس بمجتهد أو من ليس بفقيه وقد عرفت من حد المقلد على جميع الحدود المذكورة أن قبول قول النبي صضص والعمل به ليس من التقليد في شيء لأن قوله صضص وفعله نفس الحجة . قال القاضي حسين في التعليق لا خلاف أن قبول قول غير النبي صضص من الصحابة والتابعين يسمى تقليداً ، وأما قبول قوله صضص فهل يسمى تقليداً ؟ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو ؟ وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليداً فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه وأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله وآله وسلم انتهى. ولا يخفاك أن مراده بالتقليد هاهنا غير ما وقع عليه الاصطلاح ولهذا قال الروياني في البحر أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صضص تقليداً ولم يرد حقيقة التقليد وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان . قال والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم . قال الزركشي في البحر وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ وبه صرح إمام الحرمين في التخليص حيث قال وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق انتهى. وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح لا يشمل ذلك وهو المطلوب . قال ابن الدقيق العيد إن الأنبياء لا يجتهدون فقد علمنا أن سبب أقوالهم فلا يكون تقليداً وإن قلنا إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد ، وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة انتهى . وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صضص والراجع إليه ليس بمقلد بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين انتهى . المسألة الثانية : اختلفوا في المسائل العقلية وهي المتعلقة بوجود البارئ وصفاته هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فحكى الرازي في المحصول عن كثير من الفقهاء أنه يجوز وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف . قال أبو الحسين بن يقطان لا نعلم خلافاً في امتناع التقليد في التوحيد . وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء . وقال إمام الحرمين في الشامل لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة وقال الإسفرائني لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر . واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله عز وجل وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده ولا يدري أهو صواب أم خطأ . قال الأستاذ أبو منصور فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل فاختلفوا فيه فقال أكثر الأئمة إنه مؤمن من أهل الشفاعة وإن فسق بترك الاستدلال وبه قال أئمة الحديث ، وقال الأشعري وجمهور المعتزلة لا يكون مؤمناً حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين انتهى . فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود وترجف عند سماعها الأفئدة فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي ولم يكلفهم رسول الله صضص وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن وإن فسق فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالايمان الجملي وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه . قال الأستاذ أبو إسحاق ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب وإنما الغرض هو قول الله ورسول ويرون الشروع في موجبات العقول كفراً وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة قاطعة فقد صار مؤمناً وزال عنه كلفة طلب الأدلة ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها حين لم يكله إلى النظر والاستدلال لا سيما العوام فإن كثيراً منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة انتهى . ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجدها صحيحاً فإن كثيراً منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقض إيمانه وتنتقض منه عروة عروة فأن أدركته الألطاف الربانية نجا إلا هلك ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن يكون على دين العجائز ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له إطلاع على أخبار الناس وقد أنكر القشيري والشيخ أبو محمد الجويني وغيرهما من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي حسن الأشعري . قال ابن السمعاني إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جداً عن الصواب ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأحكام لم يفهموها وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقدوه ويلقي به ربه من العلماء يتبعهم في ذلك ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والأدغال ثم يعض عليها بالنواجذ فلا يحول ولا يزول لو قطع إرباً فهنيئاً لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي توغلوها حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ودخلت عليهم الشبهات العظيمة فصاروا متحيرين ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمه . قال ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر وإنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به الخلق وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطة الشنعاء والداء العضال وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها إلا العدد الشاذ الشارد النادر ولعله لا يبلغ عدد العشرة انتهى . المسألة الثالثة : اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقاً . قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد . قال ونقل عن مالك أنه قال أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه وقال عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط . قال ابن حزم فهاهنا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره انتهى . ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعاً فهو مذهب الجمهور ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه في حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله فالعجب من كثير من أهل الأصول حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة، وقابل مذهب القائلين بعده الجواز بعض الحشوية وقال يجب مطلقاً ويحرم النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على أنفسهم وعلى غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم . والمذهب الثالث : التفصيل وهو أنه يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أنه إنما يعتبر خلافه ولا سيما وأئمتهمم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس لا المقلدين فيالله العجب ، وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثرين وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد والمجوزون له من قوله سبحانهفاسألوا أهل الذكر إلا السؤال عن حكم الله في المسألة لا عن آراء الرجال هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال كما زعموا وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالاً كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر . وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك وإن أراد إجماع من بعدهم فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم وقد عرفت مما نقلناه سابقاً أن المنع قول الجمهور إذ لم يكن إجماعاً وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء فضلاً عن أن ينعقد بهم إجماع . والحاصل أنه لم يأت من جوزه التقليد فضلاً عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابهما قط ولا نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال بل أمرنا بما قاله سبحانه فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي كتاب الله وسنة رسوله وقد كان صضص يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صضص فإن لم يجد فيما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ ، وأما ما ذكروه من استعباد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغاً للتقليد فليس الأمر كما ذكروه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحث واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من إنا وجدنا آباءنا على أمة ، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وأمثال هذه الآيات ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وان قال بغير علم قيل له فلم ارقت الدماء وابحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك بحجة فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علماً ؟ وقد روى عن رسول الله صضص أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر انتهى . قلت تتميماً لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر المرسل من الله تعالى إلى عباده المعصوم من الخطأ في أقوال وأفعاله فتقليده أولى من تقليده الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاد حجة على أحد من الناس . واعلم أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم وتقليد غيرهم وقد عرفت حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي لا بالرواية ويتمسك بمحض الإجتهاد غير مطالب بحجة فمن قال إن رأى المجتهد يجوز لغيره التمسك به ويسوغ له يعمل به فيما كلفه الله فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة بعد نبينا صضص ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله تعالى فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى لادعى من شاء ما شاء وقال من شاء بما شاء. المسألة الرابعة : اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده أو بمذهب إمام آخر فقيل لا يجوز وإليه ذهب جماعة من أهل العلم منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهم قال الصيرفي وموضوع هذا الاسم يعني المفتى لمن قام للناس بأمر دينهم وعلى حمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه يما استفتى . قال ابن السمعاني المفتى من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل قال ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتى . قال الرازي في المحصول اختلفوا في غير المجتهد هل يجوز له يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين فنقول لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أوحي فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حياً وينعقد على موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته . فإن قلت لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها ؟ قلت لفائدتين إحداهما : استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيف بني بعضها على بعض . والثانية معرفة المتفق عليه من المختلف فيه فلا يفتى بغير المتفق عليه انتهى . وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات ، وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات . قال الروياني في البحر إنه القياس وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد كمن تجدد فسقه بعد عدالته فإنه لا يبقى حكم عدالته وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال وأما لأنه لو كان حياً لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز ، وبهذا تعرف أن قول من قال بجوار فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ليس على إطلاقه وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتى بمذهب مجتهد من المجتهدين بشرط أن يكون ذلك المفتى أهلاً للنظر مطلعاً على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به فلا يجوز وحكاه القاضي عن القفال ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين وليس كذلك ولعله يعني الأكثرين من المقلدين وبعضهم نسبه إلى الرازي وهو غلط عليه فإن اختياره المنع ، واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى . قال الهندي وهذا القول بانعقاد الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون والمجمعون ليسوا بمجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال قال ابن دقيق العيد توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكناً من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صضص وكذلك فعل علي رضى الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعه النبي صضص إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع شرائط الاجتهاد اليوم انتهى . قلت وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن أما قوله يفضي إلى حرج عظيم الخ فغير مسلم فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه أو على لسان رسوله كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته . وأما استدلاله على الجواز بقوله لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي الخ فمن أغرب ما يسمعه السامع لا سيما عن مثل هذا الإمام وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية وأي تأثير لظنون العامة الذين لا يعرفون الشريعة ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض وأما قوله مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة الخ فنقول نعم ذلك أمر ضروري فكان ماذا فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل وإن لم يعلمه أحال السؤال على رسول الله صضص على من يعلمه من أصحابه وكذا فيمن بعدهم ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا فيسأل علماء عصره كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ولا عما يقولون بمحض الرأي فإن قلت مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل . قلت إذا كان مراده هذا فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة و يكون المسؤول فيمن لا يجهله فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية أو نبوية و يدع السؤال عن مذاهب الناس ويستغني بمذهب إمامهم الأول وهو رسول الله صضص . وأما إرسال علي للمقداد فهو إنما أرسله ليروى له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ وأين هذا مما نحن بصدده . وأما قوله و قد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة وإذا لم يدره فهو حاكم بالجهل ليس بحجة على أحد ، وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا وقال آخرون إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوباً في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت . قال الروياني و الماوردي إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي فيه أوجه . ثالثها إن كان الدليل نصاً من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظراً واستنباطاً لم يجز قال الروياني و الماوردي والأصح أنه لا يجوز مطلقاً لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها . وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى و لو أفتى فإنه لا يجوز . المسألة الخامسة : إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمها من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلباً منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحان أوما في سنة رسول الله صضص فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول انه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع وشرط القاضي أخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالماً في الجملة ولا يكفي خبر الواحد والاثنين وخالفه غيره في ذلك فاكتفوا بخبر عدلين وممن صرح بذلك صاحب فقال واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهداً كما قاله الأستاذ غير سديد واشترط القاضي وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المفترقة ومراجعته فيها فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهداً وذهب الوجيز قيل يقول له أمجتهد أنت وأقلدك؟ فإن أجابه قلده قال وهذا أصح المذاهب وجزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته لأن طريقه طريق الأخبار انتهى . وإذا كان في البلد جماعة متصفون بهذه الصفة المسوغة للأخذ عنهم فالله فالمستفتى مخير بينهم كما صرح به عامة أصحاب الشافعي . قال الرافعي وهو الأصح ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني والكيا إنه يبحث عن الأعلم منهم فيسأله وقد سبقه إلى القول بذلك ابن شريح والقفال قالوا لأن الأعلم أهدى إلى أسرار الشرع ، وإذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فقيل هو مخير يأخذ بما شاء منها وبه قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشافعي وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والقاضي والآمدي ، واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل ، وقيل يأخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر ، وقيل يأخذ بالأخف ، وقيل يبحث عن الأعلم منهم فيأخذ بقوله وهو قول من قال إنه يبحث عن الأعلم كما تقدم ، وقيل يأخذ بقول الأول حكاه الروياني ، وقيل يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي حكاه الرافعي ، وقيل يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه حكاه ابن السمعاني ، وقيل إن كان في حق الله أخذ بالأخف وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور ، وقيل إنه يسأل المختلفين عن حجتهما إن اتسع عقله لفهم ذلك فيأخذ بأرجح الحجتين عنده وإن لم يتسع عقله لذلك أخذ بقول المعتبر . قاله الكعبي . المسألة السادسة : اختلف المجوزون للتقليد هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة فقال جماعة منهم يلزمه ورجحه الكيا ، وقال آخرون لا يلزمه ورجحه ابن برهان والنووي ، واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر وذكر بعض الحنبالة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل فإنه قال لبعض أصحابه لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا دعهم يترخصوا بمذاهب الناس وسئل عن مسألة من الطلاق فقال يقع يقع فقال له السائل فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز ؟ قال نعم . وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب ، وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة من شاؤوا قبل ظهور المذاهب ، وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم انتهى . وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون وأغرب ما يعتبر به المنصفون . أما إذا التزم العامي مذهباً معيناً فلهم في ذلك خلاف آخر وهو أنه هل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره فقيل لا يجوز ، وقيل يجوز ، وقيل إن يخالف قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز ، وقيل إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين ، وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي ، وقيل إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام ، وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصداً للتلاعب وأن لا يكون ناقضاً لما قد حكم عليه به واختاره ابن دقيق العيد وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق واعترض عليهما بأن الخلاف جاز فيما ادعيا الاتفاق عليه . أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي يفسق ، وقال ابن أبي هريرة لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخاله بفرضه وهو التقليد فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده ، وقال ابن عبد السلام ينظر إلى الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم ، وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام وروى عنه أنه قال يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ومن قول أهل الكوفة النبيذ وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال دخلت على المعتضد فرفع إلى كتاباً لطرق فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم . فقلت مصنف هذا زنديق فقال لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .




المقصد السابع من مقاصد هذا الكتاب في التعادل والترجيح








المبحث الأول: في معناهما وفي العمل بالترجيح وفي شروطه أما التعادل فهو التساوي وفي الشرع استواء الأمارتين . وأما الترجيح فهو إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحاً ويقال مجازاً لاعتقاد الرجحان ، وفي الاصطلاح اقتران الأمارة بما تقوى بها على معارضتها قال في المحصول الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر فيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طرفين لأنه لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما طرفين أو انفراد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطرف على ما ليس بطرف انتهى . والقصد منه تصحيح الصحيح وإبطال الباطل . قال الزركشي في البحر : اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية قصداً للتوسع على المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه وإذا ثبت أن المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها فوجب الترجيح بينهما والعمل بالأقوى والدليل على تعيين الأقوى أنه تعارض دليلان أو أمارتان فإما أن يعملا جميعاً أو يعمل بالمرجوح أو الراجح وهذا متعين . قال أما حقيقته يعني التعارض فهو تفاعل من العرض بضم العين وهو الناحية والجهة كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض أي ناحيته وجهته فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجه ، وفي الاصطلاح تقابل الدليلين على سبيل الممانعة ، وللترجيح شروط : الأول التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الدلالة . الثاني التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر والآحاد بل يقدم المتواتر بالاتفاق كما نقله إمام الحرمين . الثالث اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلاً في وقت النداء مع الإذن به في غيره . وحكى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين في الكتاب والسنة مذاهب : أحدهما يقدم الكتاب لخبر معاذ . وثانيهما تقدم السنة لأنها المفسرة للكتاب والمبينة له . وثالثها التعارض وصححه واحتج عليه بالاتفاق وزيف الثاني بأنه ليس الخلاف في السنة المفسرة للكتاب بل المعارضة له . وأقسام التعادل والترجيح بحسب القسمة العقلية عشرة لأن الأدلة أربعة الكتاب والسنة والإجماع فيقع التعارض بين الكتاب والكتاب وبين الكتاب والسنة وبين الكتاب والإجماع وبين الكتاب والقياس فهذه أربعة ، ويقع بين السنة والسنة وبين السنة والإجماع وبين السنة والقياس فهذه ثلاثة ويقع بين الإجماع والإجماع والقياس وبين القياسين فهذه ثلاثة الجميع عشرة . قال الرازي في المحصول الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير والتوقف . لنا وجوه : الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة بوجوب الغسل عند التقاء الختانين على خبر الماء من الماء وقدموا خبر من روى من أزواجه أنه كان صضص يصبح جنباً على ما روى أبو هريرة أنه من يصبح جنباً فلا صوم له وقبل علي خبر أبي بكر ولم يحلفه وكان يقبل من غيره إلا بعد تحليفه وقبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لموافقة محمد بن مسلمة له وقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان لموافقة أبي سعيد الخدري له . الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً فيجب شرعاً لقوله صضص ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن . الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح على الراجح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بداهة العقل ، واحتج المنكر بأمرين : أحدهما أن الترجيح لو اعتبر في الأمارات لاعتبر في البينات والحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هنا . الثاني أن قوله تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله صضص نحن نحكم بالظاهرة . يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني أن ما ذكرتموه دليل ظني وما ذكرناه قطعي والظني لا يعارض القطعي انتهى . وما ذكره من الأحاديث هاهنا صحيح إلا حديث ما رآه المسلمون حسناً وحيث نحن نحكم بالظاهر فلا أصل لهما لكن هما صحيح وقد ورد في أحاديث أخر ما يفيد ذلك كما في قوله صضص للعباس لما قال له إنه خرج يوم بدر مكرها فقال كان ظاهرك علينا وكما في قوله صضص إنما أقضى بما أسمع وكما في أمره صضص بلزوم الجماعة وذم من خرج عنها وأمره بلزوم السواد الأعظم ، ويجاب عما ذكره المنكرون بجواب أحسن مما ذكره أما عن الأول فيقال نحن نقول بموجب ما ذكرتم فإذا ظهر الترجيح لإحدى البينتين على الآخرى أولاً حد الحكمين على الآخر كان العمل على الراجح ، وأما عن الثاني فيقال لا دلالة على محل النزاع في الآية بوجه من الوجوه وأما قوله نحن نحكم بالظاهر فلا يبقى الظاهر ظاهراً بعد وجود ما هو أرجح منه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المبحث الثاني : أنه لا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقاً سواء كانا عقليين أو نقليين هكذا حكى الاتفاق الزركشي في البحر . قال الرازي في المحصول الترجيح لا يجوز في الأدلة اليقينية لوجهين : الأول أن شرط اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازمة عنها لزوماً ضرورياً إما بواسطة واحدة أو وسائط شأن كل واحدة منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة : الأول العلم الضروري بحقية المقدمات إما ابتداء أو انتهاء ، والثاني العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوماً ضرورياً فهو ضروري فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معاً وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة و إذا علم ثبوتها امتنع التعارض . الثاني الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقيني لا يقبل التقوية لأنه أن قارنة الاحتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظناً لا علماً وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية انتهى . وقد جعل أهل المنطق شروط التناقض في القضايا الشخصية ثمانية اتحاد الموضوع والمحمول والإضافة والكل والجزء في القوة والفعل وفي الزمان والمكان وزاد بعض المتأخرين وهو اتحادهما في الحقيقة والمجاز نحو قوله تعالى :و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ورد هذا بعضهم بأنه راجع إلى وحدة الإضافة أي تراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى مجازاً وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر ، ومنهم من رد الثمانية إلى ثلاثة الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان ، ومنهم من ردها إلى إثنين الاتحاد في الموضوع والمحمول والاندراج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول ، ومنهم من ردها إلى أمر واحد وهو الاتحاد في النسبة وهذه الشروط على هذا الاختلاف فيها لا يخص الضروريات وإنما ذكرناها هاهنا لمزيد الفائدة بها ، ومما لا يصح التعارض فيه إذا كان أحد المتناقضين قطعياً والآخر ظنياً لأن الظن ينتفي بالقطع بالنقيض وإنما يتعارض الظنيان سواء كان المتعارضان نقليين أو عقليين أو كان أحدهما نقلياً والآخر عقلياً ويكون الترجيح بينهما بما سيأتي وقد منع جماعة وجود دليلين ينصبهما الله تعالى في مسألة متكافئين في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح وقالوا لا بد أن يكون أحدهما أرجح من الآخر في نفس الأمر وإن جاز خفاؤه على بعض المجتهدين ولا يجوز تعارضهما في نفس الأمر من كل وجه . قال الكيا وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء وبه قال العنبري . وقال ابن السمعاني وهو مذهب الفقهاء ونصره وحكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل عن أحمد القاضي وأبو الخطاب من أصحابه وإليه ذهب أبو علي وأبو هاشم عن القاضي أبي بكر الباقلاني . قال الكيا وهو المنقول عن الشافعي وقرره الصيرفي في شرح الرسالة فقال قد صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صضص أبداً حديثات صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده انتهى . وفصل القاضي من الحنابلة بين مسائل الأصول فيمتنع وبين مسائل الفروع فيجوز ، وحكى الماوردي والرياني عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الآخر جائز وواقع . وقال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور والغزالي وابن الصباغ الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على قول من قال إن المصيب في الفروع واحد ، وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فلا معنى لترجيح ظاهر على ظاهر لأن الكل صواب عنده . واختاره الفخر الرازي وأتباعه أن تعادل الأمارتين على حكم في فعلين متابيين جائز واقع وأما تعارضهما متباينين في فعل واحد كالإباحة والتحريم فإنه جائز عقلاً ممتنع شرعاً . واختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر فقيل أنه مخير وبه قال أبو علي وأبو هاشم ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي أبي بكر الباقلاني ، وقيل إنهما يتساقطان ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع المجتهد إلى عموم أو إلى البراءة الأصلية ونقله الكيا عن القاضي ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وبه قطع ابن كج وأنكر ابن حزم نسبته إلى الظاهرية وقال إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطأ بل الواجب الأخذ بالزائد إذ لم يقدر على استعمالها جميعاً ، وقيل إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما وإن كان بين قياسين فيخير . حكاه ابن برهان في الوجيز عن القاضي ونصره . وقيل بالوقف حكاه الغزالي وجزم به سليم الرازي في التقريب واستبعده الهندي إذ الوقف فيه لا إلى غاية وأمد إذ لا يرجى فيه ظهور الريب إن وإلا لم يكن من مسألتنا بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف إلى أن يظهر المرجح وقيل يأخذه بالأغلظ حكاه الماوردي والرياني وقيل يصير إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل إمارة على أمر حكاه الزركشي في البحر وقيل إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير وإن كان في الإباحة كالتحريم فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى وقيل يقلد عالماً أكبر منه ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد وحكاه إمام الحرمين وقيل أنه كالحكم قبل ورود الشرع فتجيء فيه الأقوال المشهورة حكاه الكيا الطبري فهذه تسعة مذاهب فيما كان متعارضاً في نفس الأمر مع عدم إمكان الترجيح.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .




المبحث الثالث : في وجوه الترجيح بين المعارضين لا في نفس الأمر بل في الظاهر وقد قدمنا في المبحث الأول أنه متفق عليه ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح وقد سمي بعضهم هذا المخالف في العمل بالترجيح فقال هو البصري الملقب سحعل كما حكاه القاضي واستبعد الأنباري وقوع ذلك من مثله وعلى كل حال فهو مسبوق بالإجماع على استعمال الترجيح في كل طبقة من طبقات الإسلام وشرط القاضي في الترجيح شرط غير ما قد ذكرناه . في المبحث الأول فقال لا يجوز العمل بالترجيح المظنون لأن الأصل امتناع العمل بشيء من الظنون وخرج من ذلك الظنون المستقلة بأنفسها لانعقاد إجماع الصحابة عليها وما وراء ذلك يبقى على الأصل والترجيح عمل بظن لا يستقل بنفسه . وأجيب عنه بأن الإجماع انعقد على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كما انعقد على المستقل ، ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح . قال في المحصول العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً . واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الاسناد وقد يكون باعتبار المتن وقد يكون باعتبار المدلول وقد يكون باعتبار أمر خارج فهذه أربعة أنواع . والنوع الخامس الترجيح بين الأقيسة . والنوع السادس الترجيح بين الحدود السمعية . النوع الأول : الترجيح باعتبار الاسناد وله صور ، الصورة الأولى : الترجيح بكثرة الرواة فيرجع ما رواته أكثر على رواته أقل لقوة الظن به وإليه ذهب الجمهور وذهب الشافعي في القديم إلى أنهما سواء وشبهه بالشهادات وبه قال الكرخي . قال إمام الحرمين إن لم يمكن الرجوع إلى دليل آخر قطع باتباع الأكثر فإنه أولى من الإلغاء لأنا نعلم أن الصحابة لو تعارض لهم خبران هذه صفتهما لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذا قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة ظنية والاعتماد على ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر وفي المسألة قول رابع صار فيه القاضي والغزالي وهو أن الاعتماد على ما غلب ظن المجتهد قرب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة يقظته وضبطه انتهى . وهذا صحيح لكن المفروض في الترجيح بالكثرة هو كون الأكثر من الرواة مثل الأقل في وصف العدالة ونحوها . قال ابن الدقيق العيد وهو المرجح من أقوى المرجحات فإن الظن يتأكد عند ترادف الروايات ولهذا يقوى الظن إلى أن يصير العلم به متواتراً انتهى . أما لو تعارضت الكثرة من جانب والعدالة من الجانب الآخر ففيه قولان : أحدهما ترجيح الكثرة وثانيهما ترجيح العدالة . فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائةوقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره . النوع الثاني : أنه يرجع ما كانت الوسائط فيه قليلة وذلك بأن يكون إسناداً عالياً لأن الخطأ والغلط فيما كانت وسائطه أقل دون ما كانت وسائطه أكثر . النوع الثالث : أنها ترجح رواية الكبير على رواية الصغير لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو أكثر ضبطاً منه . النوع الرابع : ترجح رواية من كان فقيهاً على من لم يكن كذلك لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ . النوع الخامس : أنه ترجح رواية من كان عالماً باللغة العربية لأنه أعرف بالمعنى ممن لم يكن كذلك . النوع السادس : أن يكون أحدهما أوثق من الآخر. النوع السابع : أن يكون أحدهما أحفظ من الآخر . النوع الثامن : أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر . النوع التاسع : أن يكون أحدهما متبعاً والآخر مبتدعاً . النوع العاشر : أن يكون أحدهما صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة . النوع الحادي عشر : أن يكون أحدهما مباشراً لما رواه دون الآخر . النوع الثاني عشر : أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي صضص دون الآخر لأن المخالطة تقتضي زيادة في الاطلاع . النوع الثالث عشر : أن يكون أحدهما أكثر ملازمة للمتحدثين من الآخر . النوع الرابع عشر : أن يكون أحدهما قد طالت صحبته للنبي صضص دون الآخر . النوع الخامس عشر : أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد التزكية فإنه ليس الخبر كالمعاينة . النوع السابع عشر : أن يكون أحدهما قد وقع الحكم بعدالته دون الآخر. النوع الثامن عشر: أن يكون أحدهما قد عدل مع ذكر أسباب التعديل والآخر عدل بدونها . النوع التاسع عشر: أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر. النوع العشرون: أن يكون المزكون لأحدهما أكثر بحثاً عن أحوال الناس من المزكين للآخر. النوع الحادي والعشرون: أن يكون المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر لأن مزيد العلم له مدخل في الإصابة. النوع الثاني والعشرون: أن يكون أحدهما قد حفظ اللفظ فهو أرجح ممن روى بالمعنى أو اعتمد على الكتابة وقيل إن رواية من اعتمد على الكتابة أرجح من رواية من اعتمد على الحفظ . النوع الثالث والعشرون: أن يكون أحدهما أسرع حفظاً من الآخر وأبطأ نسياناً منه فإنه أرجح إما لو كان أحدهما أسرع حفظاً وأسرع نسياناً والآخر أبطأ حفظاً وأبطأ نسياناً فالظاهر أن الآخر أرجح من الأول لأنه يوثق بما حفظه ورواه وثوقاً زائداً على ما رواه الأول . النوع الرابع والعشرون : أنها ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من يتفرد عنهم في كثير من رواياته . النوع الخامس والعشرون : أنها ترجح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه . النوع السادس والعشرون: أنها تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة الثالثة من الآخر لأن ذلك يمنع من الكذب . النوع السابع والعشرون : أنها ترجح رواية من كان مشهور النسب على من لم يكن مشهوراً لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر . النوع الثامن والعشرون : أن يكون أحدهما معروف الإسم ولم يلتبس إسمه بإسم أحد من الضعفاء على من يلتبس إسمه بإسم ضعيف . النوع التاسع والعشرون : أنها تقدم رواية من تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخاً هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان والبيضاوي وقال الآمدي بعكس ذلك . النوع الحادي والثلاثون : أنها تقدم رواية الذكر على الأنثى لأن الذكور أقوى فهما وأثبت حفظاً وقيل لا تقدم . النوع الثاني والثلاثون أنها تقدم رواية الحر على العبد لأن تحرزه عن الكذب أكثر وقيل لا تقدم . النوع الثالث والثلاثون : أنها تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه . النوع الرابع والثلاثون : أنها تقدم رواية من لم يختلف الرواة عليه على من اختلفوا عليه . النوع الخامس والثلاثون : أن يكون أحدهما أحسن استيفاء للحديث من الآخر فإنها ترجح روايته . النوع السادس والثلاثون : أنها تقدم رواية من سمع شفاها على من سمع من وراء حجاب . النوع السابع والثلاثون : أن يكون أحد الخبرين بلفظ حدثنا أو أخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا ونحوه قيل ويرجح لفظ حدثنا على لفظ أخبرنا . النوع الثامن والثلاثون : أنها تقدم رواية من سمع من لفظ الشيخ على رواية من سمع بالقراءة عليه . النوع التاسع والثلاثون : أنها تقدم رواية من روى بالسماع على رواية من روى بالإجازة . النوع الأربعون : أنها تقدم رواية من روى المسند على رواية من روى المرسل . النوع الحادي والأربعون : أنها تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما . النوع الثاني والأربعون : أنها تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه . واعلم أن وجوه الترجيح كثيرة وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها . وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع . النوع الأول : أن يقدم الخاص على العام كذا قيل ولا يخفاك أن تقديم الخاص على العام بمعنى العمل به فيما تناوله والعمل بالعام فيما بقي ليس من باب الترجيح بل من باب الجمع وهو مقدم على الترجيح . النوع الثاني : أنه يقدم الأفصح على الفصيح لأن الظن بأنه لفظ النبي صضص أقوى ، وقيل لا يرجح بهذا لأن البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح . النوع الثالث : أنه يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص كذا نقله إمام الحرمين عن المحققين وجزم به سليم الرازي وعللوا ذلك بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ ويصبر به مجازاً قال الفخر الرازي لأن الذي قد خصص قد أزيل عن تمام مسماه واعترض على ذلك الصفي الهندي بأن المخصص راجح من حيث كونه خاصاً بالنسبة إلى العام الذي لم يخصص لأن المخصوص قد قلت أفراده حتى قارب النص إذ كل عام لا بد أن يكون نصاً في أقل متناولاته . النوع الرابع : أنه يقدم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد على سبب كذا . قال إمام الحرمين في البرهان و الكيا والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع و سليم الرازي في التقريب و الرازي في المحصول قالوا لأن الوارد على غير سبب متفق على عمومه والوارد على سبب مختلف في عمومه قال الصفي الهندي ومن المعلوم أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت العامين فلا انتهى . وفيه نظر لأن الخلاف في عموم الوارد على سبب هو كائن في سائر الأفراد . النوع الخامس : أنها تقدم الحقيقة على المجاز لتبادرها إلى الذهن هذا إذا لم يغلب المجاز . النوع السادس : أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك ، النوع السابع : أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية قال في المحصول وهذا ظاهر في اللفظ الذي قد صار شرعياً لا فيما لم يكن كذلك كذا قال ، ولا يخفى أن الكلام فيما صار شرعياً لا فيما لا يثبت كونه شرعياً فإنه خارج عن هذا . النوع الثامن : أن يقدم ما كان مستغنياً عن الاضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه . النوع التاسع : أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالاً على المراد من وجه واحد . النوع العاشر : أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة . النوع الحادي عشر : إنه يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة ما لم يكن معللاً . النوع الثاني عشر : أنه يقدم ما ذكرت فيه العلة متقدمة على ما ذكرت فيه العلة متأخرة وقيل العكس . النوع الثالث عشر : أنه يقدم ما ذكر فيه معارضة على ما لم يذكر كقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها على الدال على تحريم الزيارة مطلقاً . النوع الرابع عشر: أنه يقدم المقرون بالتهديد على ما لم يقرن به . النوع الخامس عشر : أن يقدم المقرون بالتأكيد على ما لم يقرن به . النوع السادس عشر : أنه يقدم ما كان مقصوداً به البيان على ما لم يقصد به . النوع السابع عشر : أن يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة وقيل بالعكس ولا يرجح أحدهما على الآخر والأول أولى . النوع الثامن عشر : أنه يقدم النهي على الأمر. النوع التاسع عشر : أنه يقدم النهي على الإباحة . النوع العشرون : أنه يقدم الأمر على الإباحة . النوع الحادي والعشرون: أنه يقدم الأقل احتمالاً على الأكثر احتمالاً. النوع الثاني والعشرون : أنه يقدم المجاز على المشترك . النوع الثالث والعشرون : أنه يقدم الأشهر في الشرع أو اللغة أو العرف على غير الأشهر فيها . النوع الرابع والعشرون : أنه يقدم ما يدل بالاقتضاء على ما يدل بالإشارة وعلى ما يدل بالإيماء وعلى ما يدل بالمفهوم موافقة ومخالفة . النوع الخامس والعشرون : أنه يقدم ما يتضمن تخصيص العام على ما يضمن تأويل الخاص لأنه أكثر . النوع السادس والعشرون : أنه يقدم المقيد على المطلق . النوع السابع والعشرون : أنه يقدم ما كان صيغة عمومه بالشرط الصريح على ما كان صيغة عمومه بكونه نكرة في سياق النفي أو جمعاً معرفاً أو مضافاً ونحوهما . النوع الثامن والعشرون: أنه يقدم الجمع المحلى والاسم الموصول على اسم الجنس المعرف باللام لكثرة استعماله في المعهود فتصير دلالته أضعف على خلاف معروف في هذا وفي الذي قبله . وأما المرجحات باعتبار المدلول : فهي أنواع . النوع الأول : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلاً وقيل بالعكس وإليه ذهب الجمهور واختار الأول الفخر الرازي والبيضاوي والحق ما ذهب إليه الجمهور. النوع الثاني : أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجع . النوع الثالث : أنه يقدم المثبت على المنفى نقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء لأن مع المثبت زيادة علم وقيل يقدم النافي وقيل هما سواء واختاره في المستصفى . النوع الرابع : أنه يقدم ما يفيد سقوط الحد على ما يفيد لزومه . النوع الخامس : أنه يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلظ وقيل بالعكس . النوع السادس : أنه يقدم ما لا تعم به البلوى على ما تعم به . النوع السابع : أن يكون أحدهما موجباً لحكمين والآخر موجباً لحكم واحد فإنه يقدم الموجب لحكمين لاشتماله على زيادة لم ينقلها الآخر . النوع الثامن : أنه يقدم الحكم الوضعي على الحكم التكليفي لأن الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي من أهلية المكلف وقيل بالعكس لأن التكليفي أكثر مثوبة وهي مقصودة للشارع . النوع التاسع : أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد . واعلم أن المرجح في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت. وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع . النوع الأول : أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر . النوع الثاني : أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً فيقدم القول لأن له صيغة والفعل لا صيغة له . النوع الثالث : أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبادة على الإشارة . النوع الرابع : أنه يقدم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى بإصابة الحق وفيه لأنه لا حجة في قول الأكثر ولا في عملهم فقد يكون الحق في كثير من المسائل مع الأقل ولهذا . مدح الله القلة في غير موضع من كتابه . النوع الخامس : أن يكون أحدهما موافقاً لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر فإنه يقدم الموافق وفيه نظر . النوع السادس : أن يكون أحدهما توارثه أهل الحرمين دون الآخر وفيه نظر . النوع السابع : أن يكون أحدهما موافقاً لعمل أهل المدينة وفيه نظر أيضاً . النوع الثامن : أن أحدهما موافقا للقياس دون الآخر فإنه يقدم الموافق . النوع التاسع : أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر فإنه يقدم . النوع العاشر: أنه يقدم ما فسره الراوي له بقوله أو فعله على ما لم يكن كذلك . وقد ذكر بعض أهل الأصول مرجحات في هذا القسم زائدة على ما ذكرناه هاهنا وقد ذكرناها في الأنواع المتقدمة لأنها بها ألصق ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عموم وخصوص من وجه وذلك كقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين مع قولهأو ما ملكت أيمانكم فإن الأولى خاصة في الأختين عامة في الجمع بين الأختين في الملك أو بعقد النكاح والثانية عامة في الأختين وغيرهما خاصة في ملك اليمين وكقوله صضص من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في الصلاة المقتضية والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فإن علم المتقدم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخاً عند من يقول إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم وأما من لا يقول ذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعاً بالمرجحات المتقدمة وإذا استويا اسناداً ومتناً ودلالة رجع إلى المرجحات الخارجة وإن لم يوجد مرجح خارجي وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخير المجتهد في العلم بأحدهما أو يطرحهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد أو إلى البراءة الأصلية ونقل سليم الرازي عن أبي حنيفة أنه يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك . قال ابن دقيق العيد في هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر وكأن مرادهم الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم ثم حكي عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص وكذلك إذا كان أحدهما مقصودا بالعموم رجح على ما كان عمومه اتفاقياً . قال الزركشي في البحر وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما وكذلك نقول دلالة وأن تجمعوا بين الأختين على تحريم الجمع مطلقاً في النكاح والملك أولى من دلالة الآية الثانية على جواز الجمع في ملك اليمين لأن هذه الآية ما سيقت لبيان حكم الجمع. وأما الترجيح بين الأقيسة، فلا خلاف أنه لا يكون بين ما هو معلوم منها وأما كان مظنوناً فذهب الجمهور إلى أنه يثبت الترجيح بينها. وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة مطلوب وإذا لم يكن فيها مطلوب فلا طريق على التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق قال إمام الحرمين وهذه هفوة عظيمة ثم ألزمه القول بأنه لا أصل للاجتهاد. قال الزركشي والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه عنه وقد عقد فصولاً في التقريب في تقديم بعض العلل على بعض فعلم أنه ليس يعني إنكار الترجيح فيها وإنما مراده أنه يقدم نوع على نوع على الإطلاق بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما يظن المجتهد راجحاً والظنون تختلف فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء يتأخر عن النوع الضعيف انتهى . والترجيح بين الأقيسة يكون على أنواع. النوع الأول : بحسب العلة . النوع الثاني : بحسب الدليل الدال على وجود العلة. النوع الثالث : بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم . النوع الرابع : بحسب دليل الحكم. النوع الخامس : بحسب كيفية الحكم. النوع السادس : بحسب الأمور الخارجة. النوع السابع : بحسب الفرع . أما الترجيح بينها بحسب العلة : فهو أقسام . الأول : أنه يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس العلة للإجماع بين أهل القياس على صحة التعليل بالمظنة فيرجح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة . القسم الثاني : أنه يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة . القسم الثالث : أنه يرجح المعلل حكمة بالوصف العدمي على المعلل حكمة بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسباً للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة هكذا قال صاحب المنهاج واختاره وذكر إمام الحرمين الجويني في هذا احتمالين . القسم الرابع : أنه يرجح المعلل بالحكم الشرعي على غيره . القسم الخامس : أنه يرجح المعلل بالتعدية على المعلل بالقاصرة . قاله القاضي والأستاذ أبو منصور وابن برهان قال إمام الحرمين وهو المشهور فإنه أكثر فائدة وقال الأستاذ أبو إسحاق أنها ترجح القاصرة لأنها معتضدة بالنص ورجحه في المستصفى . القسم السادس : أنها ترجح العلة المتعدية التي فروعها أكثرعلى العلة المتعدية التي فروعها أقل لكثرة الفائدة . قاله الاستاذ أبو منصور ورفعه صاحب المنخول وكلام إمام الحرمين يقتضي أ نه لا ترجيح بذلك . القسم السابع : أنها ترجح العلل البسيطة على العلل المركبة كذا قال الجدليون وأكثر الأصوليين إذ يحتمل في العلل المركبة أن تكون العلة فيها هي بعض الأجزاء لا كلها وأيضاً البسيطة يكثر فروعها وفوائدها ويقل فيها الاجتهاد فيقل الغلط على ما في المركبة من الخلاف في جواز التعليل بها كما تقدم وقال جماعة المركبة أرجح قال القاضي في مختصر التقريب ولعله الصحيح ، وقال إمام الحرمين إن هذا المسلك باطل عند المحققين . القسم الثامن : أنها ترجح العلة القلية الأوصاف على العلة الكثيرة الأوصاف لأن الوصف الزائد لا أثر له في الحكم ولأن كثرة الأوصاف يقل فيها التفريع ، وقيل وهو مجموع على هذا المرحج بين المحققين من الأصوليين إذا كانت القليلة الأوصاف داخلة تحت الكثيرة الأوصاف فإن كانت غير داخلة مثل أن يكون أوصاف إحداهما غير أوصاف الأخرى فاختلفوا في ذلك فقيل ترجح القليلة الأوصاف وقيل الكثيرة الأوصاف . القسم التاسع : أنه يرجح الوصف الوجودي على العدمي وكذا الوصف المشتمل على وجوديين على الوصف المشتمل على وجودي وعدمي كذا في المحصول . القسم العاشر : أنها ترجح العلة المحبوسة على الحكمية وقيل بالعكس. القسم الحادي عشر: أنها ترجح العلة التي مقدماتها قليلة على العلة التي مقدماتها كثيرة لأن صدق الأولى وغلبة الظن بها أكثر من الأخرى وقيل بالعكس وقيل هما سواء . القسم الثاني عشر : أنها ترجح العلة المشتملة على صفة ذاتية على العلة المشتملة على صفة حكمية وقيل بالعكس ورجحه ابن السمعاني . القسم الرابع عشر : أنها ترجح العلة الموجبة للحكم على العلة المقتضية للتسوية بين حكم وحكم الإجماع على جواز التعليل بالأولى بخلاف الثانية ففيها خلاف وقال أبو سهل الصعلوكي إن علة التسوية أولى لكثرة الشبه فيها . وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على وجود العلة : فهو على أقسام : القسم الأول : أنها تقدم المعلومة سواء كان العلم بوجدها بديهياً أو ضرورياً على العلة التي ثبت وجودها بالنظر والاستدلال كذا قال جماعة وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجري الترجيح بين العلتين المعلومتين إذا كانت إحداهما معلومة بالبداهة والأخرى بالنظر والاستدلال . القسم الثاني : أنها ترجح العلة التي وجودها بديهي على العلة التي وجودها أجلي وأظهر عند العقل فهو أرجح مما لم يكن كذلك وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم فهو على أقسام : القسم الأول : أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالدليل القاطع على العلة التي لم يثبت عليتها بدليل قاطع وخالف في ذلك صاحب المحصول ولا وجه لخلافه . القسم الثاني : أنها ترجع العلة التي ثبت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبت عليتها بغيره من الأدلة التي ليست بنص ولا ظاهر . القسم الثالث : أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبت عليتها بالشبة والدوران لقوة المناسبة واستقلالها بإثبات العلية وقيل بالعكس ولا وجه له . القسم الرابع : أنها ترجح العلة الثابتة عليتها بالمناسبة على العلة الثابتة عليتها بالسبر وقيل بالعكس قيل وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع فإن العلم به متعين لوجوب تقديم المقطوع على المظنون بل الخلاف في المظنون . القسم الخامس : أنه ترجح ما كان من المناسبة ثابتاً بالضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية . القسم السابع : أن يقدم ما كان من المناسبة معتبراً نوعه في نوع الحكم على ما كان منها معتبراً نوعه في جنس الحكم وعلى ما كان منها معتبراً جنسه في نوع الحكم وعلى ما كان منها معتبراً جنسه في جنس الحكم ثم يقدم المعتبر نوعه في جنس الحكم والمعتبر جنسه في نوع الحكم على المعتبر جنسه في جنس الحكم : قال الهندي : الأظهر تقديم المعتبر نوعه في جنس الحكم على علته . القسم الثامن : أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالدوران على الثابتة عليتها بالسبر وما بعده وقيل بالعكس. القسم التاسع : أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالشبه على العلة الثابتة عليتها بالضرورة . قال البيضاوي وكذا ترجح على العلة الثابتة عليتها بالإيماء وادعى في المحصول اتفاق الجمهور على أن ما ثبت عليته بالإيماء راجح على ما ثبت عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان قال الصفي الهندي هذا ظاهر إن قلنا لا تشترط المناسبة في الوصف المومأ إليه وإن قلنا تشترط فالظاهر ترجيح بعض الطرق العقلية عليها كالمناسبة لأنها تستقل بإثبات العلية بخلاف الإيماء فإنه لا يستقل بذلك بدونها . القسم الحادي عشر: أنها تقدم العلة الثابتة بنفي الفارق على غيرها . وأما الترجيح بحسب دليل الحكم فهو على أقسام : الأول : أنه يقدم ما دليل أصله قطعي على ما دليل أصله ظني . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان دليل أصله الإجماع على ما كان دليل أصله النص لأن النص بقبل التخصيص والتأويل والنسخ والإجماع لا يقبلها . قال إمام الحرمين ويحتمل تقدم الثابت بالنص على الإجماع لأن الإجماع فرع النص لكونه المثبت له والفرع لا يكون أقوى من الأصل وبهذا جزم صاحب المنهاج . القسم الثالث : أنه يقدم القياس الذي هو مخرج من أصل منصوص عليه على ما كان مخرجاً من أصل غير منصوص عليه قاله ابن برهان . القسم الرابع : أنه يقدم القياس الخاص بالمسألة على القياس العام الذي يشهد له القواعد قاله القاضي . القسم الخامس: أنه يقدم ما كان على سنن القياس على ما لم يكن كذلك . القسم السادس : أنه يقدم ما دل دليل خاص على تعليله دون ما لم يكن كذلك . القسم السابع: أنه يقدم ما لم يدخله النسخ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف ، والحاصل أنه يقدم ما كان دليل أصله أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة . وأما المرجحات تحسب كيفية الحكم، فهي على أقسام . الأول: أنه يقدم ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته مقررة كما قاله الغزالي وابن السمعاني وغيرهما لأن الناقلة أثبتت حكماً شرعياً والمقررة لم تثبت شيئاً وقيل إن المقررة أولى لاعتضادها بحكم العقل المستقل بالنفي لولا هذه العلة الناقلة قال الأستاذ أبو منصور ذهب أكثر أصحابنا إلى ترجيح الناقلة عن العادة وبه جزم الكيا لأن الناقلة مستفادة من الشرع والأخرى ترجع إلى عدم الدليل فلا معارضة بينهما وقيل هما مستويان لأن النسخ بالعلل لا يجوز . القسم الثاني : أنه يقدم ما كانت علته مثبتة على ما كانت علته نافية كذا قال الأستاذ أبو إسحاق وغيره . قال الغزالي قدم قوم المثبتة على النافية وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعاً كالاثبات وإن كان نفياً أصلياً يرجع إلى ما قدمناه في الناقلة والمقررة وقال الأستاذ أبو منصور الصحيح أن الترجيح في العلة لا يقع بذلك لاستواء المثبت والنافي في الافتقار إلى الدليل قال وإلى هذا القول ذهب أصحاب الرأي . القسم الثالث : أنه يقدم ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة قال ابن السمعاني وهو الصحيح وقيل وقيل هما سواء . القسم الرابع : أن يكون أحدهما يقتضي حداً والآخر يسقطه فالمسقط أقدم . القسم الخامس : أن يكون أحدهما يقتضي العنف والآخر يسقطه فالمقتضى للعنف أقدم وقيل هما سواء . القسم السادس : أن يكون أحدهم مبقياً للعموم لأنه كالنص في وجوب استغراق الجنس ومن حق العلة أن لا ترفع النص فإذا أخرجت ما اشتمل عليه العام مخالفة للأصول التي يجب سلامتها عنه كذا قال القاضي في التقريب وحكى الزركشي عن الجمهور أن المخصصة له أولى لأنها زائدة . وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة : فهي على أقسام . الأول : أنه يقدم القياس الموافق للأصول بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع على ما كان موافقاً لأصل واحد لأن وجود العلة في الأصول الكثيرة دليل على قوة اعتبارها في نظر الشرع هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما وقيل هما سواء وجزم بالأول الأستاذ أبو منصور ورفعه الغزالي . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان حكم أصله موافقاً للأصول على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول واختلاف في الثاني. القسم الثالث : أنه يرجع ما كان مطرداً في الفروع بحيث يلزم الحكم به في جميع الصور على ما لم يكن كذلك . القسم الرابع : أنه يرجع ما انضمت إلى علته علة أخرى على ما لم ينضم إليه علة أخرى لأن ذلك الانضمام يزيد قوة وقيل للترجيح بذلك وصححه أبو زيد من الحنفية. القسم الخامس: أنه يقدم ما انضم إليه فتوى صحابي على ما لم يكن كذلك وهو مبني على الخلاف المتقدم في حجية قول الصحابي. وأما المرجحات بحس بالفرع : فهي على أقسام. الأول : أنه يقدم ما كان مشاركاً في عين الحكم ووعين العلة على المشارك في جنس الحكم وعين العلة أو عين الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وحني العلة . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان مشاركا في عين الحكم وجنس العلة أو عين العلة وجنس الحكم على المشارك في جنس الحكم وجنس العلة . القسم الثالث : أنه يقدم المشارك في عين العلة وجنس الحكم على المشارك في عين الحكم وجنس العلة لأن العلة هي العمدة في التعدية . القسم الرابع : أنه يقدم ما كان مقطوعاً بوجود علته في الفرع على المظنون وجودها فيه. القسم الخامس: أنه يقدم ما كان حكم الفرع ثابتاً فيه جملة لا تفصيلاً وقد دخل بعض هذه المرجحات الترجيح فيما تقدم لصلاحيتها هنالك وهاهنا لذكر ذلك فيه. وأما المرجحات بين الحدود السمعية فهي على أقسام: الأول : أنه يرجح الحد المشتمل على الألفاظ الصريحة الدالة على المطلوب بالمطابقة أو التضمن على الحد المشتمل على الألفاظ المجازية أو المشتركة أو الغربية أو المضطربة وعلى ما دل على المطلوب بالالتزام لأن الأول قريب إلى الفهم بعيد عن الخلل والاضطراب. القسم الثاني: أن يكون أحدهما أعرف من الآخر فإنه يقدم الأعرف على الأخفى لأنه أدل على المطلوب من الأخفى. القسم الثالث : أنه يقدم الحد المشتمل على الذاتيات على المشتمل على العرضيات لإفادة الأول تصور حقيقة المحدود دون الثاني . القسم الرابع : أنه يقدم ما كان مدلوله أعم من مدلول الآخر لتكثير الفائدة وقيل بل يقدم الأخص للاتفاق على ما تناوله. القسم الخامس: أنه يقدم ما كان موافقاً لنقل الشرع واللغة على ما لم يكن كذلك لكون الأصل عدم النقل. القسم السادس: أنه يقدم ما كان أقرب إلى المعنى المنقول عنه شرعاً أو لغة. القسم السابع: أنه يقدم ما كان طريق اكتسابه أرجح من طريق اكتساب الآخر لأنه أغلب على الظن. القسم الثامن: أنه يقدم ما كان موافقاً لعمل أهل مكة والمدينة ثم ما كان موافقاً لأحدهما. القسم التاسع: أنه يقدم ما كان موافقاً لعلم الخلفاء الأربعة . القسم العاشر: أنه يقدم ما كان موافقاً للإجماع . القسم الحادي عشر : أنه يقدم ما كان موافقاً لعمل أهل العلم . القسم الثاني عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم الحظر على ما كان مقرر الحكم الإباحة . القسم الثالث عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم النفي على ما كان مقرراً لحكم الإثبات . القسم الرابع عشر : أنه يرجع ما كان مقرراً لإسقاط الحدود على ما كان موجباً لها . القسم الخامس عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لإيجاب العتق على ما لم يكن كذلك . وفي غالب هذه المرجحات خلاف يستفاد من مباحثه المتقدمة في هذا الكتاب ويعرف به ما هو الراجح في جميع ذلك وطرق الترجيح كثيرة جداً وقد قدمنا أن مدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية فما كان محصلاً لذلك فهو مرجح معتبر .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .


خاتمة لمقاصد هذا الكتاب اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكماً أولاً وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ويحكم فيها كصفات الكمال والنقص وملاءمة الغرض ومنافرته وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمس أقسام . الأول : الوجوب كقضاء الدين . والثاني : التحريم كالظلم . والثالث : الندب كالإحسان . والرابع : الكراهة كسوء الأخلاق . والخامس : الإباحة كتصرف المالك في ملكه . وهاهنا مسألتان : المسألة الأولى : هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه الإباحة أو المنع أو الوقف ؟ فذهب جماعة من الفقهاء وجماعة من الشافعية و محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع . وذهب الأشعري وأبو بكر الصيرفي وبعض الشافعية إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هنا حكم أم لا وصرح الرازي في المحصول أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع ، احتج الأولون بقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فإنه أنكر على من حرم ذلك فوجب أن لا تثبت حرمته وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده لثبتت الحرمة في زينة الله وفي الطيبات من الرزق وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة واحتجوا أيضاً بقوله تعالى :أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها ، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية فجعل الأصل الإباحة والتحريم مستثنى ، وبقوله سبحانه وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ضصض أنه قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم على السائل من أجل مسألته وبما أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله ضصض عن السمن والخبز والفراء قال الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه . واحتجوا أيضاً بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعاً ولا على المنتفع فوجب أن لا يمتنع كالاستضاءة بضوء السراج والاستظلال بظل الجدار ، ولا يرد على هذا الدليل ما قيل إنه يقتضي إباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها ، ووجه عدم وروده أنه قد وقع الإحتراز عنه بقوله ولا على المنتفع ولا انتفاع بالمحرمات وبترك الواجبات لضرره ضرراً ظاهراً لأن الله سبحانه قد بين حكمها وليس النزاع في ذلك إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه. واحتجوا أيضاً بأنه سبحانه إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة أو لغير حكمه . والثاني باطل لقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والعبث لا يجوز على الحكمة فثبت أنها مخلوقة لحكمة ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون لعود النفع إليه سبحانه أو إلينا والأول باطل لاستحالة الانتفاع عليه عز وجل فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما هو يمنع منه لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه وذلك بأن ينهى الله عنه فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة، وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم وهذا خارج عن محل النزاع فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه أو حكم نوعه وأما ما قد فصل وبين حكمه فهو كما بينه بلا خلاف، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام قالوا فأخبر الله سبحانه أن التحريم والتحليل ليس إلينا وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه . ويجاب عن هذا بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله كما تقدم فلا ترد هذه الآية عليهم ولا تعلق لها بمحل النزاع واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه ضصض قال الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات الحديث قال فأرشد ضصض إلى ترك ما بين الحلال والحرام ولم يجعل الأصل فيه أحدهما ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه بأن الله سبحانه قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الادلة وليس المراد بقوله وبينهما امور مشتبهات الا ما لم يدل الدليل على انه حلال طلق او حرام واضح بل تنازعه امران احدهما يدل على الحاقه بالحلال والآخر يدل على إلحاقه بالحرام كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة. أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه كما تقدم في حديث سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة فليرجع إليها واستدلوا أيضاً بالحديث الصحيح وهو قوله ضصض إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الحديث ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة ولا خلاف في تحريمها على الغير وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ولم تصرفي ملك أحد منهم وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله عز وجل على تحريمها إلا بدليل عام ولا خاص وكالنباتات التي تنبتها الأرض ما لم يدل دليل على تحريمها ولا كانت مما يضر مستعملة بل مما ينفعه . المسألة الثانية : اختلفوا في وجوب شكر المنعم عقلاً فالمعتزلة ومن وافقهم أوجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع وخالف في ذلك جمهور الأشعرية ومن وافقهم لأنهم يقولون لا حكم للعقل كما تقدم تحقيقه قالوا وعلى تقدير التسليم لحكم العقل فلا حكم للعقل بوجوب شكر المنعم فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة لأنه لو وجب لوجب لفائدة واللازم باطل فالملزوم مثله وتقرير الملازمة أنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثاً وهو قبيح فلا يجب عقلاً ولا يجوز على الله سبحانه إيجاب ما كان عبثاً . وأما تقرير بطلان اللازم فلأن الفائدة أما أن تكون لله تعالى أو تكون للعبد إما في الدنيا أو في الآخرة والكل باطل لأن الله سبحانه متعال ولأنه لا منفعة فيه للعبد في الدنيا لأنه تعب ومشقة عليه ولا حظ للنفس فيه وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية وأما انتفاع العبد به في الآخرة فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه . وأجيب عن ذلك بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه وسند هذا المنع بأن فائدته للعبد في الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب وذلك للزوم الخطور على بال عاقل إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة وقتاً بعد وقت أن المنعم قد ألزمه بالشكر كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم أنه مطالب له بالشكر عليها. ومنع الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف فلا يتعين. وأجيب عن هذا المنع بأنه غير متوجب لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية فذلك منع مجرد للسند وهو غير مقبول وعلى التسليم فيقال وإنه وإن لم يتعين وجود الخوف فهو على خطر الوجود بالشكر يندفع احتمال وجوده وهو فائدة جليلة . ثم جاء الأشعرية بمعارضة لما ذكرته المعتزلة فقالوا ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك الله تعالى وأما لأنه كالاستهزاء وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم فتصدق عليه بلقمة فطفق يذكرها في المجامع وشكر عليها شكراً كثيراً مستمراً فإن ذلك يعد استهزاء من الشاكر بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب سبحانه وشكر العبد أقل قدراً في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع في غاية من السخف يندفعان بما قصه الله سبحانه علينا في الكتاب العزيز من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده وكرر ذلك تكريراً كثيراً فإن كان ذلك مطابقاً للواقع سقط ما جاءوا به وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح. ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر، فإن أولها وجوده، ثم تكميل آلاته، ثم إفاضة النعم عليه على اختلاف أنواعها فكيف يكون شكره عليها استهزاء. وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة منهم ابن الهمام في تحريره فقال ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها يعني جملة الاستدلال والاعتراض. ثم ذكر أن حكم المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه القبح الذي هو الكفران بالضرورة فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعاً وإذا ثبت الوجوب بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر علم عينها أولاً ولو منعوا يعني الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن واتصاف الكفران بالقبح لم تصر مسألة على التنزل معنى والمفروض أنها مسألة على التنزل. ثم ذكر أن انفصال المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملاً على العمل الذي يتحقق به الشكر وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه وهو محل النزاع. ثم قال وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء فيقضي منه العجب. قال شارحه لغرابته وسخافته كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها انتهى. ومن كان مطلعاً على مؤلفات المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر فقالوا من رأى النعم التي هو فيها دقيقها وجليلها وتواتر أنواعها خشى أن لها صانعاً بحق له الشكر إذ وجوب شكر كل منعم ضروري ومن خشي ذلك خاف ملاماً على الإخلال وتبعه على الإخلال ضرر عاجل والنظر كاشف للحيرة دافع لذلك الخوف فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه وهو معنى الوجوب فإذا نظر زال ذلك الضرر فيلزمه فائدة الأمن من العقاب على التقديرين إما بأن يشكر وإما بأن يكشف له بالنظر أنه لا منعم فلا عقاب هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي. وأما الوجوب الشرعي فلا نزاع فيه بينهم ، وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم وصرح أيضاً بأنه سبب في زيادة النعم . والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جداً وحاصلها فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة وفقنا الله تعالى لشكر نعمه ودفع عنا جميع نقمه.

قال المؤلف رحمه الله : وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله ذنوبه.

وكان الفراغ منه يوم الأربعاء الرابع من شهر محرم سنة 1231 والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه . تم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .   
  

الجزء الثالث والرابع بدون توابع من كتاب ارشاد الفحول للشوكاني

  المحتوي  المحتويات المسلك الأول : الإجماع المسلك الثاني : النص على العلة المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه المسلك الرابع: الإستدلال على ...