الأحد، 12 نوفمبر 2023

ح1وج2. كتاب معجز أحمد أبو العلاء المعري

  ح1وج2. كتاب معجز أحمد أبو العلاء المعري


فإن نهاري ليلةٌ مدلهمةٌ ... على مقلةٍ من فقدكم في غياهب
مدلهمة: أي مظلمة. والغيهب: الظلمة.
يقول: إن نهاري أظلم من غيهب، منذ فقدتكم، فكأن مقلتي في ظلمات الليل.
وقيل: أراد أني قد بكيت لشدة الحزن حتى عميت عيني! فلا أبصر شيئاً، فصار نهاري، ليلاً وضيائي ظلاماً، لفقدكم وفراقكم.
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدبس بحاجب
بعيدة: جر لأنه صفة لمقلة وقيل: بدل عنها.
يقول: تباعد ما بين أجفان عيني فلا يلتقي الجفنان، فكأن أعالي أهداب الجفون معقود بشعور الحاجب فلا ينطبق. ومثله لبشار قوله:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
ومثله للتهامي:
قصرت جفوني، أم تباعد بينها؟ ... أم صورت عيني بلا أشفار؟
وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقته والدهر أخبث صاحب
أي: من عادة الدهر مخالفة هواي! فلو كنت أهوى أني أفارقكم لفارقت الفراق وواصلتموني. ثم ذم الدهر وقال: الدهر أخبث صاحبٍ للإنسان؛ لأن كل صاحب خالفك فهو خبيث. والهاء في فارقته للفراق.
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب
يقول: ليت ما بيننا من البعد الحاصل، كان بيني وبين المصائب.
يعني: ليت الأحبة قريبة مني والمصائب قد بعدت.
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدرٍّ عن لقاء الترائب
السلك: الخيط وعقته: منعته.
يقول: أظن أنك حسبت جسمي خيط العقد الذي عليك؛ لأنه يشبهه في الدقة، فحجبته بالدر الذي نظمته فيه عن ملاقاة نحرك كما حجبتني عنك، أبعدتني عن قربك.
ولو قلمٌ ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
يقول: صرت من الدقة بحيث لو وقعت في شق قلم كاتبٍ لم يغير شيئاً من خطه!! وهذا من مبالغات أبي الطيب المتنبي.
تخوفني دون الذي أمرت به ... ولم تدر أن العار شر العواقب
يقول: أمرتني المحبوبة بترك المخاطرة بالنفس والمال، وخوفتني عواقب المخاطرة، ولم تعلم أن العار الذي يحصل بتحمل الضيم شرٌّ في عاقبته من الخوض في المهالك.
وقيل: معناه أنها أمرتني ألا أزورها شفقة علي وخوفاً من أن أقتل، ولم تدر أن تركي زيارتها هو العار، لأنه يؤدي إلى الجبن والجبن عار العار، وشر العواقب.
ولا بد من يومٍ أغر محجلٍ ... يطول استماعي بعده للنوادب
يقال: أغر محجل إذا كان مشهوراً كشهرة الفرس الأغر المحجل.
يقول: لابد من أن أوقع بيني وبين أعدائي يوماً مشهوراً أقتل فيه الملوك والسادة فأسمع بعد مدة طويلة صياح النساء النوادب يندبن عليهم.
يهون على مثلي إذا رام حاجةً ... وقوع العوالي دونها والقواضب
الهاء في دونها للحاجة.
يقول: إذا طلب مثلي حاجة يسهل عليه الحروب، ولا يبالي بحلول الرماح به، ووقوع السوف عليه حتى يصل إلى مراده؛ لأن الوصول إلى الأمر العظيم يكون بالمخاطرة بالنفس العظيمة.
كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب
يقول: غاية الإنسان الموت، طالت حياته أم قصرت، وعيشه الباقي إلى نفادٍ، مثل عيشه الماضي، فلم أخاف الموت وأحمل الضيم والذل؟
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
يقول للعاذلة: إليك عني، أي كفي لومك، فلست ممن إذا اتقى عظيمةً صبر على مذلة وهوان. فشبه عظيمة بالأفاعي وشبه الذل بالعقارب.
يعني: إن نام فوق العقارب يؤده لسعها إلى الموت، كما لو نهشت الأفاعي، فكذلك العار يؤدي الإنسان إلى الهلاك، بل هو أشد منه؛ فإن ذلك يتكرر، والهلاك دفعة واحدة فهو أسهل، كما أن الهلاك بنهش الأفعى أطيب من تكرار لدغ العقرب.
وقيل: معناه إني لا أهرب من مكروه القتل والموت إلى مكروه العار وقبول الضيم، وإن كان أيسر من الموت، كما أن ضرب العقارب أسهل من ضرب الأفاعي، ومع ذلك فإن أحداً لا يختار ذلك إلا أنا وحدي.
أتاني وعيد الأدعياء وأنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب
كفر عاقب: قرية بالشام أو مدينة. وكل قرية يقال لها: كفر. والسودان: قيل أراد به جمع أسود سالح، وهو الحية السوداء.
يقول: إنهم أوعدوني وإنهم أعدوا لي في هذه القرية السودان: أي الدواهي. وقيل: أراد قوماً من الزنج أرصدهم هؤلاء لقتله.

ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في وحدي قولهم غير كاذب؟!
يقول: لو كانوا صادقين في انتسابهم إلى جدهم، لكنت أحذرهم لمكان وعيدهم، وأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم، وأعلم أنهم يقدرون على ما توعدوا لي به، من إلحاق المكروه بي؛ لأن تلك عادة الأشراف، ولكنهم أدعياء، فأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم إياي، كما كذبوا في نسبهم.
وقيل: أراد أنهم يكذبون علي في سعايتهم كما يكذبون في انتسابهم إلى غير أبيهم، فلا أخاف مهم، لأن كل أحد يعلم أن سعايتهم في زور وبهتان كنسبهم.
إلي لعمري قصد كل عجيبةٍ ... كأني عجيبٌ في عيون العجائب
يقول: كل عجيبة من حوادث الدهر تقصدني، وكأني عجيب في عيونها، فتقصدني لترى في عجباً!
بأي بلادٍ لم أجر ذوائبي ... وأي مكانٍ لم تطأه ركائبي
يقول: أي مكان لم أسحب فيه ذوائبي عرصاته؟! ولم أجر فيه ذيول الصبا والعز، وأي موضع لم تطأه إبلي؟ إما غزواً للأعداء، أو مدحاً للملوك. ومثله للنميري:
وفي كل أرضٍ للنميري منزلٌ ... وفي كل أرضٍ للنميري صاحب
كأن رحيلي كان من كف طاهرٍ ... فأثبت كوري في ظهور المواهب
يقول: لم يبق في الدنيا موضع إلا قصدته، حتى كأن خروجي من ظهر كف طاهر، وكأن رحلي مشدودة في ظهور مواهبه! فهي تسيرني شرقاً وغرباً.
يعني: أن مواهبه تصل إلى كل أحد، كما بلغت أنا كل موضع، فكأني راكب على ظهر مواهبه، ملتمساً من كفه.
فلم يبق خلقٌ لم يردن فناءه ... وهن له شربٌ ورود المشارب
الشرب: النصيب من الماء. والمشارب: موارد الماء. والكناية في يردن: للمواهب. وفي له: للخلق. وتقديره: فلم يبق خلق لم يردن فناءه ورود المشارب، وهن له شرب.
يقول: لم يبق أحد من الناس إلا والمواهب وردت فناءه، كما يرد الناس المشارب، وهذه المواهب شرب للخلق، ومع ذلك ترد أفنيته الناس، والعادة أن الناس يردون المشارب فيسقون، ولكن مواهبه شربٌ لكل أحد يرد عليه، لا يحوجه إلى أن يقصده المستسقي، وقيل: الهاء في له: للممدوح. يعني: أن المواهب شرب له ينتفع به، كما ينتفع بالماء وارده. وانتفاعه به وهو الدعاء له والثناء عليه.
فتى علمته نفسه وجدوده ... قراع الأعادي وابتذال الرغائب
الرغائب: جمع رغيبة وهو المال المرغوب فيه.
يقول: إن نفسه علمته مضاربة الأعداء والأبطال، وابتذال الأموال، وعلمه هاتين الخصلتين أيضاً آباؤه الكرام، وأجداده العظام وإن مجده وشرفه وسخاءه وشجاعته، ليست بطارئة عليه بل موروثة له.
فقد غيب الشهاد عن كل موطنٍ ... ورداً إلى أوطانه كل غائب
يقول: إن سخاءه انتشر في الناس، فدعا المقيم في وطنه إلى تركه وقصده، وأغنا كل وارد إليه، فرده إلى وطنه برفده. وقابل الشهاد، وهو جمع الشاهد، وأراد به الحاضرين. بقوله: كل غائب وهو واحد، لأنه في معنى الجمع وأراد به الغائبين.
كذا الفاطميون الندى في بناتهم ... أعز امحاءً من خطوط الرواجب
الرواجب: بطون مفاصل الأصابع. الواحد رجبة. وقيل: هي عصبة الأصابع. وروى: أشد امحاءً وأعز امحاءً أي أشد امتناعاً.
يقول: كل من كان من ولد فاطمة مجبول على الجود فلا ينمحي عز أصابعهم، كما تنمحي الرواجب عن الأصابع، بل هي أشد وأمنع.
أناسٌ إذا لاقوا عدىً فكأنما ... سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب
يقول: هم أناس إذا لاقوا أعداءهم في الحرب، كان سلاح أعدائهم ودرعهم غبار خيلهم التي ركبوها، فسلاحهم ودروعهم لا ترد عنهم ولا تمنعهم، كما لا يمنعهم الغبار.
وقيل: معناه إنهم إذا لقوا أعداءهم كان أمضى سلاحهم، إثارة الغبار في الهزيمة والهرب يعني أنهم إذا هربوا منعوا أنفسهم من الهلاك كما يمنعوها بالسلاح.
رموا بنواصيها القسي فجئنها ... دوامي الهوادي سالمات الجوانب
الهوادي: الأعناق. والهاء في نواصيها: للسلاهب. وفي جئنها: للقسي.
يقول: رموا بنواصي خيلهم القسي فوصلن إلى القسي داميات الأعناق بالسهام التي وقعت عليها قبل وصلوهن إلى القسي، وأصحابها لم يستدبرن، ولم يعرضن بل مضين قدماً إليهم، وسلمت جوانبهن وأعطافهن. وروى: سائلات الجوانب أي بالعرق.
أولئك أحلى من حياةٍ معادةٍ ... وأكثر ذكراً من دهور الشبائب

يقول: إنهم في قلوب الناس أحلى من الحياة التي عادت بعد ذهابها، وإن ذكرهم عند الناس، أكثر من ذكرهم لأيام الشباب.
نصرت علياً يا ابنه ببواترٍ ... من الفعل لا فلٌّ لها في مضارب
يقول: قد فعلت من المكارم ما دل على كرم أبيك، فكأن ذلك كالنصرة له، وهذه السيوف البواتر من الفعل ليس في مضاربها فل. وقيل: أراد بذلك أنك ملت إليه بشبهك له. يقال: نصرت له بني فلان أي أتيتها وقصدتها.
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوك وإحدى مالكم من مناقب
يقول: أعظم آيات التهامى كونه أباك، ولكم مناقب كثيرة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم جدك وأباك إحدى تلك المناقب.
وهذا في الظاهر يوجب تفضيله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن جنى أن أبا الطيب: كان يتعسف في الاحتجاج له والاعتذار بما لست أراه مقنعاً، وأعرضت عن ذكره.
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي يغني كرام المناصب؟
النسيب: ذو النسب الكريم. والمناصب جمع منصب والمنصب: الأصل.
يقول: إذا لم يكن الرجل كريماً في نفسه وفعله، لم ينفعه كرم أصله.
وما قربت أشباه قومٍ أباعدٍ ... ولا بعدت أشباه قومٍ أقارب
يقول: لا يغني تشابه الخلق إذا تباعدت الأفعال، ولا يضر فقد التشابه في الخلق، إذا وجد التشابه في الأفعال الشريفة الكاملة.
إذا علويٌّ لم يكن مثل طاهرٍ ... فما هو إلا حجةٌ للنواصب
النواصب: معادون لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
يقول: كل علويٍّ لا يشبهه من أولاده، فهو حجة للنواصب؛ لأنهم يتمسكون به.
يقولون: تأثير الكواكب في الورى ... فما باله تأثيره في الكواكب
يقول: إن الناس يزعمون أن الكواكب تؤثر في الخلق، فتسعد قوماً وتنحس آخرين! وهذا الممدوح يؤثر في الكواكب ويصرفها على مراده، ولا تقدر الكواكب على منعه منه، ولأنه علاها فجعلها معلوة بعد أن كانت عالية على كل شيء.
وقيل: إن تأثيره في الكواكب هو إثارة الغبار بخيله في غزواته حتى لا تظهر النجوم ويزول ضوء الشمس فتطلع الكواكب بالنهار.
علا كتد الدنيا إلى كل غايةٍ ... تسير به سير الذلول براكب
الكتد والكتد: أعلى الكتف. وقيل: العنق.
يقول: علا كتد الدنيا فهي تسير به إلى كل غاية، كما يسير الجمل الذلول، والفرس.
وحق له أن يسبق الناس جالساً ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
جالساً: حال من الضمير في يسبق. غير: حال من الضمير في يدرك.
يقول: حق للممدوح أن يسبق الناس جالساً، بما قد اجتمع فيه من الفضائل والمناقب، وأن يدرك من غير سعي ما لا يدركه أحد.
ويحذى عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب عرانين نصب لأنه مفعول ثان ليحذى. والمفعول الأول ضمير الممدوح.
يقول: حق له أن يجعل أنوف الملوك نعلاً لقدميه! وكأن ذلك أجل مرتبة لها، وأعز مكاناً؛ لأنها تتشرف بشرفه.
يدٌ للزمان: الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب
الجمع: مبتدأ، ويدٌ خبره. وهي النعمة.
يقول: جمع الزمان بيني وبينه أي الممدوح، فهذه نعمة للزمان علي، لأنه فرق بيني وبين نوائب الدهر.
هو ابن رسول الله وابن وصيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
يقول: هو يشبه رسول الله، وعلياً، فعلاً وفضلاً، ولم أقل ذلك من جهل، ولكن عن تجربة وعلم.
يرى أن ما ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب
ما: الأولى نافية. والثانية: بمعنى الذي، واسم أن: محذوف. والتقدير: أنه ليس الذي بان منك لضارب، بأقتل مما بان منك لعائب.
يقول: هو يرى أنه ليس ما ظهر منه لحد السيف، بأقرب إلى القتل مما ظهر منه للعائب أن يعيبه. أي أن القتل أسهل عنده من العيب! والعيب أشد من القتل ومثله:
فتىً يتقي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله في الكتائب
روى: أباره وأباده: أي أهلكه.
يقول لماله الذي قد فرقه في العطاء: تعز على إهلاكه إياك؛ فهكذا يفعل في الكتائب ويبرزها.
لعلك في وقتٍ شغلت فؤاده ... عن الجود أو كثرت جيش محارب

يقول: إنما أبادك يا مال؛ لأنك ربما حسنت عنده الإمساك، وشغلته بالعدو عن الجود، وأكثرت جيش عدوه بالاستعانة بك.
حملت إليه من لساني حديقةً ... سقاها الحجي سقى الرياض السحائب
شبه قصيدته بالحديقة، لأنها تجمع بديع المعاني، وغرائب الألفاظ، كما تجمع الحديقة من الأثمار والأنوار.
وتقدير البيت: سقى السحائب الرياض حر السحائب، بإضافة السقي إليها، وفصل بين المضاف والمضاف إليه.
يقول: حملت إليه حديقةً من المدح، سقاها العقل، كما يسقي السحاب الروض؛ وذلك لأنه بالعقل يرتب مثل هذا الترتيب وبه يستخرج مثل هذه المعاني.
فحييت خير ابنٍ لخير أبٍ بها ... لأشرف بيتٍ من لؤي بن غالب
خير: نصب على المنادى المضاف، أو على الحال، وروى: فحييت أي حييت أنا خير ابن. فنصبه على المفعول به. والضمير في بها: قيل: للحديقة التي هي القصيدة، أي حييت بهذه القصيدة خير ابن، وقيل: الضمير للأرض، وإن لم يجر لها ذكر: أي خير ابن لخير أب بهذه الأرض.
يقول: حييت بهذه القصيدة خير ابنٍ، أبوه خير أبٍ، وبيته لي لؤي بن غالبٍ، أشرف بيت؛ لأنه من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد أفضل منه، فكأنه قال: هو أشرف الناس.
وكانت لأبي الطيب حجرة تسمى الحمامة، ولها مهر يسمى الطخرور. فأقام الثلج على الأرض بأنطاكية، وتعذر الرعي على المهر فقال يصف تأخر الكلأ عنه:
ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرة العوائق
المروج: جمع مرج، وهو كل موضع لا ينقطع عنه العشب والماء. والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان ذو الحائط. والخلا: النبات الرطب، وهو فاعل يشكو ومفعوله كثرة. والعوائق: جمع عائق وهي الموانع.
يقول: أي شيء للمراعي والبساتين؟! فإن نباتها يشكو الموانع.
أقام فيها الثلج كالمرافق
يعقد فوق السن ريق الباصق
يقول: قد لازم هذه المروج والحدائق الثلج ملازمة المرافق لرفيقه، فاشتد البرد وعقد الثلج ببرودته ريق الباصق فوق سنه يجمده. يعني: لو أراد الإنسان أن يبصق ما أمكنه! بل وجد بصاقه معقوداً فوق سنه.
ثم مضى لا عاد من مفارق
بقائدس من ذوبه وسائق
يقول: أقام الثلج فيها مدة ثم مضى، فلا رده الله من مفارق، وجعل لذوبانه قائداً وسائقاً. على سبيل الاستعارة.
يعني: من سرعة ذهابه بعد إقامته مدة كأن قائداً يقوده وسائقاً يسوقه؛ لأن السائق والقائد إذا اجتمعا كان أبلغ في ذهابه، وجعل ابتداء الذوب قائداً وانتهاءه سائقاً وقيل القائد المطر، والسائق الريح.
كأنما الطخرور باغي آبق
يأكل من نبتٍ قصيرٍ لاصق
الطخرور: اسم مهر لأبي الطيب، كان ينتقل من مكان إلى مكان في طلب العشب، فهو يأكل من نبت قصير لاصق بالأرض.
كقشرك الحبر من المهارق
أروده منه بكالسوذانق
المهارق: جمع المهرق، وهو الصحيفة المصقولة، وهو فارسي معرب. أصله: مهرة كردة. والسوذانق: الشاهين. وقيل: الصقر. وقوله أروده: أي أطلبه. وقيل: أراد أرود فيه: أي أذهب وأجيء في طلبه، والهاء: للنبت وفي منه للمهر. والكاف: اسم. أي بمثل السوذانق يقول: كأن المهر حين يرعى يقشر حبراً من قرطاس، وأنا أطلب هذا النبت من هذا المهر بمهر يشبه السوذانق في حدته وذكائه وفطنته ومضائه.
بمطلق اليمنى طويل الفائق
عبل الشوى مقارب المرافق
مطلق اليمنى: أي ليس في يده اليمنى بياض. وقيل: يمناه بيضاء. والفائق: موصل الرأس والعنق، وإذا طال ذلك الموضع طالت عنقه. والعبل: الضخم. والشوى: القوائم. وقوله: مقارب المرافق: أي مرافقة متقاربة. وقيل: إحدى المرفقين تداني الأخرى. وقيل تشبه إحداهما الأخرى.
رخو اللبان نائه الطرائق
ذي منخرٍ رحبٍ وإطلٍ لاحق
اللبان: الصدر.
يقول: إن جلد صدره قد استرخى على صدره، وهو محمود في الخيل. ونائه: روى بالهمزة وهو العالي، من ناه نوها، ونوهته أنا: أي رفعته. وروى بالباء: وهو الشريف من قولهم: نبيه. والطرائق: الأخلاق. ويستحب في المنخر السعة؛ لئلا يحتبس النفس. والإطل: الخاصرة. ولاحق: أي ضامر.
محجلٍ نهدٍ كميتٍ زاهقٍ
شادخةٍ غرته كالشارق

محجل: أي في قوائمه بياض. ونهد: أي عالٍ مرتفع الشخص. كميت: أي أحمر اللون أسود القوائم والفرق. زاهق: أي سمين، وقيل هو المتوسط بين السمين والهزيل. والغرة الشادخة: التي تغشى الوجه من الناصية إلى الأنف. والشارق: الشمس. شبه بياض وجهه بالشمس حسناً وضياء.
كأنها من لون في بارق
باقٍ على البوغاء والشقائق
وروى: كأنه إلى المهر، وكأنها إلى الغرة. والبارق: السحاب ذو البرق.
شبه غرته بالشمس، ثم شبه لون المهر بالسحاب الذي فيه ضوء البرق وهو يكون مائلاً إلى الكميت. والبوغاء: التراب الدقيق. والشقائق: جمع شقيقة وهي أرض تنشق بين الرمال، تنبت الشجر والعشب. وقيل: أرض فيها حصاً ورمل. يعني أن لونه باقٍ سواء سرت في السهل أو في الجبل، وفي الحر أو في البرد. وقيل: معناه أنه صبور على الشدائد؛ لأنه معود مدرب.
والأبردين والهجير الماحق
للفارس الراكض منه الواثق
الأبردين: الغداة والعشي. والهجير: الحر الشديد، عند انتصاف النهار. والماحق: الذي يمحق كل شيء؛ لشدة الحر. أي يذيبه ويهلكه.
يعني: أنه صبور على الكد، لا يتعبه السير في الجبل والسهل، ولا يضره معاقبة الحر والبرد. ثم بين أن الفارس الواثق بنفسه في الفروسية، إذا ركضه خاف منه.
خوف الجبان في فؤاد العاشق
كأنه في ريد طودٍ شاهق
ثم إن الفارس الواثق بفروسيته، إذا ركبه وركض به، يحصل له خوف العاشق؛ وذلك لأن العاشق قلبه مضطرب، فإذا حله خوف الجبان مع اضطرابه يكون خوفاً على خوف.
وقيل: معناه أنه يخاف منه وهو يعشقه ويشتهي ركوبه. ريد الجبل: حرفه الثاني منه. والطود: الجبل. الشاهق: العالي.
يشأى إلى المسمع صوت الناطق
لو سابق الشمس من المشارق
يشأى: أي يسبق، والمسمع: الأذن وفي في قوله: في ريد طود بمعنى: على.
يقول: كأن الفارس على حرف جبل عالٍ؛ لخوفه منه.
شبه المهر بالجبل، ثم قال: إنه لو سابق صوت ناطق لوصل إلى أذن السامع قبل وصول صوت الناطق إليه. وقيل: أراد: أن الناطق إذا دعا هذا المهر أسرع كالصدى، حتى كأنه يسبق نطق الناطق في جبل عالٍ.
وقيل: معناه أنه يسبق إلى أذن الصيد صوت الفارس الذي ينطق على ظهره أي يلحقه قبل بلوغه هذا الصوت، ثم قال: لو سابق هذا المهر الشمس من شرقها لسبقها إلى الغرب.
جاء إلى الغرب مجيء السابق
يترك في حجارة الأبارق
آثار قلع الحلى في المناطق
مشياً وإن يعد فكالخنادق
الأبارق: جمع أبرق، وهو أرض يخالطها حجارة، وقيل: أكمة فيها طين وحجارة، وقيل: جبل فيه حجارة سود وبيض.
شبه آثار حوافره في الأرض الصلبة إذا مشى بآثار قلع الحلى من المنطقة؛ لأنه يكون مدوراً، شبه حافر المهر به لتدويره، وبين أنه إنما يؤثر في الأرض مثل هذه الآثار إذا كان ماشياً، فأما إذا عدا عدواً فإنه يشقها شقاً كالخنادق! وقوله مشياً مصدر واقع موقع الحال أي ماشياً.
لو أوردت غب سحابٍ صادق
لأحسبت خوامس الأيانق
قوله: غب سحاب. أي بعد سحاب صادق بالمطر. وقوله: أحسبت أي كفت. وخوامس الأيانق: هي الإبل العطاش التي لم ترد الماء خمسة أيام.
يقول: لو أوردت هذه الخنادق التي حصلت من حوافره، بعد سحاب صادق بالمطر لكفت هذه الخنادق الإبل التي لم تشرب الماء خمسة أيام. أي أن الماء الذي يحصل في هذه الخنادق يرويها على عطشها!.
إذا اللجام جاءه لطارق
شحا له شحو الغراب الناعق
قوله لطارق: أي لأمر طارق، أي جاء ليلاً.
يقول: إذا جئته باللجام ليلاً لأمر حادث من إغرة أو إغاثة، فتح فمه كما يفتح الغراب فمه حين ينعق.
كأنما الجلد لعرى الناهق
منحدرٌ على سيتي جلاهق
لكل ذي حافر ناهقان: وهما عظمان أو عرقان يكتنفان قصبة الأنف ويستحب ألا يكون عليه لحم. والجلاهق: قوس البنادق. والناهق: قيل هو العظم الشاخص في حنك الفرس عند مجرى الشدق.
شبه جلده على ناهقه، وقد عري من اللحم بمتن قوس البندق لصلابته وزوال رخاوته.
بذ المذاكي وهو في العقائق
وزاد في الساق على النقانق
بذ: أي غلب، وسبق الخيل القرح، التي تمت أسنانها. والعميقة: الشعر للمولود، الذي ولد وهو عليه. والنقانق: جمع نقنق وهو الظليم

يقول: إنه سبق الخيل القرح! وهو بعد في شعره الذي ولد فيه، وهو في العقيقة: في بطن أمه لم ينفصل بعد وهذا كقول الشاعر:
قد سبق الأبلق وهو رابض
فكيف لا يسبق وهو راكض؟!
ثم قال: إنه زاد في طول الساق على الظليم. وهو محمود في الخيل وتوصف به.
وزاد في الوقع على الصواعق
وزاد في الحذر على العقاعق
يقول: إن الصوت من وقع حوافره يزيد على وقع الصاعقة النازلة عند صوت الرعد! وقيل: أراد أن صوت وقع حوافره أشد من صوت الرعد، وإن زاد في الحذر على العقعق الذي ليس في الطير أحذر منه!
وزاد في الأذن على الخرانق
يميز الهزل من الحقائق
الخرانق: جمع خرنق، وهو الأنثى من ولد الأرنب. ولا شيء أسمع منها، وقيل إن أذنه زائد الطول.
ثم بين أنه يميز الهزل من الجد بحدة سمعه وذكاء فؤاده إذا ركبه.
وينذر الركب بكل سارق
يريك خرقاً وهو عين الحاذق
يريد: أنه لا ينام الليل، فمتى جاء السارق أصحابه صهل حتى ينبههم! كأنه حارس، ويريك من نشاطه وعدوه ما يوهم أنه أخرق وهو حاذق.
يحك أنى شاء حك الباشق
قوبل من آفقةٍ وآفق
الباشق: يكسر ويفتح، وها هنا لا يجوز إلا بالكسر.
يقول: إنه للين مفاصله وطول عنقه، يحك من جسده أي موضع شاء، كالباشق. والآفق: الفاصل الشريف من كل شيء. والآفقة: مؤنثة.
يعني أنه كريم من قبل أبيه وأمه وهو كريم الطرفين، قد قابلت أباؤه أمهاته في الكرم.
بين عتاق الخيل والعتائق
فعنقه يربي على البواسق
العتاق: جمع عتيق. والعتائق: جمع العتيقة. يعني: أنه كريم الآباء والأمهات.
ثم يقول: إن عنقه يزيد على النخل الطوال.
وحلقه يمكن فتر الخانق
أعده للطعن في الفيالق
يقول: إن حلقه لرقته يمكن فتر الخانق منه، فيمكنه أن يقبض عليه بفتره، ثم قال: هو عده لي، للطعن في الفيلق: وهو العسكر العظيم.
والضرب في الأوجه والمفارق
والسير في ظل اللواء الخافق
يقول: هو عدة لي أقاتل عليه أعدائي، وأسير عليه تحت اللواء الخافق: وهو المتحرك المضطرب.
يحملني والنصل ذو السفاسق
يقطر في كمي إلى البنائق
السفاسق: الطرائق في متن السيف كالسراب، وبنائق القميص: الخرق التي تلف البدن من جانبيه، وهي الدخرصة.
يقول: يحملني هذا المهر والسيف يقطر من دماء أعدائي فيختضب كمي وبنائقي.
وقيل: أراد أنه يحملني وأنا متقلد بسيفي، فهو يتحرك بين كمي وبنائقي
لا ألحظ الدنيا بعيني وامق
ولا أبالي قلة المرافق
يقول: يحملني وأنا على هذه الحالة، إذا ركبته في الحرب لم أرغب في الحياة، فأطرح نفسي على الموت ولا أبالي بقلة الأرفاق.
وقيل: هذا منقطع. أي لا أبالي بالدنيا! لعلمي أنها غدارة، ولا أبالي بقلة الأصحاب لعلمي بنفاقهم.
أي كبت كل حاسدٍ منافقٍ
أنت لنا وكلنا للخالق
يقول: يا مهري الذي يكبت كل حاسد كمداً، أنا أملكك والله يملك جميع الخلق.
وقيل: أراد الممدوح أي أنت ملجأنا وكلنا نفتقر إلى الله تعالى.
وكبست أنطاكية، فقتل المهر والحجرة فقال يندب مهره وفرسه:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ ... فلا تقنع بما دون النجوم
غامرت: أي طرحت نفسك في غمرة الحرب.
يقول: إذا غررت بنفسك في شرف طالباً له، فلا تطلب إلا أعظمه، وحدث نفسك بأنك تنال النجوم بعزمك.
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيم
يقول: إن طعم الموت في الحالين لا يختلف، فاختر لنفسك أشرف الأمور وأحسنها.
ستبكي شجوها فرسي ومهري ... صفائح دمعها ماء الجسوم
شجوها: نصب على المصدر، ويكون من الشجو، وقيل: نصب على المفعول له. كأنه جعل الشجو علة للبكاء، وفاعل تبكي: الصفائح ومفعوله فرسي.
يقول: سأشفي نفسي بقتل من قتلهما، فتجري دماء سيوفي كأنها دمع باكٍ على فرسي ومهري.
قربن النار ثم نشأن فيها ... كما نشأ العذارى في النعيم
يقول: إن هذه السيوف قد جعلت النار غذاء لها، وأراد أنها نشأت في النار واكتسبت منها جوهراً وصفاءً، كالعذارى إذا ربين في النعيم.
وفارقن الصياقل مخلصاتٍ ... وأيديها كثيرات الكلوم

يقول: إن الصياقل قد أخلصوها صقالاً، وإنها بحدة شفارها قطعت أيدي صياقلها عند صقلها، وتجربة حدها، فكيف يكون حالها مع غيرهم؟!
يرى الجبناء أن العجز عقلٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
يقول: إن الجبان يخدعه لؤم طبعه، ويصور له أن الاحتراز من الحرب رأي وعقل، وليس كما ظن، وإنما خدعه لؤم طبعه عما في الشجاعة من العز بالفخر بها.
وكل شجاعةٍ في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
يقول: الشجاعة محمودة، وتغني صاحبها وتنفعه، خاصة إذا كان صاحبها حكيماً عاقلاً مدبراً؛ لأنه يستعملها في وقتها ومحلها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
يقول: إن الشجاعة من الأخلاق الكريمة، وإنما يعيبها الجبان؛ لضعف قلبه، كما أن كثيراً من الناس يعيب الأشياء التي لا يلحقها عيب، لجهله بها. وقيل: إنه منقطع، أي كم إنسانٍ يعيب قولاً صحيحاً لا آفة فيه، وإنما يكون من فهم سقيم، حيث لا يتصور جودة الكلام وصحته.
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم
يقول: إن الآذان تدرك الكلام فيعلمه الإنسان، ويأخذ منه بقدر خاطره وعلمه، ويتصوره على حسب قريحته.
وقال يهجو ابن كيغلغ وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية سنة ستٍّ وثلاثين وثلاث مئة، فنزل بطرابلس، وبها إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان رجلاً جاهلاً، وكان يجالسه ثلاثة من بني حيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة. فقالوا له: ما يجب أن يتجاوزك ولم يمتدحك، وإنما يترك مدحك استصغاراً لك، وجعلوا يغرونه به، فراسله إسحاق وسأله أن يمدحه، فاحتج أبو الطيب بيمينٍ عليه: أنه لا يمتدح أحداً إلى مدة حدها، فعاقه عن سفره. ينتظر انقضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطرق وصبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يوماًن فقال أبو الطيب يهجوه وهو بطرابلس.
قال: ولو فارقته قبل قولها لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وخف عن لبنان، خرج كأنه يسير فرسه، وسار إلى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلاً ورجلاً، فأعجزهم وظهرت القصيدة واشتهرت وهي:
لهوى القلوب سريرةٌ لا تعلم ... عرضاً نظرت وخلت أني أسلم
قوله: عرضاً أي من غير قصد. يقول: للهوى سر لا يعرف لطفه ودقته، فلا يوقف عليه إلا بعد ابتلاء به. ونظرت من غير قصد وما ظننت أن الظن يوقعني في حبائل الهوى، بل قدرت أني أسلم ولا أهلك فخاب الظن الذي ظننته.
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرق منك وأرحم
هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه شبب بامرأة، ومدح أخاها بالشجاعة. إشارة إلى أنها ممتنعة لا يقدر على الوصول إليها. يقول: يا أخت الأخ الذي يخالط الأقران في الحرب بشجاعته، إن أخاك في الحرب إذا لقي عدواً أرحم منك وأرق على قربه منك علي، فأنت قد فعلت بالمحب بقلة رحمتك له، ما لا يفعله أخوك في الحرب حرب الأقران.
والوجه الثاني: أنه يهجو أخا المرأة المشبب بها وفيه قولان: أحدهما: أنه يتهمه بإتيان أخته! ومعناه: أن أخاك أرق منك، ثم إن عند خلوته بك، أرحم منك على العاشق.
والقول الثاني: أنه يرمي أخاها بالجبن وضعف القلب؛ لأنه مع وصفه بأنه معتنق الفوارس في الوغى، فإنه أرق قلباً من هذه المرأة مع رقة قلوب النساء، فمن زادت رقته على رقة قلوبهن فهو في نهاية الضعف وقوله: ثم إشارة إلى موضع الحرب، أي أنه أرق قلباً من النساء في الضعف.
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم
يقول: إن أاك ينظر إليك مع العفاف لأنه يرى رأي المجوس! وهذا قول ابن جنى.
وقوله: مع العفاف يمنع من ذلك، فإنه ذكر ما لا يصح، ويمكن أن يقال: إنه صحيح ومعناه: أنه على رأي المجوس، لأن المجوسي يرى إتيان أخته من العفاف، لأنه يستبيحه! فهو صحيح من هذا الوجه هذا على الوجه الثاني.
وأما على الوجه الأول: فمعناه أنك قد فتنت أخاك بحسنك فهو ينظر إليك ويتمنى أن يكون دينه دين المجوس، وأنك محللة له، فكأنه يرى رأى المجوس في نكاح الأخوات ومثله لأبي تمام:
بأبي من إذا رآها أبوها ... شغفاً قال: ليت أنا مجوس
راعتك رائعة البياض بعارضي ... ولو أنها الأولى لراع الأسحم

راعتك: أي أفزعتك وروى: راعية الشيب، وجمعها رواعٍ. وروى: رائعة، وهي الفاعل من راعت. وقيل: هي منتشرة كانتشار الغنم في المرعى. والأسحم: الأسود.
يقول: راعتك الشعرات البيض التي انتشرت في عارضي، ولوكان الشعر يبدو أبيض ثم يسود، لخفت من السواد خوفك من البياض، والذي راعك إنما هو علو سني، لا البياض.
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا ... فالشيب من قبل الأوان تلثم
يقول: لو قدرت لكشفت البياض عن شعري، حتى أريك صباي، وتعلمين أنت أني شبت قبل الأوان، والشيب قبل أوانه بمنزلة أن يتلثم الإنسان بعمامة بيضاء؛ لأنه لا يورث ضعفاً ولا يوهن قوة، فإنه يكره الشيب لهذا المعنى.
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
يقول: جربت حوادث الدهر، فرأيت سواد الشعر لا يمنع من الموت، وبياضه لا يقرب منه، وقد يموت الشاب ويعيش الشيخ.
والهم يحترم الجسيم نحافةً ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
يقول: إن الهم يذيب الجسم، وينقصه حتى يموت الجسم نحافة، وتبيض ناصية الصبي، ويهرم قواه ومعناه: أن الشيب حصل لي من الهم.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
يقول: العاقل وإن كان في النعيم، فإنه لا يتهنأ به؛ لعلمه بزواله، والجاهل وإن كان في الشقاوة، فهو يتلذذ؛ لجهله بعواقبه.
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلقٌ ... ينسى الذي يولي وعافٍ يندم
يولي: أي يعطي.
يقول: إن الناس تنكر مراعاة الحقوق والذمم، فالمنعم عليه بإطلاقٍ من الأسر، ينسى يد المنعم عليه فلا يشكر نعمه، والعافي من الإساءة والمنعم على الغير، يندم على ما فعله من النعم.
لا تخدعنك من عدوٍّ دمعةٌ ... وارحم شبابك من عدوٍّ ترحم
أراد: ترحمه، فحذف الهاء.
يقول: إذا قدرت على عدوك فاقتله ولا يخدعنك بكاؤه: وارحم شبابك بذل عدوٍّ ترحمه!
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
يقول: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تحميه بالسيف.
قال ابن جنى أشهد بالله لو لم يقل إلا هذا البيت لوجب تقدمه:
يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقل كما يقل ويلؤم
من في موضع النصب؛ لأنه مفعول يؤذي.
يقول: إن القليل الحقير اللئيم يؤذي بطبعه، من لا يقل كقلته ولا يلؤم كلؤمه.
والظم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
روى: في خلق، وهي جمع خلقة، ويريد الطبيعة. وروى في خلق، وهو واحد الأخلاق.
يقول: إن الإنسان طبع على الظلم ومن لا يظلم فلعلةٍ تمنعه من ذلك: إما عجز أو خوف، فلو خلي وطبعه لاستعلى على من هو دونه.
يحمى ابن كيغلغ الطريق وعرسه ... ما بين رجليها الطريق الأعظم
أقم المسالح فوق شفر سكينةٍ ... إن المنى بحلقتيها خضرم
الخضرم معناه ظاهر. والمسالح: أصحابه الذين يحفظون الطريق.
يقول: أقم المراصدين فوق امرأتك التي سار الناس للفجور بها، حتى اجتمع هناك من المنى بحر غزير.
وارفق بنفسك إن خلقك ناقصٌ ... واستر أباك فإن أصلك مظلم
يقول: لا تتعرض لمناوأتي فإنك ناقص الخلق، ولا تظهر أباك، فإنك مدخول النسب لا يوقف عليه.
واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم
يقول: احذر معاداة الرجال، فإنما تقوى على استدخال كمر العبيد والإقدام عليها، وهذا رمى له بالأبنة.
وغناك مسألةٌ، وطيشك نفخةٌ ... ورضاك فيشلةٌ، وربك درهم
يقول: إن مالك مكتسب بالسؤال، وإن طيشك: أي خفتك. نفخة: أي لو نفخ عليه لطار، لضعف قلبه.
وقيل: أراد أن خفتك في المورد فلا تأثير له، وأنه إذا غضب ينكح فيرضى وأنه بخيل يعبد الدرهم ويعظمه كأنه ربه.
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
يقول: من البلية عذل من لا ينصرف عن الجهل، ومخاطبة الجاهل الذي لا يفهم ما يفهم.
في ذكر أمك للزناة دلالةٌ ... فأحب من ذكر ابنها من يشتم
يقول: إن ذكرت أمك استدل الزناة بذكرها عليها، وأحب الناس إليها من يشتم ابنها ويقول: يابن الزانية؛ ليدل الزناة عليها.
يمشي بأربعةٍ على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراءٍ يلجم

العلج: القوي البنية المعالج للتعب. وقوله: بأربعة أراد العضو. وينبغي أن يقول: إنه يمشي تحت العلوج إلى خلفه؛ حرصاً على استيفاء ما يدخل فيه! ولكن لجامه في خلفه: أي في إسته.
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفةٌ أو فت فيها حصرم
مطروفة من قولهم: طرفته، أي ضربت طرفه.
يقول: إن جفونه لا تستقر، فكأنه أصيب بشيء من رمد ونحوه، أو عصر فيها حصرمٌ أشار بهذا إلى أن في عينه آفة.
وقيل: أراد أنه يحرك أجفانه لاستدعاء العلوج للمعنى الذي رماه به أولاً.
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطم
يقول: إذا نطق ازداد حقارة، فكأنه قرد حين يضحك، أو عجوز لطمت في مناحة وبكت. ولا يضحك شيء من الحيوانات إلا الإنسان والقرد.
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يدٍ يتعمم
قوله: يقلى. أي يبغض، وفاعله: قذاله. ومفارقة الأكف: مفعوله.
يقول: إنه تعود أن يصفع، فقذاله: يكره مفارقة الأكف، حتى كأن الأيدي عمائم، لإحاطتها به.
وقيل: معناه لا يميل إلى مفارقتها. والقذال: مؤخر الرأس.
وتراه أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
يقول: هو حقير المنطق، فإذا تكلم زاد حقارة لعيه، ولكنه أكثر ما يكون كذلك في قوله: إذا وكد كلامه بقسم وأيمان.
والذل يظهر في الذليل مودةً ... وأود منه لمن يود الأرقم
الأرقم: ضرب من الحيات.
يقول: إن الذليل يظهر المودة لمن أذله؛ ليتقي شره، ولكن الأرقم أشد حباً منه لمن يحبه، إذا قدر عليه.
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
يقول: إن عداوة الساقط تدل على مباينة طبعه لطبعك فينفعك ومودته تدل على المناسبة فيضرك! وقيل: أراد أن عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل، فتلك العداوة ربما تتضمن منفعة وهذه الصداقة ربما تتضمن مضرة وشراً.
أرسلت تسألني المديح سفاهةً ... صفراء أضيق منك، ماذا أزعم؟!
صفراء: اسم أم المهجو، أو اسم امرأته. يعني: إنك تسألني المديح وما عسى أن أقول لك؟ وأنت أوسع منها!
أترى القيادة في سواك تكسبا ... يابن الأعير وهي فيك تكرم؟!
الأعير: تصغير الأعور.
يقول: إن غيرك يتكسب بالقيادة، وأنت تقود على أهلك وتعده تكرما! ومثله قول الآخر:
تراه من جوده ومن كرمه ... يحمل أضيافه إلى حرمه
فلشد ما جاوزت قدرك صاعداً ... ولشد ما قربت عليك الأنجم
شدما كقولك: نعما، وبئسما.
يقول: ما اشد ما جاوزت قدرك حتى سألتني أن أمدحك، وهو أبعد من النجوم، صاعداً نصب على الحال.
وأرغت ما لأبي العشائر خالصاً ... إن الثناء لمن يزار فينعم
قوله: أرغت. أي طلبت، وقيل: أملت إلى نفسك، وخالصاً نصب على الحال.
يقول: طلبت المديح الذي هو لأبي العشائر خالصاً، لأنه لا يستحقه إلا من ينعم على زائره، وهو أبو العشائر.
ولمن أقمت على الهوان ببابه ... تدنو فيوجأ أخدعاك وتنهم
الأخدعان: عرقان في العنق معروفان. وتنهم: أي تزجر.
يقول: إن الثناء لمن تقيم على بابه مهينا، كلما دنوت منه تزجر وتصفع، فكيف أمدحك وهذه حالك؟!
ولمن يهين المال وهو مكرمٌ ... ولمن يجر الجيش وهو عرمرم
العرمرم: الجيش الكثير. يمدح أبا العشائر. يعني: أنه يكرم نفسه بإهانة المال وهو يقود الجيش الكثير، يصفه بالكرم والشجاعة.
ولمن إذا التقت الكماة بمأزقٍ ... فنصيبه منها الكمي المعلم
المأزق: مضيق الحرب.
يقول: إن المدح يكون لمن يكون في مضيق الحرب، ويقتل كل شجاع معلم: أي له علامة.
ولربما أطر القناة بفارسٍ ... وثنى فقومها بآخر منهم
يقول: ربما طعن فارساً، فانعطفت قناته، فطعن بها آخر فقومها فيه كما تقوم الثقاف.
والوجه أزهر، والفؤاد مشيعٌ ... والرمح أسمر والحسام مصمم
يقول: يفعل ذلك بوجه أزهر وله رمح أسمر، وسيف مصمم قاطع يمضي في العظام.
أفعال من تلد الكرام كريمةٌ ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم
يقول: فعل كل أحدٍ على قدر أصله، وهو من قوله تعالى: " قل كلٌّ يعمل على شاكلته " .
ولقي أبا الطيب بعض الغزاة بدمشق، فعرفه أن ابن كيغلغ لم يزل يذكره في بلد الروم، فقال أبو الطيب يهجو ابن كيغلغ:

أتاني كلام الجاهل ابن كيغلغٍ ... يجوب حزوناً بيننا وسهولا
يقول: أتاني كلام هذا الجاهل، وتهدده لي من مكان بعيد، يقطع الجبال والمفاوز الذي بينه وبيني.
وقيل معناه: إن كلامه قد أتاني، وهو حينما تكلم كان يجوب حزون أرض الروم وسهولها. ويجوب: أي يقطع.
ولو لم يكن بين ابن صفراء حائلٌ ... وبيني سوى رمحي لكان طويلاً
صفراء: اسم أمه، ومعناه: يهددني ابن صفراء بوعيده! وأنا منه على بعد، فلو لقيته ولم يحل بيني وبينه إلا رمحي وحده، الذي أعتمد عليه وأدفعه به، لطال عليه الوصول إلي. فكيف وقد انضم إليه سائر أسباب القوة.
وقيل: معناه لو كان بيني وبينه من البعد مقدار رمحي لكان طويلاً عليه، فلا يمكنه أن ينالني. وقيل: إن صفراء كناية عن الأست والعرب تقول: ولد من أسته. فعلى هذا يكون رمياً له بالأبنة.
وإسحاق مأمونٌ على من أهانه ... ولكن تسلي بالبكاء قليلا
يقول: إن من أهانه وأساء إليه لم يخف غائلته؛ لأنه لا يقدر على شيء من النكير عند بلوغه إساءة من أساء إليه سوى التسلي بالبكاء.
وقد ذكره بالقبيح وكنى عنه بالبكاء وهذا غاية الحسن ومثله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
ولولا الذي في وجهه من سماجةٍ ... لنمت عليه بكرةً وأصيلا
وليس جميلاً عرضه فيصونه ... وليس جميلاً أن يكون جميلا
ويكذب، ما أذللته بهجائه ... لقد كان من قبل الهجاء ذليلا
يقول: نفسه لا جمال لها فيصونه عن الهجاء، ولا يستحق أن يكون جميلا، ثم يقول: زعم هذا الجاهل أني أذللته بهجائي فقد كذب في دعواه؛ لأني لم أنقص شيئاً من قدره بالهجاء، فإنه ذليل خامل لا قدر له.
وورد الخبر إلى مصر بأن غلمان ابن كيغلغ قتلوه بجبلة من ساحل الشام، فقال أبو الطيب يشمت به ويهجوه:
قالوا لنا: مات إسحاق. فقلت لهم: ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
يقول: بلغني موته، فقلت: قد أصاب دواء حمقه؛ فإن الأحمق ليس له دواء إلا الموت.
إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف ... أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خلق
يقول: إن حياته وموته سواء، فإن مات لا يحزن عليه أحد، ولم يشعر بموته لخموله، وإن عاش فلا نفع فيه، لأنه دميم الخلق سيىء الخلق، فليس له رواءٌ يملأ العيون، ولا خلقٌ يعطف عليه القلوب.
منه تعلم عبدٌ شق هامته ... خون الصديق ودس الغدر في الملق
قوله: دس الغدر في الملق أي يستر غدره في كلامه باللطف؛ ليتوصل به إلى الإيقاع بالغير.
يقول: إن عبده الذي قتله، منه تعلم الخيانة والغدر بالصديق، فحين رآه يخون أصدقاءه ويغدر بهم، اقتدى، به فقتله غدراً.
وحلف ألف يمينٍ غير صادقةٍ ... مطرودةٍ ككعوب الرمح في نسق
حلف: نصب عطفاً على قوله: دس الغدر وهو منصوب بتعلم ومطردة: أي متتابعة.
يقول: تعلم منه ألف يمين متتابعة، مثل كعوب الرمح على طريقة واحدة، فكان ذلك باعثاً له على قتله، فقتله ودفع عن نفسه قتله بالأيمان الكاذبة كما كان هو يفعل.
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنبٍ ... صفراً من البأس مملوءًا من النزق
النزق: الخفة والطيش.
يقول: في كونه قرداً ناقصاً؛ ليكون أعجب، وإنه مملوء من الخفة، وصفراً من الحلم والعقل والأدب.
كريشةٍ بمهب اليح ساقطةٍ ... ما تستقر على حالٍ من القلق
شبهه في خفته وقلقه بريشة ساقطة تهب عليها الريح.
تستغرق الكف فوديه ومنكبه ... وتكتسى منه ريح الجورب العرق
الفودان: جانبا الرأس.
يقول: إنه يكثر الصفع على جوانب رأسه ومنكبه، ويد من يصفعه تكتسب منه ريحاً منتناً مثل ريحة الجورب العرق! وفيه أنواع من الهجاء منها: قبح الخلقة، وصغر الجثة، وخبث الريح، ونتن الجسد، ومهانة النفس؛ حتى يصفعه كل أحد.
فسائلوا قاتليه: كيف مات لهم ... موتاً من الضرب أم موتاً من الفرق؟
وأين موقع حد السيف من شبحٍ ... بغير رأسٍ ولا جسمٍ ولا عنق؟!
موتاً نصب على المصدر.

يقول: سائلوا قاتليه. هل مات من ضربهم، أو خوفاً من الضرب؟! والشبح: الشخص. يقول: سائلوا الناس أي موضع أصاب السيف منه؟ فإنه ليس له جسم، لقصره وصغره، ولا رأس له، ولا عنق، حتى لا يجد السيف شخصه، ولكن الخوف قتله قبل أن يضرب منه السيف موضعاً!
لولا اللئام وشيءٌ من مشابهةٍ ... لكان ألأم طفلٍ لف في خرق
يقول: لولا أن في الناس المشابهة في اللؤم والخسة، لكان ألأم طفل لف في قماطٍ؛ لعجزه وصغر قامته.
والمشابهة: جمع الشبه على غير قياس.
كلام أكثر من تلقى ومنظره ... مما يشق على الآذان والحدق
يقول: إن أكثر الناس كلامه تمجه الآذان لثقله. وكذلك رؤيته مما تنكرها العين ويشق عليها. فله نظائر في الناس.
واجتاز ببعلبك فنزل على علي بن عسكر، وهو يومئذٍ صاحب حربها، فخلع عليه وحمل إليه وأمسكه عنده، اغتناماً لمشاهدته. وأراد أبو الطيب الخروج إلى أنطاكية فقال يعتذر من مفارقته:
روينا يا ابن عسكرٍ الهماما ... ولم يترك نداك بنا هياما
يقول: روينا أيها الممدوح بسحائب جودك، ولم يترك بنا هياماً: أي عطشاً.
وصار أحب ما تهدى إلينا ... لغير قلىً وداعك والسلاما
يقول: قد أفضت علي من برك ما كفاني، فليس شيء أحب إلي إلا الارتحال وتوديعك والسلام، وليس ذلك عن بغض ولا كراهة فيك، ولكن عن عذر اقتضى ذلك.
ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما
التفقد: التعهد. والموالي: المتتابع.
يقول: ولا أني أمللت إكرامك وتعهدك لأحوالي، ولا ذممت أياديك العظام، ولكن لعذر آخر أوجب طلب الإجازة.
ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافرٍ كره الغماما
يقول: إني في سؤال الإذن منك، كالمسافر الذي يكره المطر، وإن كانت فيه حياة البلاد والعباد، فلهذا كرهت المقام عندك.
قصائد أبي العشائر الحمدانيوقال يمدح أبا العشائر: الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي التغلبي وهي أول شعر في بني حمدان:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقةً في المآقي
المآقي: طرف العين مما يلي الأنف.
يقول لصاحبه: أحسبت هذه المرأة أنها لكثرة ما ترى من الدموع في عيون عشاقها أنه خلقة في عيونهم؟ فلهذا لا ترحمهم!
كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ... راءها غير جفنها غير راق
راءها: مقلوب رآها. وغير: الأولى نصب على الاستثناء، والثانية: على تفسير البيت الأول.
يقول: كيف ترحم هذه المرأة للباكين بسببها، لأنها ترى كل عين باكية غير راقية الدمع عنها، فهي تحسب أن ذلك خلقة، لأنها لم تر إلا باكياً سائل الدمع، واستثنى جفنها، فبين أن كل عين كذلك إلا عينها؛ لأنها لم تعشق أحداً فلا تجزع للفراق! وقال ابن جنى: إنها لا تبكي، لأنها لم تهجر نفسها.
وهذا البيت من بدائع أبي الطيب المتنبي.
أنت منا فتنت نفسك لكن ... ك عوفيت من ضنىً واشتياق
يقول: أنت منا أي من جملة العشاق، لكنك قد فتنت نفسك كما فتنا بحسنك! أي أنت عاشقة لنفسك كما نعشقك؛ لأن كل أحد يحب نفسك، غير أنك سلمت من ألم الوجد وطول المرض والاشتياق؛ لأن الإنسان لا يشتاق إلى نفسه فلا يتألم من حبها
حلت دون المزار، فاليوم لو زر ... ت لحال النحول دون العناق
حلت: أي منعت. والمزار: الزيارة.
يقول: منعتنا من الزيارة فنحلنا لذلك! وذابت أجسامنا، فلو أردت الآن وصلنا منع النحول من معانقتك.
إن لحظاً أدمته وأدمنا ... كان عمداً لنا وحتف اتفاق
يقول: نظر كل واحد منا إلى صاحبه عن تعمد منا، فاتفق في ذلك حتفي من غير قصد! وهذا من قولهم: رب حتفٍ في لحظة طرفٍ.
لو عدا عنك غير هجرك بعدٌ ... لأرار الرسيم مخ المناقي
عدا عنك: أي صرف. وبعدٌ: فاعله. وقوله أرار أي أذاب. والرسيم: هو سير شديد من سير الإبل. والمناق: جمع منقية: وهي السمينة التي في عظامها مخ.
يقول: إنما صرفنا عنك هجرك، ولو حال بيننا بعدٌ سوى الهجر لواصلنا السير إليك وهزلنا النوق بالسير، حتى يذوب بالسير مخ عظامها.
وقوله: لأرار الرسيم: أي لأذاب السير الشديد مخ المناق.
ولسرنا ولو وصلنا عليها ... مثل أنفاسنا على الأرماق
الأرماق: جمع الرمق، وهو بقية الحياة.

يقول: لو كان بيننا بعدٌ غير الهجر، لسرنا إليك ولواصلنا السير حتى تذوب أبداننا وتهزل رواحلنا فتكون في الخفة كأنفاسنا وتصير إبلنا مهزولةً وهذا من قول أبي الشيص.
أكل الوجيف لحومهم ولحومنا ... فأتوك أنقاضاً على أنقاض
ومثله قول الآخر
أنضاء شوق على أنضاء أسفارٍ
ما بنا من هوى العيون اللواتي ... لون أشفارهن لون الحداق؟
ما بمعنى التعظيم، أي: أي شيء؟ بنا من هذه العيون التي لون أشفارها في السواد، مثل لون أحداقها.
وهذا نهاية في الحسن كما ترى.
قصرت مدة الليالي المواضي ... فأطالت بها الليالي البواقي
قصرت: فعل المحبوبة. وقيل: فعل العين.
يقول: قصرت هذه المرأة علي مدة الليالي المواضي بالوصال الذي كان منها، وأطالت الآن لما هجرتني، الليالي البواقي.
وقوله: أطالت بها: أي قابلت قصر الليالي المواضي بطول الليالي البواقي فحصل طول هذه مكافأةً على قصر تلك.
وقيل: أراد طالت الليالي البواقي بسبب قصرها في المواضي، أي أن قصرها صار سبباً لطولها.
كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق
الإيراق: هو الإسهار. يقال: أرقه يؤرقه إيراقاً. مثل: أرقه يؤرقه توريقاً.
يقول: هذه المرأة تكاثر نائل الأمير؛ في إعطائها لنا السهر فتناهت في ذلك، كما أنه تناهي في إعطاء المال.
وقيل الإيراق: مصدر أورق الصائد إذا خاب. ومعناه: أنها تكاثرت في المنع، فمنعها مثل جوده.
ليس إلا أبا العشائر خلقٌ ... ساد هذا الأنام باستحقاق
طاعن الطعنة التي تطعن الفي ... لق بالذعر والدم المهراق
يقول: إنه يطعن الطعنة فتملأ هذه الطعنة قلوب الجيش، خوفاً ورعباً فكأنه طعن الفيلق وأرقا دمآءهم.
وقوله: ليس في البيت الأول مبتدأ وأبا العشائر خبره.
ذات فرغٍ كأنها في حشا المخ ... بر عنها من شدة الإطراق
ذات فرغ: جر لأنه بدل من الطعنة. وقد روي بالنصب: على الحال. والمخبر: بفتح الباء الذي أخبرته بخبر. وفرغ الدلو: مصب الماء منه. شبه الطعنة بالدلو لسعتها، أي أن الدم يسيل منها كما يسيل الماء من فرغ الدلو، ثم قال: لو أخبر مخبر إنساناً بصفتها لملأ قلبه ذعراً، حتى أطرق رأسه استعظاماً لها، حتى كأن الطعنة في حشا السامع بها.
ضارب الهام في الغبار وما ير ... هب أن يشرب الذي هو ساق
ما للنفي. يقول: إذا هاجت الحرب وارتفع الغبار يضرب رءوس الشجعان، ولا يخاف أن يشرب كأس الموت الذي يسقيه الشجعان.
فوق شقاء للأشق مجالٌ ... بين أرساغها وبين الصفاق
الشقاء: الفرس الطويلة القوائم، والذكر: أشق والأرساغ: جمع الرسغ، وهو موصل الكف في الذراع، والقدم في الساق. والصفاق: الجلد الرقيق تحت الجلد الظاهر من البطن في الإنسان والدابة.
واختلفوا في الأشق هاهنا.
ومعناه: أن يضرب الهام راكباً فرساً شقاء يجول تحت بطنها كما يجول المهر تحت بطن أمه. وقيل. أراد بالأشق: والد هذه الشقاء. ومعناه: أنه فوق فرس شقاء، لوالدها مشابة بها، وهو معنى المجال في أرساغها وصفاقها، أي قوية الأرساغ وسائر الأعضاء، كما كان والدها كذلك.
وقيل: أراد بالأشق الرمح، أي أنه فوق هذه الفرس، وللرمح مجال ومضطربٌ بين جلد بطنها وأرساغها. وقيل. الأشق من المشقة: والمراد به المصروع من الشجعان الذي يكون على أشق الحال، ومعناه أنه على هذه الفرس يطأ الشجعان بقوائمها، فيكون لهم مجال بين أرساغها وصفاقها.
وقيل: أراد أشق الممدوح. إما لأنه طويل القامة، أو أنه أشق الناس على أعدائه من المشقة، فيكون له مجال فوقها بالامتداد والانثناء لحذقه بالطعن.
همه في ذوي الأسنةلافي ... ها وأطرافها له كالنطاق
يقول: لا يبالي بالأسنة التي تحيط به من جوانبه كالنطاق، ولا يكون له بها همة ولا يحذر منها، بل يكون همه مصروفاً إلى أرباب الأسنة ليطعنهم ويأسرهم ومثله لأبي تمام:
إن الليوث ليوث الغاب شأنهم ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ما رآها مكذب الرسل إلا ... صدق القول في صفات البراق
هذا البيت زائد.
يقول: ما رأى هذه الفرس الشقاء، من يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله إلا صدق ما يذكر في أمر البراق، من السرعة في السير.

ثاقب العقل ثابت الحلم لا يق ... در أمرٌ له على إقلاق
ثاقب: قيل معناه: عقله صادق من الجهل منير، يرى به الأمور على حقائقها.
وقيل: بين العقل. وقيل: نافذ العقل ثابت الحلم أي أنه متمكن من حلمه لا يطيش ولا يزعجه شيء ولا يقلقه أمر، لثبات عقله وزيادة حلمه.
يا بني الحارث بن لقمان لا تع ... دمكم في الوغى متون العتاق
يقول لقومهم: لا عدمتكم ظهور الخيل في الحرب. وخص ذلك في حال الحرب؛ دلالة على شجاعتهم. لأن ملازمة ركوب الدواب عادة الرائضين.
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
يقول: ملئوا قلوب أعاديهم من الخوف، فانهزموا منهم قبل ملاقاتهم وقتالهم، فكان القتال والحرب قبل الالتقاء.
وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
الظبي: جمع ظبية وهي حد السيف. والتأنيث عائد إليها.
يقول: إنهم عودوا سيوفهم إخراجها من الأغماد، وضرب أعناق الأعداء بها، فهي تكاد تخرج نفسها من أغمادها، وتتوصل إلى الأعناق قبل أن يسلوها منها ويضربوا بها.
وإذا أشفق الفوارس من وق ... ع القنا أشفقوا من الإشفاق
يقول: إذا اشتدت الحرب وخاف الفرسان من الطعن، خاف هؤلاء من الخوف، فلا يقدمون في الحرب.
كل ذمرٍ يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
الذمر: الشجعان يقتحمون المعركة. وقوله: تمامها في المحاق إن أراد بذلك استكمال ضوئها، ففي الظاهر تناقض.
وتأويله: أن كل واحد منهم إذا مات زاد حسنه، لأنه لا يموت إلا قتلاً. فكأنه يقول: هم في الحسن بدور، وإذا قتلوا زاد حسنهم بما يظهر من صبرهم وإقدامهم فكأنهم بدور، تمامها في المحاق على سبيل التقدير: أي لو وجدت بدور إتمامها في محاقها لكانوا مشبهين بها.
وذلك من تعليق الجائز بالمحال.
وقيل: أراد بالتمام غاية ما يفضى إليه أمر البدور وهو المحاق. ومعناه: أن هؤلاء تمام أمرهم في قتلهم. كبدور يفضي أمرها بالمحاق فكذلك يفضي أمر هؤلاء إلى القتل، ولا يموت أحد منهم إلا حتف أنفه.
جاعلٍ درعه منيته إن ... لم يكن دونها من العار واق
الهاء في دونها للمنية.
يقول: كل واحد منهم إذا لم يمكن دفع العار عن نفسه إلا بتدرع الموت، يجعل المنية درعه حتى يقي بها عن نفسه.
كرمٌ خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
يقول: فيه كرم يحمله على خشونة جوانبه على الأعداء، ففيه لين من حيث الكرم، وخشونة من حيث البأس والامتناع من الأنفة، فهو كالسيف إذا سقي صلبت شفرته وألبسها خشونة مع ما فيه من الرقة والصفاء.
وهذا من بدائع المتنبي.
ومعالٍ إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
يقول: لهم معالٍ مشهورة لا يمكن لأحد أن يدعيها لنفسه، فإن ادعى مدع ذلك لزمه ما يلزم السارق من قطع اليد.
يابن من كلما بدوت بدا لي ... غائب الشخص حاضر الأخلاق
نصب غائب وحاضر على الحال. وبدا فعل من وأراد به الأب.
يقول: إذا رأيناك كأنا رأينا أباك، لأن أخلاقه موجودة فيك فلم تفتقد منه إلا شخصه.
لو تنكرت في المكر لقومٍ ... حلفوا أنك ابنه بالطلاق
يقول: إنك تشبه أباك في إقدامه وشجاعته، فلو تنكرت: أي أخفيت نفسك. في المكر: أي في الحرب. لحلفوا بالطلاق أنك ابنه. وخص المكر: إشارة إلى أنه في الإقدام والشجاعة لا يشبه إلا أباه، إذ مثل ذلك لا يوجد إلا منه، أو من أبيه، أو لأن هذا الموقف أشرف المواقف وأفخرها والشبه هنا أقوى الأشياء وأنفسها.
كيف يقوى بكفك الزند والآ ... فاق فيها كالكف في الآفاق
الهاء في فيها للكف.
يقول: كيف يطيق زندك حمل كفك؟ مع أن كفك قد أحاطت بنواحي الأرض! حتى صارت الآفاق في كفك بمنزلة كف الإنسان في الآفاق قلة وحضارة. وأراد بذلك سعة عطائه، وأنه يريد منافع العالم.
وقيل: معناه كيف يوري الزند النار ولا ينكسر من قوتك؟! وكفك يحيط بالآفاق إحاطة الآفاق بكف غيرك.
قل نفع الحديد فيك فما يل ... قاك إلا من سيفه من نفاق
يقول: الحديد لا يعمل فيك، فعجز أعداؤك عن المجاهرة بعداوتك وأعادوا السيوف والرماح واختاروا مواراتك والنفاق في حبك، فأظهروا الحب والانقياد. ولطوا على العماوة والشقاق.

وقيل على الثاني: استعمال الحديد معك لا ينفع ولا حاجة إلى الزند، مع أنك توري، ولذلك لا يلقاك أحد إلا من جعل سيفه من نفاق، وتصنع الاستماح منك دون المجاهرة بعداوتك.
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
يقول: هؤلاء الذين يداجونك بالعداوة، ألفوا هذه الدنيا وتنسم هذا الهواء، ومن ألف الدنيا واستطاب حياتها، فهو يختار ما يؤدي إلى القيام بأمرها، فإلفهم لها أوقع في أنفسهم: أن الموت مر المذاق.
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق
يؤكد المعنى الذي ذكره. يقول: الجزع من الموت قبل حلوله عجز وجبن، فلا معنى له والروح بعد لم تفارق، فإذا فارقت الروح بطل الجسم وزالت حياته وبطل حسه، فإذا ليس للجزع من الموت وجه.
كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق
الثراء والثروة: المال. والوثاق: بالفتح ما يوثق به. يقول: كم مالٍ كان في بيت بخيل قتلته واحتويت عليه وفرقته إلى أهله، وكان عندهم في وثاق البخل، ففرجت عنه وفككته من وثاقه.
والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قدر قبح الكريم في الإملاق
الإملاق: الفقر.
يقول: الغنى لا يحسن في يد البخيل إذ لا يفرح أحد به ولا يظهر عليه، فهو في القبح في اللئيم، كالفقر بالكريم.
ليس قولي في شمس فعلك كالشم ... س ولكن في الشمس كالإشراق
يقول: ليس ثنائي عليك. وضع لشمس فعلك كالشمس، لكنه دليل على فعلك، وإذاعة له وتسيير له في البلاد، كالإشراق للشمس إذ لولاه ما كانت الشمس تشمل العالم بضوئها، فكذلك لولا ثنائي لكاد لا ينشر ذكره.
وقيل: معناه إن قولي ليس نظيراً لفعلك، ولكنه صادر عنه، كانتشار الضوء عن الشمس، ففعلك شمس وثنائي إشراقها.
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
الخدن: الصديق، واراد به نفسه. وجعله خدناً تخصصاً به وتحققاً بمودته. وفيه ضرب من الكير وتطاول العنق! يقول: هو شاعر المجد يبدي فيه البدائع والغرائب، وأنا شاعر اللفظ، فكل واحد منا بديع في فنه، ويغرب في شعره، ويأتي بدقائق المعاني التي يعجز عنها غيره، فالملوك عجزوا عن مجده، والشعراء عجزوا عن شعري وهذا من قول البحتري:
غربت خلائقه وأغرب شاعرٌ ... فيه فأبدع مغربٌ في مغرب
لم تزل تسمع المديح ولكن ... صهال الجياد غير النهاق
يقول: كنت أبداً تسمع المديح، ولكن لم يمدحك أحد مثلي، فشعري كصهيل الفرس الجواد، وشعر غيري كنهيق الحمار!
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق
أي: ليت حظي من السعادة مثل حظ هذا الدهر الذي أنت فيه في الأدهر، وليتني رزقت مثل ما رزق هذا الدهر.
أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق
معناه: أنت في هذا الزمان، فكل زمان مضى قبله يشتهي أن يكون حصل له بعض ما حصل لهذا الزمان، لكونك فيه ومثله لمسلم:
الدهر يغبط أولاه أواخره ... إذا لم يكن كان في أعصاره الأول
ودخل عليه يوماً وهو على الشراب وبيده بطيخة من ند في غشاء من خيرزان، على رأسها قلادة لؤلؤ، فحياه بها وقال: أي شيء تشبه هذه فقال:
وبنيةٍ من خيزرانٍ ضمنت ... بطيخةً نبتت بنارٍ في يد
كل ما يبني: فهو بنية وبناء.
يقول: هذه بنية من خيزران، جعلت فيها بطيخة نبتت من نار في يد صانعها فنباتها من النار يخالف سائر البطيخ.
نظم الأمير لها قلادة لؤلؤٍ ... كفعاله وكلامه في المشهد
يقول: نظم الأمير في هذه البطيخة قلادة من لؤلؤ، وتشبه هذه القلادة فعله وكلامه في المجلس.
كالكأس باشرها المزاج فأبرزت ... زبداً يدور على شرابٍ أسود
شبه هذه البطيخة بكأس فيه شراب أسود، والقلادة التي عليها بالزبد. الذي يعلو الشراب إذا مزج.
وقال فيها أيضاً ارتجالاً يصف البطيخة:
وسوداء منظومٌ عليها لآلىٌ ... لها صورة البطيخ وهي من الند
كأن بقايا عنبرٍ فوق رأسها ... طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد
الواو بمعنى رب. يقول: إنها في صورة البطيخ، لكنها من الند! وقوله: رواعي: جمع راعية، وهي أول شعرة تبيض وقيل: ما انتشر منه في الرأس. وقيل: مقلوبة من رائعة، لأنها تروع.

شبه العنبر الذي كان فوق رأسها ببياض الشعر، في الشعر الجعد، لأن البطيخة كانت سوداء والعنبر ما ضرب إلى الشيبة، وخص الجعد؛ لأنه مع السواد في الأغلب. وقيل أتى به لأجل القافية.
وقال أيضاً يصف هذه البطيخة
ما أنا والخمر وبطيخةٌ ... سوداء في قشرٍ من الخيزران؟!
رفع الخمر وبطيخة عطفاً على ما. أي: ما أنا والخمر، وما بطيخة. ويجوز نصبه على معنى الفعل، وتكون الواو بمعنى مع.
يقول: أي شيء أنا، أي ما لي وملابسة الخمر وهذه البطيخة السوداء التي قشرها من الخيزران، عن الشغل بالحرب في طلب الذكر والصيت.
يشغلني عنها وعن غيرها ... توطئتي النفس ليوم الطعان
روى: توطئتي من وطأت الشيء: أي لينته. وروى: توطيني بها النفس من وطنت النفس على الشيء. والمعنى واحد.
يقول: يشغلني عن هذه البطيخة وغيرها من الطيب، استماع قصر نفسي على الحروب والمطاعنة فيها.
وكل نجلاء لها صائكٌ ... يخضب ما بين يدي والسنان
وكل عطف على توطئتي النفس. وهو رفع، ويجوز جره عطفاً على قوله: ليوم الطعان. وقوله: صائك أي دم يابس يلصق بالرمح.
يقول: يشغلني عما ذكرت، كل طعنة واسعة يخرج منها دم كثير حتى يخضب به الرمح واليد.
فقال أبو العشائر لجلسائه: لو أراد أن يقول فيها ألف بيت لفعل.
وكبس أنطاكية جيش السلطان وقصد دار أبي العشائر، وهو يومئذ يلي حربها، وكان قد بكر إلى الميدان، فلما رجع وقد تفرق الناس عنه، لقي أوائل الخيل فهزمها من السوق إلى باب فارس، فأصابه سهم في خده فأضربه. وضرب رجلاً منهم على رأسه فقتله، وكثر الناس عليه، فرجع حتى خرج من باب مسلمه وما تبعه أحد، ومضى إلى حلب، وعاد بعد ذلك إلى أنطاكية، واتصل خبر عودته بأبي الطيب وهو بالرملة، فسار إلى طرابلس فعاقه ابن كيغلغ على ما تقدم ذكره ثم سار إلى أنطاكية فقال يمدح أبا العشائر:
مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحر حشاي حاش
حشاه: فعل ماض. وفاعله: حاش، وحشاي اسم. والجمع: أحشاء.
يقول: كأنني من شدة الحزن وبعد النوم عني، على فراش قد حشي بما أجده من حرارة الشوق، فكأن حرارة حشاي نقلت إلى فراشي، وحشي بحرارتها.
شبه حرارة الفراش بحرارة أحشائه.
لقى ليلٍ كعين الظبي لوناً ... وهم كالحميا في المشاش
اللقى: الملقى. والحميا: الخمرة. وقيل: سورة الخمر. والمشاش: جمع مشاشة، وهي عظم رخو يمكن أكلها، ولوناً: نصب على التمييز.
يقول: أنا مطروح أو كالمطروح على فراشي، في ليل كأن سواده عين ظبي وأنا مطروح وهو يدب في عظامي كما يدب الخمر.
وشوقٍ كالتوقد في فؤادٍ ... كجمرٍ، في جوانح كالمحاش
المحاش والمحاش: لغتان، وهو ما أحرقته النار وقيل: هي خشبة يحرك بها التنور من خشب النار لتقد، فأصله الإدغام، غير أنه خفف.
يقول: إنا لفي شوق، كأنه في التوقد، في فؤاد هو كالجمر، وذلك الفؤاد في جوانح وهي الأضلاع كأنها المحاش: وهو ما أحرقته النار.0 شبه الشوق بالتوقد، والفؤاد بالجمر، والجوانح بشيء أحرقته النار.
سقى الدم كل نصلٍ غير نابٍ ... وروى كل رمحس غير راش
النابي: الكليل. يقال نبا السيف ينبو نبواً: إذا ضربت به فلم يقطع، ورمح راشٍ: أي غير ضعيف.
يدعو للرمح والسيف وبالسقيا فيقول: سقى الدم الذي هو كالماء كل سيف حاد غير نابي الضربة، وروى الدم أيضاً كل رمح غير ضعيف. فكأنه قال لا زالت السيوف والرماح تقتل الأعداء.
فإن الفارس المنعوت خفت ... لمنصله الفوارس كالرياش
المنعوت: أي الموصوف بالشجاعة المعروفة.
روى المبغوت وهي رواية ابن جنى أي الذي يؤتى على بغتة ولم يعلم هو والرياش: جمع ريش. والريش جمع ريشة.
يقول: إنما دعوت للسيف، لأن الممدوح لما فاجأته الخيل فرقها بسيفه، فصارت الفوارس لسيفه في الخفة بمنزلة الرايش.
فقد أضحى أبا الغمرات يكنى ... كأن أبا العشائر غير فاش
الغمرات: الشدائد. واسم أضحى ضمير الفارس المنعوت، ويكنى موضع الخبر، وأبا الغمرات: المفعول الثاني من يكنى، والأول ضمير الفارس، وهو في موضع الرفع. يقال: كنيت الرجل: أبا عبد الله. فإذا أسند إلى المفعول قيل: كنى الرجل أبا عبد الله، ويعدى بحرف الجر أيضاً فيقال: كنيت الرجل بأبي عبد الله. وكنو الرجل لغة.

يقول: إن أبا العشائر لكثرة ملابسته الحروب والشدائد صارت كنيته أبا الغمرات حتى كأن كنيته المعروفة التي هي أبو العشائر غير ظاهرة ولا معلومة.
وقد نسي الحسين بما يسمى ... ردى الأبطال أو غيث العطاش
يقول: إنه كثر منه البأس والجود. فكل أحد يسميه. إما: ردى الأبطال. وإما: غيث العطاش. ونسي اسمه الذي سماه به أبواه المعروف المشهور.
لقوه حاسراً في درع ضربٍ ... دقيق النسج ملتهب الحواشي
كأن على الجماجم منه ناراً ... وأيدي القوم أجنحة الفراش
الفراش: جمع فراشة وهي دويبة تدور حول السراج فتسقط فيه، والهاء في منه للممدوح أو القرب، وقيل: للسيف. فأضمره وإن لم يجر له ذكر.
يقول: من شدة ضربة الجماجم صار كأن عليها ناراً، وكأن أيدي القوم المتطايرة بالسيف عند ضربه إياها كالفراشات التي تطير حول النار، فإن كانت الهاء للسيف فمعناه: كأن السيف على رءوسهم مثل النار وأيدي القوم حول هذه، كأجنحة الفراش حول النار، فكأن هذه الأيدي تجيء لتأخذ السيف فيقطعها، ومثله لحارث ابن أبي شمر:
والبيض تختلس النفوس كأنما ... يوقدن في حلقٍ المفاوز نارا
كأن جواري المهجات ماءٌ ... يعاودها المهند من عطاش
أراد بالمهجات ها هنا: الدماء. والعطاش: داء يأخذ الإبل فلا تروى من الماء. وقيل هو لفظ العطش. والهاء في يعاودها للمهجات ويروى: يعاوده فيكون للماء.
يقول: كأن الدماء الجارية في قلوب الأعداء وجسومهم ماء، وكأن السيف به عطاش فهو يعاوده ولا يروى منه.
فولوا بين ذي روحٍ مفاتٍ ... وذي رمقٍ، وذي عقلٍ مطاش
مفات: جر لأنه نعت لروح، ومطاش: جر لأنه نعت لعقل. يقال: طاش السهم أو طاشه غيره.
يقول: أدبروا من بين يديه، وهم ثلاثة أقسام.
منهم قتيل قد فارق روحه، ومنهم من لم يبق له إلا بقية رمقه، ومنهم من طاش عقله وزال من شدة الخوف. واستوفى الأقسام في بيت واحد.
ومنعفرٍ، لنصف السيف فيه ... تواري الضب، خاف من احتراش
المنعفر: الساقط على العفر، وهو التراب. والاحتراش: الاصطياد، يقال احترشت الضب وحرشته، وذلك أن يأتي الرجل باب جحر الضب فيمر بيده عليه فيظن الضب أنه حية، فيخرج ذنبه ليضربها به، فيأخذه الرجل. وروى لنصل السيف. ومنعفر قيل: عطف على الأقسام المتقدمة أي وذي منعفر.
وقيل: معناه ورب عدوٍّ منعفر قد غاب نصف السيف فيه أو نصله مثل ما يغيب الضب في الجحر إذا خاف الاحتراش به، أي الاصطياد.
يدمي بعض أيدي الخيل بعضاً ... وما بعجايةٍ أثر ارتهاش
العجاية: عصب فوق الحافر. والارتهاش: أن يصطك عرقوباه فتقرح رواهشه وهو باطن الذراع.
المعنى: أن الخيل انهزمت من بين يديه وازدحمت في الهزيمة، وقصت حوافر بعضها بعضاً، حتى دميت أيديها، ولم يكن ارتهاش.
ورائعها وحيدٌ لم يرعه ... تباعد جيشه والمستجاش
رائعها: أي مفزعها. والمستجاش: من يطلب منه الجيش، وأراد به سيف الدولة، وقيل أراد العسكر: أي المستجاش فيه.
يقول: إن مخوف هذه الخيل كان وحيداً ليس معه أحد من جيشه، ولم يفزعه بعد جيشه بعد من يستمد منه الجيش.
كأن تلوي النشاب فيه ... تلوي الخوص في سعف العشاش
الخوص: ورق النخل. والسعف: الجريد الذي عليه الخوص، والعشاش: جمع عشة، وهي النخلة التي عطشت، فيقصر سعفها ويضعف.
يصف النشابة التي أصابته في خده، فشبهه بنخلة، وشبه النشابة بخوص سعفها قد تلوى على السعفة، وذلك لضعف الخوص ويبسه؛ لأنه إذا كان رطباً قوياً لا يتلوى على السعف، فكأنه لقلة مبالاته بها شبهها بتلوي الخوص على سعفه.
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
القماش: الأثاث المجموع من كل صنف.
يقول: إن أهل المجد والهمة العالية همتهم استيلاب النفوس وقتل الأبطال، دون الاشتغال بسلب القماش والغنائم ومثله لأبي تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
تشارك في الندام إذا نزلنا ... بطانٌ لاتشارك في الجحاش
الندام: المنادمة. والبطان: جمع بطين والجحاش: المجاحشة، وهي المقاتلة والمدافعة.

يعرض بقوم خذلوه ذلك الوقت فيقول: إذا كان يوم شرب ومنادمة شاركوه في الأكل والشرب ولا يشاركونه في القتال والدفاع! ومثله قول الآخر:
يفر عن الكتيبة حين يلقى ... ويثبت عند قائمة الخوان
ومن قبل النطاح وقبل يأتي ... تبين لك النعاج من الكباش
روى: يأنى أي يحين من قولهم: أنى يأنى، وروى يأتى أي يجيء. والنطاح. أصله ضرب الكباش بالقرون، ثم استعمل في كل محاربة.
المعنى: أن الشجاع يعرف من الجبان قبل المحاربة وقبل وقتها فجعل الكباش مثلاً للشجعان والنعاج مثلاً للأراذل والجبناء.
فيا بحر البحور ولا أوري ... ويا ملك الملوك ولا أحاشي
لا أوري: أي لا استر قولي لك يا بحر البحور، هذا ولا أحاشى أي لا أستنثي أحد من قولي لك يا ملك الملوك.
قال ابن جنى: وربما كان ينشد المتنبي ويا بدر البدور مكان قوله يا ملك الملوك.
كأنك ناظرٌ في كل قلبٍ ... فما يخفى عليك محل غاش
الغاشي: القاصد، يقال: غشيه يغشاه إذا قصده.
يقول: أنت عارف بمن يقصدك، ولا يخفى عليك محله، فتنزل كلاً منزلته الذي يستحقها، فكأنك مطلع على أسرار القلوب.
وقيل: أراد بالغاشي من الغش فخفف. والأول أولى أي من نزل بك فلا يخفى عليك محله.
أأصبر عنك لم تبخل بشيءٍ ... ولم تقبل علي كلام واش؟
كان قد وشى بالمتنبي بعض من يعاديه إلى أبي العشائر، فلم يسمع منه وأنفذ عقيب هذه الوشاية إليه مالاً فهذا هو المراد بالبيت.
وكيف وأنت في الرؤساء عندي ... عتيق الطير ما بين الخشاش
عتاق الطير: كرامها. والخشاش: صغارها.
يقول: كيف أصبر عنك وأنت بين الرؤساء في الفضل، كالبازي بين صغار الطير.
فما خاشيك للتكذيب راجٍ ... ولا راجيك للتخييب خاش
يقول: إن من يخافك حل به بأسك ووقع به سخطك، فلا يرجو تكذيباً لما يخافه، ومن يرجوك لا يخاف أن يكذب رجاؤه، فأنت تصدق ظن من يخافك ويرجوك.
وقيل معناه: ليس يرجو من يخشاك أن يلقى من يكذبه ويخطئه في خوفه، لأن الناس كلهم يخافون منك
تطاعن كل خيلٍ سرت فيها ... ولو كانوا النبيط على الجحاش
النبيط: أهل السواد بالعراق. وقيل أراد به: العجم.
يقول: كل خيل سرت فيها وبينها كانت الغلبة لهم، ولو كانوا نبطاً على حميرهم؛ لأنهم يشجعون بك ويصيرون أفرس الناس وأطعنهم. والجحاش: جمع جحش وهو ولد الحمار.
أرى الناس الظلام وأنت نورٌ ... وإني فيهم لإليك عاش
العاشي: القاصد ليلاً.
يقول: الناس كالظلام في الليل، وأنت فيما بينهم كالنور، وأنا ناظر بين الناس إليك، وقاصد نحوك مستضيء بنورك. والأصل فيه قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار
بليت بهم بلاء الورد يلقى ... أنوفاً هن أولى بالخشاش
الخشاش: الخشبة التي تكون في أنف البعير، فإن كانت من شعر قيل له: خزام، وإن كانت من ضفرٍ فهو: برة. والضمير في بهم للناس.
يقول: تأذيت بهؤلاء الناس الذين لا يشاكلونني، كما يتأذى الورد من شمه، بأنوف الذين هم بمنزلة البهائم! وقيل معناه: إني أتأذى بهم كما يتأذى الورد بأنوف الإبل، وروى بالحشاش وهي الكنف.
عليك إذا هزلت مع الليالي ... وحولك حين تسمن في هراش
الهراش والتهاريش: هو مخاصمة الكلاب.
يقول: هؤلاء الناس عليك مع الليالي، أي صاروا لأعدائك مع الزمان وحوادثه، إذا هزلت: أي أصابتك نوائب الدهر. ويصيرون حولك ومعك حين تسمن. أي إذا ساعدك الزمان كانوا معك يهارش بعضهم بعضاً في طلب النفع منك. ومثله لإبراهيم بن العباس:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انثنى صرت حرباً عوانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
والمقصود وصفهم بدناءة الأصل.
أتى خبر الأمير فقيل كروا ... فقلت نعم ولو لحقوا بشاش
وروى: أجل والشاش: بلدة بالترك. وروى: كروا بفتح الكاف وهي رواية ابن جنى.
والمعنى: بلغنا خبر الأمير وهزيمة الخيل منه. وقيل لنا: كروا عليهم. أي عطف الأمير وأصحابه على الخيل فقلت: نعم ولو أنهم لحقوا في الهزيمة بشاش، لوثقت بعودته وكره عليهم.

وروى كروا على الأمير. والمعنى: أتى خبر الأمير بظفره بالعدو فقيل لنا يا معاشر أصحابه اللائذين به كروا فقلت نعم ولو كانوا بشاش. أي لو كان البعد بيننا وبين الأمير مثل ذلك للحقنا به، وقوله بعد ذلك وأسرجت الكميت يدل عليه.
يقودهم إلى الهيجا لجوجٌ ... يسن قتاله والكر ناش
اللجوج: المتمادي في الشيء، الذي لا ينثني عنه، ويبالغ فيه. ويسن: أي يبالغ فيه، حتى يعظم ويكبر من المسن والمسنة. وناش: أي ناشىء، أي في أوله: يقول: يقود العسكر إلى الحرب. لجوج: أي مبالغ في الحرب، ليسن قتاله: أي يصير إلى آخر القتال، ومع ذلك فإن كره لا يصير إلى آخره، بل ينشأ شيئاً فشيئاً يعني أن قتاله قد بلغ الغاية، وكر في أول حاله كالغلام الناشىء.
وأسرجت الكميت فناقتل بي ... على إعقاقها وعلى غشاش
الكميت: يستعمل في الذكر والأنثى، وناقلت بي: أي أسرعت. وقيل: أدامت السير. وقيل المناقلة: أي تضع رجلها مكان يدها، وإنما تفعل ذلك في الأرض الكثيرة الأحجار. والإعقاق: مصدر أعقت الدابة. إذا عظم بطنها من الحمل. وقيل: إذا نبت شعر الجنين الذي في بطنها. والغشاش: العجلة.
يقول: لما أتاني خبره، أسرجت فرسي وركبتها على سرعة، وهي عقوق ولم أشفق عليها.
من المتمردات أذب عنها ... برمحي كل طائرة الرشاش
يعني: أن الكميت من الخيل المتمردات التي لا تبالي بشيء، ولا يقدر على الوصول إليها لسرعتها وخبثها وذلك من قوله تعالى: " شيطانٍ مارد " .
يقول: إنها من الخيل المتمردات، وإني أدفع عنها برمحي، كل دم رشاش. أي أني أذب عنه بنفسي ورماحي كل من يريد عقرها، وأدفع عنها كل طائرة الرشاش: أي كل دم ينط عند الطعن ويرش وينتضح.
ولو عقرت لبلغني إليه ... حديثٌ عنه يحمل كل ماش
يقول: لو عقرت هذه الفرس تحتي، لبلغني إليه حسن الحديث الذي أسمعه عنه، وهذا الحديث يحملني إليه لأنه يحمل كل ماش وإن لم يكن له فرس.
إذا ذكرت مواقفه لحافٍ ... وشيك فما ينكس لانتقاش
شيك: أي إذا دخل في رجله شوك والتنكس: هو تنكيس الرأس. لإخراج الشوك من الرجل، والانتقاش: إخراج الشوك. ومنه: المنقاش ومعناه: إذا ذكرت مواقفه في الحروب للحافي: الذي لا حذاء له، وشيك في رجله، فإنه لا ينكس رأسه لإخراج الشوكة من رجله، لما داخله من الخوف والتحير، إذا سمع ذلك تاق ورغب في صحبته فأسرع إليه ولم يلو على شيء، كما فعلت.
وقيل: إذا ذكرت مواقفه في السخاء للإنسان وكان حاف، ودخل الشوك في رجله فإنه لا ينكس رأسه إلى أسفل لاستخراج الشوكة من رجله بل يسرع إليه، لما تقو الدواعي في الاحتياج إليه. هذا تفسير أبي الفتح.
وقيل: إن أحاديثه الحسنة تؤدي سامعها أنه إذا أصابت رجلهشوكة لم يشعر بها فلا يقطع الحديث لحسنه، ولا ينكس رأسه لإخراجها.
يزيل مخافة المصبور عنه ... ويلهي ذا الفياش عن الفياش
الفياش: المفاخرة، وأكثره في الباطل. روى ابن جنى قال: تلهى بمعنى تزيل على الخطاب للمدوح. وقيل: إن التاء راجع إلى المواقف، أي إن المواقف تزيل وتلهى.
يقول على الخطاب: إنك تزيل مخافة المحبوس بأن تخلصه من الأسر والحبس، وتنسي صاحب الفخر فخره؛ لأنه إذا نظر في أوصافك علم بقصوره عنك فيمتنع عن الفخار.
وعلى الخبر عن المواقف يقول: إذا سمع مواقفه: من جنس القتل وغيره، أنساه ذكرها وحسنها ما هو فيه من الخوف، فإذا سمع مفاخرة أنساه ذكر مفاخرته.
وما وجد اشتياقٌ كاشتياقي ... ولا عرف انكماشٌ كانكماشي
يقول: كل أحد يشتاق إلى لقائك، وينكمش نحوك. ولكن ليس لأحد شوق مثل شوقي إلى لقائك ولا اجتهاد لأحد، مثل اجتهادي في المسير إليك.
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
يقول: إنما قصدتك لأبلغ المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وقصدك غيري لطلب المعاش، واقتناء الرياش، فلهذا صار شوقي أكثر وانكماشي أقدر.
وخرج أبو العشائر يوماً يتصيد، وخرج أبو الطيب معه، فأرسل بازياً على حجلة فأخذها فقال أبو الطيب يصف ذلك:
وطائرةٍ تتبعها المنايا ... على آثارها زجل الجناح
تتبعها: أي تتبعها، فحذف إحدى التاءين. والزجل: الصوت.
يقول: رب قبجةٍ رائشها يطير، وخلفها بازٍ يريد صيدها، فكأن المنايا تطلبها.

كأن الريش منه في سهامٍ ... على جسدٍ تجسم من رياح
الهاء في منه لزجل الجناح. وهو البازي، شبه ريشه بريش السهام؛ للسرعة، فيكون ريشه في نفس السهام، والسهام ظرف له.
ومعناه: كأن ريشه سهام على جسم يكون من ريح، لأن الريش سبب لقتل الطائر، كما أن السهام سبب للقتل.
وقيل في بمعنى على أي كأن ريشه على سهام كانت بهذه الصفة.
كأن رءوس أقلامٍ غلاظاً ... مسخن بريش جوجئه الصحاح
غلاظاً: نصب لأنه صفة لرءوس والصحاح: بمعنى الصحيح. وروى بالكسر: وهو جمع الريش. وقد يكون واحداً وجمعاً. والصحاح: نعت للريش. شبه السواد الذي في صدر الباز بآثار مسح رءوس الأقلام الغلاظ، وهو تشبيه مصيب. ويجوز أن يكون الصحاح بالفتح: صفة الجؤجؤ.
فأقعصها بحجنٍ تحت صفرٍ ... لها فعل الأسنة والرماح
يقال: طعنه فأقعصه. إذا قتله مكانه، بحجنٍ: أي بمخالب معقفة، وهو جمع أحجن. وتحت صفر: وهي أصابعه ورجله.
يقول: قتلها البازي بمخالبه أي أظفاره التي تحت أصابعه، وهذه المخالب لها فعل الأسنة والرماح. وهو القتل؛ لحدتها.
فقلت: لكل حيٍّ يوم سوءٍ ... وإن حرص النفوس على الفلاح
الفلاح: البقاء. وقيل الفلاح: الظفر بالخير.
يقول: كل حيٍّ لابد له من يوم سوء، يوافيه أجله فيه وإن حرص الناس على البقاء، فلا سبيل لهم إليه.
فقال له أبو العشائر أفي هذه الساعة قلت هذا؟! فقال مجيباً له على تعجب أبي العشائر لسرعة بديهته:
أتنكر ما نطقت به بديهاً ... وليس بمنكرٍ سبق الجواد؟!
بديهاً: مصدر في موضع الحال. يقول: لا تنكر بديهتي ولا تستبعد ارتجالي الأشعار، وأنا في ذلك بمنزلة الجواد، فإنه لا يستنكر منه سبق سائر الخيل.
أراكض معوصات القول قسراً ... فأقتلها وغيري في الطراد
أراكض: أي أسابق، وأجاري. والمعوص والعواص: الصعب.
يقول: إذا حاولت معنىً عويصاً من الشعر فرغت منه، وغيري بعد في التفكير.
ودخل عليه وعنده إنسان ينشده شعراً وصف به بركةً في داره فقال يمدح أبا العشائر:
لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك
يقول: إن كان قد أحسن في وصف هذه البركة، فقد ترك الحسن في وصفك وهو أولى من وصف البركة وأجمل.
لأنك بحرٌ وإن البحار ... لتأنف من حال هذي البرك
يقول: أنت بحر، والبحار تأنف من ماء هذه البركة. وهذا الوصف الذي وصفه، وهذه الأوصاف، دون الأوصاف التي أنت عليها.
كأنك سيفك لا ما ملك ... ت يبقى لديك ولا ما ملك
يقول: أنت مثل سيفك، إذا ملكت مالاً فرقته وأفنيته، والسيف إذا ملك مهجة أسالها وأفناها، فتبذل أنت ما ملكت، وتقتل بسيفك من وصل إليه.
فأكثر من جريها ما وهبت ... وأكثر من مائها ما سفك
الهاء في جريها ومائها للبرك. يقول: هباتك أكثر من مائها الجاري والدماء التي يسفكها سيفك أكثر مما فيها من الماء.
أسأت وأحسنت عن قدرةٍ ... ودرت على الناس دور الفلك
يقول: أسأت إلى أعدائك، وأحسنت إلى أوليائك، باختيار منك وقدرة، وأنت الدائر على الناس بالخير والشر، والإساءة والإحسان، والسعد والنحس، دور الفلك الدوار، إلا أنه لا اختيار له ولا قدرة، وأنت تفعل ما تفعله عن قدرة واختيار، فأنت الفلك الدائر في الحقيقة، وأنت أفضل منه للوجه المذكور.
وقال يمدحه ويذم قوماً من المتكسبة بالشعر:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ... أول حيٍّ فراقكم قتله
الربع: المنزل، وجعل العمارة حياة له فسماه حياً، لأن أضاف أول إليه، وجعل التفصيل مضافاً إليه ما هو بعض منه. وجعله قتلاً له على المجاز.
يقول لأحبابه لما فارقهم: ليس هذا الربع بأول هالك بسبب فراقكم، بل قد تلف منزلكم وعفا رسمه، ودرس أثره، فكأن فراقكم قتله، وهذا الربع ليس بأول حي قتله فراقكم. وقد بين ذلك فيما بعده بقوله:
قد تلفت قبله النفوس بكم ... وأكثرت في هواكم العذله
الهاء في قبله للربع. يقول: ليس هذا الربع بأول كثير العذل بسبب فراقكم، وقد أكثر العذل في حبكم، فلم يكف أحد من العشاق عن هواكم، لأجل عذل العذال. والعذلة: جمع عاذل.
خلا وفيه أهلٌ وأوحشنا ... وفيه صرمٌ مروحٌ إبله

الصرم: جماعة من البيوت بمن فيها أهله والمروح: الذي يرد إبله عن المرعى في الرواح، والهاء في فيه في الموضعين للربع وفي إبله للصرم.
يقول: لما ارتحل عنه من كنت أحبه، رأيته وإن كان عامراً بأهله موحشاً، وإن كان فيه بيوت وجماعة من الناس، ويروحون إبلهم إليه.
لو سار ذاك الحبيب عن فلكٍ ... ما رضي الشمس برجه بدله
برجه: فاعل رضي. ومفعوله: الشمس وهو أولى.
يقول: لو كان هذا الحبيب في فلك فسار عنه وحلت الشمس موضعه، لما رضي بها برجه الذي كان يحله، بدلاً منه.
أحبه والهوى وأدوره ... وكل حبٍ صبابةٌ ووله
الصبابة: شدة الشوق. والوله: ذهاب العقل.
يقول: أحب هذا الحبيب، وأحب أن أحبه! وأحب منازله لأجله، وكل حب فيه صبابة وشدة شوق وجنون وتحير.
وقيل: الواو في قوله: والهوى واو القسم. أي وحق الهوى، فيكون مجروراً.
ينصرها الغيث وهي ظامئةٌ ... إلى سواه وسحبها هطله
الهاء في ينصرها للأدؤر. أي: يكسوها العشب. يقال: أرض منصورة. إذا سقيت.
يقول: الغيث يسقيها وهي عطشى. إلى سوى الغيث، وهو الحبيب الذي ارتحل عنها، وسحب هذه الديار هاطلة بالمطر ولا تحتاج إليه.
وقيل معناه: إن هذه الأدؤر يصيبها المطر فيكسوها العشب فتستدعي معاودة من رحل عنها، وهو الحبيب. يقال: دار بني فلان منصورة. أي عادها من كان رحل عنها، ولهذا دعت العرب لديار أحبابها بالسقيا، ليعودوا إليها.
واحرباً منك يا جدايتها ... مقيمةً فاعلمي ومرتحله!
روى واحرباً، واحزناً لجداية أي وا أسفاً، واهلاكاً.
كأنه يقول: يا ظبية هذه الدار، ويلي منك! سواء كنت مقيمة أو مرتحلة؛ لأنك إن اقمت فممنوعة، وإن ارتحلت، حال البعد بيننا.
لو خلط المسك والعبير بها ... ولست فيها لخلتها تفله
العبير: الزعفران، عن أبي عبيدة. وقيل: أخلاط من الطيب فيه الزعفران، عن الأصمعي. والتفلة: المتغيرة الريح.
يقول: لو خلط المسلك والزعفران بتراب هذه الأدؤر، ولم تكوني فيها لظننت أنها متغيرة الريح لأن طيبها بك أنت!
أنا ابن من بعضه يفوق أبا ال ... باحث والنجل بعض من نجله
النجل: الولد والهاء في بعضه لمن الأولى وفي نجله لمن الثانية. ويريد بالباحث: إنساناً كان يبحث عن أصله، ويطعن في نسبه.
يقول: أنا ابن الرجل: الذي بعض ذلك الرجل: أي نفسه. يفوق والد الباحث، الذي يبحث عن فضل أبي، فإذا كنت أفضل من أبيه فالرجل الذي أنا بعضه لاشك في انه أفضل منه بكثير؛ لأن الولد بعض من ولده.
وإنما يذكر الجدود لهم ... من نفروه وأنفدوا حيله
نفروه: أي غلبوه بالنفر. يقال: نافرته. أي فاخرته بكثرة النفر فغلبته. يقول: أنا غني بفضلي عن الافتخار بجدودي، وإنما يفخر بالجدود من ليس يفضل في نفسه. فغلبه المفاخرون وأنفدوا حيله، فحينئذ يفتخر بآبائه وفضلهم.
فخراً لعضبٍ أروح مشتمله ... وسمهريٍّ أروح معتقله
مشتملة: أي مقلدة. يقول: لأفخر بالسيف فخر، حيث أتقلد به. والرمح حيث أمسكه بيدي؛ لأني إذا استعملتها كفاني فخراً وشرفاً.
وليفخر الفخر إذا غدوت به ... مرتدياً خيره ومنتعله
الهاء في خيره وفي به للفخر وفي منتعله لخير.
يقول: كل شيء يفتخر بي، حتى الفخر يفتخر بأن ألبسه، فأرتدي به وأنتعله؛ لأني أعلى من الفخر.
أنا الذي بين الإله به الأق ... دار والمرء حيثما جعله
يقول: أنا الذي جعلني الله تعالى من الفضل والكمال، فقدر كل إنسان يتبين إذا قدر بفضلي، وفيس محله إلى محلي.
وقيل معناه: إن أقدار الناس تتبين بمدحي أو بهجوي، فمن مدحته رفعت قدره، ومن هجوته وضعت قدره وأخملت ذكره، والهاء في جعله قيل: ترجع إلى اسم الله تعالى، وقيل: إلى المرء. أي حيثما جعل نفسه. قلت: ويجوز أن يكون راجعاً إلى الضمير الذي في أنا الذي بين الإله به أي المرء حيثما جعله هذا الرجل الذي بين الله به الأقدار.
جوهرةٌ تفرح الشراف بها ... وغصةٌ لا تسيغها السفله
يقول: أنا جوهرة تفرح الكرام بها. يعني: إذا مدحت شريفاً يفرح بي؛ لأني أناسبه، وكل لئيم يحسدني ويراني غصة له في صدره، لقصوره عني ولازدرائي به، فنظير الأول قول الشاعر:
وكل امرىءٍ يصبوا إلى من يجانس
ونظير المصراع الثاني قول الشاعر:

والجاهلون لأهل العلم أعداء
إن الكذاب الذي أكاد به ... أهون عندي من الذي نقله
الكذاب: مصدر كذب، أو كاذبني. وروى أكايده من الكيد.
يقول: إن الكذب الذي يكيدني به حسادي، لا أبالي به، وهذا الكذب أهون وأقل وزناً من الكاذب الذي نقل هذا الكذب، ولا قدر له.
فلا مبالٍ، ولا مداجٍ، ولا ... وانٍ، ولا عاجزٌ ولا تكله
المدجي: الساتر للعداوة، أي لا أدري هذا الحاسد، ولا أساتره ولا أواني. أي لست بضعيف عاجز مقصر في أمري. وروى ولا فان من قولهم: شيخ فان: أي ضعيف، ميتاً في الضعف. والتكلة: الضعيف الذي يكل أمره إلى غيره.
يقول: لا أبالي بهم لقلتهم ولا أؤاخيهم لخستهم، ولا أعجز عن مكافأتهم، ولا أستعين بأحد على نكايتهم.
ودارعٍ سفته فخر لقىً ... في الملتقى والعجاج والعجله
العجلة: السرعة. وقيل: أراد به الطين. وفي القرآن: " خلق الإنسان من عجل " . وسفته: ضربته بسيفي.
يقول: كم دارع. أي ورب دارع ضربته بالسيف عند الملتقى في الحرب فصرعته لوجهه على الغبار في الطين بسرعة.
وسامعٍ رعته بقافيةٍ ... يحار فيها المنقح القوله
المنقح: المهذب. وقوله: القولة أي الكثير القول. وقيل الجيد القول.
يقول: رب سامع خوفته بقصيدة حسنةٍ يتحير فيها الشاعر الفصيح المهذب لقوله وبجيد شعره.
يصف نفسه بالفصاحة وجودة الشعر.
وربما أشهد الطعام معي ... من لا يساوي الخبز الذي أكله
أشهد: فعل ما لم يسم فاعله، والطعام: مفعوله الثاني. واسمه من. كأنه يعرض بأبي العشائر بأنه لم يميزه عمن دونه.
ومعناه: أني مع فضلي ربما أواكل من لا يساوي ما يأكله من الطعام، وروى: يشهد وهو مضارع أشهد واسمه الضمير المستكن والطعام مفعوله الثاني.
ومعناه على هذا: وربما يشهد الطعام معي من لا يساوي الخبز الذي يأكله ومثله لابن بابك:
لا غرو إن جمعتنا دار مفضيةٍ ... فالصيد يجمع بين الكلب والبازي
ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدر درٌّ برغم من جهله
فيه وجوه: أحدها: أن الذي أواكله يظهر أنه جاهل بي! وأنا أعرفه على خموله ومعناه كيف يجوز ألا يعرفني وأنا في الظهور كالشمس وهو خامل مغمور؟! والثاني: أني عارف بفعله إنه يظهر الجهل بي مع أنه يعرفني.
والثالث: أنا أعرف جهله بي. ثم قال: والدر در برغم من جهله وهذا مثلٌ. أي لا يضرني جهل من لا يعرف فضلي، كما أن الدر لا يحط قيمته جهل من لا يعرف قدره وقيمته.
مستحيياً من أبي العشائر أن ... أسحب في غير أرضه حلله
يقول: إني إنما أحتمل معاشرة الأردياء، وأكون مع من لا يرى فضلي مستحياً منه أن أرتحل من بابه وأسحب حلله في غير أرضه ومحله.
أسحبها عنده لدى ملكٍ ... ثيابه من جليسه وجله
قول: لدى ملك بدل من عنده. يقول: أسحب هذه الحلل عند ملك ثيابه خائفة من جليسه؛ لأنه أبداً يخلع ثيابه على من يجالسه فهي تخاف أن ينزعها ويلبسها لجليسه، لأنها لا تتشهي مفارقته تشرفاً بكونها عليه.
وبيض غلمانه كنائله ... أول محمود سيبه الحمله
البيض: جمع أبيض، أي غلمانه البيض من جملة نائله: أي عطائه.
يعني: أنه يهب البدور والخلع والغلمان الذين يحملونها، فالحملة لنائله أول محمول إلى المعطى له.
مالي لا أمدح الحين ولا ... أبذل مثل الود الذي بذله
معناه: كيف لا أمدحه ولا أوده مثل ما يودني وأحبه مثل ما يحبني!؟ وجعل الممدوح ممن يحبه تعظيماً لنفسه ورفعاً لقدره.
أأخفت العين عنده خبراً؟ ... أم بلغ الكيذبان ما أمله!
الكيذبان: الكثير الكذب.
يقول: مالي لا أمدحه؟! ثم يقول: هل الكذاب الساعي بالنميمة بلغه أحوالي، كأنها خافية عنه. وهو معنى قوله: أأخفت العين أي أخفت عينه عنده خبري في المحبة له، أم بلغ ما كان يتمناه من فساد الحال بيني وبينه.
وقيل معناه: أخفت عيني عن قلبي خبر هذا الرجل في الإحسان إلي. وقيل أراد بالعين: الرقيب، وأنثه تشبيهاً بالعين التي هي الجارحة. أي أخفى الرقيب عنده خبري في الموالاة، فأخبره بخلاف ما أنا عليه، حتى يفسد ما بيني وبينه من الموالاة والمحبة.
أم ليس ضراب كل جمجمةٍ ... منخوةٍ ساعة الوغى زعله

المنخوة: المملوءة. من النخوة، وهي الكبر. وزعلة: أي مرحة بطرة.
يقول: لم أمدحه كأنه غير شجاع يضرب في الحرب رءوس الأبطال المتكبرين الذين في رءوسهم النخوة وفي قلوبهم المرح والبطر. وقوله: ساعة الوغى ظرف لنخوه: أي منخوة حالة الحرب، ولو جعله ظرفاً لضراب لجاز أن يضرب ساعة الوغى زعلة.
وصاحب الجود ما يفارقه ... لو كان للجود منطقٌ عذله
صاحب: نصب عطفاً على قوله: ضراب كل جمجمةٍ؛ لأنه خبر ليس. يعني أنه قد بلغ في السخاء حداً لو كان له لسان لعذله.
وراكب الهول ما يفتره ... لو كان للهول محزمٌ هزله
المحزم: موضع الحزام. والهاء في ما يفتره للهول الأول، وفي هزله للهول الثاني، وقيل للمحزم.
يقول: هو يركب الهول ولا يفتره أي لا ينزل عنه ساعة، فلو كان الهول مركوباً يشد عليه الحزم لهزله وأذاب لحمه، من كثرة ركوبه إياه.
وفارس الأحمر المكلل في ... طيىءٍ المشرع القنا قبله
الأحمر: فرسه الذي ركبه يوم وقعته بأنطاكية، والمكلل: بكسر اللام الأولى هو الحاد الماضي، فإن جررته فهو صفة للفرس وإن نصبته فهو صفة للممدوح وإن فتحت اللام الأولى وجررته فهو صفة للفارس. أي الملك المتوج، وإن نصبته فهو صفة للفرس وهو الذي على رأسه شبه الإكليل. والقنا، وإن كان جمعاً قد ذكر حيث قال: المشرع القنا لأنه أراد به الجنس. وروى المشرع فعلى هذا يكون صفة لطيىءٍ إنه كان فارس هذا الفرس في وقت إشراع الرماح قبله.
لما رأت وجهه خيولهم ... أقسم بالله لا رأت كفله
الهاء في كفله للممدوح. وقيل: إنه راجع للأحمر المكلل وهو الفرس..
يقول: لما رأت خيول الأعداء وجهه أقسم هو بالله ألا يولي ولا ينهزم، فلا يروا له قفاً.
فأكبروا فعله وأصغره ... أكبر من فعله الذي فعله
روى: أصغر بفتح الراء على الفعل الماضي، وفاعله أبو العشائر. وأكبر على هذا خبر ابتداء محذوف. أي: هو أكبر. وقيل: إنه مبتدأ والذي خبره. والمعنى: أنهم استعظموا فعله واستصغره هو، ثم قال: هو أكبر من فعله. أي هو أعظم من فعله وإن كان عظيماً وكل فعل عظيم ففاعله أعظم منه كما قال أبو تمام:
أعاذلتي ما أحسن الليل مركباً ... وأحسن منه في الملمات راكبه
أي أصغره على المبالغة فيكون أصغر مبتدأ وما بعده خبر له. ومعناه أنهم استكبروا فعله، وأصغره ما يفعله هو أكبر من فعله الذي فعله عندهم فاستكبروه.
القاتل الواصل الكميل فلا ... بعض جميلٍ عن بعضه شغله
الكميل: المبالغة في الكامل.
يقول: هو يقتل أعداءه، ويصل أولياءه، وإنه كامل الفضل فيهما، فبعض فعله في الجميل لا يشغله عن بعض، بل يحسن في حال القتال وغيره.
فواهبٌ والرماح تشجره ... وطاعنٌ والهبات متصله
تشجره: أي تدخله. يعني أنه هو يهب أمواله، ويطاعن أعداءه في وقت واحد، فلا الحرب تشغله عن الجود ولا الجود يشغله عن الحرب.
وهذا تفسير للبيت الذي قبله.
وكلما آمن البلاد سرى ... وكلما خيف منزلٌ نزله
آمن: أي وجدها آمنة. وقيل معناه: كلما وافى بلداً أمن من الحرب، وسار من هناك إلى بلد آخر يفتحه، وكلما خيف منزل: إما من الدعار، أو من الأعداء نزله فأزال الخوف عنه.
وكلما جاهر العدو ضحىً ... أمكن حتى كأنه ختله
الختل: الخديعة. أي إذا قصد عدوه مجاهرة أمكن منه، حتى كأنه أتاه غفلة منه، فمجاهرته تقوم مقام ختل غيره.
يحتقر البيض واللدان إذا ... شن عليه الدلاص أو نثله
اللدان: الرماح اللينة. الواحد لدن. وشن الدرع: إذا صبها على بدنه. والدلاص: الدرع الصافية البراقة. ونثل الدرع، وشنها، وأفرغها، وصبها: إذا لبسها. وذكر الضمير في قوله: نثله وإن عاد للدرع؛ لأن الذرع يذكر ويؤنث يقول: إذا لبس درعه لا يبالي السيوف والرماح وغيرها.
قد هذبت فهمه الفقاهة لي ... وهذبت شعري الفصاحة له
الفقاهة: الفطنة والعلم بغوامض الأمور.
يقول: فقاهتي في الشعر وعلمي بغوامض المعاني هذبت فهم الممدوح، وبصرته جودة الشعر من رداءته، حتى لا يستحسن شعراً هو دون شعري، وكذلك فصاحته هذبت شعري، وحملتني على التحفظ فيه، وتنقيحة حتى جاء مهذباً من كل عيب ومثله لأبي تمام:
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به ... سحرٌ وأشعاري لهم أشعار

فصرت كالسيف حامداً يده ... ما يحمد السيف كل من حمله
يقول: لما علمت بفصاحته، تأنقت في شعري، وهذبت ألفاظه، فصارت فصاحته سبباً إلى تجويد شعري، كما كان جودة ضربه وقوة ساعده سبباً لإظهار حد سيفه، فصار سيفه حامداً له حيث أظهر جودته، ثم قال: ما يحمد السيف كل من حمله يعني: أن السيف إذا كان في يد من لا يحسن الضرب نبا إن كان ماضياً، وإنما يعمل في يد الحاذق بتصريفه فلا يحمد السيف دون من لا يحسن الضرب به.
وجلس معه ليلة على الشراب فنهض لينصرف وقت انصرافه، فسأله الجلوس فجلس، فخلع عليه ثياباً نفيسة، ثم نهض لينصرف فسأله الجلوس فجلس، فأمر له بثمن جارية فحمل إليه، ونهض لينصرف، فسأله الجلوس بقود مهرة إليه، فقال له ابن الطوسي الكاتب: لا تبرحن الليلة يا أبا الطيب فأجابه:
أعن إذني تهب الريح رهواً ... ويسري كلما شئت الغمام؟!
ولكن الغمام له طباعٌ ... تبجسه بها وكذا الكرام
يقول جواباً لذلك: لا أنصرف استزادةً مني لهباته، ليس عن أمري ولا كان طلبي من الرجل، إن ما ترى من جود الأمير ورجوليته، كرم طبعه يدعو إليه. كما أن الغمام ليسح ماؤه لطبعه، دون أن يبعثه عليه باعث، ولا يقدر أحد أن يحبس مطره، فكذلك هذا الرجل لا يمكنه أن يمتنع عن العطاء، لأن الله تعالى فطره على ذلك وروى: تبجسه بها ولها والهاء: للطباع وفي تبجسه للغمام.
وأراد أبو العشائر سفراً فقال أبو الطيب يودعه:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظٌ وأنت معناه
المصراع الأول له معنيان أحدهما: أن الناس إذا لم تكن فيهم متساوون ليس لواحد منهم فضل على صاحبه، فإذا حضرتهم فضلتهم فتفاوتوا بك،فصاروا المفضولين وأنت الأفضل. والثاني: أن الناس ما لم يروك فهم سواء، فإذا رأوك تفاضلوا في أقدارهم، فكل من رآك أكثر فهو أشرف، وكل من قربت منزلته منك فهو أفضل.
يريد: أن الناس إذا رأوه تعلموا أسباب الرياسة منه، واهتدوا بأفعاله إلى المكارم، فمن صحبه أكثر كان إلى السيادة أقرب.
وأما المصراع الثاني فمعناه: أن الأفعال التي تنسب إلى الدهر من إعزاز وإذلال، وإحسان وإساءة، إنما هي عبارة عنه وإنها تنسب إليه بالقول، وإلا في الحقيقة فأنت فاعلها والمعني بها، لأنك تفعل ذلك دون الدهر.
والجود عينٌ وأنت ناظرها ... والبأس باعٌ وفيك يمناه
يقول: قوام الجود بك، كما أن العين بناظرها. والبأس: وهي الشجاعة، قوامها بك، ووجودها بسببك، كما أن الباع بطشه وفضله في اليد اليمنى.
أفدي الذي كل مأزقٍ حرجٍ ... أغبر فرسانه تحاماه
أعلى قناة الحسين أوسطها ... فيه وأعلى الكمي رجلاه
الحرج: الضيق. المأزق: المضيق في الحرب. والأغبر: المظلم الذي عليه غبرة. وتحاماه: تجنبه. والهاء في فيه ترجع إلى المأزق. وقيل: إلى الذي وقوله: كل مأزق مبتدأ، وأغبر في موضع جر، صفة لمأزق، وإن شئت رفعته فيكون صفة لكل، وفرسان مبتدأ آخر، وتحاماه خبره، وهذه الجملة صفة لمأزق، ولكل. والهاء في فرسانه تعود إلى المأزق وكذلك في فيه.
يقول: أفدي الفارس الذي إذا حصل في مضيقٍ أغبره. يحذر منه الفرسان ويتركونه، ويكون أعلى رمحه في ذلك المأزق أوسطه؛ لأنه يكثره بكثرة الطعن حتى يصير وسطه أعلاه، أو يثنيه إذا طعن فارساً فيصير أعلاه أسفله وكذلك ينكس الفارس الشجاع عن فرسه، فيكون رجلاه فوقه وأعلاه، أو ينتفخ بعد قتله إياه وترتفع رجلاه فوقه. وما بعد قوله: الذي إلى آخره، داخل في صفة الذي وموضعه نصب بأفدي، أي أفدي الذي هذه صفته.
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسنٍ ما لهن أفواه
يقول: إن أثوابنا تنشد مدائحه، من حي إن الناس إذا رأوها علينا علموا أنها من خلعه، حتى لو لم نشكر له لأعلنت هذه الثياب بمدحه.
والثاني: هو أن لأثوابنا التي خلعها علينا صوتاً لجدتها، فهذا الصوت كإنشادها مدائحه. ذكره ابن جنى.
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
هذا يؤكد المعنى الذي بدأنا بذكره. يعني أن هذه الثياب إذا مررنا بها على الأصم، فمتى رآها علم أنها من خلعه، فأغنته عيناه عن أذنيه.
سبحان من خار للكواكب بال ... بعد ولو نلن كن جدواه
نلن: أي أدركن وهو فعل ما لم يسم فاعله.

وحكى ابن جنى عن المتنبي: أنه كان يشير إلى الضمة رفعاً للالتباس بين فعلن وفعلن وقوله خار: أي جعل لها الخيرة.
يقول: لو نيلت هذه النجوم، لكانت يده تصل إليها وتجعلها من جملة عطاياه، ولكن الله تعالى بعدها منه خيرةً لها.
لو كان ضوء الشموس في يده ... لضاعه جوده وأفناه
ضاعه: أي فرقه.
يقول: لو كان ضوء الشمس في يده لفرقته هباته. وروى: أضاعه جوده أي ضيعه من الضياع.
يا راحلاً كل من يودعه ... مودعٌ دينه ودنياه
يقول: إن الدين والدنيا معك، فإذا فارقناك فارقنا ديننا ودنيانا بفراقك.
إن كان فيما نراه من كرمٍ ... فيك مزيدٌ فزادك الله
روى: من كرم ومن حسن.
يقول: لا مزيد على ما نلت من كرم في عقولنا، فإن كان في الكرم مزيد خفي علينا، فبلغك الله إليه، وأنا لك مرادك منه.
فقال قوم لأبي العشائر إنه ما كناك وإنما تعرف بكنيتك فقال:
قالوا ألم تكنه؟! فقلت لهم ... ذلك عيٌّ إذا وصفناه
أي قالوا: لم لا تذكر كنيته؟ فقلت لهم: إذا وصفته فذكر الكنية عي؛ لأن أوصافه تغني عن ذكرها، إذ لا يوجد في غيره ما فيه من الأوصاف. وهذا مثل قوله في مرثية أخت سيف الدولة:
ومن يصفك فقد سماك للعرب
لا يتوقى أبو العشائر من ... ليس معاني الورى بمعناه
وروى: من لبس فيكون نكرة. يعني: لا يتوقى رجلاً لبس معناه بمعاني الخلق، فيشاركه في هذا الوصف فيحتاج إلى تكنية، ليفصل بينهما. وروى: من ليس ومعنى البيت: أن الرجل إنما يذكر باسمه وكنيته لتميزه عن غيره، ومعاني أبي العشائر مخالفة لمعاني الناس فإذا وصف تميز عن غيره ولم يخف أن يلبس به غيره، لأنه لا يشاركه أحد في أوصافه فيحتاج إلى تمييز عنه بالكنية.
أفرس من تسبح الجياد به ... وليس إلا الحديد أمواه
يجوز نصب الحديد للضرورة؛ لأنها معرفه واسمه: أمواه، وهي نكرة. ويجوز أن تجعل خبر ليس محذوفاً، فتنصب الحديد على الاستثناء. المقدم. كأنه قال: وليس في الأرض أمواه إلا الحديد، فلما قدمه نصبه.
يقول: هو أفرس رجل تسبح به الجياد، ولما جعلها تسبح، جعل الماء الذي تسبح فيه الحديد، وهو الدروع والسلاح.
وأخرج إليه جوشناً حسناً أراه إياه بميا فارقين فقال يمدحه:
به وبمثله شق الصفوف ... وزلت عن مباشرها الحتوف
زلت: أي زلقت. والهاء في مباشرها للصفوف، ويجوز أن يكون للحتوف أي زلت الحتوف عن مباشرها.
يقول: بهذا الجوشن وبأمثاله تشق الصفوف في الحرب، ويندفع الموت عنه عند مصادقة الأقران والشجعان.
فدعه لقىً فإنك من كرامٍ ... جواشنها الأسنة والسيوف
يقول: دع هذا الجوشن مطروحاً، فإنك من قوم كرام ليس لهم جواشن إلا السيوف والرماح.
وضرب لأبي العشائر مضرب بميافارقين على الطريق، فكثر غاشيه وسائله، فقال له إنسان: جعلت مضربك على الطريق؟ فقال أبو العشائر أحب يا أبا الطيب أن تذكر هذا، فأنشد أبو الطيب قائلاً:
لام أناسٌ أبا العشائر في ... جود يديه بالعين والورق
أي: قد لام بعض الناس أبا العشائر في بذله الدراهم والدنانير على الناس.
وإنما قيل: لم خلقت كذا؟! ... وخالق الخلق خالق الخلق
يقول: من لامه على جوده بمنزلة من قال: لم خلقت كذا؟! لأنه طبع عليه ولا يمكنه الانفكاك منه، والله تعالى كما خلق الإنسان خلق له خلقاً، وما كان من فعل الله تعالى فلا سؤال فيه على العبد، ولا لوم عليه إذ لا فعل له فيه.
قالوا: ألم تكفه سماحته ... حتى بنى بيته على الطرق؟!
أي لاموه على جوده وقالوا: ألم يكفه ما فيه من الجود والسماحة حتى ضرب بيته على الطريق ليقصده كل وارد؟! فأجاب عن ذلك بقوله:
فقلت: إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
أي فقلت لهم: إن الفتى الشجاع يرى الشح كالفرق: وهو الجبن، فيجتنبه كما يجتنب الجبن؛ لأن البخيل إنما يبخل بماله خوف الفقر، فهو يقوم عليه كما يقوم على أمر مخوف، فكأنه يقول: إن السخي لتيقنه بالعوض، يسمح بما عنده فيرى البخل من الجبن.
بضرب هام الكماة تم له ... كسب الذي يكسبون بالملق
يقول: إن ما يكسبه أعداؤه بالملق والخديعة، يأخذه هو بسيفه؛ لأنه يضرب رءوسهم ويغير على أموالهم.

معناه: أن ما يأخذونه بالسؤال والملق حصل له بتقبيل الأيادي؛ لأن شجاعته معه، وفي أعدائه كثرة، فإن ذهب ما في يده رجع إلى أعدائه وغار عليهم واكتسب أموالهم.
وقيل: هو ملك يضرب هام الشجعان، وماله قليل، مثل مال من يكسب في الملق، لتسلط الجود عليه وتركه لادخار الأموال.
كن لجةً أيها السماح فقد ... آمنه سيفه من الغرق
يخاطب السماح ويقول له: كن أعظم ماشئت، فإن الممدوح لا يخشى أن يفرق ماله، لأن سيفه قد أمنه من ذلك، لأنه كلما نفذ ماله أخلف عليه سيفه مثله وأكثر منه، من مال أعدائه. والهاء في منه وسيفه للممدوح.
وانتسب له أي لأبي العشائر بعض من رماه أي المتنبي على باب سيف الدولة في الليلة التي نشرحها بعد قوله:
وأحر قلباه ممن قلبه شيم
وانتسب إلى أبي العشائر وذكر أنه هو الذي أمرهم بذلك فقال أبو الطيب:
ومنتسبٍ عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
حفيف النبل: صوته.
يقول: رب رام قصدني سهامه، وانتسب إلى من أحبه وقت رميه، وأنا أسمع حولي حفيف نبله.
فهيج من شوقي وما من مذلةٍ ... حننت ولكن الكريم ألوف
يقول: لما ذكر لي أبا العشائر هيج شوقي إليه، ولم يكن حنيني إليه من ذل أو حزن، ولكني ألوفٌ، والكريم يألف إلى من أحسن إليه.
وكل ودادٍ لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
يقول: كل وداد لا يكون دائماً على الأذى ممن يؤذيه، كما دام ودادي لأبي العشائر، فهو ود ضعيف.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
يقول: إن ساءني فعله مرة، فالذي سرني من أفعاله المواضي وأياديه السوالف، ألوف.
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه ... ولكن بعض المالكين عنيف
العنيف: ضد الرفيق. يقول: نفسي له. أي أنا عبده فليصنع بي ما أحب! ثم قال: نفسي فداء له. ثم عرض به فقال: ولكن بعض المالكين عنيف أي أنه لما ملك عنف عليها، وأراد إتلافها وكان حقه أن يرفق بها.
تمت الشاميات
الجزء الثالث
السيفياتوقال أبو الطيب يمدح سيف الدولة: أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ابن حمدون بن الحارث العدوي. عند نزوله أنطاكية ومنصرفه من الظفر يحصن برزويه، في جمادى الآخر سنة 337 وكان جالساً تحت شراع ديباج:
وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدّمع أشفاه ساجمه
خاطب صاحبيه، وقد لاماه على البكاء على الربع فقال: وفاؤكما بإسعادي كالربع أشجاه دارسه. والطاسم والطامس بمعنى الدارس. وأشجاه: أشده شجوا، والشجو: الحزن. أي: لا أبكي الربع وصرت أبكي وفاءكما معه ! وقال الشيخ أبو الفتح ابن جني: وهذا لفظه أملاه إملاء. وطسم يطسم طسما فهو طاسم إذا درس والخمحت آثاره وكذلك طمس يطمس فهو طامس طامس، وسجم الدمع فهو ساجم: إذا سال. وقوله: وفاؤكما خطاب للاثنين، وإنما كثر ذلك في كلام العرب لأن أقل رفقه عندهم ثلاثة، فلهذا قالوا الواحد شيطان والاثنان شيطانان، والثلاثة رفقه. وربما يخاطب الواحد بخطاب الاثنين والجماعة: تفخيماً له. أو إذا أراد تكرير الخطاب وتفصيل ما حكاه ابن جني عن المتنبي في معناه: أن صاحبيه واعداه بالمساعدة في البكاء على ربع حبيبه، والوقوف معه على أطلاله، ثم لم يفيا بما واعداه، فقال: وفاؤكما بالمساعدة دارس كهذا الربع الدارس. وقوله: أشجاه طاسمه أي كل ما كان منه طامساً كان أشجى بقلبي، كذلك وفاؤكما كلما رأيته دارساً زاد في شجوي وحزني.

وذكر صاحب الجليل ؟ في تلخيص هذا المعنى. ما هو في العموم مثل كلام أبي الطيب فقال معناه: يا خليلي وفاؤكما بأن تسعداني، كهذا الربع كلما أبصرته أشجاني، وفي قوله: والدمع أشفاه ساجمه إشارة إلى أن صاحبيه غدرا معه في البكاء. فقال: إنما يشفي الدمع من الصبابة إذا كان ساجما، وكلما كان أجرى كان الشوق أشفى، والباء في قوله: بأن تسعدا متعلقة بمحذوف ولا يجوز تعلقها بقوله: وفاؤكما لأنك حينئذ فرقت بين الموصول والصلة، لأنك إذا قدرت البيت على قوله: وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه كانت الباء وما بعدها صلة وفاؤكما، وقد فرق بينهما بقوله: كالربع فيجب أن يضمر بعد المصدر. وهو قوله: وفاؤكما ما يتعلق به ويجعل بأن تسعدا تفسيراً له. وتقديره: وفاؤكما بأن تسعدا، ثم يحذف هذا، ويجعل الثاني تفسيراً له ومثل هذا كثير في صناعة الإعراب.
وما أنا إلاّ عاشقٌ كلّ عاشقٍ ... أعقّ خليليه الصّفيّين لائمه
الصفيين: الذي يصفى لك المودة من الغش، فيكون بمعنى المصفى. فقيل بمعنى مفعل.
يقول: أنا عاشق. فقال: كل عاشق أعق خليليه الصفيين: من يلومه، فمن لا منى منكما كأنه قد عقني، وروى: وما أنا إلا عاشق كل بنصب اللام. ومعناه: أنا عاشق كل عاشق، بعد لوم خليليه له عقوقا منهما إليه وهذا أبلغ من الأول، ومثل هذا: ؟وإني لأعشق من عشقكم نحولي وكلّ امرئٍ ناحل وقد سئل أبو الطيب عن هذا فقال: إن الخليل الصفي لا يكون عاقا، وأفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه.
وقيل: معناه: إذا لام لم يكن خليلا مصافياً عند العاشق؛ لأنه قصد إساءته فكأنه قال وكل عاشق إذا لامه خليله، كان أعق له من عدوه.
وقد يتزيّا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
يتزيا: يتكلف يتفعل من الزي، وهو الهيئة، أي يجعل الهوى زيا له.
يقول: ربما يظهر الإنسان من نفسه أنه عاشق، وليس هو بعاشق حقيقة، كما أن الإنسان قد يصحب من لا يوافقه.
يعني: أنا عاشق على الحقيقة ولست في دعواي متكلفاً.
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيحٍ ضاع في التّرب خاتمه
يدعو على نفسه بالهلاك إن لم يطل الوقوف على أطلال دار المحبوبة.
وقد عيب عليه هذا البيت. وقيل: هذا يدل على تحمله مع دناءة همته، وعظم خطر الخاتم في عينه.
وإلى كم يكون وقوف الشحيح على خاتمه ولو كان ألأم الناس، حتى يجعل ذلك غاية الوقوف على أطلال دار الحبيب ؟.
وأحسن ما يمكن أن يقال إنما أراد: أنا أقف بها وقوفاً زائداً على عادة من وقف قبلي على أطلال حبيبة، كما أن وقوف الشحيح إذا ضاع خاتمه يكون زائداً على وقوف غيره، وطلبه له أشد.
قيل: إنما خص الخاتم لأنه ربما كان فضة كثيرة القيمة حليل الخطر وهذه صفته. فالوقوف على طلبه يدوم، والبحث عنه يطول من كل واحد، وهو من الشحيح أكثر، ومنه أطول.
كئيباً توقّاني العواذل في الهوى ... كما يتوقّى ريّ؟ض الخيل حازمه
نصب كئيباً على الحال. والكئيب: هو الحزين. والريض: الصعب الذي لم يرض. والحازم: الذي يشد الحزام. والهاء فيه تعود إلى الريض.
يقول: إن لم أقف وأنا كئيب والعواذل يريدون عذلي ويحذرون مني كما يحذر الرجل من الفرس الصعب، إذا أراد شد الحزام عليه، فهو يداريه حذراً أن يرمحه، فكذلك العواذل يحذرون صولته.
قفي تغرم الأولى من اللّحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلف الشّيء غارمه
الأولى في موضع الرفع لأنها فاعلة تغرم.
يقول: إنك لحظتني لحظة فأتلفت بها نفسي، فاغرميها بلحظة ثانية؛ تحييني بها، كما أتلفت مهجتي بلحظتك الأولى؛ فإن من أتلف شيئاً غرمه.
سقاك وحيّانا بك اللّه إنّما ... على العيس نورٌ والخدور كمائمه
الهاء: للنور، والنور: الأبيض من الزهر. والكمائم: جمع كمامة وهو وعاء الزهر قبل أن يتفتح.
شبه النساء بالنور، والهوادج بالكمائم، ولما جعلها نوراً دعا لها بالسقيا، وجعله تحية لها، كما يحيي الصديق صديقه بالورد والريحان.
ومعناه: رزقنا الله وصلك والتلذذ بطيبك. ومثل آخر هذا البيت قول الآخر وهو:
ولم أر كالأظعان يوم رحيلهم ... وأحداجهم تحكي الكمائم في الورد
وقريب من بيت أبي الطيب قول السري بن أحمد الرفاء.
حيّا به اللّه عاشقيه فقد ... أصبح ريحانةً لمن عشقا

وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى ... إلى قمر ؟ ما واجدٌ لك عادمه
الأظعان: الراحلون، والهاء في عادمه للقمر.
يقول: الراحلون معك في ظلمة الليل، لا يحتاجون إلى ضوء القمر؛ لأن من وجدك فقد وجد القمر.
إذا ظفرت منك العيون بنظرةٍ ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه
ثاب وأثاب: بمعنى. أي أرجع. والمعيي: الرازم، وجمعهما لاختلاف اللفظتين. وقيل الرازم: الذي قد قام من الإعياء.
يقول: إن الإبل المعيية إذا نظرت إليك عادت إليها نفسها، فكيف نحن مع شدة شوقنا إليك ! فهو أولى بنا.
حبيبٌ كأنّ الحسن كان يحبّه ... فآثره أوجار في الحسن قاسمه
روى في الحكم وفي الحسن والهاء في يحبه للحبيب، وكذلك في آثره وفي قاسمه للحسن.
يقول: كان الحسن يحب هذا الحبيب، فآثره على غيره وخصه بزيادة الحسن وبدائعه، أو جار من قسم الحسن في قسمته، فأعطى هذا الحبيب أكثر مما أعطى غيره.
تحول رماح الخطّ دون سبائه ... وتسبى له من كلّ حيّ كرائمه
الهاء في كرائمه تعود إلى حي وهو جمع كريمة.
يقول: إن الرماح تحول بين هذا الحبيب وبين من أراد سباءه؛ لعزة قومه وتسبى الرماح له من كل حي كرائمه.
ويضحى غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمة
الكباء: العود والبخور، والنشر: الرائحة الطيبة، والهاء في ستوره للحبيب وفي آخرها للستور وفي ملازمه لآخرها.
يقول: عليه ستور كثيره، فأدناها إلينا غبار الخيل التي تركض حوله، وآخرها داخلها يلازمه ريح العود ودخانه.
وما استغربت عيني فراقاً رأيته ... ولا علّمتني غير ما القلب عالمه
يعني: ليس هذا بأول فراق رأيته فأستغربه، بل رأيت مثله كثيراً، والهاء في عالمه راجعة إلى ما.
فلا يتّهمني الكاشحون فإنّني ... رعيت الرّدى حتّى حلت لي علاقمه
العلقم: شجر مر، وأراد به ها هنا الشدائد.
يقول: لا يتهمني الأعداء على الردي، أني أضعف عن احتماله، فإني قد تعودته وقاسيت أمثاله، حتى حلا في فمي كل مر، وهان علي كل صعب.
مشبّ الّذي يبكي الشّباب مشيبه ... فكيف توقّيه وبانيه هادمه ؟!
المشب: الذي يشب ويأتي بالشباب. والمشيب: الذي يأتي بالمشيب، والضمائر كلها تعود إلى الذي ويجوز أن يكون في مشيبه يعود إليه فقط، وفي توقيه وبانيه وهادمه يعود إلى الشباب.
يقول: إن الذي يبكي الشباب لا ينفعه، فإن الشيب الذي صيره شاباً، هو الذي أفضى به إلى المشيب، وهو الحياة، فإنه تنقله من حال إلى حال، فكيف نقدر على الاحتراز منه ؟! وهو الشيء الذي به بقاؤه وبه فناؤه. وقيل: هو الله تعالى الذي يأتي بالشباب والشيب. وقيل أراد به: الدهر على ما جرت عادته في نسبة الحوادث إليه.
وتكملة العيش الصّبا وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه
له معنيان: أحدهما: أن كمال العيش إنما هو في الصبا وفيما يعقب الصبا، فأما أيام الشيب فلا تعد من العيش، لأنها مشوبة بالأحزان والأسقام.
وقوله: وغائب لون العارضين وقادمه يعني أن هذا تكملة العيش، وأراد به حال نقاء العارض من الشعر، ثم غاب ذلك وقدم عليه بياض الشيب والشعر. وهذا أحسن.
والثاني: أن المراد به أن جميع العمر ما ذكر من هذا البيت وهو: أيام الصبي، ثم عقيبة الشباب، وبعده بياض الشعر بعد سواده، وهو أيام الشيب. والهاء في قادمه تعود إلى اللون.
قال ابن جني: سألته وقت القراءة عليه: أيقال تكملة العيش لجميعه ؟ قال: هو جائز لأنه بالجميع يكمل.
وما خضّب النّاس البياض لأنّه ... قبيحٌ، ولكن أحسن الشّعر فاحمه
الفاحم: الشديد السواد. يقول: إن الناس لا يخضبون البياض لأنه قبيح، بل هو حسن، ولكن الشعر الأسود أحسن في مرأى العين؛ لدلالته على فتى السن، والبياض يدل على الهرم.
وأحسن من ماء الشّبيبة كلّه ... حيا بارقٍ في فازةٍ أنا شائمه
الحيا: المطر، والبارق: السحاب الذي فيه برق. والفازة: الخيمة. وشمت البرق: إذا نظرت مخايله. والهاء في شائمه تعود إلى الحيا.
يقول: مطر سحابة في خيمة، وأنا أنظر إليه، أحسن من ماء الشباب، لأني أنال به من السرور واللذات، ما لا أناله بالشباب.
عليها رياضٌ لم تحكها سحابةٌ ... وأغصان دوحٍ لم تغنّ حمائمه

عليها: أي على الفازة. شبه النقوش التي عليها بالرياض المنورة، وقوله: لم تحكها أي ليست هذه الرياض من صنعة الغيث والسحاب، ولكنها من صنعة البشر، وعليها صور أغصان أشجار عليها حمائم، لكنها صامتة لا تتغنى ولا تتغرد. والهاء في حمائمه للدوح.
وفوق حواشي كلّ ثوبٍ موجّهٍ ... من الدّرّ سمطٌ لم يثقّبه ناظمه
الهاء في ناظمه للسمط.
يقول: على حواشي كل ثوب ذي وجهين عقد منظوم من الدر، غير أن ناظمه لم يثقبه؛ لأنه ليس بدر على الحقيقة، بل نقش على صورة خلقة الدر.
ترى حيوان البرّ مصطلحاً بها ... يحارب ضدّ ضدّه ويسالمه
يعني: عليها تصاوير الحيوان من كل جنس. كالسباع والوحوش والفرسان، فمرة يصالح الضد ضده، ومرة يحاربه، لأنه ربما يتصل تارة وينفصل أخرى عند ضرب الريح إياها.
وقيل: أراد أن عليها صور سباع تفترس وحوشا، فهي في صور المحارب ولكنها مسالمة، لا يقدر بعضها على بعض، فهي محاربة ومسالمة في وقت واحد.
إذا ضربته الرّيح ماج كأنّه ... تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
تدأى: أي تختل، وقيل: تسرع. والهاء في ضربته وفيما بعده: تعود إلى قوله: كل ثوب موجه وقيل: تعود إلى الحيوان.
يقول: إن الريح إذا ضربت هذا الثوب ماج: أي اضطرب، فحسبته خيلا تجول، وسباعاً تصول، وهو المراد بقوله: تدأى ضراغمه أي الأسود المصورة عليه.
وفي صورة الرّوميّ ذي التّاج ذلّةٍ ... لأبلج لاتيجان إلاّ عمائمه
أراد بالرومي: ملك الروم، وكان على الفازة صورته.
يقول: في صورة ملك الروم صاحب التاج ذلة: أي خضوع للملك الأبلج، وهو سيف الدولة. والأبلج: المنقطع ما بين الحاجبين. ثم قال: لا تيجان للعرب إلا العمائم والتاج لملوك العجم.
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه
البراجم: المفاصل التي تحت الأنامل، والواحد برجمة، وهي عبارة عن اليد.
يعني: أن الملوك إذا رأته قبلت بساطه؛ لأنها لم تكن أهلا لتقبيل يده ولا كمه.
قياماً لمن يشفى من الدّاء كليّه ... ومن بين أذنى كلّ قرمٍ مواسمه
قياماً: نصب بإضمار فعل. أي: تراهم قياما. وقيل: نصب على الحال. وقوله: يشفى من الداء كيه مثل. ومن؛ بمعنى الذي. المتقدم. والهاء في كيه تعود إلى من الأولى، وفي مواسمه إلى من الثانية. والقرم: الرئيس.
يقول: إنه يشفى من الداء كيه ويروض كل صعب. وكل قرم لقيه ولى عنه فآثار سيفه في قفاه وبين أذنيه. تلوح كالسمة.
وقيل: معناه: إنه يقهر كل قرم ويسمه سمة ذل وعجز. والمواسم: جمع ميسم وموسم.
قبائعها تحت المرافق هيبةً ... وأنفذ ممّا في الجفون عزائمه
قبيعة السيف: الفضة التي على قائمة مثل الكرة. والهاء في قبائعها للملوك وفي عزائمه للمدوح.
يقول: إنهم قيام بين يديه، وسيوفهم نحن مرافقهم وهم متكئون عليها، ثم قال: عزائم سيف الدولة في الأمور أنفذ من السيوف التي في الجفون.
له عسكرا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... بها عسكرا لم تبق إلاّ جماجمه
الوجه أن يقال: إذا رمى بها، ردا للضمير إلى أحد العسكرين.
معناه: له عسكر من الخيل، فإذا قصد إلى عسكر عدوه، قتلته الخيل وأكلته الطير، فلم يبق إلا عظام الرءوس. والهاء في جماجمه تعود إلى قوله عسكرا.
أجلّتها من كلّ طاغٍ ثيابه ... وموطئها من كلّ باغٍ ملاغمه
الملاغم: ما حول الفم. واحدها ملغم.
يقول: جلال خيله: ثياب كل طاغ قتله، وموطئها: ملاغم كل باغ. والتأنيث: للخيل: والتذكير: للطاغي والباغي.
فقد ملّ ضوء الصّبح ممّ تغيره ... وملّ سواد اللّيل ممّا تزاحمه
التاء في تغيره وتزاحمه للخيل. وأراد: مما تغير فيه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إليه.
يقول: إن الصبح قد مل من كثرة إغارة الممدوح فيه، وسواد الليل قد مل من كثرة سيره فيه، ومزاحمته إياه.
وملّ القنا ممّا تدقّ صدوره ... وملّ حديد الهند مما تلاطمه
تدق صدوره: أي تكسره. وتلاطمه: أي تضاربه.
يقول: إن الرماح والسيوف قد ملت؛ من كثرة ما تطعن بالرماح وتكسرها، وتضرب بالسيوف.
سحابٌ من العقبان يزحف تحتها ... سحابٌ إذا استسقت سقتها صوارمه

السحاب: يذكر على اللفظ، ويؤنث على معنى الجمع، فأنث السحاب الأول على المعنى، وذكر الثاني على اللفظ وإقامة القافية.
شبه الجيش، والعقبان فوقه، بسحاب يسير تحت سحاب آخر، ثم جعل الأسفل يسقي الأعلى، فجعل الغمام مستقياً، مع أنه يكون ساقياً.
سلكت صروف الدّهر حتّى لقيته ... على ظهر عزمٍ مؤيداتٍ قوائمه
مؤيدات: محكمات، لما جعل عزمه مركوباً، جعل له ظهراً وقوائما.
يقول: ركبت عزمي وسلكت إليه المؤيدات، مفاوز شديدة، كأنها صروف الدهر. يعني: أني قويت عزمي على قصده، فتكلفت الأسفار حتى لقيته.
مهالك لم تصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه
مهالك: بدل من صروف الدهر. والقوادم: ريش الجناح المقدمة، وفاعل تصحب: نفسه، ومفعوله: ذئب. وفاعل حملت: قوادمه، والغراب: مفعوله. والضمير: الغراب.
يعني: أن هذه المفاوز مهالك وحشة لا يقدر الذئب على قطعها، ولا الغراب على سلوكها؛ لشدتها. ومثله قول الآخر:
مهامة لا يسرى بها النّجم وحده ... ولا الطّيف إلاّ خائفاً يترقّب
فأبصرت بدراً لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحراً لا يرى العبر عائمه
عبر الوادي: شطه.
يقول: لما وصلت إليه رأيت بدراً لا يرى البدر الحقيقي مثله، وخاطبت بحراً ليس له عبر ولا نهاية
غضبت له لمّا رأيت صفاته ... بلا واصفٍ والشّعر تهذى طماطمه
الطماطم: جمع طمطمة، وهي ما لا يفهم من الكلام.
يقول: لما رأيت صفاته بلا واصف يصفها بحقائقها، غضبت لهذا الممدوح، فبصرت ببدائع شعري، وصار شعر غيري كالهذيان الذي لا معنى له.
فكنت إذا يمّمت أرضاً بعيدةً ... سريت فكنت السّرّ واللّيل كاتمه
الهاء في كاتمه للسر.
يقول: كنت أسير ليلاً مخفياً سيري، فكنت كأني سر في ضمي الليل، وهو يكتمني عن كل أحد.
وهذا البيت من بدائع هذه القصيدة وسيدها، وواسطة قلادتها.
لقد سلّ سيف الدّولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضّرب ثالمه
يقول: هو سيف سله المجد، ليضرب به رقاب البخل، فالمجد لا يخفيه والضرب لا يثلم حده.
على عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفي يد جبّار السّماوات قائمه
أي على عاتق الخليفة، لأنه من جملة أوليائه وأنصار دعوته. وقوله: وفي يد جبار السماوات قائمه أي أنه سيف الله يضرب به رءوس من كفر به وعبد إله غيره.
تحاربه الأعداء وهي عباده ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه !
يقول: إن أعداءه يحاربونه، وهم عباده، يعلمون أنه يأسرهم ويستعبدهم ويجمعون الأموال وهم يعلمون أنه يغنمها !
ويستكبرون الدّهر والدّهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه
يقول: إن الناس يستكبرون أمر الدهر في تصرفه، وهو أكبر منه قوة ! ويستعظمون الموت وهو خادمه ! يهلك من يأمره بقتله.
وإنّ الّذي سمّى عليّا لمنصفٌ ... وإنّ الّذي سمّاه سيفاً لظالمه
يقول: من سماه عليا فقد أنصفه؛ لأنه على المنزلة، رفيع المحل، ومن سماه سيفا فقد ظلمه؛ لأنه أمضى من السيف وأعظم تأثيراً منه.
وما كلّ سيفٍ يقطع الهام حدّه ... وتقطع لزبات الزّمان مكارمه
لزبات: أصله تحريك الزاي، ولكنه خففه وسكنه ضرورة: وهي الشدائد. يقول: من سماه سيفاً إنما ظلمه؛ لأن السيف عمله القطع فقط، وربما ينبو فلا يقطع رقاب الأعداء، والممدوح يكشف شدائد الزمان بمكارمه وبجوده فتسميته بالسيف ظلم؛ لأنه أعم منه نفعاً.
وقال أيضاً يمدحه وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية:
أين أزمعت أيّهذا الهمام ؟ ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام
الربا: جمع ربوة، وهي ما ارتفع من الأرض.
يقول: أي موضع عزمت أن ترحل إليه أيها السيد العظيم الهمة ؟ فنحن محتاجون إلى مقامك احتياج نبت الربا إلى مطر الغمام، وخص نبت الربا؛ لأنه أحوج إلى سقيا الغمام، ولأن الروضة إذا كانت على ربوة كانت أحسن وأنضر وأخضر.
نحن من ضايق الزّمان له في ... ك وخانته قربك الأيّام

حكى ابن جني عنه قال: أردت أن أقول: ضايقة الزمان، فزدت اللام فقلت: ضايق الزمان له. قال ابن جني: ومثله قوله تعالى: عسى أن يكون ردف لكم أي ردفكم؛ وخان: تعدى إلى مفعولين: أحدهما الهاء في خانته والثاني قربك وفاعله: الأيام. والهاء في له وخانته راجعة إلى من.
يقول: إن الزمان ضايقنا فيك، وحسدنا على قربك، فخانتنا الأيام في قربك، وفرقت بيننا وبينك.
في سبيل العلا قتالك والسّل ... م وهذا المقام والإجذام
الإجذام: سرعة السير، وأصفه قطع الأرض بالأسفار.
يقول: كل ما تفعله من قتال وسلم، وإقامة وترحال، يشيد مجدك ويرفع قدرك، فتنال معال مع معاليك.
ليت أنّا إذا ارتحلت لك الخيل ... وأنّا إذا نزلت الخيام
الخيمة في الأصل: بيت يتخذ في الصيف من الخشب، وأغصان الشجر، ثم استعمل في المضارب وبيوت الشعر مجازاً.
يقول: ليتنا كنا خيلك عند ارتحالك، وخيامك عند نزولك، حتى لا نفارقك. وقيل: أراد ليتنا نقيك الأذى من فوق: من الحر والبرد، ومن أسفل: من الخشونة والتعب.
كلّ يومٍ لك احتمالٌ جديدٌ ... ومسيرٌ للمجد فيه مقام
الاحتمال: الرحيل.
يقول: كل يوم تسافر، فالمسير لك مقام المجد والعز. يعني: أنك دائم السعي فيما فيه مجدك.
وإذا كانت النّفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
أراد بالنفوس: الأرواح والهمم.
يقول: إذا كان الإنسان كبير النفس عالي الهمة طلبت همته الأمور العالية، فأتعبت أجسامها في مرادها.
وكذا تطلع البدور علينا ... وكذا تفلق البحور العظام
يقول: كل رفيع القدر عالي الهمة، لا تدعه همته أن يستقر، كما أن البدر يطلع ولا يفتر عن المسير، وكذلك البحار العظام، لا يسكن موجها وعباؤها.
ولنا عادة الجميل من الصّب ... ر لوانّا سوى نواك نسام
نسام: أن نكلف.
يقول: من عادتنا الصبر الجميل على جور الزمان، ولكنا لا نقدر أن نصبر على فراقك والبعد عنك
كلّ عيشٍ ما لم تطبه حمامٌ ... كلّ شمسٍ ما لم تكنها ظلام
يقول: إذا لم يطب العيش بقربك، فهو من جملة الموت، وكل شمس سواك فهي ظلام، فطيب عيشنا بقربك، ونور أبصارنا برؤيتك.
أزل الوحشة الّتي عندنا يا ... من به يأنس الخميس اللّهام
الوحشة: انزعاج النفس من الوحدة. والخميس: العسكر الكثير. واللهام: العظيم الذي يلهم كل شيء فيبتلعه ويهلكه.
يقول: أزل عنا الوحشة التي نجدها لفراقك، بالمقام علينا. يا من يأنس به الخميس العظيم ويجتمع عيه، وإذا غاب وجد على نفسه.
والّذي يشهد الوغى ساكن القل ... ب كأنّ القتال فيها ذمام
الوغى: الحرب. والهاء في فيها ضمير لقوله: الوغى لأنه في معنى الحرب وهي مؤنثة.
يقول: أزل عنا الوحشة يا أيها الرجل الذي يحضر الحرب، وهو ساكن القلب، حتى كأن القتال - الذي يكون في الحرب - عهد وأمان.
والّذي يضرب الكتائب حتّى ... تتلاقى الفهاق والأقدام
الفهاق: جمع فهقة، وهي موصل الرأس في العنق، وقيل: هي عظم عند حالق الرأس، مشرف على اللهاة.
يقول: إنك تقطع رقاب الفرسان حتى تقع رءوسهم على أقدامهم. وقيل: إنه يقطع الأعضاء حتى يصير الأسفل أعلى والأعلى أسفل. حتى يلتقي طرفا الجسم على ما بعد بينهما.
وإذا حلّ ساعةً بمكانٍ ... فأذاه على الزّمان حرام
الهاء في أذاه تعود إلى المكان.
يقول: إذا نزلت بمكان فلا يؤذى الزمان ذلك المكان، فكأن أذاه على الزمان حرام.
والّذي تنبت البلاد سرورٌ ... والّذي يمطر السّحاب، مدام
يقول: إن الممدوح إذا حل بمكان، فالذي تنبته أرضها إنما هو السرور، والذي يمطر سحابها إنما هو الخمر. يعني: أنه إذا نزل بمكان أحسن إلى أهله، وبسط العدل فيهم، فاتصل سرورهم، وأمنت نفوسهم.
ولما جعل نبات أرضهم سروراً، جعل مطر سحابهم مداماً؛ لأن المدام تولد السرور، كما أن الغيث يولد العشب، والذي مبتدأ وسرور خبره وتنبت صلته، وفاعله: البلاد. وكذلك الكلام في المصراع الثاني.
كلّما قيل قد تناهى أرانا ... كرماً ما اهتدت إليه الكرام
يقول: كرمه لا نهاية له، فكلما قيل إنه قد بلغ الغاية في الكرم ابتدع كرماً ثانياً، لا يهتدى الكرام إليه، ولا يبلغ خاطرهم إلى بعضه

وكفاحاً تكعّ عنه الأعادي ... وارتياحاً يحار فيه الأنام
الكفاح: مباشرة الحرب. يقال لقيته كفاحاً: أي مواجهة. تكع: أي تجبن وتتأخر. وكفاحاً: نصب عطفاً على قوله: أرانا أي أرانا كرما وكفاحاً وارتياحاً.
يقول: أرانا شجاعة تعجز عنها أعداؤه، وجوداً يتحير الخلق فيه.
إنّما هيبة المؤمّل سيف الدّو ... لة الملك في القلوب، حسام
يقول: يهابونه وليس هو سيفا ! بل هيبته في القلوب سيف قاطع، حتى لا أحد يعدل عن طاعته.
فكثيرٌ من الشّجاع التوقّي ... وكثيرٌ من البليغ السّلام
يقول: إن هيبته قد همت الناس، والشجاع الفاتك إذا تحرز منه، فذاك غاية الشجاعة. والخطيب المصقع يستكثر أن يسلم عليه، فضلاً عن أن يبسط في الكلام معه. ومثله للفرزدق:
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلاّ حين يبتسم
وقال أيضاً عند مسيره عنها وقد نزل المطر في ذلك اليوم.
رويدك أيّها الملك الجليل ... تأىّ وعدّه ممّا تنيل
رويدك: أي أمهل، وهو اسم للفعل، ولا موضع للكاف.
الإعراب: تأىّ أي توقف وهو بدل من رويدك وإن شئت جعلته توكيداً، كأنه قال: رويدك رويدك فكرر المعنى، وخالف بين اللفظين، وروى: تأن أي توقف وتثبت. والهاء في عده ضمير للمصدر، وجل عليه قوله: تأي.
يقول: أمهل أيها الملك الجليل، وتوقف وعد وقوفك علينا من بعض صلاتك ونعمك.
وجودك بالمقام ولو قليلا ... فما فيما تجود به قليل
وجودك: نصب على تقدير: جد جودك، فهو مصدر في موضع الأمر كقوله تعالى: فضرب الرقاب وكذلك قليلا أي ولو فعلته وجدته، فهو صفة لموصوف محذوف. ويجوز نصبه على الحال. ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف. أي ولو زماناً قليلا.
يقول: جد علينا بالمقام ولو زماناً قليلا، ثم احترز وقال: كل ما تجود به ليس بقليل؛ لأن لنا فيه نفعاً كثيراً.
لأكبت حاسداً وأرى عدوّا ... كأنّهما وداعك والرّحيل
الكبت: القهر، والإذلال. وأرى: من الورى، وهو داء الجوف. وقيل: معناه أضرب رئته من قولهم: وريته أريه. كما تقول: رأيته.
يقول: جد علينا بالمقام؛ لأكبت بذلك حاسدي، وأمرض عدوي؛ لأنهما بغيضان عندي، مثل وداعك وارتحالك.
ويهدأ ذا السّحاب فقد شككنا ... أتغلب أم حياه لكم قبيل ؟
ويهدأ عطف على ما تقدم: أي يسكن. وتغلب رفع بالابتداء، وقبيل خبره. وقيل تغلب خبر ابتداء محذوف.
يقول: أقم علينا حتى يسكن مطر هذا السحاب، فإنا قد تشككنا في أمر هذا المطر، فلا ندري أنه مطر، أم قبيلك ؟ التي هي بنو تغلب. يعني: أن جود هذا المطر يشبه جود بني تغلب، أي كثرة هذا المطر يشبه كثرتهم. والحيا: مقصور، المطر العام.
وكنت أعيب عذلاً في سماح ... فها أنا في السّماح له عذول
له قيل: تعود الهاء إلى المطر. ومعناه: أني كنت أعيب كل من يعذل على السماح، فلما كثر هذا المطر صرت أعذله على كثرة سماحه. وقيل: إن الهاء تعود إلى سيف الدولة يعني: أني أعذل سيف الدولة على كثرة سخائه بعد ما كنت أعيب من يعذل السخي على سخائه.
وما أخشى نبوّك عن طريقٍ ... وسيف الدّولة الماضي الصّقيل
سيف الدولة مبتدأ. والماضي خبره. وهذه الجملة في موضع نصب على الحال. والكاف في قوله نبوك قيل: خطاب لسيف الدولة.
ومعناه: لم أقل لك أقم، حتى يهدأ هذا السحاب، لأنه يعوقك عن طريقك، لأني لا أخشى نبوك: أي كلالك وتقاعدك عن طريق تريد أن تسير فيه، وأنت سيف الدولة، وسيف الدولة لا يكون إلا ماضياً صقيلاً، لا ينبو عن شيء.
وقيل: إنه خطاب للسحاب. ومعناه: لا أخشى انقطاعك عنا أيها السحاب وفقدنا إياك في طريق نسلكه، إذا كان سيف الدولة ماضياً صقيلاً، لأنه ينوب عنك ويزيد عليك.
وكلّ شواة غطريفٍ تمنّى ... لسيرك أنّ مفرقها السّبيل
الشواة: جلدة الرأس. والغطريف: السيد. ومفرق الرأس: حيث يتفرق الشعر. وتمنى: الأصل فيه تتمنى، فحذف إحدى التاءين.
يقول: إذا ارتحلت فكل سيد يتمنى رأسه: أي مفرقه، طريقاً لك ليشرف بك وينال بسببك رفعة.
ومثل العمق مملوءاً دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول

العمق: الفج، وهو الطريق الواسع في الجبل. وقيل: موضع بالشام أوقع سيف الدولة فيها بالأعداء وقعة عظيمة. ويقال: هو موضع كثير الوحل. مملوءاً: قيل نصب على التمييز، وقيل: على الحال. وروى بالرفع فيكون خبراً عن مثل وروى بالجر فيكون بدلا من العمق.
يقول: كم من مواضع في الحرب قد امتلأت بالدم فخاضت بك خيلك، ومشت بك في مجاريه، فكيف بالوحل والمطر ؟! والهاء في مجاريه للعمق.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول
فأهون: مبتدأ. وما يمر به: صلة وما بمعنى الذي. ويجوز أن تكون نكرة موصوفة. يعني: فأهون شيء يمر به، وفاعل يمر ضميره. والوحول خبر أهون.
يقول: من تعود خوض المنايا والحروب، فخوض الوحل أهون شيء عليه.
ومن أمر الحصون فما عصته ... أطاعته الحزونة والسّهول
الحزون، والحزونة: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض وارتفع. وقيل: إن الحزونة مصدر مثل السهولة.
يقول: من رام القلاع الحصينة والحصون المنيعة فلم يصعب عليه فتحها وأخذها حتى كأنها مأمورة له، فكيف يصعب عليه السير في حزن الأرض وسهلها ؟!
أتحفر كلّ من رمت اللّيالي ... وتنشر كلّ من دفن الخمول ؟!
خفرت الرجل خفارة: إذا أجرته وحفظته، وأراد من رمته الليالي ومن دفنته الخمول فحذف الضمير. وتنشر: أي تحيي، والخمول: خفاء الذكر والألف في أتخفر للاستفهام، والمراد به التقدير.
يقول: كل من رمته الليالي بشدائدها فإنك تحفظه، وكل من كان خامل الذكر فإنك ترفعه.
وندعوك الحسام وهل حسامٌ ... يعيش به من الموت القتيل ؟!
يقول: كيف يجوز أن ندعوك الحسام وأنت أعظم منه فعلا ؟! وليس حسام يعيش به القتيل بعد الموت ! وأنت تحي من قتله الفقر، وترفع من خفضه الخمول.
وما للسّيف إلاّ القطع فعلٌ ... وأنت القاطع البرّ الوصول
إلا القطع: نصب لأنه استثناء مقدم. أي ليس للسيف فعل، وأنت تقطع رقاب الأعداء، وتبر قصادك وتصل أولياءك وعشيرتك.
وأنت الفارس القوّال: صبراً ... وقد فني التّكلّم والصّهيل
أي أنك تقول: صبراً صبراً ونصب صبرا على الحكاية، فحكى ذلك اللفظ على إعرابه. وقيل: نصب بقوال.
يقول: أنت الفارس الذي يصبر أصحابه إذا اشتدت الحرب، ولم يقدر الشجاع على الكلام، ولا الفرس على الصهيل، من التعب والخوف.
يحيد الرّمح عنك وفيه قصدٌ ... ويقصر أن ينال وفيه طول
يقول: هيبتك ملأت قلوب الناس، فمن بارزك تخذله يده وأقدامه، فيحيد الرمح عنك ويقصر، فلا يصل إليك، وإن كان طويلا. وقوله: وفيه قصد وفيه طول في موضع نصب على الحال.
فلو قدر السّنان على لسانٍ ... لقال لك السّنان كما أقول
يقول: إن ما أقوله لو علمه من لا ينطق لقال لك مثل ما أقول، وأثنى عليك مثل ثنائي.
ولو جاز الخلود خلدت فرداً ... ولكن ليس للدّنيا خليل
يقول: لو جاز أن يخلد أحد دائماً في هذه الدنيا، لخلدت أنت وحدك؛ إذ لا نظير لك، ولكن الدنيا ليست بخليل تدوم.
وقال يرثى والدة سيف الدولة، وقد ورد خبرها إلى أنطاكية في جمادي الآخرة سنة 337:
تعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
نعد: أي نجعل عدة. والمنون: الموت، وأنثه ذهاباً به إلى المنية.
يقول: نحن نعد للمنون السيوف والرماح للقتال، والموت يقتلنا قبل القتال، فليس فيما نعده فائدة عند دنو الآجال كأنه من قوله تعالى: " أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْمُ الْمَوْتُ " .
ونرتبط السّوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب اللّيالي
نرتبط: أي نشد. والسوابق: الخيل. ومقربات: أي مدنيات من البيوت والخبب: السير السريع.
يقول: نحن نرتبط السوابق لنهرب عليها، إن جاءنا حادث، ولكن لا تنجينا من سير الليالي، فإنها تدركنا لا محالة.
ومن لم يعشق الدّنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى وصال
يقول: إن الإنسان يعشق الدنيا من قديم الدهر. يعني: أن كل أحد يعشق الدنيا ويحب البقاء فيها والخلوص من شوائبها، ولكن لا سبيل إلى ما يحب.
نصيبك في حياتك من حبيبٍ ... نصيبك في منامك من خيال
نصيبك: الأول مبتدأ، ونصيبك الثاني خبره.

يقول: إن ما تناله من اللذة والسرور بقرب حبيبك لا حقيقة له، وإنه لزائل، كما لا حقيقة لما تراه في المنام من خيال الحبيب، فنصيبك منه عياناً كنصيبك من خياله الذي ليس هو بشيء حقيقة.
رماني الدّهر بالأرزاء حتّى ... فؤادي في غشاءٍ من نبال
يقول: إن الدهر رماني بسهام مصيبة، حتى عمت فؤادي وصار قلبي كأنه في غطاء أو غشاء من سهام.
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسّرت النّصال على النّصال
يقول: إن سهام الدهر لم تدع في قلبي موضعاً إلا وفيه سهم، حتى كأنه إذا رماني بسهامه وقع سهم على سهم آخر، ولم يجد في فؤادي مكاناً خالياً، فتكسرت السهام على السهام.
وهان فما أبالي بالرّزايا ... لأنّي ما انتفعت بأن أبالي
معناه: وهان على الدهر وحوادثه. وقيل: هان علي ما ألقاه، فأضمر الفاعل. وهان: أي خف.
يقول: خف علي أمور المصائب، فلا أبالي بها ولا أجزع عند نزولها. أي لأني ما انتفعت بما بليت قبل ذلك، فكذلك لا أنتفع بالمبالاة في المستقبل أيضا.
وهذا أوّل النّاعين طرّا ... لأوّل ميتةٍ في ذا الجلال
الناعي: المخبر بالموت. وطرا: نصب على المصدر، وهو توكيد. وميتة: تخفيف ميتة، وروى ميتة. والجلال كالجلة. وذا: بمعنى هذا. والجلال: هو ملك سيف الدولة.
يقول: هذا أول مخبر خبر بأول مصيبة في هذه الدولة ! يعني: أنه لم ير في ملكه شيئاً يكرهه قبل هذه. وقيل معناه: لأول ميتة في هذا الجلال والعظمة.
كأنّ الموت لم يفجع بنفسٍ ... ولم يخطر لمخلوقٍ ببال
تقديره: لم يفجع أحداً بنفس، فحذف المفعول.
يقول: كأن هذه المصيبة لعظمها، أنست كل مصيبة كانت قبلها، حتى كأن الموت لم يفجع أحداً بموت أحد، ولم يخطر على قلب أحد، لعظم هذه المصيبة، أو لأنه لم يمت له أحد قبلها. ومثله قول الآخر:
كأن لم يمت حيّ سواك ولم يقم ... على أحدٍ إلاّ عليك النّوائح
صلاة اللّه خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال
يقول داعياً لها: إن صلاة الله عليك حتى تقوم مقام الحنوط للميت. وخص الوجه المكفن بالجمال: تشريفاً للوجه وهو عبارة عن جميع الشخص.
على المدفون قبل التّرب صوناً ... وقبل اللّحد في كرم الخلال
على المدفون: بدل من قوله: على الوجه. ونصب صوناً: على التمييز.
يقول: إن رحمة الله على الميت كان مدفوناً في الصيانة والعفة قبل أن يدفن في التراب، كذلك مدفوناً في الخصال الكريمة قبل الدفن في اللحد. وروى: قبل الموت بدل الترب
فإنّ له ببطن الأرض شخصاً ... جديداً ذكرناه وهو بالي
أي للمدفون وذكرناه أي ذكرنا له. وجديداً: نصب صفة لشخص.
يقول: إن هذا الشخص ذكرنا له جديد، وإن بلي في التراب ومضى.
أطاب النّفس أنّك متّ موتاً ... تمنّته البواقي والخوالي
فاعل أطاب: أنك، وهو في موضع رفع.
يقول: طيب نفسي، ونفوس أوليائك، موتك في العز والإكرام. ومثل هذا الموت، في مثل هذا العز مما يتمناه كل أحد من الأموات والأحياء.
وزلت ولم ترى يوماً كريهاً ... تسرّ الرّوح فيه بالزّوال
يقول: طيب نفسي أنك زلت ومت من الدنيا مسرورة ولم تر فيها يوماً مكروهاً يتمنى فيه الموت.
رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك عليّ ابنك في كمال
مسبطر. أي ممتد طويل، وروى مستطيل.
يقول: لم تموني حتى رأيت رواق عز ابنك ممتداً وملكه كاملاً.
وذكر ابن جني وكثير ممن فسروا هذا الديوان: أن قوله: مسبطر لفظه مستقبحة خصوصاً في النساء، ولعلهم قالوا ذلك لما وقفوا على بيت لأني الشمقمق وهو قوله:
مررت بإير بغل مسبطر ... فويق الباع كالوتر المطوق
وليس كذلك، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في غير هذا المعنى. فقد وصف أمر السير بها وقال: ومن سيرها العنق المسبطرة وذكرها ذو الرمة في الكواكب فقال:
............. ... من اللّيل جوز واسبطرت كواكبه
سقى مشواك غادٍ في الغوادي ... نظير نوال كفّك في النّوال
يقول: سقى القبر الذي ثويت فيه سحاب غاد أي: مطر مدرار يشبه نوال كفك في كثرته وغزارته، فكما أن نوال كفك أغر من نوال غيرك، فكذلك هذا السحاب أغر من كل سحاب.
لساحيه على الأجداث حفشٌ ... كأيد الخيل أبصرت المخالى

الساحي: القاشر. والهاء في لساحية تعود على قوله غاد والحفش: الأثر. وقيل: هو مصدر السيل حفشاً: إذا جمع الماء من كل جانب. وقوله: كأيدي الخيل: أي كحفش أيدي الحيل، فحذف المضاف. والمخالي. جمع مخلاة، وهي وعاء يجعل فيه العلف.
يصف شدة وقع المطر الذي دعا لقبرها بسقياه فيقول: سقى قبرك غاد: مطر يقشر عنه ويترك على القبر أثراً مثل آثار أيدي الخيل إذا أبصرت المخالي ومثله. قول حميد:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمةٌ تهمى
وروى تنم. وقيل: هو من قولهم: حفش المطر الأرض: إذا أظهر نباتها. كأنه يقول: سقى قبرك غاد. مطر ينبت النبات. ثم شبهه بفعل أيدي الخيل في حالة مخصوصة، إشارة إلى معنى المبالغة في إنبات ما يدعو الناس إلى الإقامة بها والحلول فيها؛ لأنه كلما كان أشد كان أحسن لنباته. وقال ابن الأعرابي: حفشت السماء. إذا جاءت بمطر قليل، وهذا مما يزيد الطعن.
أسائل عنك بعدك كلّ مجدٍ ... وما عهدي بمجدٍ منك خالي
يقول: لما فقدتك جعلت أساءل عنك كل مجد؛ لأن المجد كان قرينك، وما رأيت مجداً خالياً منك، وكان هو الأولى بأن يسأل.
يمرّ بقبرك العافي فيبكي ... ويشغله البكاء عن السّؤال
يقول: إذا مر بقبرك من كان يقصدك، بكى أسفا لفقدك، فاشتغل ببكائه عن أن يسألك، كما كانت عادته في حياتك.
وما أهداك للجدوى عليه ! ... لو أنّك تقدرين على فعال
الهاء في عليه للعافي.
يقول: ما أرشدك إلى الإجداء عليه، والإنعام لديه ! لو قدرت على الفعل، ولكنك لا تقدرين على ذلك، لأنك ميته.
بعيشك هل سلوت ؟ فإنّ قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي
بعيشك: قسم على المتوفاة.
يقول: بعيشك، ألا أخبرتيني: هل سلوت عني وطابت نفسك بعدي ؟! فإني وإن كنت بعيداً عن أرضك غير صابر عنك.
وهذا قد ذكره على لسان سيف الدولة، ولو لم يرد هذا المعنى لكان سوء أدب ! ويحكى عن أبي الطيب أنه أنكر هذا البيت وقال: إنه زيد في القصيدة ليفسد به حالي عند سيف الدولة.
نزلت على الكراهة في مكانٍ ... بعدت عن النّعامى والشّمال
النعامى: الجنوب، وقيل: كل ريح، وقوله بعدت: أي بعدت فيه فحذف للعلم بذلك.
يقول: إنك قد نزلت على كراهة منك. وقيل: على كره منا، في مكان منعت فيه عن اللذات، وفقد الحياة، وتنسم رياح الجنوب والشمال !
تحجّب عنك رائحة الخزامى ... وتمنع منك أنداء الطّلال
الخزامى: نبت طيب الرائحة. وروى: الظلال والطلال بالظاء والطاء. ومعناه: إنك فقدت لذات الدنيا لفقدك الحياة.
بدار كلّ ساكنها غريبٌ ... طويل الهجر منبتّ الحبال
يقول: نزلت بدار كل ساكنها غريب، لأنه لم يكن به أحد قط، ولأنه منفرد لا يزوره أحد، وكل ساكنها طويل الهجر، لا يرجع إلى يوم الحشر، وهو منقطع الأسباب، إذ لا وصل بين الأحياء والأموات.
وقيل: أراد بقوله: منبت الحبال انبتات المودة كما قال أبو نواس:
وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا وصل إلاّ أن يكون نشور
حصانٌ مثل ماء المزن فيه ... كتوم السّرّ صادقة المقال
حصان بفتح الحاء: أي عفيفة. والهاء في فيه ترجع إلى المكان في قوله: نزلت على الكراهة في مكان. وقيل: ترجع إلى المزن يعني مثل ماء المزن في المزن قبل مفارقتها إياه.
يمدحها بالعفة والطهارة وكتمان السر وصدق القول. وشبهها في طهارة أخلاقها بالماء ما دام في السحاب لا يلحقه دنس ولا كدر. وقيل في قوله: صادقة المقال لأنها لا تقارب ريبة فتحتاج إلى العذر.
يعلّلها نطاسيّ الشّكايا ... وواحدها نطاسيّ المعالي
يعللها: أي يداويها. وعللت المريض: إذا أقمت عليه في علته. النطاسي: الطبيب الفطن. والشكايا: جمع شكية وهي ما يشكوه من مرض وغيره وأراد بواحدها: سيف الدولة والهاء: للمتوفاة.
يقول: إن طبيب الأمراض كان يداويها، وكذلك واحدها: أي ابنها الذي هو طبيب المعالي. أي أنه إذا وقع الخلل في المعالي سده برأيه.
إذا وصفوا له داءً بثغرٍ ... سقاه أسنّة الأسل الطّوال
يقول: إن طبيب المعالي، فإذا وصف له داء بثغر من ثغور المسلمين، سقاه الأسنة وداواه بها حتى يشفيه كما يشفي الطبيب من الأمراض بالعقاقير والأدوية ومثله لأبي تمام:

وقد نكس الثّغر فابعث له ... صدور القنا لابتغاء الشّفاء
وليست كالإناث ولا اللّواتي ... تعدّ لها القبور من الحجال
يقول: ليست من النساء اللواتي تكون القبور سترا لهن، ويعد موتهن كرامة، لأنها كاملة الخصال، شريفة الخلال، ليس لها نقص النساء الذي يحتاج إلى الستر بالقبر. وهذا كأنه من الخبر، دفن البنات من المكرمات.
ولا من في جنازتها تجارٌ ... يطون وداعها نفض النعال
يقول: ليست هي من نساء العامة التي يحضر جنازتها التجار فإذا دفنوها وودعوها نفضوا نعالهم وانصرفوا عنها.
مشى الأمراء حوليها حفاةً ... كأنّ المرو من زفّ الرّئال
المرو: جمع مروة، وهي حجر أبيض. والزفة: الريش تحت الجناح للطائر وهو ألين ما يكون من الأشياء. والرئال: جمع الرأل وهو فرخ النعام.
يقول: مشت الأمراء والملوك حول نعشها حفاة فلم يشعروا بخشونة الأحجار على أقدامهم الناعمة حزناً بها، حتى كأن الحجارة كانت عندهم في اللين كزف أفراخ النعام.
وقيل: إنهم لكثرتهم وشدة وطئهم على الحجارة وقلة مبالاتهم بها، صارت الأحجار مسحوقة لينة كريش النعام.
وأبرزت الخدور مخبّآتٍ ... يضعن النّقس أمكنة الغوالي
أبرزت: أي أظهرت. والخدور: الستور، وهي الفاعلة. ومخبآت: أي مخدرات، وهي المفعولة، والمراد بالنقس المداد، وهو السواد. والغالية: هي المسك والعنبر معجونان.
يقول: إن النساء المخبآت في الخدور برزن من خدورهن ووضعن المداد على خدودهن وشعورهن، ومواضع كن يضعن فيها الغوالي.
أتتهنّ المصيبة غافلاتٍ ... فدمع الحزن في دمع الدّلال
وروى: المصائب. يقول: إن هذه المصيبة أتت هؤلاء المخبآت وهو غافلات في السرور والدلال، بحيث كانت عيونهن تدمع من السرور، لحياة هذه المتوفاة ولوجوه أخر من المسرات، فأتتهن المصيبة فجأة فأخرجت من عيونهن دمع الحزن واختلط بدمع الفرح.
ولو كان النّساء كمن فقدنا ... لفضّلت النّساء على الرّجال
معناه ظاهر، وكونها كانت أفضل من الرجال، لما لها من زيادة العقل والرأي الكامل، والخصال الفاضلة. وروى: لفضلت النساء وذلك يلائم قوله: فقدنا فيكون كل واحد إخبار عن النفس. ويحكى عن سيد المؤيد ؟ قدس الله روحه. قال: كنت أقرأ هذه القصيدة على المتنبي فقرأت لفضلت على ما لم يسم فاعله فرد علي فقال: أما أنا فلم أقل إلا فضلت على أن يكون الفعل لي. وهذا يؤيد ما ذكرناه من الرواية.
وما التّأنيث لاسم الشّمس عيبٌ ... ولا التّذكير فخرٌ للهلال
يقول: لا اعتبار بالتذكير والتانيث، وإنما الاعتبار بالفضل والنقص، فالهلال مذكر، والشمس مؤنث، ومع ذلك الشمس أفضل من الهلال.
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
يقول: أعظم من فجائع المفقودين فجيعة من وجدناه قبل الموت وحيداً لا نظير له يخلفه.
يدفّن بعضنا بعضاً ويمشي ... أواخرنا على هام الأوالي
الأوالي: مقلوب من الأوائل، فقدم اللام وأخر الهمز، ثم أبدلها ياء، فصارت كالقاضي.
يقول: الحي يدفن الميت، والآخر يمشي على هام الأول.
وكم عينٍ مقبّلة النّواحي ... كحيلٍ بالجنادل والرّمال
الجندل: الصخر. يقول: كم عين كانت مقبلة النواحي، أضحت مكحلة بالرمل تحت التراب.
ومغضٍ كان لا يغضى لخطبٍ ... وبالٍ كان يفكر في الهزال
يقول: كم رجل مغض: خاشع الطرف لأجل الموت. وقد كان لا يغضى لخطب من خطوب الدهر؛ لعزته ومنعته، وكم رجل قد بلي تحت التراب وتمزقت أوصاله، وقد كان يتفكر في هزال نفسه، ويطلب صلاح جسمه.
أسيف الدّولة استنجد بصبرٍ ... وأين بمثل صبرك للجبال ؟!
يقول: يا سيف الدولة، استعن بصبرك الذي هو كالجبال الثوابت، على هذه المصيبة العظيمة. ومن أين للجبال مثل صبرك ؟!
وأنت تعلّم النّاس التّعزّي ... وخوض الموت في الحرب السّجال
الحرب السجال: مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء مأخوذ من المساجلة: وهو المغالبة في جذب الدلو، والسجل: الدلو العظيم.
يقول: لا تحتاج أن نعزيك على مصائبك؛ لأنك تعلم الناس التصبر وتعلمهم خوض المنايا في الحروب العظيمة.
وحالات الزّمان عليك شتّى ... وحالك واحدٌ في كلّ حال

ذكر الحال في قوله: وحالك واحد في كل حال لأنه يذكر ويؤنث.
يقول: أحوال الزمان عيك متفرقة ومختلفة، ولا يزعجك منها شيء، ولا يغيرك عن حالك من الصبر والثبات والحلم والوقار في جميع الأوقات.
فلا غيضت بحارك يا جموماً ... على علل الغرائب والدّخال
غيضت: أي نقصت. والجموم: الكثير. والعلل: الشربة الثانية. والغرائب: جمع غريبة، وهي الناقة تدخل في الإبل وليست منها. والدخال: جمع دخل، وهو أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا يساعدهما على الشرب.
يقول: لا نقص الله من جمام بحارك، على كثرة ما يرد عليها من غرائب المصائب، وتكرير الحوادث، وهذا مثل. والمراد: لا نقص الله صبرك بكثرة ما يصيبك من حوادث الأيام. فشبه سيف الدولة بالبحر الكثير الماء، وحوادث الأيام بإبل ترد عليه مرة بعد أخرى.
وقيل معناه: لا نقص جودك على كثرة من يرده ممن لا يستحقه، كما أن الغرائب والدخال لا يستحق ورود الحوض، إذ الغرائب ليست من إبل هذا الحوض، والدخال قد شربت مرة. وقيل معناه: أنك كثير العطاء لمن هو مقيم عندك وهو المراد بالدخال، ولمن يرد عليك من مكان آخر وهو المراد بالغرائب، وهذا أبلغ من قول الكميت:
أناسٌ إذا وردت بحرهم ... صوادى الغرائب لم تقرب
رأيتك في الذين أرى ملوكاً ... كأنّك مستقيمٌ في محال
يقول: أراك بين الملوك كالمعنى المستقيم، والكلام المستقيم، والأمر المستقيم، الظاهر إلى جنب المستحيل الفاسد، أي أنك الملك على الحقيقة وغيرك من الملوك اسم بلا جسم.
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
المسك للظبي: بمنزلة الحيض للنساء. وقيل: لا يكون إلا في إناثها.
يقول: إن فضلت الأنام وعلوتهم وأنت من جملتهم فليس ذلك بعجب فإن المسك دم، ولكن يخالف سائر الدماء ريحاً وطبعاً.
وهذا من اختراعات أبي الطيب وفرائده. وقوله فإن تفق شرط وأنت منهم حال. فإن المسك جواب الشرط.
وقال يمدحه ويذكر استنقاذه أبا وائل: تغلب بن داود بن حمدان لما أسره الخارجي الناجم من كلب. ويصف قتل الخارجي.
وكان أبو وائل قد ضمن لهم، وهو في الأسر خيلا طلبوا منها: العروس ومالا اشترطوه عليه وأقاموا ينتظرون وصول ذلك فصبحهم سيف الدولة بالجيش فأبادهم، وقتل الخارجي في شهر شعبان سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
إلام طماعية العاذل ... ولا رأى في الحبّ للعاقل ؟
إلى من حروف الجر دخلت على ما الاستفهامية، ثم حذف منها الألف وجعلت مع إلى بمنزلة اسم. ومعناه: إلى أي شيء. وقيل إلى متى والطماعية مصدر كالطمع وهي مخففة إليه.
يقول: إلى متى يطمع العاذل في رجوعي عن الهوى، والعاقل إذا ابتلى في الهوى فقد فقد رأيه وزال عقله.
يراد من القلب نسيناكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل
يقول: إني مطبوع على حبكم، ومجبول على هواكم، والعاذل يريد مني أن أنساكم، وهذا محال، لأن الطبع لا يقدر أحد أن ينقه إلى غره، ويغيره عما هو عليه، ومثله قول الآخر:
لا تحسبوني عنكم مقصّرا ... إنّي على حبّكم مطبوع
وإنّي لأعشق من عشقكم ... نحولي وكلّ امرئٍ ناحل
أعشق: يجوز أن يكون فعلا مضارعاً، من عشقت ويكون كل منصوبا عطفاً على نحولي وهو في موضع النصب.
ومعناه: أني من فرط عشقي لكم أعشق نحولي، وأعشق كل عاشق مثلي ناحل مثل نحولي، للمشاكلة التي بيننا. ويجوز أن يكون أعشق أفعل تفضيل وكل يكون مجروراً عطف على الياء في نحولي. ومعناه: أني أعشق لكم. أي أشد عشقاً لكم من عشقكم نحولي ونحول كل فتى ناحل. يعني: أنكم تعشقون نحولي ونحول كل عاشق، وعشقي لكم أشد من عشقكم نحولي ونحول كل فتى هذه صفته.
ولو زلتم ثمّ لم أبككم ... بكيت على حبّى الزّائل
يقول: لو فارقتموني وفراقكم دال على زوال حبي ثم لم أبك لفراقكم، لبكيت على حبي الزائل؛ لأني أحب حبي لكم، فإذا زال ساءني زواله فأبكي له، وإن لم أبك لفراقكم، ويجوز أن يكون بكيت دعاء على نفسه. أي: إن لم أبك لكم، جعل الله حبكم زائلا عني حتى أبكي عليه.
أينكر خدّي دموعي وقد ... جرت منه في مسلكٍ سابل ؟
قيل: سابل بمعنى مسبول: أي مسلوك للمارة. وقيل: سابل: أي عامر بالمارة والهاء في منه للخد.

يقول: إن خدي لا ينكر دموعي السابلة عليه؛ لأنها لم تزل تسيل على الخد حتى صار فيه طريق سابل، فهذا الذي يجري الآن يجري في ذلك الطريق المسلوك.
وروى: في مسلك سائل يقال: هذا المكان سائل الماء. أي يسيل عليه الماء
أأوّل دمعٍ جرى فوقه ؟ ... وأوّل حزنٍ على راحل ؟
يقول: ليس هذا بأول دمع جرى، لأني كثيراً ما ابتليت بذلك، وليس الحزن الآن بأول حزن على حبيب راحل، لأني قد تجرعت من غمومه غير مرة.
وقيل معناه: لست أول عاشق بكى من الفراق وحزن من ألم الشوق، وقد كان قبلي عشاق يبكون ويحزنون على فراق الأحبة.
وهبت السّلوّ لمن لامني ... وبتّ من الشّوق في شاغل
يقول: تركت السلو على من لامني، ويأمرني بالسلو، ويعذلني عليه، واشتغلت بما أنا فيه من الوجد والشوق والمحبة.
كأنّ الجفون على مقلتي ... ثيابٌ شققن على ثاكل
يقول: كأن جفوني على مقلتي - لتباعد ما بين الجفون من شدة السهر - ثياب شققن على ثاكل؛ لأنها إذا شقت تباعد ما بين جانبي المشقق.
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
يقول: لو كنت أسيراً كسائر الأسارى. الذين يكونون في أيدي الأعادي لضمنت لهم من المال ما ضمنه أبو وائل، واستعنت بسيف الدولة ليخلصني من الأسر، ولكني أسير الهوى، فلا أقدر على الخلاص منه، ولا أقهره بشدة ولا قوة.
فدى نفسه بضمان النّضار ... وأعطى صدور القنا الذّابل
يقول: فدى نفسه أبو وائل من الخارجي بأن ضمن لهم الذهب، وأعطاهم صدور القنا التي جاء بها سيف الدولة حين استنقذه من يديه.
ومنّاهم الخيل مجنوبةً ... فجئن بكلّ فتىّ باسل
مجنوبة: أي مقودة جنب الفارس.
يقول: مناهم أبو وائل الخيل مقودة ليفدى بها نفسه فجاءتهم الخيل بكل فارس شجاع يضرب رءوسهم ويهلكهم.
كأنّ خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
شبه أسره وخلاصه بالقمر إذا غاب ثم طلع. يعني عاد كالقمر، وهو في نوره كما كان.
دعا فسمعت وكم ساكتٍ ... على البعد عندك كالقائل
يقول لسيف الدولة: إن أبا وائل دعاك لتخلصه، فسمعت دعاءه ثم قال: فكم ساكب أي أنك تراعي أمر القريب منك وأمر البعيد الذي لا يسألك مراعاته، فكأنه في سكوته استجارك كالناطق؛ لأن معونتك تعم الخاص والعام.
فلبيّته بك في جحفلٍ ... له ضامنٍ وبه كافل
ضامن وكافل: نعت لجحفل.
يقول: لما دعاك لبيته بنفسك في عسكر ضامن لأبي وائل، وكافل به، فخلصته من يد الخارجي، ولم يكن هناك دعاء ولا إجابة، ولكنه جعل وقوعه في يد الخارجي دعاء منه، وخروج سيف الدولة إجابة منه إياه.
خرجن من النّقع في عارضٍ ... ومن عرق الرّكض في وابل
خرجن: أي الخيل. والركض: الضرب بالرجل جنب الدابة.
يقول: إن الخيل لما ركضت، ثار الغبار مثل السحاب، وسال عرقها مثل المطر الوابل.
فلمّا نشفن لقين السّياط ... بمثل صفا البلد الماحل
نشفن: أي جف العرق عنهن. والصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة البيضاء. والبلد الماحل: المجدب، فحجره أصلب.
يقول: إنها لما عرقت الخيل علاها الغبار، وتلبد التراب عليها، فلما جف عرقها أشبهت جلودها الصلاء؛ لصلابتها، فوقعت السياط على جلود هذه صفتها، وإنما خص البلد الماحل قيل: لأن أحجارها أصلب من غيرها. وقيل: هذا لا معنى له وأنها لا تتغير، وإنما خصها لأنها أكثر غباراً من البلد الكثيرة الري، فشبه تراكم الغبار على جلودها في صلابتها بصفاء البلد الكثيرة التراب.
شفنّ لخمسٍ إلى من طلب ... ن قبل الشّفون إلى نازل
شفن: أي نظرن. والشفون: النظر.
يقول: إن الخيل سارت خمس ليال لم ينزل عنها فارس، فنظرت هذه الخيل إلى من طلبته من العدو، بعد خمس ليال، قبل نظرها إلى نازل عن ظهرها؛ وذلك لأن فرسانها واصلوا سيرها حتى أدركوا مقصودهم ولم ينزلوا عنها حتى لحقوا الخارجي.
فدانت مرافقهنّ البرى ... على ثقةٍ بالدّم الغاسل
روى: البرى والثرى.
يقول: قاربت مرافقهن التراب وخالطته عند العدو، ووثقت أن دم العدو يغسل هذه المرافق من التراب الذي عليها. ويجوز أن يكون دانت بمعنى أطاعت مرافقهن التراب، لأنها وثقت أن الدم يغسلها.
وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل

الكاذة: لحم الفخذ.
يقول: إن الفرس التي تطلب الغارة قد اتسع ما بين فخذيه، من شدة العدو، مثل ما بينهما إذا أراد أن يبول.
وقيل: أراد بالمستغير. الخارجي؛ لأنه كالطالب لهذه الغارة من خيل سيف الدولة.
فيقول: الدم الذي يترشش بين لحمتي فخذ الخارجي أو فخذ فرسه كان كالبول: أي يترشش على هذه المواضع عند البول.
فلقّين كلّ وردينيّةٍ ... ومصبوحةٍ لبن الشّائل
المصبوحة: التي سقيت اللبن وقت الصبح. والشائل: التي لا لبن لها، والشائلة: التي حملت وقل لبنها.
قال ابن جني؛ قلت للمتنبي: إن الشائل هي التي لا لبن لها، وأنت تريد ما لها لبن، والتي لها لبن قليل يقول لها: الشائلة. فقال أردت الهاء فحذفتها كقول الشاعر:
إنّا بنو عمكم لا أن نباعدكم ... ولا نحاربكم إلاّ على ناجي
فإنه أراد: ناجية. فسألته عن غرضه. في ذلك، فقال: إن الناقة إذا قل لبنها، ونجع في شاربه، فلا يسقونها الإكرام خيولهم.
فكأنه يقول: إن خيول سيف الدولة لقين أي لقيت خيله في جيش الخارجي كل رمح رديني، وكل فرس مصبوح لبن الشائل. التي جف لبنها. وقيل أراد بالشائل: التي لا لبن لها أصلاً. ومعناه: أنها لا تطعم فتلزم الطوى توفيراً لها على العدو.
وجيش إمام على ناقةٍ ... صحيح الإمامة في الباطل
أي: ولقين خيل سيف الدولة، جيش إمام في الباطل دون الحق. وكان الخارجي يدعى الإمامة.
فأقبلن ينحزن قدّامه ... نوافر كالنّحل والعاسل
ينحزن: أي يجتمعن، من قولك انحاز القوم إلى ناحية. إذا التجئوا إليها.
وقيل: يتفرقن يميناً وشمالاً، تذهب كل فرقة إلى حيزة.
وقيل: هو من نحزت الناقلة برجلي: إذا ركلتها. أي أنهن يركلن بأرجلهن، قدامه: أي قدام الخارجي، والعاسل الذي يخرج العسل.
يقول: إن خيل الخارجي رأوا جماعات لها ضجيج ونفر، فشبههم بالنحل. وشبه الخارجي بالعاسل. والنحل عند معالجة العاسل، يكون لها ضجيج ونفر في وجه العاسل.
وقيل معناه: أقبلت خيل الخارجي - لما رأت جيش سيف الدولة - تتفرق عنه وتسلمه إلى سيف الدولة، كما يسلم النحل ويتفرق عنه، إذا دخل عليه العاسل.
فعلى هذا: العاسل: سيف الدولة، والنحل: جيش الخارجي.
فلمّا بدوت لأصحابه ... رأت أسدها آكل الآكل
يقول لسيف الدولة: لما ظهرت لأصحاب الخارجي، وكانوا كالأسود رأوا منك أسداً يأكل كل أسدٍ آكلة لهم يأكلهم ويفنيهم.
بضربٍ يعمّهم جائرٍ ... له فيهم قسمة العادل
له أي للضرب. والباء متعلق بقوله: آكل الآكل. أي يأكلهم بضربٍ. جعل الضرب مجاوزاً للحد، خارجاً عن المعتاد. وقوله: قسمة العادل. فيه وجوه: أحدها: قيل معناه: أنه عدل، لأنه قربة إلى الله تعالى، لأنهم خوارج على إمامهم.
والثاني: أنه كان عدلا لخصوصة بالشجعان.
والثالث: أنه مقسوم بينهم على سواء، له في كل واحد منه حصة مثل حصة الآخر، ولم يفت منه أحد، فهو عدل من هذا الوجه.
والرابع: أنه كان عدلاً من حيث أنه جعل كل واحد منهم بنصفين على سواء، فكانت صورة القسمة النصفة.
وطعنٍ يجمّع شذّانهم ... كما اجتمعت درّة الحافل
روى: شذاذهم بذالين، وشذانهم بذال ونون، أي المتفرقون.
يقول: إن سيف الدولة كان يطعنهم طعناً يجتمع عليه المتفرقون، ويتعجبون من سعتها، كما يجتمع الدر في الضرع الحافل، ووجه التشبيه أنهم يجتمعون عليه واحداً واحداً وينضم واحد إلى آخر، كما تجتمع الدرة شيئاً فشيئاً. وقيل: أراد أن خيل الخارجي من شدة الطعن تجمعوا ليتقوا كما يجتمع الدرة في الضرع الحافل.
إذا ما نظرت إلى فارسٍ ... تحيّر عن مذهب الرّاجل
أي عن مذهب مثل الراجل.
يقول: إذا نظرت إلى فارس منهم خذلته نفسه، وبقي متحيراً لا يقدر على أن يسير مثل سير الراجل، ولا أن يذهب مثل مذهبه.
فظلّ يخضّب منها اللّحى ... فتى لا يعيد على النّاصل
الناصل: المضروب بالنصل، وهو فاعل بمعنى مفعول، والهاء في منها للأسد، وهي خيل الخارجي. وفاعل ظل فتى وهو سيف الدولة.
يقول: إن سيف الدولة إذا ضرب منهم إنساناً ضربة قتله، فلا يحتاج إلى أن يعيد الضرب مرة أخرى.
وقيل: الناصل. من نصل الخضاب يعني: إذا ضرب فخضب المضروب بالدم، فإن خضابه لا ينصل عنه حتى يحتاج إلى إعادته.

ولا يستغيث إلى ناصرٍ ... ولا يتضعضع من خاذل
تضعضع البناء: إذا انهدت أركانه أي لا يتذلل هذا الفتى، ولا يستعين بناصر ينصره، ولا يضعف إن خذله أصحابه، لأنه مستقل بنفسه لا يحتاج إلى أحد.
ولا يزع الطرف عن مقدمٍ ... ولا يرجع الطّرف عن هائل
يزع: أي يكف. ومقدم: أي الإقدام.
يعني: أنه لا يرد فرسه عن الإقدام، ولا يرد طرفه أي عينه عن أمر مخوف ومنظر هائل.
إذا طلب النّبل لم يشأه ... وإن كان ديناً على ماطل
النبل: الحقد. يقول: إذا طلب ثأراً أدركه، فلم يفته وإن كان ثأره عند من لا يدرك لديه ثأر. فشبه هذا الثأر بدين على ماطل.
خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل
يقول للخارجي وجماعته الذين كانوا ينتظرون الفداء هزءاً بهم: خذوا ما أتاكم به سيف الدولة من الفداء، واعذروه في هذه الغنيمة المعجلة، فاغتنموا ذلك فإن الغنيمة في العاجل.
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص في القابل
يقول: لئن كان أعجبكم ما ملكتم في هذا العام من الخير، فعودوا في العام القابل إلى حمص، حتى تروا ما يزيد على ذلك فترضوا به.
فإنّ الحسام الخضيب الّذي ... قتلتم به في يد القاتل
يقول: السيف المخضب بدمائكم في يد القاتل، وهو سيف الدولة، فمتى شئتم فتعالوا إليه.
وقال ابن جني: أراد بالسيف. سيف الدولة. والخضيب: هو الخاضب اللحي بالدماء. والقاتل: هو الخليفة الذي ينصر سيف الدولة ويقاتل عنه.
يجود بمثل الّذي رمتم ... فلم تدركوه على السّائل
أي يجود على السائل بمثل المال الذي رمتم، فلم تدركوه على السائل: يعني أنه يعطي سائله مثل ما طلبتموه، وإنما لم يعطكم أنفة، من أن تأخذوه قهراً.
أمام الكتيبة تزهى به ... مكان السّنان من العامل
أمام: نصب على الظرف. وتزهى به: أي تفتخر به. والتاء: ضمير الكتيبة والهاء: ضمير سيف الدولة. وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلى الرمح.
أي أن سيف الدولة يكون أبداً أمام الكتيبة، كما يتقدم السنان على الرمح وأن الكتيبة تفتخر به، إذ لا غناء لهم عنه كما لا غناء للرمح عن السنان.
وإنّي لأعجب من آملٍ ... قتالاً بكمّ على بازل
البازل: البعير الذي دخل في السنة التاسعة. وكان الخارجي حينئذ على ناقة يومئ بكمه على أصحابه؛ يحرضهم على قتال سيف الدولة.
يقول: إني أعجب من ضعف رأي من يقاتل بكم على ناقة بازل.
أقال له اللّه: لا تلقهم ... بماضٍ على فرسٍ حائل ؟
الهاء في له للخارجي وفي لا تلقهم لأصحاب سيف الدولة. بماض: أي بسيف ماض. والحائل: خلاف الحامل، وخض الحائل لأنها تكون أشد على العمل، وأصبر على الشدة، وهم لا يركبون يوم القتال إلا الفرس الأنثى الحائل.
يقول: كأن الله تعالى قال له. لا تلق جيش سيف الدولة بسيف ماض على فرس حائل ! فلهذا ركب الناقة وأشار بكمه بدل السيف !
إذا ما ضربت به هامةً ... براها وغنّاك في الكاهل
الكاهل: أعلى الكتف بين المنكب والعنق. والهاء في به للسيف الماضي. أي كأن الله تعالى قال: لا تلقهم بسيف ماض، إذا ضربت به رأساً قطعه ووصل إلى العنق، وهامة قطعها، وسمعت له صليلا كالغناء.
وقيل: معناه: قال الله لهذا الخارجي. لا تحارب بسيف ماض مثل سيفك الماضي يا سيف الدولة، الذي إذا ضربت به رأساً تجاوزها وغنى لك في الكاهل.
وليس بأوّل ذي همّةٍ ... دعته لما ليس بالنّائل
يقول: إن الخارجي ليس بأول من لم يدرك مراده، وما دعته إليه همته، وقد خرج قبله كثير من الخوراج وطلبوا مثل ما طلب فقتلوا كما قتل.
يشمّر للّجّ عن ساقه ... ويغمره الموج في السّاحل
يقول: إن الخارجي كان يشمرّ عن ساقه؛ ليخوض لجة البحر، وقد علاه الموج في ساحل هذه اللجة.
أي قد تأهب لجيش سيف الدولة الذي هو كالبحر العظيم، والموج يغرقه في الساحل ! أي أنه لقي مقدم عسكر سيف الدولة فهزموه، فكيف إذا لقي معظم عسكره ؟! وقال ابن جني: إنه يصف تمويه الخارجي على الأعراب وادعاءه النبوة فيهم فكان يحسر عن ساقه عند الماء ليرى الناس أنه يخوضه تمويها ومخرقة، ومع ذلك قد غمره الموج وهو على الساحل.
أما للخلافة من مشفقٍ ... على سيف دولتها الفاصل ؟!

الفاصل: القاطع. يقول: هو أبداً على سيف الدولة. هذا الخليفة، لأن بقاء هذه الخلافة وبقاء دولتها بسيف الدولة، فهل أحد يشفق على هذا السيف القاطع؛ لتبقى هذه الخلافة.
يقدّ عداها بلا ضاربٍ ... ويسري إليهم بلا حاملٍ
يقد: أي يقطع. والهاء في عداها للخلافة وفي إليهم للعدا.
يقول: هذا السيف بخلاف سيف الحديد، فهو يقطع أعداء الخلافة بلا ضارب، ويسير إلى الأعداء بلا حامل.
وقيل: أراد أنه يذب عن الخلافة وحده، وليس من أوليائها معين ينصره.
تركت جماجمهم في النّقا ... وما يتحصّلن للنّاخل
النقا: الكثيب من الرمل.
يقول: رضضت جماجمهم فيما بين الرمل فصارت كالهباء، واختلطت بالرمل، فلو نخل الرمل أحد بمنخل لم يحصل له شيء.
وروى: وما يتخلصن أي ما يتميزن: أي أن جماجمهم، لا تتميز عن الرمل للناخل.
وأنبتّ منهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشّامل
يقول: طرحت هؤلاء السباع حتى أكلت، وأخضبت كما تخصب السوائم في الربيع، فصارت لحومهم للسباع كالربيع، فأثنت عليك السباع لذلك.
وعدت إلى حلبٍ ظافراً ... كعود الحلىّ إلى العاطل
العاطل: التي لا حلى عليها. يعني: أن حلب عريت عن زينتها لما فارقتها ! فلما عدت إليها ظافراً، عادت زينتها، كالحلي إذا عاد للعاطل.
ومثل الّذي دسته حافياً ... يؤثّر فِي قدم النّاعل
يعني: هذا الذي وصلت إليه من الفتح العظيم بالهويني، لا يدركه غيرك بمشقة وتعب، أي وصلت إليه من غير آلة وعدة.
وكم لك من خبرٍ شائعٍ ... له شية الأبلق الجائل
يقول: ذكرك وخبر وقائعك مشهورة، كشهرة الفرس الأبلق فيما بين سائر الأفراس؛ إذا كان الأبلق جائلا من مكان إلى مكان كان أشهر وأظهر.
ويومٍ شراب بينه الرّدى ... بغيض الحضور إلى الواغل
وكم لك من يوم. وأيام العرب: حروبها. والواغل: الداخل في القوم؛ يشرب من غير دعوة. والهاء في بنيه لليوم.
يقول: كم لك من يوم حرب سقيت فيه أعداءك الموت، حتى كأن الواغل يبغض حضوره، وكان من عادته ألا يبغض ذلك؛ لأنه ليس بيوم شراب في الحقيقة.
تفكّ العناة وتغنى العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل
يقول: تطلق الأسرى، وتغني العفاة: أي السؤال، بما تعطيهم من الأموال، ومن أذنب إليك بجهل عفوت عنه.
فهنّأك النّصر معطيكه ... وأرضاه سعيك في الآجل
فاعل هناك معطيكه وفاعل أرضاه سعيك والهاء فيه ترجع إلى المعطى وهو الله تعالى والهاء في معطيكه للنصر.
يقول: هناك الله النصر الذي أعطاك، وأرضى الله سعيك في الآخرة، فأما هذه الدنيا فليس لها قدر يكون ثواباً لك ! وهذا دعاء له.
فذى الدّار أخون من مومسٍ ... وأخدع من كفّة الحابل
ذي الدار: إشارة إلى الدنيا. والمومس: الفاجرة. والكفة: شرك الصائد. والحابل: صاحب الحبالة.
يقول: هذه الدنيا خبيثة كالمرأة الفاجرة، غدارة لا تدوم لأحد، فهي في الغدر كشرك الصائد الذي يظن الصيد فيه خيراً، فإذا فيه هلاكه !
تفانى الرّجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل
يقول: إن الرجال تفانوا جميعاً - بقتل بعضهم بعضاً - في حب هذه الدار الغدارة، ثم يتركونها ولا يحصلون منها على فائدة وخير. والطائل: هو الخير.
وقال عند مسيره نحو أخيه ناصر الدولة لنصرته لما قصده معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي إلى الموصل في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطّعن عند محبيّهنّ كالقبل
يقول: أشرف الممالك قدراً، ما ملك عنوة، وفتح بأطراف الأسنة، وكان الطعن عند من أحب هذه الممالك، أحلى من قبل الأحباب.
وما تقرّ سيوفٌ في ممالكها ... حتّى تقلقل دهراً قبل في القلل
أي ما تستقر مملكة سيف الدولة، ولا تستقر سيوف في مملكته، حتى يقلقل أعداءه، وتتحرك سيوفه دهراً في رءوس الأعداء. ومثله لأبي تمام:
سأجهد عزمي والمطايا فإنّني ... أرى العفو لا يمتاح إلاّ من الجهد
مثل الأمير بغى أمراً فقرّبه ... طول الرّماح وأيدي الخيل والإبل

معناه: من مثل الأمير ؟ وقيل معناه: لا تستقر المملكة حتى يفعل مثل ما فعله سيف الدولة. فإنه يطلب أمراً بعيداً فيقرب هذا الأمر عليه: طول الرماح وخيله وإبله، أي يقصد إليه برماحه وإبله.
وعزمةٌ بعثتها همّةٌ زحلٌ ... من تحتها بمكان التّرب من زحل
زحل: مبتدأ. والمكان: خبره. والهاء في تحتها: للهمة. وفي بعثتها للعزمة.
يقول: قرب عليه مرامه عزمة بعثتها همة عالية، بحيث زحل نحت هذه الهمة بمكان التراب من زحل ! أي أن ما بينها وبين زحل من البعد مثل ما بين زحل والتراب.
على الفرات أعاصيرٌ وفي حلبٍ ... توحّشٌ لملقّى النّصر مقتبل
الأعاصير: جمع إعصار، وهو غبار الحرب، ورهج الخيل.
يقول: على الفرات غبار الخيل من كثرة الحروب والنزول عليها، وفي حلب توحش بمفارقتها سيف الدولة، وهو ملقى النصر، ملقاه حيث توجه. مقتبل: أي هو في أول شبابه. وقيل: معناه أنه حسن تقبله العيون، وتحبه القلوب.
تتلوا أسنّته الكتب الّتي نفذت ... ويجعل الخيل أبدالاً من الرّسل
فيه وجهان: أحدهما: أن أسنته تتلوا الكتب الواردة إليه من أخيه ناصر الدولة، فجعل جواب كتبه خروجه إليه بنفسه، وجعل خيله بدل رسله. وهذا مثل قوله: فليته في محفل.
والثاني: أنه إذا كتب إلى الأعداء فأسنته تتبعها، وإنما يكتب إلى أعدائه ليعرفهم أنه متوجه إليهم، حتى لا يكون خروجه اغتيالاً؛ لأن هذا داخل في الشجاعة من أن يقصدهم مفاجأة، لأنه يدل على الجبن والاغتيال، وهذه فائدة كتبه إلى أعدائه.
يلقى الملوك فلا يلقى سوى جزر ... وما أعدّوا فلا يلقى سوى نفل
جزر: بمعنى مجزور، أي مقطوع. وقيل: هي جمع جزور. أي كأنهم جزر يساقون إليه لينحرهم.
يقول: إنه كلما لقى ملكاً في حرب قتله وغنم أمواله، فهي جزر لسيوفه، وما له غنيمة له ولعسكره.
صان الخليفة بالأبطال مهجته ... صيانة الذّكر الهنديّ بالخلل
الخلل: جمع الخلة، وهي غاشية جفن السيف. وقيل: هي واحد، وجمعه أخلة. والذكر الهندي: هو السيف. والهاء في مهجته قيل لسيف الدولة ومعناه: أن الخليفة صان مهجة سيف الدولة بما ضم إليه من الجند والفرسان، كما يصان السيف بالخلل.
لما كان للدولة سيفاً جعل الخليفة والأبطال جفناً، وفيه إشارة إلى أن الاعتماد في الحرب عليه والجند فضلة، كما أن العمل للنصل دون الجفن.
وقيل: الهاء في مهجته للخليفة أي أنه صان نفسه بالأبطال الذين مع سيف الدولة، صيانة السيف بالخلل؛ لأنهم يقاتلون عنه أعداءه مع سيف الدولة فيصونه عن الأعداء.
الفاعل الفعل لم يفعل لشدّته ... والقائل القول لم يترك ولم يقل
يقول: إنه يفعل أفعالاً تعجز الناس عنها فيتركونها، أو أنهم لم يعرفوا ما يفعله من الأفعال ولم يهتدوا إليها، ويقول أقوالا حاول البلغاء أن يقولوا مثلها فلم يقدروا على ذلك، ولم يأتوا بها على وجهها ولم يتركوها؛ لأنهم تعرضوا لها ولم يستوفوا ما فيها من أنواع الفصاحة، فهي غير مقولة ولا متروكة. ومثله قوله من قصيدة أخرى:
فأنطق واصفيه وأفحما
وقيل معناه: أنه يقول أقوالا لم تعرف فلم تقل، ولم تترك لأنها إذا لم تعرف لا يمكن تركها، لأنه ما لا يعرف، كما لا يفعل، لا يترك.
والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النّهار فصار الظّهر كالطّفل
غالت: أي أهلكت. وفاعله العجاجة ومفعوله ضوء النهار والهاء في عجاجته للجيش لفظاً، والطفل: آخر النهار.
يقول: هو الذي يبعث الجيش العظيم الذي يستر غباره الشمس حتى يصير وقت الظهر مثل آخر النهار: وقت المغرب.
الجوّ أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشّمس فيه أحير المقل
أضيق قيل: في معنى ضيق. أي أن الجو يضيق بما لاقاه من الغبار. وقيل: هي على أصلها. أي أشد ضيقاً. والهاء في ساطعها للعجاجة وفي لاقاه للجو وفي فيه لساطعها.
يقول: إن أضيق الأشياء - بما يسطع عن غبار هذا الجيش - هو الهواء: الذي هو أوسع الأشياء، وإذا كان الهواء كذلك فما ظنك بغيره ؟! وهذا الغبار أيضاً يغطي نور الشمس وقرصها حتى صارت عين الشمس أحير العيون في هذا الغبار، فكيف أحوال سائر العيون ؟!
ينال أبعد منها وهي ناظرةٌ ... فما تقابله إلاّ على وجل
ينال: فعل السيف. والهاء في منها: للشمس، أو لمقلتها.

يقول: إنه ينال ما هو أبعد منها. أي أبعد من الشمس. وهي ترى ذلك وتنظر إليه، فما تقابل هذه الشمس سيف الدولة عند طلوعها وفي سائر الأوقات، إلا وهي خائفة من أن يغير عليها.
قد عرّض السّيف دون النّازلات به ... وظاهر الحزم بين النّفس والغيل
قيل: أراد بالسيف نفسه، والهاء في به: ترجع إلى سيف الدولة.
يقول: جعل سيفه عارضاً بينه وبين النوائب وقد لبس الحزم مظاهراً. حاجزاً بين نفسه وبين اغتيال عدوه، فحزمه سلاح له كالسيف.
ووكّل الظنّ بالأسرار فانكشفت ... له ضمائر أهل السّهل والجبل
الهاء في له ترجع إلى سيف الدولة، وقيل: إلى الظن.
يقول: وكل ظنه بضمائر الناس، فظهرت له ضمائر أهل السهل والجبل.
هو الشّجاع يعدّ البخل من جبنٍ ... وهو الجواد يعدّ الجبن من بخل
يقول: إنه يتجنب من البخل، كما يتجنب الشجاع من الجبن، ويتجنب من الجبن، كما يتجنب الجواد من البخل، فأجرى البخل مجرى الجبن. فشجاعته تريه أن البخل من جملة الجبن؛ لأن البخيل يبخل بماله خوف الفقر، فهو جبن. وجوده يريه أن الجبن بخل بالنفس فشجاعته تمنعه من البخل، وجوده يمنعه من الجبن.
يعود من كلّ فتحٍ غير مفتخرٍ ... وقد أغذّ إليه غير محتفل
أغذ إليه: أي أسرع إليه في السير. والاحتفال: التأهب.
يقول: إنه يفتح البلاد ويعود، ولا يفتخر بما فعل ولا يعتد به؛ لأنه يستصغر ما يفعله، ويسير إلى الأعداء مسرعاً غير مبال بهم ولا مستعد لهم فيهزمهم.
ولا يجير عليه الدّهر بغيته ... ولا يحصّن درعٌ مهجة البطل
البغية: الطلبة، وهي المطلوب، ولا يجير: أي لا يعيب.
يقول: إنه الدهر لا يمنعه مراده، والدرع لا يحفظ منه مهجة الشجاع إذا أراد قتله.
إذا خلعت على عرضٍ له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
أراد بالحلل: القصائد.
يقول: كسوته مدائح من شعري، لأجمله بحسن ذكره في الآفاق، فاكتسبت منه مدائحي جمالاً، ولبست من عرضه حللاً وكمالا، فصار هو الذي ينشر شعري. ومثل هذا قول كثير:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
بذى الغباوة من إنشادها ضررٌ ... كما تضرّ رياح الورد بالجعل
يقول: إن الجاهل عن إدراكه وإدراك معناه، لا يعيب في شعري، بل هو على أبلغ وجوه الإحكام والجودة، وكما أن الجعل إذا شم ريح الورد غشى عليه وليس ذلك لنقص الورد، بل هو لخبث نفس الجعل ولؤم طبعه. ووجه ضررها بالغبي أنها تهتك ستر جهله، وتدل على بلادة فهمه، كما يظهر الورد لؤم طبع الجعل والهاء في إنشادها للحلل.
لقد رأت كلّ عينٍ منك مالئها ... وجرّبت خير سيفٍ خيرة الدّول
الهاء في مالئها للعين. والخيرة وإن كانت أفعل التفضيل، وهو لا يدخله الهاء، فإنها إنما حذفت منه الألف لحقت بغيرها فيقال: زيد خير الناس وهند خيرة النساء.
يقول: كل عين نظرت إليك ملأها حسنك وهيبتك، ولما كنت سيفاً كان مجربه: الذي هو الدولة. خيرة الدول.
فما تكشّفك الأعداء عن مللٍ ... من الحروب ولا الآراء عن زلل
يقول: إن الأعداء جرّبوك، فوجدوك لا تمل حروبهم، وكذلك لا تكشفك الآراء عن زلل؛ لأن رأيك لا يكون خطأ أبداً.
وكم رجالٍ بلا أرضٍ لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
يقول: كم رجال من الأعداء ضاقت الأرض بهم لكثرتهم، فأفنيتهم، حتى صارت ديارهم خالية ليس فيها رجل.
ما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتّى مشى بك مشي الشّارب الثّمل
يقول: قد أجريت دماءهم، وأكثرت من قتلهم، حتى كأن فرسك يتعثر فيهم؛ لكثرة جيفهم، ويتمايل بك كما يتمايل السكران الثمل.
يا من يسير وحكم النّاظرين له ... فيما يراه وحكم القلب في الجذل
الجذل: السرور.
يقول: إن الأرض كلها له، فحيثما سار يرى سروراً، وهو مأخوذ من قوله تعالى: " وَفِيهَا مَا تَشْتَهيِه الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ " .
إنّ السّعادة فيما أنت فاعله ... وفقت مرتحلاً أو غير مرتحل
يقول: كل ما فعلته مقرون بالسعادة والتوفيق، سواء ارتحلت أو أقمت. وقيل: إنه دعاء له بالتوفيق على كل حال.
أجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في أخلاقك الأول

عن ابن جني قال: سألت المتنبي عن هذا فقال: كان سيف الدولة ترك الركوب مدة لعلة أصابته، فحركته بهذا، فعلى هذا: البيت الأول بيت لهذا المعنى.
يعني أنك موفق الرأي فيما تفعله، ولكن الرأي أن ترجع إلى أمرك الأول من الغزو والقتال.
ينظرن من مقلٍ أدمى أحجّتها ... قرع الفوارس بالعسّالة الذّبل
الأحجة: جمع الحجاج، وهو العظم الذي فوق العين، وفاعل أدمى: قرع الفوارس. ومفعوله: أحجتها. وقرع: قيل مضاف إلى المفعول، ومعناه: قرعك الفوارس. أي أن خيلك ينظرن من عيون قد أدماها قرعك الفوارس بالعسالة: بالرماح اللينة الكثيرة الاضطراب؛ لأنها إذا شرعت للطعن يكون مرها على قرب الحجاج من الفرس. يعني أنها معودة للقتال. وقيل: إنه مضاف إلى الفاعل. أي أن خيلك قد أدمى عيونها طعن الفرسان إياها؛ لأنها تكون مقدمة لا تولى، فالطعن إنما يقع على وجهها.
فلا هجمت بها إلاّ على ظفرٍ ... ولا وصلت بها إلاّ إلى أمل
دعاء له بالظفر. يقول: كلما ركبت خيلك وصلت إلى ما ترجوه، وظفرت بما تطلبه والهاء في بها للخيل.
وقال يمدحه ويعتذر عن المسير معه وقد سأله السير معه في الطريق، لما سار لنصرة أخيه ناصر الدولي سنة 337:
سر حلّ حيث تحلّه النّوّار ... وأراد فيك مرادك المقدار
النور والنوار واحد. ويجوز أن يكون النوار: جمع نور. وحل: قيل: دعاء بلفظ الخبر، ومعناه: سر، حل النوار حيث تحله.
والمقصود: سقاك الله الغيث حيث حللت حتى يحل هناك النوار.
وقيل: إنه خبر على الحقيقة، ومعناه: أنه جعل سقياً. فيقول له: أنت السحاب فإذا حللت ببلد يحصل منك السقى، فيحصل بك النور والزهر.
وأما الصراع الثاني فأولى فيه حمله على الدعاء: معناه أن الأقدار ساعدتك على مرادك، وأرادت كما تريد أنت.
ويجوز حمل المصراع الثاني على الخبر: أي أن الأقدار، لا تريد إلا ما تريد أنت. وفاعل حل: النوار. وفاعل أراد: المقدار.
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ ... حيث اتّجهت وديمةٌ مدرار
توجهت: بمعنى اتجهت. والديمة. مطر يدوم أياماً في سكون ريح ورعد. ومدرار: قيل متصل المطر. وشيعتك: دعاء، ومعناه حيث قصدت صاحبتك السلامة، وديمة غزيرة تسقي محلك، وتخضب منزلك.
وصدرت أغنم صادرٍ عن موردٍ ... مرفوعةً لقدومك الأبصار
وهذا البيت أيضاً دعاء. وقوله: مرفوعة لقدومك الأبصار: إشارة إلى ما يحصل من السرور، لأن الأبصار إنما ترفع عند ذلك.
يقول: إذا رجعت من مقصدك رجعت غانماً قد شخصت الأبصار إليك وقوله: أغنم ومرفوعة: نصب على الحال.
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتّى كأن صروفه أنصار
يقول داعياً له: أراك دهرك من أعدائك ما تريده منهم، حتى تكون صروف الدهر أنصاراً لك، ومن جملة أوليائك.
أنت الذي بجح الزّمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار
بجح: أي افتخر. يقول: إن الزمان يفتخر بذكرك؛ لأن له فضلاً على سائر الأزمنة المتقدمة.
وقيل: أراد بالزمان أهله، والأسمار إذا تضمنت حديثك وحديث وقائعك تزينت، إذ فيها من العجائب أكثر مما في الأحاديث الموضوعة.
وإذا تنكّر فالفناء عقابه ... وإذا عفا فعطاؤه الأعمار
وله وإن وهب الملوك مواهبٌ ... درّ الملوك لدرّها أغبار
الدر: أول ما ينزل من اللبن الكثير. والأغبار: جمع الغبر، وهو البقية بعد الحلب. والهاء في لدرها للمواهب.
يقول: إن عطايا الملوك في جنب إعطائك كالأغبار. يعني أن أقل مواهبك أعظم من مواهب سائر الملوك.
وقيل معناه: أن عطايا الملوك هي بقايا عطاياه، ومعناه أنه أفضل منهم وهم دونه ومحتاجون إليه، وإن صلاتهم من صلاته.
للّه قلبك ! ما تخاف من الرّدى ... وتخاف أن يدنوا إليك العار
لله قلبك: أي ما أعجب أمرك ! وأعظم أمر قلبك ! لما فيه من القوة والشجاعة والهمة التي لا تخاف معها الهلاك ! ومع ذلك فأنت تخاف من أن يدنوا إليك العار.
وقيل: ألف الاستفهام محذوفة في الموضعين ومعناه: أما تخاف من الردى ؟! وأتخاف من العار؟! وهو دون الردى في الصورة.
وتحيد عن طبع الخلائق كلّه ... ويحيد عنك الجحفل الجرّار
الطبع: قيل هو الدرن. والخلائق الأخلاق ومعناه أنك تميل عن دنس الأخلاق ودنس الطباع.

وقيل الطبع: الخلق. والخلائق: البشر. أي أنك تميل وتكره أخلاق جميع الناس. والجحفل: العسكر. الجرار: الذي يجر نفسه أي بعضه بعضاً، وقيل: الذي يجر الرماح.
يقول: إنك تتجنب أخلاق الناس، أو دنىء الأخلاق، مع أن العسكر العظيم إذا أتبعته مال عنك.
يا من يعزّ على الأعزّة جاره ... ويذلّ في سطواته الجبّار
الأعزة: قيل هي أولاده وسائر من يعز عليه. ومعناه أن جاره المستجير به يكون أفضل في جواره من أعزته. وقيل أراد بالأعزة الملوك أي أن جاره عزيز، له فضل على سائر الملوك، والأعزة، فلا يمكن لأحد من الملوك ضيمه، ويذل الملك الجبار بسطوته. وعدوه. ذليل لفضل قوته.
كن حيث شئت فما تحول تنوفةٌ ... دون اللّقاء ولا يشطّ مزار
التنوفة: المفازة البعيدة الأطراف. وتحول: أي تمنع. ولا يشط: أي لا يبعد. والمزار: يجوز أن يكون كالزيارة، ويجوز أن يكون اسماً لمكان الزيارة.
يقول: كن في أي موضع شئت فما يحول بيني وبين قصدك، وبين من يقصدك لمعروفك مفازة بعيدة، ولا يبعد على من يقصدك مستميحاً ومثله:
من عالج الشّوق لم يستبعد الدّار
وله:
كن كيف شئت تسر إليك ركابنا
وبدون ما أنا من ودادك مضمرٌ ... ينضى المطيّ ويقرب المستار
المستار: بمعنى المسير، وهو مفتعل منه، ويجوز أن يكون اسماً لمكان السير.
يقول: ما أضمره لك من المودة والحرص على اللحاق بك - ومن ود إنساناً بعض ما أودك - فإنه يهز المطيّ في اللحوق بك، ويقرب عليه المسير والمسافة البعيدة.
إنّ الّذي خلّفت خلفي ضائعٌ ... ما لي علي قلقي إليه خيار
يقول: لولا أهلي الذين خلفتهم ورائي، لصحبتك، ولكنهم إن رغبت عنهم ضاعوا، فقلقي إليهم شغل قلبي بهم، فمنعني من اختياري وإيثار صحبتك عليهم.
وقيل أراد بالقلق الاضطرار أي أني مضطر إلى الرجوع إلى أهلي ومالي مع هذا اختيار.
وإذا صحبت فكلّ ماءٍ مشربٌ ... لولا العيال وكلّ أرضٍ دار
يقول: لولا العيال، لما كان شيء عندي أطيب من مصاحبتك؛ لأني إذا صحبتك فكل ماء مشرب. أي طيب زلال، وكل بلد يكون داراً لي؛ لأن كل راحة معك وكل عيش يتهيأ بك وبصحبتك. ومثله قول الآخر:
إذن الأمير بأن أعود إليهم ... صلةٌ تسير بشكرها الأشعار
وماهي إلا بلدة مثل بلدة ... وخيرهما ما كان عوناً على الزمن
يقول: إن أذن الأمير بالعودة إلى أهلي عددت ذلك صلة من صلاته، أشكره عليها، وأسير الأشعار بذكرها. وفيه تنبيه على أن الوقت وقت الصلة وعلى التحقيق أن سيف الدولة قدر رضى بالإذن من غير اقتران صلة.
وقال يرثى عبد الله بن سيف الدولة بحلب وقد توفى بميافارقين سنة 338 قال:
بنا منك، فوق الرّمل، ما بك في الرّمل ... وهذا الّذي يضني كذاك الّذي يبلي
الرمل ها هنا: الأرض والتراب. والضنا: طول المرض، والاضناء: الإمراض. وقوله منك أراد من الغم عليك، فحذف المضاف.
يقول: تحت التراب تبلى ونحن فوقه نضنى، فبنا من الغم عليك فوق الأرض من طول الضنا، مثل ما بك تحتها من طول البلى، فهذا الحزن الذي بنا يضنينا ويهزلنا، مثل الموت الذي يبلى جسدك ويفرق أوصالك، فنحن أموات في صورة الأحياء.
كأنّك أبصرت الّذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثّكل
الثكل: فقد المحبوب ! يخاطب الولد على لسان سيف الدولة فيقول: كأنك أبصرت قبل موتك ما بي الآن من الحزن عليك، فرأيته أشد من الموت ! وخفت أنك إن عشت تبتلى بثكل ولد كما ابتليت أنا بثكلك ! ويصيبك من ألم الحزن مثل ما أصابني، فاخترت الموت على الثكل.
تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموعٌ تذيب الحسن في الأعين النّجل
يقول: تركت النساء الغانيات يبكين عليك، حتى قرحت أجفانهن وذهب حسن عيونهن، وإنما اختار لفظ الإذابة، لأن حسن العيون لما كان كأنه يذهب بالبكاء على تدرج الأيام، ولم يذهب دفعة واحدة كان لفظ الإذابة أبلغ من قوله تزيل الحسن أو تذهب الحسن.
وقيل: إنما قال تذيب؛ لأن الذوب في معنى السيلان، والدمع سائل، فكما أن الحسن سال مع الكحل، فيزول حسن الكحل ويبقى حسن الكحل، وكأن الحسن قد ذاب ونقص.
تبلّ الثّرى سوداً من المسك وحده ... وقد قطرت حمراً على الشّعر الجثل

تبل أي من الدموع. والشعر الجثل: الكثير المجتمع. والهاء في وحده يرجع إلى المسك.
معناه: أن دموعهن كانت تقطر من أجفانهن حمراً؛ لامتزاجها بالدم، فإذا سقطت على شعورهن الكثيرة المنتشرة، لأجل المصيبة، المسترسلة على خدودهن، خالطها ما في شعورهن من المسك، فاسودت، فوصلت إلى الترب سوداء من المسك.
وقوله: من المسك وحده فيه وجوه.
قيل: معناه أن سواد دموعهن ليس لأجل الكحل، لأنهن مستغنيات عن التكحل بالكحل، فليس ذلك السواد إلا لأجل المسك فقط.
والثاني: أنهن يستعملن الكحل لأجل المصيبة، فاسودت دموعهن بالمسك الذي استعملته قبل المصيبة وكان قد بقيت رائحتها وأجزاؤها على شعورهن.
والثالث: أنه إشارة إلى أنهن من بنات الملوك، فلم يستعملن من الطيب إلا المسك الخالص، دون ما يخلط به من أنواع الطيب.
فإن تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطّفل
يقول: إن مت، ودفنت في القبر، فقلوبنا معمورة بذكرك، وأحشاؤنا محترقة بحزنك ! فكأنك حال في قلوبنا، وإن كنت طفلا، فإن حزننا عظيم عليك !
ومثلك لا يبكي على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل
المخيلة: الفراسة، وقيل: العلامة، وأصله في السحاب الذي يطمع منه المطر.
يقول: ليس نبكي عليك على مقدار سنك، ولكن على مقدار أصلك، وكرم منصبك وعلى ما يتفرس منك من الخصال الحميدة، وما كنا نتوقعه منك من الملك.
ألست من القوم الألى من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل ؟
ألست: استفهام، ومعناه التقرير. والألى: بمعنى الذين. وروى: من القوم الذي. ورده إلى لفظ القوم. وقيل: أراد الذين، فحذف النون.
قيل: في هذا البيت معنيان: أحدهما: ما قال ابن جني ومعناه: ألست من القوم الذين يقتلون البخل بنداهم ؟ فكأن نداهم من جملة رماحهم، يطعنون به في مهجة البخل. وعلى هذا روى من رماحهم نداهم.
والثاني: أن سخاءهم؛ لأنهم يغيرون برماحهم على أعدائهم، ويغنمون أموالهم ويهبون منها المواهب. ثم استأنف معنى وقال: البخل من جملة قتلاهم. يعني: أنهم يهبون المواهب العظيمة حتى يكون البخلاء أسخياء، فلا يكون في الدنيا بخيل ولا بخيلة.
بمولودهم صمت اللّسان كغيره ... ولكنّ في أعطافه منطق الفضل
روى: منطق الفضل، والفصل. بالضاد والصاد: وهو الكلام الفاصل بين الحق والباطل.
يقول: مولودهم لا يتكلم في المهد، كسائر الأطفال، ولكن دلائل الفضل ناطقة من أعطافه ! ومخايل النجابة موجودة في شمائله، فكأنها مقام النطق.
تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثّناء عن الشّغل
يقول: إذا أصابتهم مصيبة فإن علياءهم وسلامتها، تسليهم عن المصيبة، ويشغلهم اكتساب الثناء عن كل شغل سواه.
أقلّ بلاءً بالرّزايا من القنا ... وأقدم بين الجحفلين من النّبل
أقل بلاء: أي أقل مبالاة، وأقدم: من قدم يقدم إذا سبق، وفي القرآن: يقدم قومه وإن كان من أقدم فعلى حذف الزوايد.
يقول: إنهم أقل مبالاة بالمصائب من الرماح التي لا يتصور فيها المبالاة، ولا تخشى من الكسر، وإنهم أشد تقدما بين الجيشين من السهام التي هي أسبق الأسلحة.
عزاءك سيف الدّولة المقتدى به ... فإنّك نصلٌ والشّدائد للنّصل
عزاءك: نصب على الإغراء أي الزم عزاءك، والمقتدى به: نعت لسيف الدولة يعني يا سيف الدولة الذي يقتدى به. وقيل: نعت للعزاء المقتدى به.
يقول: أنت قدوة لنا في صبر أو جزع، فالزم صبرك، فإن سيف الدولة من شأنه ملاقاة الشدائد، وقلة المبالاة بالضرب والثلم، وترك الجزع عند لقاء الكرائه.
مقيمٌ من الهيجاء في كلّ منزلٍ ... كأنّك من كلّ الصّوارم في أهل
المقيم: ضد المسافر.
يقول: إنك مقيم في حروب، في كل منزل، فكل حرب كأنها منزلك ! وكأنها عشائرك وأهلك؛ لأنك سيف والسيوف منازلها الحروب، وعشائرها السيوف، فأنت أبداً في دارك، وبين قومك. وقيل: معناه أنك من قلة مبالاتك بالحروب كأنها منزلك، وكأن السيوف أهلك، حيث تسكن إليها سكون الرجل إلى أهله؛ لأنها تحيد عنك ولا تعمل فيك بل تعمل في أعدائك.
ولم أر أعصى منك للحزن عبرةً ... وأثبت عقلاً والقلوب بلا عقل

يقول: ما رأيت إنساناً أصبر على المصائب منك ! وأعصى عند الحزن عبرة منك، ولا أثبت عقلا عند شدة؛ لأنه أبداً ثابت لا يعتريه الطيش والخفة.
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل
السليل: الولد.
يقول: إن المنية عاهدته على أن تنصره في الحروب، ثم تخون عهده في ولده، فكيف تجمع بين الإحسان والإساءة ؟! لولا تقلب أحواله !!
ويبقى على مرّ الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصّقل
الفرند: ماء السيف، وجوهره.
يقول: إن الحوادث تظهر صبره، وكرم أصله، كما يظهر الصقل جوهر السيف ورونقه.
ومن كان ذا نفسٍ كنفسك حرةٍ ... ففيه لها مغنٍ وفيها له مسلى
حرة: صفة لنفس، والتذكير: لمن والتأنيث: للنفس.
يقول: من كانت له نفس حرة مثل نفسك، ففيه ما يغنى نفسه عن تعزية غيره عليه، وعن كل شيء، وفي نفسه ما يسليه عما يجده من الهموم والمصائب.
وما الموت إلا سارقٌ دقّ شخصه ... يصول بلا كفٍ ويسعى بلا رجل
يقول: لا عيب لك، فالموت. كالسارق الذي دق شخصه دقة، ليس له يد ولا رجل، ولو كان أراد أن يجاهرك وظهر شخصه لم يقدر على غضبك، وقيل: معناه أن السارق يستحق القطع، والموت ليس له محل القطع من اليد والرجل.
يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنّمل
أبو الشبل: الأسد، والشبل ولده. ويقال: إن ولد الأسد يجتمع عليه النمل - ما لم ينبت عليه الشعر - فيقتله، ولهذا لا تلد الأسدة إلا في ثجة؛ هرباً من ذلك.
فيقول: مثلك ومثل الموت، كمثل الأسد والنمل، فإنه يدفع الجيش عن ولده، ولا يقدر أن يمنعه من النمل، وليس ذلك لعجز الأسد، ولكن لقلة قدر النمل ودقة شخصه، وكذلك أنت، لو ظهر لك الموت لمنعته، ولكنه يأتي من حيث لا يراه أحد، ولا يدل ذلك على عدم شجاعتك.
بنفسي وليدٌ عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تطرّق بالحمل
طرقت المرأة بالولد: إذا نشب فيها، ثم يتسع فيقال: طرقت: أي ولدت.
يقول: نفسي فداء لهذا المولود الذي انفصل عن بطن أمه إلى بطن أم ليست كالأمهات في الولادة، أي أنا ليست بأم على الحقيقة. وقيل: معناه عاد إلى بطن أم لا تلد أبداً، يعني أنه لا يخرج منها، فكأنه يقول: لقصر أيامه كأنه انتقل من بطن أمه إلى القبر.
بدا وله وعد السّحابة بالرّوى ... وصدّ وفينا غلّة البلد المحل
الروى بالفتحة على المصدر من روى يروي روى، وبالكسر هو الماء الكثير.
يقول: كانت مخايله تعدنا بجوده وأفضاله، كما تعدنا السحابة بالغيث، فمضى عنا وخيب آمالنا. شبهه بسحابة نشأت على بلد خرب ثم أقلعت ! من غير شيء.
وقد مدّت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النّعل
يقول: كانت الخيل تنتظر كبره، لتتشرف بركوبه إياها، وبتنقله رجله إلى الركاب.
وريع له جيش العدوّ وما مشى ... وجاشت له الحرب الضّروس وما تغلى
ريع: أفزع. وروى: جاش العدو: أي قلبه، وجيش العدو، وجاش: أي هاج وارتفع. والضروس: الشديد.
يقول: إن أعداء أبيه خافوا منه وهو بعد في المهد لم يمش ! وهاجت له الحروب الشديدة وارتفعت قبل غليانها، وروى وما يقلى من قليت بالقلة أقلى بها، وقلوت أقلو يعني أنهم خافوه قبل أن يبلغ إلى أن يقلى بالقلة.
أيفطمه التّوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
التوراب: لغة في التراب. قال الأصمعي: التراب والتوراب، والتيرب والتورب، والترباء كل ذلك بمعنى.
يقول: فطمه التراب قبل أوان فطامه ! وأكله التراب قبل وقت أكله ! يقول ذلك على معنى الإنكار والتأسف.
وقبل يرى من جوده ما رأيته ... ويسمع فيه ما سمع من العذل
قبل: مضاف إلى يرى. وإنما جاز إضافة الظرف إلى الفعل لقلة تمكنها. وفي القرآن: " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُل " ، " يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ " . وقيل: إن فيه إضمار أن وتقديره: وقبل أن يرى. فيكون في معنى المصدر: أي وقبل رؤيته، فتجرى الإضافة على بابها. فعلى هذا يجوز. في يسمع الرفع، والنصب.
يقول: كيف جآءت قبل أن يرى من جوده ما رأيته من جودك ؟! من قصد العفاة، وعذل العذال، فيه ما رأيت وسمعت.

ويلقى كما تلقى من السلم والوغى ... ويمسى كما تمسى مليكاً بلا مثل
معناه: أكله التراب قبل أن يلقى من الصلح والوغى مثل ما نلقى، وكذلك قبل أن يسمى مليكاً بلا مثل، كما أنت تسمى كذلك الآن.
تولّيه أوساط البلاد رماحه ... وتمنعه أطرافهنّ من العزل
فاعل توليه: رماحه، ومفعوله الأول الهاء من توليه، والثاني أوساط البلاد.
يقول: مات قبل أن توليه أطراف الرماح أوساط البلاد والممالك، وتمنعه أطراف الرماح من العزل. طابق بين أوساط البلاد، وأطراف الرماح، وبين الولاية، والعزل.
نبكّى لموتانا على غر رغبةٍ ... تفوت من الدّنيا ولا موهبٍ جزل
يقول: نبكي على من مات منا، ولم يفته من هذه الدنيا حظ له خطر يوجب الأسف على مفارقته.
إذا ما تأمّلت الزّمان وصرفه ... تيقّنت أنّ الموت ضربٌ من القتل
يقول: إذا تأملت أحوال الزمان، رأيت أنه عدو للإنسان، فلذا يحاربه، فإذا مات الإنسان فكأن الزمان قتله وظفر به.
وقيل: معناه أن الموت كله قتل ! وأسبابه مختلفة، فلاختلاف الأسباب اختلفت تسميته، فبعضه يسمى قتلاً، وبعضه موتاً: وهو ما كان على الفراش.
هل الولد المحبوب إلاّ تعلّة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل ؟
التعلة: ما يعلل به الإنسان.
يقول: السرور بالولد ليس شيئاً يدوم، وإنما هو شيء يعلل به المرء نفسه ثم ينقطع ! فإن الخلة بالمرأة الحسناء ليس إلا أذى البعل، من حيث يؤدي إلى أذى شديد؛ لأن غم موت الولد أكثر من السرور بهذه اللذة، فسمى تلك الخلوة بأسرها أذى لما يؤدي إليها.
وقيل: معناه أن الذى فيها أكثر من حيث المؤن والكلف والغيرة عليها، والاشتغال بذلك يمنع من اكتساب المجد والأجر، فإذا كان هاتان اللذتان لا حقيقة لهما، فما سواهما أولى بذلك.
وقد ذقت حلواء البنين على الصّبا ... فلا تحسبنّي قلت ما قلت عن جهل
الحلواء: الحلاوة.
يقول: قد ولدت في حداثة سني، وجربت حلاوة الأولاد فلا تظنن أني قلت ذلك عن جهل.
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيّام تكتب ما أملي
يقول: علمي بالدهر أكثر من أحواله، فأزمانه لا تسع علمي بما أعلمه منه، ولو أمليت ما أعلم من أحوالها لم تحسن أن تكتبه.
وما الدّهر أهلٌ أن يؤمّل عنده ... حياةٌ وأن يشتاق فيه إلى النّسل
يقول: الدهر ليس بأهل أن يؤمل عنده حياة؛ لقلة وفائه ! وليس بأهل أن يشتاق فيه إلى الولد.
وقال يمدحه ارتجالا، وقد سئل عن وصف فرس يهديه إليه.
موقع الخيل من نداك طفيف ... ولو أنّ الجياد فيها ألوف
الطفيف: اليسير الحقير.
يقول: الخيل عند جودك لا قدر لها، ولو وهبت منها ألوفا لاستقللتها، ولم تعتد بها.
ومن اللفظ لقطةٌ تجمع الوص ... ف وذاك المطهّم المعروف
الفرس المطهم: هو الحسن التام الخلق، الذي كل عضو منه حسن على انفراده.
يقول: من الألفاظ لفظ يجمع جميع الأوصاف، وهو المطهم المعروف. أتى بوصفه على وجه الإجمال، فجمع الوصف في أقل الألفاظ وأوجزها، ولم يذكر الوصف على سبيل التفصيل.
ما لنا في النّدى عليك اختيارٌ ... كلّ ما يمنح الشّريف شريف
يقول: ما لنا في الندى اختيار: أي ليس الاختيار في ذلك إلينا فأنت كريم، وكل ما تمنحه شريف مثلك.
وقال يمدحه وقد خيره بين فرسين: دهماء وكميت:
اخترت دهماء تين يا مطر ... ومن له في الفضائل الخير
دهماء: مضاف إلى تين أي: دهماء هاتين.
يقول: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين، وسماه مطرا على المبالغة في الجود. أي يا من له في الفضائل الاختيار. والخير: جمع خيرة.
وربّما فالت العيون وقد ... يصدق فيها ويكذب النّظر
فالت: أي أخطأت وضعفت، والهاء في فيها للدهماء المختار، أو لجملة الخيل.
يقول: أنا اخترت منها هذه الدهماء؛ لأنها أحسن في عيني، وربما لم تكن كذلك بل غيرها خير منها؛ فإن العين ربما كذبت في النظر، وربما صدقت، وقد قلت ما رأيت.
أنت الّذي لو يعاب في ملإٍ ... ما عيب إلاّ بأنّه بشر
الملأ: جماعة الأشراف، والسادة.
يقول: لو عابك عائب فيما بين الملأ، لم يجد لك عيباً إلا كونك من البشر، ومعناه لا عيب فيك؛ لأن هذا ليس بعيب.

وأنّ إعطاءه الصّوارم والخي ... ل وسمر الرّماح والعكر
العكر: جمع عكرة: وهي ما بين الخمسين إلى المئة من الإبل.
يقول: لو عابك عائب ما وجد فيك عيبا ! إلا كونك من البشر، وأنك تعطى السيوف، والخيل، والرماح، والإبل الكثيرة. وهذا ليس مما يعاب. ومثله قول الآخر:
ولا عيب في أخلاقه غير أنّه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا
فاضح أعدائه كأنّهم ... له يقلّون كلّما كثروا
يقول: يفضح أعداءه بالقهر، وإظهار عجزهم، وكلما اجتمعوا عليه كان على كسرهم أقدر، فكأنهم عند كثرتهم يقلون له، وكأن كثرتهم سبب قلتهم.
وقيل: معناه أنهم كلما كثروا وازدادوا فضلاً، إذا قيسوا به صاروا إلى الإضافة إليه في حد القلة، وصار فاضحاً لهم.
أعاذك اللّه من سهامهم ... ومخطئٌ من رميّه القمر
وقال يشكره وقد أمر سيف الدولة بإنفاد خلع إليه:
فعلت بنا فعل السّماء بأرضه ... خلع الأمير وحقّه لم نقضه
الهاء في أرضه للسماء، ذكره لأنه أراد السقف، وقيل: أراد به المطر.
وقيل: إنه كناية الأمير، فأضمره قبل الذكر، كقوله تعالى: " فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَار " .
يقول: إن خلع الأمير قد زينتنا وكستنا بأنواع الوشى، كما يكسو المطر، الأرض، ويزينها بأنواع الأنوار، وألوان الأزهار، ونحن لم نقض حق الأمير من الخدمة، ولم أقدر على أن أمدحه بما يليق بأوصافه، لقصور المدائح عن أوصافه.
فكأنّ صحّة نسجها من لفظه ... وكأنّ حسن نقائها من عرضه
شبه صحة نسج هذه الخلع بصحة معاني الممدوح في لفظه، وشبه نقاءها من الدنس بعرضه. والعرض: يمدح به الرجل، أو يذم.
وإذا وكلت إلى كريمٍ رأيه ... في الجود بان مذيقه من محضه
المذيق: المشوب. والمحض: الخالص.
يقول: إذا جعلت إلى كريم رأيه، وفوضته إليه، في الجود والكرم، ظهر لك الخالص من المشوب، والطبيعي من التكلفي.
وقال يمدح سيف الدولة:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادكار وداعه وزياله
الزيال: المزايلة: وهي المفارقة. وقيل: هو الزوال. يقال: زال زوالا وزيالاً. والكناية في به ومثاله ووداعه وزياله للخيال. وقيل: إن الكنايات ترجع إلى الحبيب. والمثال: مثال الحبيب.
يقول: إن النوم لم يسمح لي برؤية هذا الحبيب، ولا أهدي النوم إلي مثاله: أي خياله، لولا أني أطلت الفكرة بذكر وداعه ومفارقته، فرأيت في النوم ما كان هاجساً في خاطري، من ذكره وذكر وداعه.
فإن كان الضمير للكناية، فمعناه لولا تذكري لوداعه ليلاً ونهاراً، لكان النوم لا يسمح لي بهذا الخيال، لا مثال الخيال ! يشبه قول الطائي:
زار الخيال لها بل أزاركه ... فكرٌ إذا نام فكر القوم لم ينم
ومثله لآخر:
وما زال حتّى سهّل الشّوق طرقه ... وقاد إليه ناظر العين مركبا
إنّ المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله
له معان: أحدها: أن ما أرانا المنام من خيال الحبيب - عوداً على بدء - ليس خياله، بل كان خيال خياله؛ لأن النوم أرانا أولا: خياله بعد الفراق؛ فأنبهنا، وفي نفوسنا طيب ذلك الخيال، فلما أردنا النوم ثانياً: كان خيال الخيال الذي أراناه قبل ذلك، فالأول خيال الحبيب والثاني خيال ذلك الخيال.
والثاني: أنا كنا تذكرناه بعد فراقه، وأدناه في عيوننا، فكأنه لم يغب عنا، فما رأيناه في النوم خيال ذلك الخيال الذي كنا نراه بالفكر والوهم.
والثالث: أن لقاء الحبيب صار خيالا لبعد العهد، وتطاول الأيام على هجره، فلما رأيته في المنام فكأني رأيت خيال خياله؛ لأن صورته كانت لنا كالخيال؛ لزوال الانتفاع، كما لا ينتفع بالخيال.
بتنا يناولنا المدام بكفّه ... من ليس يخطر أن نراه بباله
الهاء في نراه وبباله لمن وهو الخيال.
يقول: رأيت في النوم كأني أشرب المدام من كف حبيب، ليس يخطر على باله أن نراه؛ لبعده عني وقلة تفكره في، وخلو قلبه عن ذكرى، فضلا من أن يسقيني المدام بكفه.
نجني الكواكب من قلائد جيده ... وننال عين الشّمس من خلخاله
أراد بالكواكب: الدر الذي في العقود. وشبهه بالكواكب في الحسن والصفاء، وشبه الخلخال بعين الشمس؛ لما عليه من الحمرة والاستدارة.

وقيل: أراد بذلك بعد التناول، فكنت إذا أجلت يدي بين قلائده فكأني نلت الكواكب ! وإذا لمست موضع خلخاله فكأني لمست عين الشمس؛ لتعذر الوصول.
بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم طيّ الفؤاد الواله
الهاء في الواله أصلية، وقد استعملها وصلا، وهو جائز. وقد جاء مثله في الشعر. الواله: المتحير الذاهب العقل.
يقول: بعدتم عن عيني القريحة بالبكاء عليكم، ونزلتم وسط القلب المتحير لفراقكم، فإن لم أركم بعيني رأيتكم بقلبي وخاطري.
فدنوتم ودنوّكم من عنده ... وسمحتم وسماحكم من ماله
الها في عنده وماله للفؤاد، كأن الدنو من قلبي؛ لأنه هو الذي أدناكم مني، وسمحتم علي بالوصال والزيارة، وكأن هذا السماح من مال قلبي؛ إذ لولا تفكره لما زرتموني، وذكر المال لما ذكر السماحة.
إنّي لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله
يهجرنا: فعل الطيف، والهاء في وصاله لمن وهو الحبيب.
يقول: إني أبغض خيال حبيبي في النوم؛ لأني إنما أرى خياله أيام هجر الحبيب، فوصال الخيال إنما يكون عند بعد الحبيب؛ لأن الإنسان إنما يرى خيال المحبوب عند فراقه واشتغال قلبه بذكره.
مثل الصّبابة والكآبة والأسى ... فارقته فحدثن من ترحاله
يقول: إني أبغض طيف الحبيب؛ لأن رؤيته تكون بعد الفراق، كما أبغض هذه الأشياء؛ لأنها حدثت بعد فراقه، فالطيف لما كانت رؤيته بعد فراق الحبيب كانت هذه الأمور. والصبابة: الشوق، والكآبة: الحزن والاستكانة والأسى: الحزن أيضاً.
وقد استقدت من الهوى وأذقته ... من عفّتي ما ذقت من بلباله
الهاء في بلباله للهوى.
يقول: لما حيرني وقتلني شوقه أخذت القود منه؛ من حيث أني لما ظفرت بمن أهواه، عففت عنه، فأذقت الهوى من مرارة الصبر عن الحبيب، مثل ما أذاقني من الشوق والحيرة.
ولقد ذخرت لكلّ أرضٍ ساعةً ... تستجفل الضّرغام عن أشباله
تستجفل الضرغام: تهربه وتستعجله في الهرب عن أشباله: أي أولاده.
يقول: خبأت لكل أرض ساعة صعبة من الحرب، بحيث تزعج الأسد وتستعجله عن أولاده، وتحوجه إلى الهرب خوفاً على نفسه، ولا يبالي بولده !.
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضربٌ يجول الموت في أجواله
الأجوال: جمع الجول، وهو مصدر جال يجول جولا وجولانا. وقيل: أجواله: نواحيه. والهاء في بها قيل: للساعة، وقيل للأرض. وفي بينها للوجوه وفي أجواله للضرب.
يقول: ذخرت لكل أرض ساعة تلتقي فيها الفرسان، ويضرب بعضهم وجوه بعض ضرباً، يدور الموت في نواحي هذا الضرب.
ولقد خبأت من الكلام سلافةً ... وسقيت من نادمت من جرياله
السلافة والسلاف: أرق الخمر وألطفها، وهو ما يجري من العصير قبل أن يعصر، وهو يضرب إلى الصفرة، والجريال: ما كان أحمر، وهو دون الأصفر. وقيل: الجريال: نفس الخمرة. وقيل: لونها.
يقول: خبأت لسيف الدولة أحسن الكلام وأبدعه، ومدحت غيره بما هو دونه، الذي لم أتعب فيه فكراً، ولم أبدع فيه معنى.
وإذا تعثّرت الجياد بسهله ... برّزت غير معثّرٍ بجباله
الهاء في قوله بجباله وسهله للكلام. وبرزت: أي سبقت.
يقول: إذا تعثر غيري من الخطباء في السهل من الكلام، برزت عليهم، ولم أتعثر في الصعب البعيد المرام. وجعل الكلام سهلا وجبلا مجازاً، وقيل: وصف في ذلك فروسيته. وشجاعته، وأن غيره لا يقاومه.
وحكمت في البلد العراء بناعجٍ ... معتاده مجتابه مغتاله
أي: تحكمت وصرت فيها كما اخترت والبلد العراء: الخالي الذي لا نبت فيه. والناعج: الخالص البياض من الإبل. وقيل: سريع السير، ومعتاده؛ أي قد تعود السير، والهاء: عائد إلى البلد، وكذلك فيما بعده، مجتابه: أي قاطعه بسيره، مغتاله: أي تغوله وتهلكه وتفنيه بسيره.
يمشي إذا عدت المطيّ وراءه ... ويزيد وقت جمامها وكلاله
يمشي: فعل الناعج والهاء في وراءه وكلاله: للناعج. وفي جمامها للمطي. والجمام: الراحة. والكلال: الإعياء.
يقول: إذا مشى هذا الناعج كان مشيه مثل عدو المطي خلفه، ويكون أزيد من ذلك أيضاً، وذلك في وقت راحة المطي وكلال هذا الناعج، فكيف يكون سيره وقت الجمام ؟!!
وتراع غير معقّلاتٍ حوله ... فيفوتها متجفّلاً بعقاله

وتراع: أي تخوف المطي. متجفلا: أي سريعاً.
يقول: إن هذا الناعج إذا كان معقولا بعقاله فإنه يسبق سائر المطي، وهن غير معقولات.
وفائدة قوله: وتراع. قيل: إن هذا الناعج يفزعها ويثيرها وهو معقول ويسبقها.
وقيل: أراد أنها تفزع وتخوف بقطع المفاوز، ولا يفزع هذا الناعج بل يسبقها إلى حيث يريد صاحبه.
وقيل: معناه أنها تفزع من شيء أفزعها، وهي غير معقوله، ويفرق هو معقولا، فإنه يسبقها في العدو.
فغدا النّجاح وراح في أخفافه ... وغدا المراح وراح في إرقاله
الإرقال: ضرب من السير السريع. وراح فعل النجاح. والمراح: النشاط وراح، الثاني فعل المراح.
يقول: إن النجاح غدا وراح في أخفاف هذا الناعج. أي أن من ركبه ظفر بما طلب وأدرك ما أراد، وكذلك النشاط غدا وراح في سيره: أي لا يلحقه كلال ! فهو أبدا مرح نشيط. أي أنه مبارك حيثما توجه أدرك ما حوله، فنشط ومرح.
وشركت دولة هاشمٍ في سيفها ... وشققت خيس الملك عن رئباله
الرئبال: الأسد. والخيس: الأجمة. والهاء في سيفها للدولة وفي رئباله للخيس أو للملك.
يقول: صرت شريكاً مع دولة هاشم في سيف الدولة: أي كان لي حظ فيه كما للدولة فيه حظ، وشققت أجمة الملك حتى وصلت إلى أسده، فجعله أسداً والملك خيساً له.
عن ذا الّذي حرم اللّيوث كماله ... ينسى الفريسة خوفه بجماله
عن ذا الذي الذي بدل عن المبدل. وينسى: يتعدى إلى مفعولين، فنصب الفريسة على أنه مفعوله الأول وخوفه المفعول الثاني.
يقول: شققت أجمة الملك عن أسد منع الليوث كما له: أي ليس لها كما له؛ لأنه يفضلها بخلائق كثيرة، وليس لليوث إلا الإقدام، وهذا فيه كل خصلة جميلة، ثم قال: إن هذا الأسد إذا افترس فريسة أنسى هذه الفريسة خوفه بجماله ! أي أنها إذا رأت جماله يشغلها جماله عما يلحقها من الخوف عن افتراسه، والليوث تكون قبيحة المنظر.
وتواضع الأمراء حول سريره ... وترى لمحبّة وهي من آكاله
الآكال: جمع أكل، وهو الذي يؤكل، وهي ضمير: الأمراء.
يقول: إن الأمراء يتواضعون حول سرير سيف الدولة ويظهرون المودة له، وهم من قتلاه وفرائسه. يعني أنهم يظهرون المودة خوفاً لا حباً. وقيل: هي ضمير المحبة أي أن الأمراء يحبونه حباً مفرطاً، فلفرط حبهم لا يلتمسون منه العطاء ويرون من جملة أرزاقه إياهم المحبة؛ لأنهم يرون محبته فخراً وذخراً.
ويميت قبل قتاله، ويبشّ قب ... ل نواله، وينيل قبل سؤاله
وروى: ويعيش فيكون قد طابق بين: يعيش، ويميت. يعني أنه يقتل أعداءه بالخوف قبل القتال، ويظهر السرور بالعطاء، ويعطى قبل السؤال.
إنّ الرّياح إذا عمدن لناظرٍ ... أغناه مقبلها عن استعجاله
عمدن: أي قصدن. والناظر: هو ناظر العين، وقيل: اسم الفاعل من نظر والهاء في أغناه واستعجاله للناظر وفي مقبلها للرياح.
يقول: إنه لا يحتاج في إعطائه إلى السؤال والاستعجال، كما أن الرياح إذا قصدت لناظر لا يحتاج الناظر في حال إقبالها إلى الاستعجال بل تصل إلى كل أحد وإن لم يستعجلها، فكذلك هو يعطى قبل السؤال.
أعطى ومنّ على الملوك بعفوه ... حتّى تساوى النّاس في إفضاله
يقول: نعمه قد عمت الناس كلهم، فأعطى العفاة من ماله، وعفا عن الملوك؛ بأن أسرهم ثم أطلقهم وعفا عنهم، أو ترك قتلهم والتعرض لهم، فكلهم تساووا في فضله.
وإذا غنوا بعطائه عن هزّه ... والى فأغنى أن يقولوا: واله
والى: أي تابع، وواله: أمر منه. والهاء في منه للعطاء.
يقول: إذا استغنى الناس بعطائه عن تحريكه وسؤاله، تابع العطاء وأغنى في المتابعة عن الاستمداد والسؤال.
وكأنّما جدواه من إكثاره ... حسدٌ لسائله على إقلاله
الهاء في إكثاره للممدوح. وقيل: للجدوى. وذكر على معنى النوال، والعطاء، وفي إقلاله للسائل. والإقلال: الفقر. جعل جدواه حسداً، وجعل الممدوح حاسداً، والإقلال محسوداً عليه.
يقولك إذا رأى فقيراً أكثر له العطاء، فكأنه يحسده على إقلاله: أي فقره. فهو يحب إزالته، كما يحب الحاسد زوال نعمة المحسود.
غرب النّجوم فغرن دون همومه ... وطلعن حين طلعن دون مناله
غرب: أي غبن. والهموم: جمع الهم: الذي هو الهمة.
وقيل: أراد بهمومه مقاصده.

يقول: إن همم الممدوح فوق الكواكب، وهو قد نال ما هو أبعد منها، فتغيب الكواكب دون همته، وتطلع دون مناله، فهو أعلى منالاً منها في كل حال.
واللّه يسعد كلّ يومٍ جدّه ... ويزيد من أعدائه في آله
يقول: إن الله تعالى يخصه كل يوم بسعادة، ويظفره بأعدائه، فينعم عليهم ويعفو عنهم، فيعودون أولياءه بعد أن كانوا أعداءه، وعلى هذا معناه: الخبر.
وقيل: إنه دعاء أن الله تعالى يوفقه للسعادة ويزيد الله من أعدائه في أوليائه.
لو لم تكن تجري على أسيافه ... مهجاتهم لجرت على إقباله
الهاء في إقباله لجده: أي على إقبال جده. وقيل: إنه راجع إلى الممدوح.
يقول: لو لم يقتل أعداءه بسيوفه، لقتلهم إقباله وسعادة جده، وبلغته الأقدار مراده.
فلمثله جمع العرمرم نفسه ... وبمثله انقصمت عرى أقتاله
العرمرم: الكثير. والأقتال: جمع القتل، وهو النظير في الحرب. ويقال أيضاً للعدو: قتل.
يقول: لمثل هذا الممدوح يجمع الجيش الكثير: يعني أن من كان مثله في الإقدام يفنى الجيش العظيم، ويفرق جمعه، ويقتل أبطاله.
وقيل: جمع العرمرم نفسه: معناه الفزع. يقال: جمع فلان نفسه: إذا فزع. يعني: أن العسكر العظيم من مثله يفزع، وبمثله يقتل.
لم يتركوا أثراً عليه من الوغى ... إلا دماءهم على سرباله
يقول: إن أعداءه في الحرب لم يقدروا له على شيء، سوى أنهم خصبوا ثوبه بدمائهم؛ من جرحه إياهم، وانتضاح دمائهم إليه.
يا أيّها القمر المباهى وجهه ... لا تكذبنّ فلست من أشكاله
يقول للقمر: لا تكذبن. أي لا تغتر بما سولت نفسك من الكذب، ولا تباهى، ولا تفاخر وجهه في الحسن والبهاء، ولا تغتر بما حدثتك نفسك: بأنك مثله في الحسن والعلاء، فإنها كذبتك فسلت من أمثاله.
وإذا طما البحر المحيط فقل له ... دع ذا فإنّك عاجزٌ عن حاله
وهب الّذي ورث الجدود وما رأى ... أفعالهم لابنٍ بلا أفعاله
يقول: وهب ما ورث عن آبائه من الأموال، لأنه لم ير ما بنوه من المجد وشيدوه من الفخر فخراً ما لم يفعل هو لنفسه فوق ما ورث لنفسه ما هو فخر له. كما قال بعضهم:
إنّا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومثله لابن الرومي.
وما الحسب الموروث لادر دره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا لم يكن وإن كان شعبه ... من المثمرات اعتده الناس من خطب
حتى إذا فنى التراث سوى العلا ... قصد العداة من القنا بطواله
يقول: لما أفنى بهباته ما ورث من آبائه، فلم يبق منه شيء، إلا معالي آبائه، فإنه شحيح بها، قصد الأعداء وأغار عليهم، فاحتوى على أموالهم ووهبها.
وبأرعنٍ لبس العجاج إليهم ... فوق الحديد وجرّ من أذياله
الأرعن: الجيش العظيم، والهاء في أذياله للأرعن.
يقول: قصد الأعداء بجيش عظيم، قد لبس الغبار فوق الدرع، يعني أن الغبار قد علا الفرسان، حتى صار لها كالدرع السابغة وجر من أذياله يعني به التجافيف، وأنه يسحبها لطولها.
فكأنّما قذى النّهار بنقعه ... أو غضّ عنه الطّرف من إجلاله
يقول: إن غبار الجيش قد غير ضوء النهار، وكأن الشمس قد قذيت بهذا الغبار، أو غض عينه؛ من الإعظام للممدوح؛ فالهاء: للممدوح، وقيل للجيش، وقيل للغبار.
الجيش جيشك غير أنّك جيشه ... في قلبه ويمينه وشماله
يقول: الجيش لك، وأنت عليه أمير؛ لأنك تحميه بنفسك وتذب عنه بسيفك، فكأنك جيش الجيش. والكنايات للجيش.
ترد الطّعان المرّ عن فرسانه ... وتنازل الأبطال عن أبطاله
هذا تفسير البيت الأول.
يقول: إنك تباشر الطعان الصعب عن فرسان جيشك، وتقاتل شجعان العدو عن شجعان جيشك.
كلّ يريد رجاله لحياته ... يا من يريد حياته لرجاله
يقول: كل الملوك إنما يريدون الجنود لحياة نفوسهم، حتى يدفعوا عنها الأعداء، وهو يريد الحياة؛ ليدفع عن جيشه ويصونهم.
دون الحلاوة في الزّمان مرارةٌ ... لا تحتظى إلاّ على أهواله
الهاء في أهواله للزمان.

يقول: كلا حلاوة الدنيا دونها مرارة ! فلا تنال حلاوة الزمان إلا بتجرع مرارته وأهواله ! يعني أن معالي الأمور لا تدرك إلا باقتحام القتال والحروب ومباشرة الأمور العظام، وتحمل المؤن والمغارم.
فلذاك جاوزها عليّ وحده ... وسعى بمنصله إلى آماله
يقول: فلهذا احتوى سيف الدولة على معالي الأمور دون غيره، وأدرك بسيفه ما أمل من المعالي، مالا يأمل غيره.
وقال أيضاً يمدحه:
أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ... ومن ارتياحك في غمامٍ دائم
الفضائل: جمع فضيلة، وهي كل خلق شريف. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل كريم. والارتياح: السخاء، والاهتزاز.
يقول: حصلت أنا منك بين شرف أخلاقك، وكرم أفعالك، وحللت من جودك في مطر دائم، من غمام سخائك وغزارة عطائك.
ومن احتقارك كلّ ما تحبو به ... فيما ألاحظه بعيني حالم
يقول: أنت تعطى العطايا الجليلة وتحتقرها مع عظمها ! وإني وأنا أتعجب من عظم هذا الشان، فأقدر - فيما أشاهده من فعلك - أني نائم وأن ما أراه حلم !
إنّ الخليفة لم يسمّك سيفها ... حتّى بلاك فكنت عين الصّارم
بلاك: أي جربك. فكنت عين الصارم: أي حقيقته.
يقول: إن الخليفة لم يلقبك بسيف الدولة إلا بعد أن جربك، فوجدك أمضى من السيف الصارم.
فإذا تتوّج كنت درّة تاجه ... وإذا تختّم كنت فصّ الخاتم
يقول: أنت زينة ملكه، وقوام دولته فموقعك من الخليفة موقع الدرّة من التاج، إذ هي زينته، والفص من الخاتم؛ لأن قدر الخاتم بالفص.
وإذا انتضاك على العدى في معركٍ ... هلكوا وضاقت كفّه بالقائم
يقول: إذا جردك الخليفة على أعدائه أهلكتهم، وملأ يده قائمك. يعني أنت أعظم منه قدراً، وأنفذ أمراً، وإن كنت له مطيعاً.
أبداً سخاؤك عجز كلّ مشمرٍ ... في وصفه وأضاق ذرع الكاتم
الذرع: القلب ها هنا.
يقول: من اجتهد في وصف سخائك ظهر عجزه عن بلوغ كنهه، ومن أراد أن يكتمه ضاف صدره؛ ؟ لأنه لا ينكتم.
وقال أيضاً يمدحه بحلب وقد أر له بفرس وجارية:
أيدري الرّبع أيّ دم أراقا ... وأيّ قلوب هذا الرّكب شاقا ؟!
الألف: للاستفهام. ومعناه: النفي. أي لا يدري الربع. وشاقه الحبيب: أي هيج شوقه إليه.
سأل أصحابه وقوفهم ساعة على ربع حبيبه. هل يدري الربع من قتل منا لوجوده ؟! وقلب من هيه لشوقه ؟ أراد به دم نفسه وقلبه، تغظيماً لهما.
لنا ولأهله أبداً قلوبٌ ... تلاقى في جسومٍ ما تلاقى
الهاء في لأهله للربع. وتلاقى: أصله تتلاقى في الموضعين. وما: النفي. يقول: لنا ولأهل الربع قلوب تتلاقى بالذكر، وإن كانت الجسوم متباينة في العين.
وما عفت الرّياح له محلاً ... عفاه من حدا بهم وساقا
عفا المنزل، وعفتها الرياح: يلزم ويتعدى.
يقول: إن الرياح لم تعف محلاً بهذا الربع، فقد كانت تهب الرياح عليه، وهم حلول به، فلا تمحو له رسماً، ولا تعفو له أثراً، فلما حدى بهم حادي الرحيل، وساق إبلهم سائقه، عفت منازله ودرست أطلاله، فليس للرياح فيه صنع، وإنما ذلك من صنيع من حدى إبلهم وساقها.
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمّل كلّ قلبٍ ما أطاقا
يعني أن الحب قد جار على فحملين فوق ما أطيقه من الشوق، فليت الهوى كان بالتسوية والنصفة بين العشاق. فيكون حظ كل عاشق منه قدر ما يطيقه.
نظرت إليهم والعين سكرى ... فصارت كلّها للدّمع ماقا
سكرى: أي مملوءة من الدمع. والماق: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مصب الدمع.
يقول: نظرت للتوديع عند ارتحال الحبيب وعيني مملؤة من لدمع، فلما رحلوا فاض الدمع من كل جانب، فصارت الجوانب كلها والمآق سواء في انصباب الدمع منه.
وقد أخذ التّمام البدر فيهم ... وأعطاني من السّقم المحاقا
يقول: إن البدر فيما بين أهل هذا الربع، قد أخذ التمام والكمال، وأعطاني من السقم الذي في المحاق. يعني: أنا والحبيب بمنزله القمرين، فاختص التمام به، والمحاق بي.
وبين الفر والقدمين نورٌ ... يقود بلا أزمّتها النّياقا
النور: قيل: أراد به جسمها، وقيل: أراد به الوجه، وفاعل يقود ضمير النور.

يقول: بين أعلى هذه المرأة، وبين قدميها جسم، أو وجه، له نور. مضىء بحيث يقود الإبل بلا زمام؛ لأن الإبل - لحسنها - تنقاد لها، والهاء في أزمتها للنياق، فهو مؤخر في الرتبة وإن كان مقدما في اللفظ.
وطرفٌ إن سقى العشّاق كأساً ... بها نقصٌ سقانيها دهاقا
وطرف عطف على قوله: نور يعني لها طرف إذا سقى عشاقة كأساً من الهوى ناقصة، سقانيها مملوءة. أي حبه لطرفها أكثر من حب كل عاشق له.
وخصرٌ تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدثٍ نطاقا
وخصر أيضاً عطف على ما تقدم من البيت، والكنايات للخصر يقول: إن خصرها إذا بدا نظرت إليه العيون من كل جانب، وثبتت فيه شاخصة متحيرة، لا يمكن للناظر أن يصرف عينه، فيصير طرف الناس بإحاطته به كالنطاق المحيط بالخصر، وأخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
أحاطت عيون العالمين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق
وقال ابن جني: معناه أن الأبصار تؤثر فيه لنعومته، ورقة بشرته ! فيصير ذلك الأثر الحاصل عن الأبصار حوالي خصره كالنطاق. والأول أولى.
سلي عن سيرتي فرسي ورمحي ... وسيفي والهملّعة الدّفاقا
الهملعة: الناقة الخفيفة. والدفاقا. بكسر الدال وفتحها: الكثيرة السير فكأنها تتدفق كما يتدفق الماء، إذا جرى بشدة. والسيرة: الطريقة، والعادة.
يقول لعاذلته؛ سلى عن شجاعتي: فرسي ورمحي، وعن السير: ناقتي، فإنها تخبرك بأفعالي، فلا أصغو إلى عذلك.
تركنا من وراء العيس نجداً ... ونكّبنا السّماوة والعراقا
نكبنا: أي بعدنا، وعدلنا عنه. والسماوة: مفازة بين الشام والعراق.
يقول: وتركنا نجداً وراء ظهورنا، وعدلنا عن السماوة والعراق، وقصدنا سيف الدولة، بحلب.
فما زالت ترى والليل داجٍ ... لسيف الدّولة الملك ائتلاقا
الائتلاق: اللمعان.
يقول: ما زالت العيس ترى لمعان غرة سيف الدولة في ظلمة الليل، فتهتدي بضوء غرته في طريقها إليه.
وقيل: أراد أن مقصودنا لما كان سيف الدولة، كان الليل لنا بمنزلة النهار عند قصدنا إياه، من الفرح.
وقيل: أراد أنه قد بلغ من كرمه أن يوقد النار للضيوف في كل موضع، فترى العيس ذلك وتستأنس به. والأول هو الظاهر.
أدلّتها رياح المسك منه ... إذا فتحت مناخرها انتشاقا
الانتشاق: طلب الرائحة بالأنف، والهاء في منه للممدوح.
يقول: العيس كانت تستدل على مكانه بما تنتشق من رائحته، فكانت رياح المسك أدلة لها إليه إذا فتحت العيس مناخرها للانتشاق، فكأنه عبر عن كرمه بالمسك، وعن صيته بالرياح.
أباح الوحش ... يا وحش الأعادي فلم تتعرّضين له الرّفاقا ؟
تقدير البيت: يا وحش أباح سيف الدولة. الوحش الأعادي. فالوحش أحد المفعولين، والأعادي المفعول الآخر. وروى: أباحك أيها الوحش الأعادي والرفاق: هم قوم يجتمعون في السفرة. وكان الأسد افترس له ناقة في قصد مسيره إلى سيف الدولة. فيقول للوحش: يا وحش أباح لك سيف الدولة الأعادي؛ فإنه يقتلهم ويطرحهم لك، فلم تتعرضين الرفاق القاصدين إليه ؟ لأنك مستغنية عن ذلك بما مكنك من لحوم قتلاه.
ولو تبّعت ما طرحت قناه ... لكفّك عن رذايانا وعاقا
ما طرحت: في موضع نصب، لأنه مفعول تبعت أي لو تبعت مطروح قناته. والرذايا: جمع رذية، وهي البعير الذي قام من الإعياء، ولم يقدر على السير.
يقول للوحش: لو تبعت ما طرحت رماح سيف الدولة من القتلى لمنعك عن أكل الإبل المعيبة، لأن لك بقتلاه مندوحة عن إبلنا.
ولو سرنا إليه في طريق ... من النّيران لم نخف احتراقا
يقول للوحش: كيف تعرضت لنا ونحن نقصده ؟ ولم تخافي صولته وهيبته، فإن لو سرنا في طريق يلتهب ناراً، وعلمت النار أنا قاصدوه لم تضرنا ! ولم تقدر على إحراقنا، يعني أن كل شي من الوحش والعاتين في الأرض يخافه، حتى لو تصور في الجمادات أن تخافه لخافته.
إمامٌ للأئمّة من قريشٍ ... إلى من يتّقون له شقاقا
الهاء في له قيل: راجع إلى إمام، ويجوز أن يكون راجعاً إلى ضمير من تقديره: إلى من يتقون شقاقه. فلما قدمه أدخل فيه اللام كقوله تعالى: " لِلّرؤْيَا تَعْبُرُون " والشقاق: العصيان والمخالفة.

يقول: هو إمام للأئمة من قريش: أي الخلفاء من ولد العباس. يعني أن الأئمة إذا ساروا إلى عاص عليهم، خارج عن طاعتهم، كان سيف الدولة إمامهم في مقدمة جيوشهم، فهو لهم إمام في كل حرب يتبعون خطوه، ويرجعون إلى رأيه ومثله للبحتري:
ولو جمع الأئمّة في مكانٍ ... تكون به لكنت لهم إماما
يكون لهم إذا غضبوا حساماً ... وللهيجاء حين تقوم ساقا
يقول تأكيداً لما تقدم: إن الأئمة إذا غضبوا على مخالف، كان لهم سيفاً يقتلون به، ويكون ساقاً للحرب حين تقوم الحرب، فقوام الحرب به كما يقوم الإنسان على ساق.
فلا تستكثرنّ له ابتساما ... إذا فهق المكرّ دماً وضاقا
فهق: امتلأ.
يقول: لا تستعظم منه الابتسام، وإشراق الوجه عندما امتلأ مكان الحرب بالدماء، وصار كالسيول.
فقد ضمنت له المهج العوالي ... وحمّل همّه الخيل العتاقا
فاعل ..ضمنت: العوالي. ومفعوله: المهج.
يقول: إنما يبتسم في حال شدة الحرب؛ لأن الرماح قد ضمنت له نفوس الأعداء، فوثق بها، وحمل خيله العتاق همته، فكما أنه لا يولى عن العدو، كذلك خيله؛ لتحملها همته.
إذا أنعلن في آثار قومٍ ... وإن بعدوا، جعلنهم طراقا
الطراق: نعل يطرح تحت النعل يؤكد بها.
يقول: إذا أنعلت لطلب قوم أدركتهم، وجعلتهم نعلاً ثانية، لأنها تطؤهم وتدوسهم، وتجعلهم بين حوافرها، فتلحق بهم وإن كانوا على مسافة بعيدة وعليها نعلها الأولى فيصيروا نعلا ثانية.
وإن نقع الصّريخ إلى مكانٍ ... نصبن له مولّلةً دقاقا
نقع: ارتفع. وروى: وقع الصريخ والصريخ، والصراخ: الصوت. والمؤللة: المدققة المحددة، وهي الآذان ها هنا.
يعني: أن خيله قد تعودت إجابة الصارخ، واستغاثة المستغيث، فإذا ارتفع صوت مستغيث من مكان ووصل إليها. نصبت له آذانا محددة دقاقا. لاعتيادها إجابة الصارخ.
فكان الطّعن بينهما دراكاً ... وكان اللّيث بينهما فواقا
الفواق: الوقت الذي بين الحلبتين. ودراكا: أي متتابعة.
يقول: بين دعاء المستغيث، وبين إجابة سيف الدولة، لا يكون الليث إلا قدر ما بين الحلبتين، حتى يلحق به، ويداركه الطعن في عدوه: أي يتابع. ويروى بينهما جواباً أي يكون هناك الطعن بدل الكلام.
ملاقيةً نواصيها المنايا ... معاودةً فوارسها العناقا
نصب ملاقية ومعاودة على الحال أي لحقن الصريخ على هذا الحال.
يقول: إن الخيل تلاقي الموت بنواصيها، وتعانق فرسانها الأبطال:
تبيت رماحه فوق الهوادي ... وقد ضرب العجاج لها رواقا
الرواق: مقدم البيت. وقيل: سقف البيت المقدم، والهاء في رماحه للممدوح وفي لها للخيل والهوادي.
يقول: تبيت رماح سيف الدولة فوق أعناق الخيل في حال قد ضرب العجاج للخيل، ولهواديها، رواقا؛ لكثرته وتكاتفه عليها.
تميل كأنّ في الأبطال خمراً ... عللن به اصحباحاً واغتباقا
روى يميل وتميل يذكر ويؤنث، ولأنه أراد به الدم.
يقول: تميل هذه الرماح عند طعنه بها في أجسام الأعداء، فكأنها قد اصطحبت واغتبقت في الأبطال من الخمرة فصارت من شربها سكارى.
تعجّبت المدام وقد حساها ... فلم يسكر وجاد فما أفاقا
تعجبت الخمر حين شربها سيف الدولة ولم يسكر؛ لأنه شرب المسكر لا الجود ! وقيل: يمدحه بالإسراف في الجود والقوة على الشرب فهو سكران من الجود، وصاح من الشراب الذي شربه.
أقام الشّعر ينتظر العطايا ... فلمّا فاقت الأمطار فاقا
يقول: قام شعري ينتظر عطاياك، حتى يكون على قدرها، فلما فاقت عطاياك الأمطار، فاق شعري الأشعار.
وزنّا قيمة الدّهماء منه ... ووفّينا القيان به الصّداقا
الهاء في منه وفي به للشعر.
يقول: جازيتك على ما أعطيتني بمدحي إياك، فوزنت لك ثمن الفرس، ومهر الجارية.
وقيل: معناه أن عطاياك لما فاقت العطايا صار شعري الذي يفوق سائر الأشعار وفاء لها.
وحاشا لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الّذي لك أن يباقى
المباراة: المعارضة بالفعل. أي يفعل مثل فعله. ويباقي: يغالب في البقاء. واعتذر بهذا عن قوله: وزنا قيمة الدهماء وقيل: هو اعتذار من قوله: فلما فاقت الأمطار فاقا يعني: حاشا لجودك وكرمك أن يعارض بحمد، فجودك أكثر، ومدى كرمك أطول.

ولكنّا نداعب منك قرماً ... تراجعت القروم له حقاقا
المداعبة: الممازحة، والدعابة: المزاح. والقوم، الفحل الكريم من الإبل. والحقاق: جمع الحق، وهو الذي دخل في السنة الرابعة، والأنثى حقة.
يقول: جودك لا يقاومه شكر، وإنما قلت هذا مزحاً، وأنت سيد تفضل جميع السادة، فكل سيد قيس إليك وقوبل بك يعود ذليلا كالحقة إذا قيست إلى القرم، فكما أنه يفضلها كذلك أنت تفضل كل سيد كريم.
فتىّ لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
الوثاق: بالكسر والفتح ما يشد به الأسير.
يقول: هو لا يسلب قتيله أبداً ويفك الغل من الأسارى بالعفو والإحسان.
ولم تأت الجميل إليّ سهواً ... ولم أظفر به منك استراقا
يقول: لم يكن إحسانك إلي عن غلط منك، ولا عن خديعة واستراق مني له، ولكني نلته باستحقاق، وأحسنت إلي بعد الامتحان. والهاء في به يعود إلى الجميل.
فأبلغ حاسديّ عليك أنّى ... كبا برقٌ يحاول بي لحاقا
كبا الفرس يكبو: إذا عثر.
يقول: أبلغ من يحسدني على محلي عندك، ويحاول لحاق غايتي في مدحك: أن البرق إذا أراد اللحاق بي فإنه يكبو خلفي، فكيف يدركني ؟! ويحاول إدراك محلي.
وقيل: هذا أمر للممدوح ويقتضي أن يكون دون الأمر، وذلك قبيح، ولكنه لما قال: حاسدي عليك أخرجه عن حد القبيح بأن بين: أن الحسد كان لاختصاصه.
وهل تغني الرّسائل في عدوّ ... إذا ما لم يكنّ ظبي رقاقا
رجع عن قول: حاسدي وقال: الرسالة لا تشفيني منهم، إلا أن يكون بدلها السيف، فأقتلهم وأستريح منهم، والكناية في قوله: إذا ما لم يكن للرسائل.
إذا ما النّاس جرّبهم لبيبٌ ... فإنّي قد أكلتهم وذاقا
تقديره: إذا ما الناس جربهم لبيب وذاق، فإني قد أكلتهم.
يقول: إني أعرف بأحوال الناس من كل عاقل، فأنا بمنزلة الآكل وغيري كالذائق.
فلم أر ودّهم إلاّ خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
يقول: جربت الناس فوجدت باطنهم بخلاف ظاهرهم في الصداقة، ووجدتهم منافقين في دينهم ! قال علي بن عيسى الربعي: إن أبا الطيب كان يردد مع نفسه هذين البيتين كل يوم أكثر من خمسين مرة.
يقصّر عن يمينك كلّ بحرٍ ... وعمّا لم تلقه ما ألاقا
ألاق يليق إلاقة، ولاق يليق: إذا أمسك وحبس.
يقول: كل بحر يقصر عن جود يمينك، وما أمسكه البحر من جواهره، ومن بابه الذي هو فيه، يقصر عما لم تمسكه من العطاء، فيكون ما من عطائك أكثر من جواهر البحر ومائه.
ولولا قدرة الخلاّق قلنا ... أعمداً كان خلقك أم وفاقا ؟
يقول: لولا علمنا بقدرة الله عز وجل، على ما يعجز عنه كل قادر، ويخرج عن العادة، لشككنا في خلقك ! أوقع عن قصد واتفاق من غير مانع !؟
فلا حطّت لك الهيجاء سرجاً ... ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا
يقول: لا زالت خيالك مسرجةً أبداً في الحرب، ولا ذاقت الدنيا مرارة فراقك.
وقال يمدحه ويرثي ابن عمه أبا وائل تغلب بن داود، في جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة:
ما سدكت علةٌ بمورود ... أكرم من تغلب بن داود
ما سدكت: أي ما علقت. يقال: سدك به، لصق به، إذا لازمه ولم يفارقه. والمورود: المحموم الذي تتردد عليه الحمى كل يوم.
يقول: ما دامت علة على مريض ، أكرم من تغلب بن داود. يعني أنه أكرم من كل مريض طال عليه مرضه.
يأنف من ميتة الفراش وقد ... حلّ به أصدق المواعيد
الميتة: الهيئة. الجلسة.
يقول: كان يأنف من أن يموت على فراشه؛ بشجاعته في حال قد نزل به - وهو - الموت الذي هو أصدق المواعيد.
ومثله أنكر الممات على ... غير سروج السّوابح القود
السابح: الفرس السهل، الذي يمد ذراعيه في عدوه، كأنه يسبح. والقود: جمع أقود، وهو الطويل العنق.
يقول: من كان مثله في الشجاعة أنكر هذه الموتة، يعني أنه لا يرضى الموت إلا على سروج الخيل السوابح الطوال الأعناق.
بعد عثار القنا بلبّته ... وضربه أرؤس الصّناديد
العثار: السقوط على الوجه، وأراد ها هنا سقوط الرماح عليه. واللبة: النحر. والصناديد: السادات، وقيل: الشجعان.
يقول: إن مثله في شجاعته ينكر موته على فراشه، بعد مباشرته الحروب، وكثرة وقع الرماح بصدره، وضرب رءوس كثير من الشجعان الكرام.

وخوضه غمر كلّ مهلكةٍ ... للذّمر فيها فؤاد رعديد
الغمر: الماء الكثير، وجعل المهلكة غمراً اتساعاً، وأراد به معظمها، وقيل: أراد وسطها، والذمر: الشجاع، والرعديد: الجبان، الذي يرتعد من شدة الخوف، وقوله: للذمر إلى آخره. صفة للمهلكة.
يقول: إنه ينكر الموت على الفراش بعد خوض المهالك التي يصير قلب الشجاع فيها كقلب الجبان المرتعد من شدة الخوف، ومن كان هذه حاله، يستنكر موته على فراشه.
فإن صبرنا فإنّنا صبرٌ ... وإن بكينا فغير مردود
الصبر: جمع صابر، وقيل: جمع صبور.
يقول: إن صبرنا على هذه المصيبة، فكذلك عادتنا، وإن بكينا عليه، فغير مستنكر لعظم المصيبة.
وإن جزعنا له فلا عجب؛ ... ذا الجزر في البحر غير معهود
الجزر: نقصان الماء. والمد: زيادته.
يقول: إن جزعنا عليه فليس بعجب، لأن هذا الجزر في البحر غير معهود. يعني أن مثل هذا المصاب لم نعهده لنصب عليه، وعبر عن الرجل بالبحر، وعن المصيبة بالجزر، يعني: إنا وإن رأينا المصائب قبل هذا. فلم نر مثل هذه المصيبة، فهي جزر غير معهود على هذا الوجه.
وقيل: معناه أنه كالجزر لم يعهد في البحار، وإنما يكون في الأنهار، فهذا أمر هائل عجب، فجزعنا له غير عجب.
وقيل: أراد بالبحر سيف الدولة، ومعناه أن موت هذا الرجل كالجزر العظيم في البحر، الذي ليس بحر أعظم منه، وهو غير معهود. أي لم يمت لسيف الدولة أحد أجل منه.
أين الهبات الّتي يفرّقها ... على الزّرافات والمواحيد ؟؟
الزرافات: الجماعات. والمواحيد: جمع الموحد.
يقول: أين المواهب التي كان يفرقها على الجماعات والآحاد من قصاده.
سالم أهل الوداد بعدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
يقول: مات بموته أهل وده، فمن سلم منهم، فإنما يسلم لتجرع الحزن لا لأن يخلد في الدنيا ويدوم له البقاء، لن كلا يموت.
فما ترجّى النّفوس من زمنٍ ... أحمد حاليه غير محمود ؟!
يقول: أي رجاء يكون للإنسان في الدنيا، ويكون أحمد حاليه وهو البقاء غير محمود ! لأنه مشوب بأنواع من الحزن والمكاره، وغايته الموت.
إنّ نيوب الزّمان تعرقني ... أنا الّذي طال عجمها عودي
نيوب: جمع ناب في الكثرة، وتعرقني: أي ما علي من اللحم. والعراق: فجربني حتى عرفني؛ لكثرة تقلي لصروفه.
وفىّ ما قارع الخطوب وما ... آنسنى بالمصائب السّود
المقارعة: المضاربة. والخطوب: الأمور العظيمة. والمصائب السود: هي الشديدة التي يسود بها البصر. وقيل: وصفها بالسود للبس الحداد فيها، لشدتها.
يقول: فيّ من الصبر ما يقاوم الخطوب، ويؤنسني بالمصائب الشديدة.
ما كنت عنه إذا استغاثك يا ... سيف بني هاشم بمغمود
غمدت السيف وأغمدته: إذا أدخلته في الغمد، وهو قرابه.
يقول: استغاث بك وهو في أسر الخارجي، فلم تك بمغمود عنه، ومغيب عن نصرته وإغاثته، فلو قدرت الآن على تخليصه من الموت لخلصته، لكن لا يقدر أحد على دفع الموت.
يا أكرم الأكرمين يا ملك الأم ... لاك طرّاً يا أصيد الصّيد
الأصيد: المتكبر المائل العنق من الكبر، وجمعه صيد. والأملاك جمع في القلة وفي الكثرة: الملوك.
قد مات من قبلها فأنشره ... وقع قنا الخطّ في اللّغاديد
أنشر الله الموتى فنشروا هم: أي أحياهم الله فحيوا. واللغاديد: جمع لغدوج، وهي لحم باطن اللهوات، وهي أيضاً اللغنون. والنغنغ.
يقول: كان قد مات من قبل هذه المرة، أو هذه الحالة حين أسره الخارجي، فأحياه وقع الرماح الخطية، في اللغاديد. يعني: أن سيف الدولة أوقع بالخارجي واستنقذه منه، بعد ما قتل منه خلقاً كثيراً.
ورميك اللّيل بالجنود وقد ... رميت أجفانهم بتسهيد
رميك: عطف على قوله: وقع الرماح.
أي أنشره بعد موته، قصدك الخارجي بجنودك، وسيرك إليه ليلاً، حتى طلعت عليهم مع الصبح.
فصبّحته رعالها شزباً ... بين ثباتٍ إلى عباديد
الهاء في صبحته للمرثى ورعال الخيل: أوائلها، الواحد رعيل ورعلة، والهاء في رعالها للجنود. والشزب: الضوامر. والثبات: الجماعات. والعباديد: المتفرقون يميناً وشمالاً.
يقول: جاءت هذا الرجل أوائل خيلك يا سيف الدولة، وقت الصبح، جماعة ومتفرقين، حتى خلصته من أيدي بني كلاب.

تحمل أغمادها الفداء لهم ... فانتقدوا الضّرب كالأخاديد
الهاء في أغمادها للسيوف، وذكر الجنود يدل عليها، ويرجع إلى الجنود إذ لا بد من كون أغماد السيوف معهم؛ لكون السيوف فيها. والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض، وشبه الضربة العظيمة بها.
يقول: كانوا ينتظرون الفداء فجئتهم بخيلك، وفي أغماد سيوفهم الفداء، وهي السيوف ونقدوهم ضرباً فانتقدوا وكل شربة كأنها أخدود.
موقعه في فراش هامهم ... وريحه في مناخر السّيد
الفراش: عظام الرأس. والسيد: الذئب، وجمعه السيدان. والهاء موقعه راجعة إلى الضرب. والموقع: مصدر، وموضع الوقوع.
يقول: موضع هذا الضرب في رءوس - بني كلاب، ولكن ريحه في مناخر الذئاب؛ لأنها أكلتهم بعد ما صاروا جيفاً، فوصلت روائحهم إلى مناخرهم.
وقيل: معناه أنه إذا وقع بهم هذا الضرب، تطاير عنه الدم، وانتشرت رائحته إلى مناخر الذئب، واستدل به على القتلى، فأتى إليها وأكلها.
أفنى الحياة الّتي وهبت له ... في شرفٍ شاكراً وتسويد
شاكراً: نصب على الحال. وروى: في شامخ، وباذخ أي عال. والتسويد: السيادة.
يقول: أفنى أبو وائل الحياة التي وهبتها له حين استنقذته من يد الخارجي في شرف وزيادة، وهو لك شاكراً ولإحسانك إليه ناشراً.
سقيم جسيم، صحيح مكرمةٍ ... منجود كربٍ، غياث منجود
سقيم وما بعده نصب على الحال. والمنجود: المكروب.
يقول: أفنى الحياة التي وهبتها له وهو سقيم الجسم، ولكن مكارمه صحيحة، وهو منجود كرب: أي مجهود كرب العلة، وهو مع ذلك غياث كل مكروب. وهذا يدل على أنه لم يزل مريضاً منذ تخلص إلى أن مات.
ثمّ غدا قدّه الحمام، وما ... تخلص منه يمين مصفود
القد: السير. المقدود. والمصفود: المقيد المشدود.
يقول: كان أسيراً في يد الخارجي، فخلصته من أسره، ثم مات أسيراً للموت الذي لا يقدر أحد على الخلاص منه ! فمن صار مقيداً مغلولاً للموت، لم يخلصه أحد من قيده.
لا ينقص الهالكون من عددٍ ... منه عليّ مضيّق البيد
النقص ها هنا متعد والهاء في منه راجعة إلى العدد.
يقول: لا ينقص من هلك من عدد يكون من ذلك العدد سيف الدولة الذي يضيق المفاوز بجيوشه، ففيه خلق من كل هالك، وبدل من كل ناقص.
تهبّ في ظهرها كتائبه ... هبوب أرواحها المراويد
الهاء في ظهرها راجع إلى البيد وكذلك في أرواحها والمراويد: واحدها مرواد، وهي التي تجىء وتذهب. وقيل: هي الريح اللينة السهلة.
يقول: أن جيوشه تجري في المفاوز مجرى الرياح، غير مسترخية ولا ضعيفة، وخص المراويد؛ لأنه أراد أن عساكره جرارة لا تسير إلا بالهويني؛ من كثرتها.
أوّل حرفٍ من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
شبه آثار سنابك الخيل على الأحجار الصلبة بأول حرف من اسم سيف الدولة وهو العين من علي وهو يشبه أثر السنابك.
مهما يعزّ الفتى الأمير به ... فلا بإقدامه ولا الجود
الأمير رفع لأنه اسمه، والهاء في به تعود إلى مهما لأنه اسم موضوع للشرط، ومعناه مهما عزى الفتى: الذي هو الأمير سيف الدولة فلا يعزى بشجاعته وجوده، لأنهما لا يفارقانه أبداً، ويجوز أن يكون دعاء ومعناه: فلا عزى بهاتين الخصلتين؛ لأنهما متى سملا له فما سواهما حلل، وروى: مهام يعز، فيكون الفتى فاعله، والأمر ينصب لأنه مفعوله، ومعناه: مهما يعزيه بإقدامه وجوده.
ومن منانا بقاؤه أبداً ... حتّى يعزّى بكلّ مولود
يجوز من بالفتح بمعنى: الذي، فيكون عطفاً على قوله: فلا بإقدامه ولا الجود أي فلا يعزى بإقدامه وجوده، ونفسه التي نتمنى أن تبقى هنا أبداً، ويهلك كل مولود، حتى نعزيه بهم. والمراد: أنه لا يعزى بمصبة في نفسه. ويجوز من بالكسر فيكون مستأنفاً، والمعنى أن مرادنا أن يبقى. هو إلى أن يعزى بكل مولود ولد.
وقال أيضاً يمدحه وقد ركب سيف الدولة يشيع عبده يماك لما أنفذه في المقدمة إلى الرقة فهاجت ريح شديدة. فقال:
لا عدم المشيّع المشيّع
ليت الرّياح صنّعٌ ما تصنع

روى الأول بالكسر، والثاني بالفتح. وقد روى بالكسر، من ذلك يقول داعياً له: لا عدم يماك المشيع، سيف الدولة المشيع أو لا عدم سف الدولة غلامه المشيع، وهذا أيضاً يتضمن الدعاء لسيف الدولة. ثم قال: ليت الرياح كانت تفعل مثل فعله، لأن أفعاله تزيد على فعل الرياح.
بكون ضرّاً وبكرت تنفع
وسجسجٌ أنت وهنّ زعزع
وواحدٌ أنت وهنّ أربع
وأنت نبعٌ والملوك خروع
يقول مفضلاً له على الرياح: إنها تضر، وتنفع أنت. وقيل: إنه اتفق هبوب الريح الشديدة فذكر ذلك.
والسجسج: اللينة. والزعزع: الشديدة. يعني: هي شديدة صعبة، وأنت نفع خالص كالريح السجسج.
والرياح أربع: جنوب، وشمال، وصبا، ودبور، وأنت واحد تقوم مقامها أجمع. وقيل: أراد لا نظير له والريح له نظير.
والنبع: شجر صلب يتخذ منه القسى، والخروع: شجر ضعيف. شبه شجر التين. يعني أنت أفضل من الملوك، كالنبع أفضل من الخروع.
وقال أيضاً يمدحه وهو سائر يريد الرقة، وقد اشتد المطر بموضع يعرف بالثديين.
لعيني كلّ يومٍ منك حظّ ... تحيّر منه في أمر عجاب
العجاب: أبلغ من العجيب. والهاء في منه للحظ.
يقول: إن لعيني منك كل يوم حظاً ! يتحير من ذلك الحظ، ويتعجب منه.
حمالة ذا الحسام على حسامٍ ... وموقع ذا السّحاب على سحاب
حمالة: أي ذلك العجاب هو حمالة. هذا هو العجاب.
يقول: أرى أمراً عجيباً وهو حمالة السيف، وقعت على السيف، الذي هو سيف الدولة، لأنه سيف تقلد سيفاً، وكذلك وقوع السحاب الذي هو المطر، على سيف الدولة، الذي هو كالسحاب جوداً.
وزاد المطر فقال فيه أيضاً
تجفّ الأرض من هذا الرّباب ... ويخلق ما كساها من ثياب
الرباب: السحاب الأبيض، وأراد تجف الأرض من مطر هذا الرباب فحذف المضاف.
يقول: تجف الأرض من هذا المطر، وكذلك يخلق ما كسى هذا المطر الأرض من أثواب الربيع وأنواع الأزهار، وألوان الأنوار.
وما يتفكّ منك الدّهر رطباً ... ولا يتفكّ غيثك في انسكاب
يقول: إن الأرض تجف من هذا المطر، ولا يزال الدهر من سحاب جودك رطباً ولا يزال جودك متصلاً، فيبقى أثره على الدهر.
تسايرك السّواري والغوادي ... مسايرة الأحبّاء الطّراب
تسايرك: أي تسير معك. والطراب: جمع طرب، وهو الذي استخفه الشوق.
يقول: إن السحب التي تأتي ليلا والتي تأتي غدوة تسير معك حيث سرت، كما يسير الحبيب مع حبيبه، إذا طرب إليه واستخفه الشوق نحوه.
تفيد الجود منك فتحتذيه ... وتعجز عن خلائقك العذاب
تفيد: أي تستفيد، والتاء للسواري والغوادي. يقال: أفاد واستفاد والاحتذاء: أن تفعل مثل ما فعل صاحبك. ويروى فتحتديه: أي تطلب حدى جودك.
يقول: إن السحاب تسايرك حتى تستفيد الجود منك، وتحذو على حذوك من الجود، فهي وإن استفادت عنك الجود احتذاء، تعجز عن أخلاقك العذبة.
وأجمل سيف الدولة ذكره وهو يسايره في طريق آمد فقال.
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي النّدى ويذاع عنك فتكره
يقول: أنا إذا ذكرت جودك، وأثنيت عليك بإحسانك كنت بمنزلة من ينم عليك، ويفشي أسرارك؛ لأنك تفضل على الناس، وتستره، وتكره أن يظهر ذلك منك، فأنا إذا أظهرته كنت في حيز الواشين بك.
وإذا رأيتك دون عرضٍ عارضاً ... أيقنت أنّ اللّه يبغي نصره
يقول: إذا رأيتك عارضاً دون عرض إنسان، وذاباً عنه تيقنت أن الله تعالى ينصره على أعدائه.
وإنما قال ذلك؛ لأن سيف الدولة أحسن ذكره.
فقال: إذا أثنيت علي، لم أبال بمن عابني؛ وعلمت أن الله تعالى ينصرني على من يطعن علي ذنباً من عرضي.
وفي قافية البيتين اضطراب لأنا إن جعلناها رائية، فالهاء تكون وصلاً، وهذا لا يجوز؛ لأن الهاء أصل في البيت الأول، وهو قوله: فتكره وفي الثاني ضمير وهو نصره فالبيت الأول هائي والثاني رائي، وإن جعلناها هائية فالثانية تكون رائية لما بينا: أن الهاء أصل في الأول، ووصل في الثاني. والكلام في هذا المعنى يطول، وموضعه كتاب القوافي، وقيل القافية رائية وقد جاء مثل هذا في الشعر القديم، وقد تركت ذكره لئلا يطول.
وزاد سيف الدولة في وصفه فقال له.
ربّ نجيعٍ بسيف الدّولة انسفكا ... وربّ قافيةٍ غاظت به ملكا

النجيع: الدم الطوى، وقيل: اليابس، وقيل: الخالص.
يقول: رب دم أجراه سيف الدولة، ورب قصيدة نظمت في مدحه، أو نظمها الشعراء في مدحه، فغاظ الملوك حسنها، وحسدوه حيث قصروا عن صفاته وخصاله.
من يعرف الشّمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرّمكا
يقول: مثلك مثل الشمس، من عرفها لا ينكر مطالعها؛ لشهرتها، وفضلها، فكذلك أنت لا ينكر فضلك، وعلو محلك؛ فلهذا قصدتك دون سائر الملوك. وكذلك مثلك مع الملوك. مثل الخيل الجياد مع الرمك: وهي الإناث من البراذين.
تسرّ بالمال بعض المال تملكه ... إنّ البلاد وإنّ البلاد وإنّ العالمين لكا
يقول: نحن من جميع مالك، فأنت إذا وهبت لنا مالك فقد سررت بمالك بعض مالك الذي تملكه، لأنك تملكت البلاد والعباد، فكأنك وهبت مالك، من مماليكك، فالكل عائد إليك.
وقال يخاطب سيف الدولة وقد سار يريد آمد وتوسط جبالاً:
يؤمّم ذا السّيف آماله ... ولا يفعل السّيف أفعاله
وروى: يؤمل.
يقول: هذا السيف يقصد إلى آماله ويدركها بسعيه، ولا يفعل سيف الحديد مثل فعله، ولا يمضي مضاءه.
إذا سار في مهمةٍ عمّه ... وإن سار في جبلٍ طاله
طاله: أي علاه. يعني إذا سار في البر ملأه بخيله، أو بخيره وبركته أو هيبته، وإذا سار في الجبل: علاه وغطاه بجيشه. وقيل: علاه من حيث القدر والجاه، فهو أعلى منه وأعظم. وقيل: علاه بكثرة الخير والبركات.
وأنت بما نلتنا مالكٌ ... يثمّر من ماله ماله
نلتنا: أي أعطيتنا.
يقول: أنت بما أعطيتنا من العطايا، كالمالك الذي يكثر ماله بماله ويصلحه به، لأنا عبيدك، والدنيا كلها لك، وهذا كقوله: تسر بالمال.
كأنّك ما بيننا ضيغمٌ ... يرشّح للفرس أشباله
الضيغم: الأسد، وهو فعيل من الضغم: وهو العض والترشيح: التعليم والتدريب. ويروى: يحرض والفرس: الاصطياد، وأصله دق العنق.
يقول: أنت تعلمنا الحرب والشجاعة، كالأسد يعلم أولاده الاصطياد.
ونزل سيف الدولة آمد، وكثر المطر بها، ودعا أبا الطيب، فدخل وهو يشرب، فقال له: قال بعض الناس، في قولك:
ليت أنّا ارتحلت لك الخي ... ل وأنّا إذا نزلت الخيام
جعل الخيام فوقك، وعرض بجليس له. فأجابه أبو الطيب، وأراد بهذا قطع الكلام.
لقد نسبوا الخيام إلى علاءٍ ... أبيت قبوله كلّ الإباء
يقول: نسبوا الخيام إلى العلاء، فأبيت أنا قبوله، وامتنعت منه كل الامتناع، لأني لا أسلم أن تكون السماء فوقك، فكيف الخيام ؟!
وما سلّمت فوقك للثّريا ... ولا سلّمت فوقك للسماء
وقد أوحشت أرض حتّى ... سلبت ربوعها ثوب البهاء
يقول: إني لم أسلم أن السماء والثريا فوقك؛ لأن اعتقادي أنها دونك، وأنت فوقها ! وكيف أسلم أن الخيام فوقك مع أنها دونك ؟!
تنفّس والعواصم منك عشرٌ ... فتعرف طيب ذلك في الهواء
تنفس: أي تتنفس، فحذف تاء الخطاب. والعواصم: بلدان كانت من أعمال سيف الدولة، فتعرف: أي العواصم.
يقول: إذا تنفست وبينك وبين العواصم مسرة عشرة ليال، عرفت العواصم طيب نفسك في الهواء !! وأراد أهلها، وبالطيب: العدل والإحسان.
وذكر سيف الدواة لأبي العشائر جده وأباه، وفي نسخة ذكر سيف الدولة جد أبي العشائر فقال أبو الطيب:
أغلب الحيّزين ما كنت فيه ... وولىّ النّماء من تنميد
الحيز: الجانب، وقيل: الفريق، والجيش. ويجوز تنميه بفتح التاء: أي تنتمي إليه، ويجوز بضم التاء: أي تزيد فيه، من أنميت المال، ونمى هو.
يقول: هو أغلب الجانبين أو الفريقين أو العسكرين، الذي أنت فيه، والأولى بالكثرة من كنت منتسباً إليه، أو من كنت تزيد فيه.
ذا الّذي أنت جدّه وأبوه ... دنيةً دون جدّه وأبيه
دنية: أي قرباً، وهو مصدر في موضع الحال، لما قال: القبيل الذي أنت فيه أولى بالزيارة، استدرك ها هنا فقال: إنما يغلب الذي أنت جده وأبوه الأدنى، لا أبوه الذي ولده جده. فكأنه قال: إنما انتسبت هذه القبيلة إليك في الحقيقة.
وأذن المؤذن فوضع سيف الدولة القدح من يده، فقال أبو الطيب رحمه الله تعالى:
ألا أذّن فما أذكرت ناسي ... ولا ليّنت قلباً وهو قاسي
ولا شغل الأمير عن المعالي ... ولا عن حقّ خالقه بكاس

كان الوجه أن يقول: ناسياً، لكنه حذفه للضرورة، فجاء به على قول من قال: رأيت قاض.
يقول للمؤذن: أذن فإن أذانك لم ينبه سيف الدولة من غفلته، وليس قلبه قاسياً فتلينه بأذانك ولم يشغله الكأس عن حق الله تعالى، ولا عن المعالي.
وذكر سيف الدولة بيتاً أحب إجازته وهو:
خرجت غداة النّحر أعترض الدّمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب
الإجازة في البيت: إضافة بيت، أو أبيات إلى بيت آخر يتم به معناه، أو إضافة مصراع إلى مصراع يوافقهن ويتم معناه كقول بعضهم وقد شرب ماء:
عذب الماء وطابا
فقال أبو العتاهية:
حبّذا الماء شرابا
فما ذكره أبو العتاهية هو الإجازة ومعنى البيت: خرجت يوم الأضحى أنظر إلى وجوه الحسان وصورهم، فما رأيت فيه أحسن منك في عيني وقلبي. والدمى: جمع جمية وهي الصورة.
فقال أبو الطيب مجيزاً.
فديناك أهدى النّاس سهماً إلى قلبي ... وأقتلهم للدّارعين بلا حرب
أهدى الناس: أي أكثرهم هداية وأقصد، وسهماً نصب على التمييز، وأراد به العين. وقوله: أهدى يعني يا أهدى الناس، ويجوز أن يكون صفة لكاف الخطاب.
يقول: فديناك من معشوق يهدي سهمه إلى القلوب، ويقتل الرجال الشجعان اللابسين الدروع، وقيل أراد به سيف الدولة، يعني أنك تقتل أعداءك ولا تقيهم الدروع فعلى هذا يكون القلب بلا ياء. والأول أولى.
تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
يقول: حكم الهوى يخالف سائر الأحكام، فالكذب فيه حسن ! وخلف الوعد فيه جميل ! وإن كان قبيحاً من سائر الناس.
وإنّي لممنوع المقاتل في الوغى ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ
المقتل: الموضع الذي إذا أصيب من الجسد مات صاحبه.
يقول: مقاتلي ممنوعة في الحرب بشجاعتي، وإن كنت مبذول المقاتل في الحب، فيصيب الهوى مقتلي بأهون سعي ! وهذا أيضاً من أحكام الهوى المخالفة لسائر الأحكام.
ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السّهل في المرتقي الصّعب
يقول: مقاتلي مبذولة في الحب، وإن كانت ممنوعة في الحرب، لأن من كان له عينان مثل عينيك، سهل عليه المرام الصعب، وأدركه بأهون سعي.
وقيل: أراد من كانت عيناك نصب جفونه، صار طوعاً لهما، فلا يملك الامتناع من سهامها.
وهذه الأبيات ليست بجيدة في الإجازة؛ لأنها لا تتضمن معنى البيت الذي أجازه، غير أنها على وزنه ورويه، وهذا القدر لا يكفي في الإجازة، بل لا بد أن يكون له تعلق بالعنى الذي في البيت الأول.
وقال يمدحه بميّا فارقين، وقد نزلها سيف الدولة في شوال سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة وقد أمر الغلمان والجيش بالركوب بالتجافيف والسلاح:
إذا كان مدحٌ فالنّسيب المقدّم ... أكلّ فصيحٍ قال شعراً متيّم ؟!
كان ها هنا بمعنى: وقع، لا يحتاج إلى خبر.
يقول: من عادة الشعراء أن يقدموا النسيب على المديح، حتى كأن كل شاعر عاشق ؟! ليس الأمر كذلك بل يجوز أن يكون فيهم من يمدح ولا ينسب، إذ لا يجب أن يكون كل شاعر عاشقاً.
لحبّ ابن عبد الله أولى فإنه ... به يبدأ الذّكر الجميل ويختم
يقول: إذا كان ذكر النّسيب لا يدل على كون الشاعر عاشقاً، فذكر محاسن سيف الدولة، والتشبب بأوصافه أولى؛ فإن الذكر الجميل يبدأ به ويختم، إذ هو في جميع أوصافه.
أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم
طمح بنظره: إذا رفعه. وقيل: هو أن ينظر إلى مكان بعيد. وناظر العين: سوادها.
يقول: أطعت الغواني قبل أن أنظر إلى معالي الأمور، فلما نظرت إليها صغر في عيني أمر الغواني. وقوله: يصغرن أي الغواني ويعظم أي المنظر.
وقيل معناه أطعتهن قبل أن أرى سيف الدولة، فلما رأيته عظم في عيني شأنه وصغر أمرهن عندي.
تعرّض سيف الدّولة الدّهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم
تعرض: أي أتاه من عرضه: أي من جانبه. والتطبيق في القطع: أي يقطع المفصل فيكون أسهل، والتصميم: أن يمضي في العظم فلا ينبو عنه.
يقول: إن سيف الدولة قصد إلى الدهر فقطع أوصاله، وأمضى على أحكامه تارة بالعنف: وهو التصميم. وتارة بالرفق: وهو التطبيق، ولما جعله سيفاً: جعل مضيّ أمره على الدهر قطعاً لأوصاله.

فجازله حتّى على الشّمس حكمه ... وبان له حتّى على البدر ميسم
ميسم، قيل: هو الحسن. وقيل: هو من العلامة، وحكمه رفع بجاز أي جاز له حكمه على الشمس وميسم رفع ببان.
والميسم: من قوله وسمه يسمه، ومعناه على الأول أنه ملك الدهر حتى جاز حكمه على الشمس، ونفذ فيه مراده، وبان على البدر، وحسنه ظهر عليه وغلبه، وقيل: إن جواز أمره على الشمس هو أنه متى شاء غير لونها بغبار خيله، وأخفى ضياءها بلمع سيوفه، والأولى أن يحمل على مجرد الدعوى، مبالغة في المدح.
وإن أريد بالميسم العلامة فمعناه: أنه قد ظهر وسمه وأثره على كل شيء من الدهر، حتى على البدر، يعني أنه يذهب بضوء البدر.
وقيل: إنه أراد به الكلف الذي نراه في القمر، وأنه من تأثير سيف الدولة فيه، وقد وسمه، كما يسم الرجل دوابه وإبله.
كأن العدا في أرضهم خلفاؤه ... فإن شاء حازوها وإن شاء سلّموات
يقول: كأنّ أعداءه في بلادهم عماله وخلفاءه، فإن شاء حاز بلادهم بالقهر، وإن شاء سلموها وتسلمها منهم.
ولا كتب إلاّ المشرفيّة عنده ... ولا رسلٌ إلاّ الخميس العرمرم
العرمرم: الجيش الكثير المضطرب.
يقول: ليس له إلى أعدائه كتب إلا السيوف، ولا يرسل إليهم رسلا سوى الجيش.
فلم يخل من نصرٍ له من له يدٌ ... ولم يخل من شكرٍ له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبرٍ ... ولم يخل دينارٌ ولم يخل درهم
يقول: إنه ملك البلاد، وعم بإحسانه العباد، وليس أحد من الناس إلا ناصره، ولا ناطق إلا شاكره، وما من منبر في البلاد إلا وخطيبه يدعو له، ويذكر اسمه، ولا دينار ولا درهم إلا وهو مضروب باسمه.
ضروبٌ وما بين الحسامين ضيقٌ ... بصيرٌ وما بين الشّجاعين مظلم
يقول: إذا تدانت الأقران في الحرب، وضاق ما بين الحسامين فلم يتمكن الشجاع من الضرب وجد هو لسيفه مجالاً، وإذا اشتد الأمر، وعلا الرهج حتى يظلم بين الشجاعين، كان هو بصيراً في الحلة، ولا يخفى عليه وجوه الصواب.
تبارى نجوم القذف في كلّ ليلةٍ ... نجومٌ له منهنّ وردٌ وأدهم
تبارى: أي تعارض. ونجوم القذف: النجوم المنقضة لرجم الشياطين. والورد: الأشقر. والأدهم: الأسود.
يقول: خيله تعارض النجوم المنقضة في السرعة وفي رمي الأعداء، فكما أن النجوم لا يرمى بها إلا الشياطين وتحرقها، فكذلك خيله التي منها الورد والأدهم، تسري إلى الأعداء فتحرقها كالنجوم المنقضة على الشياطين.
يطأن من الأبطال من لا حملنه ... ومن قصد المرّان مالا يقوّم
القصد: ما تكسر من الرماح، الواحدة: قصدة. والمران: الرماح اللينة والضمير في يطأن: للخيل، والهاء في حملنه لمن.
يقول: تطأ خيله من الشجعان ما لا تحمله الخيل: يعني القتلى. وتطأ الرماح المتكسرة التي لا تقوم. وقوله: من لا حملنه. معناه من لم يحملنه. أقام لا، مقام لم ويجوز أن يكون وحملنه: بمعنى يحملنه. وتقديره يطأن من الأبطال من لا يحملنه، فيكون موافقاً لقوله: ما لا يقوم. وقيل: إنه دعاء. ومعناه من لا أظفره الله على الممدوح وجيشه، ومعناه من يستحق أن يقال: لا حملنه. أي من يستحق هذا الدعاء عليه. وهذا كقوله: فداءه: أي يستحق أن أقول له: جعلت فداءه.
فهنّ مع السّيدان في البرّ عسّلٌ ... وهنّ مع النّينان في الماء عوّم
وهنّ مع الغزلان في الواد كمّنٌ ... وهنّ مع العقبان في النّيق حوّم
السيدان: جمع السيد. وهو الذئب. والعسل: جمع عاسل، وهو المضطرب في عدوه. والنينان: جمع نون، وهو الحوت العظيم. والواد: أصله والوادي فاكتفى بكسر الدال. والنيق: رأس الجبل. والعقبان: جمع عقاب.
يقول: إن خيله قد ملأت البر والبحر والسهل والجبل، ففي البر كالذئاب، وفي البحر كالحيتان، وتكمن مع الغزلان في كل واد، وتحوم مع العقبان في كل نيق فلا موضع يخلو منها.
إذا جلب النّاس الوشيج فإنّه ... بهنّ وفي لبّاتهنّ يحطّم
جلب: حمل. والوشيج: أصول الرماح، وأراد به الرماح ها هنا. يعني أن خيله قد تعودت القتال، فإذا جلب الناس الرماح من معادنها، فإنها لا تتكسر إلا في صدورهن، أو بأيدي فرسانه؛ لأنه لا يكون حرب إلا معه.
بغرّته في الحرب والسّلم والحجا ... وبذل اللّها والحمد والمجد معلم
اللها: الدراهم.

يقول: سيف الدولة معلم بغرته، مشهور بوجهه في هذه المواضع، لا يحتاج إلى علامة غيرها؛ لشهرتها. وروى: معلم أي قد أعلم لذلك، أو عليه موضع علامة.
يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم
يقول: قد ظهر فضله في الناس، حتى تساوي في الإقرار به الأولياء والأعداء، وثبتت له السعادة، واستمرت له السلامة، حتى تشارك المنجم وغيره بالقضاء له بالسعادة؛ استشهاراً بظاهر الحال فيعتبر به المآل.
أجار على الأيّ؟ام حتّى ظننته ... تطالبه بالرّد عادٌ وجرهم
أجار على الأيام: أي منع جورها عن الناس. وعاد وجرهم: أمتان هلكتا في قديم الزمان.
يقول: إنه أجار جميع النام من حوادث الأيام، حتى ظننت أن عاداً وجرهماً. تجيئان إليه، وتطالبانه بردهما إلى الدنيا، والانتقام لهما من الأيام.
ضلالاً لهذي الريح ! ماذا تريده !؟ ... وهدياً لهذا السّيل ! ماذا يؤمّم
ضلالاً، وهديا: نصب على المصدر بفعل مضمر.
كان سيف الدولة زار قبر أمه فأصابه في طريقه ريح فيه مطر فقال للريح: ضلالاً: أي أضلها الله ضلالاً؛ لأنها تزعم أنها عارضته، وأرادت أن تثنيه عن طريقه. ودعا للسيل بالهدى؛ لأنه زعم أنه جاء مع سيف الدولة يزور قبر أمه، ويسقى تربتها.
وقيل: الدعاء على الريح؛ لأنها تضر في الغالب، ودعاء للمطر لأنه ينفع في الأكثر.
ألم يسأل الوبل الّذي رام ثنينا ... فيخبره عنك الحديد المثلّم ؟
يقول: هلاّ يسأل هذا المطر الذي أراد صرفنا عن مقصدنا، حتى يخبره عنك الحديد المثلم، بأنك إذا رمت مراماً لم يصدك عنه سيف حسام، فكيف يثنيك المطر والغمام. وأراد بالحديد سلاح الأعداء.
ولمّا تلقّاك السّحاب بصوبه ... تلقّاه أعلى منه كعباً وأكرم
الصوب: المطر. وأعلى منه كعباً: أي منزلة.
يقول: لما تلقاك السحاب بمطره في طريقك، تلقاه من هو أعلى منه محلاً وأجل منه قدراً.
فباشر وجهاً طالما باشر القنا ... وبلّ ثياباً طالما بلّها الدّم
يقول: باشر السحاب وجهاً أكثر منه مباشرة للرماح، وبل ثياباً بلها الدم قبل ذلك، فالمطر أهون شيء عنده.
تلاك ... وبعض الغيث يتبع بعضه من الشّام يتلو الحاذق المتعلّم
يعني يتبعك هذا المطر لأنك غيث مثله، والغيث يتبع بعضه بعضاً كما يتبع المتعلم الأستاذ.
فزار الّتي زارت بك الخيل قبرها ... وجشّمه الشّوق الّذي تتجشّم
فاعل زار: الغيث، ومفعوله التي والذي في موضع نصب؛ لأنه مفعول جشمه، والهاء للغيث.
يقول: زار هذا الغيث قبر والدتك، وكلفه الشوق من السير مثل ما تكلفت أنت، أي هو يشتاق قبرها كما تشتاقه أنت.
ولمّا عرضت الجيش كان بهاؤه ... على الفارس المرخى الذّؤابة منهم
يقول: لما عرضت الجيش، كان بهاء هذا الجيش وجماله بالفارس الذي أرخى ذؤابته. سيف الدولة الممدوح.
حواليه بحرٌ للتّجافيف مائجٌ ... يسير به طودٌ من الخيل أيهم
الطود: الجبل. والأيهم: الصعب الذي لا يهتدي إلى موضع صعوده. والمائج: الفاعل من ماج يموج إذا اضطرب. شبه تجافيف الخيل ببحر يموج لكثرتها وصفائها، وشبه الخيل في اجتماعها بجبل صعب المرتقى، فجعل التجافيف بحراً مائجاً على جبل شاهق.
تساوت به الأقطار حتّى كأنّه ... يجمّع أشتات الجبال وينظم
الأقطار: نواحي الأرض، والواحد قطر وقتر والهاء في به للجيش، أو للبحر أو للقطر.
والمعنى: أن هذا الجيش قد ملأ بين الجبال حتى تساوت به جميع نواحي الأرض، وصارت الأرض جبالاً؛ فكأنه جمع الجبال المتفرقة. وروى: أشتات البلاد.
وكلّ فتىً للحرب فوق جبينه ... من الضّرب سطرٌ بالأسنّة معجم
يقول: كل واحد من هذا الجيش فوق جبينه أثر الضرب والطعن؛ لشجاعته وتعوده الحرب. فشبه أثر الضرب بالسطر لا ستطالتها كالسطر وأثر الطعن بالمعجم؛ لاستدارته كالنقط، وهو أحسن من قول أبي تمام:
كتبت أوجههم مشقاً ونمنمةً ... ضرباً وطعناً يقدّ الهام والصّلفا
كتابة لآتنى مقروءةً أبداً ... وما كتبت بها لاما ولا ألفا
يمدّ يديه في المفاضة ضيغمٌ ... وعينيه من تحت التّريكة أرقم

===============

ج2. كتاب : معجز أحمد

المؤلف : أبو العلاء المعري

يقول: من كثرة نوائب الدهر لا ندري ما الذي نعاتب منها؛ لكثرة الرزايا فلا ندري أيها نطالب بالوتر فيه، ويجوز أن يريد في الدهر، ويجوز أن يريد فيه موتته أو في هذا الفعل.
مضى من فقدنا صبرنا عند فقده ... وقد كان يعطى الصبر والصبر عازب
يقول: مضى بالموت من فقدنا صبرنا بمصيبته، فقد كانت حياته لعظم صبره، يعطينا الصبر إذا بعد عنا الصبر. والمعنى أنه كان يشجعنا على الحرب ويعلمنا الثبات.
يزور الأعادي في سماء عجاجةٍ ... أسنته في جانبيها الكواكب
يقول: إنه كان يزور الأعداء في سماء العجاجة، وكانت أسنته في جانبي هذه السماء كواكب. شبه الغبار المتراكم بالسماء، وأسنة الممدوح التي تلمع من خلال ذلك الغبار، بالكواكب اللامعة من السماء ومثله للآخر:
نسجت حوافرها سماءً فوقها ... جعلت أسنتنا نجوم سمائها
فتسفر عنه والسيوف كأنما ... مضاربها مما انفللن ضرائب
فتسفر: فعل العجاجة، وعنه: أي عن المرثي. والواو في قوله: والسيوف للحال. والمضارب: جمع المضرب، وهو حد السيف. والضرائب: جمع الضريبة وهو الشيء المضروب بالسيف.
يقول: كانت تنجلي هذه العجاجة عن هذا المرثي، ومضارب السيوف كلها منكسرة؛ من كثرة ما قتل بها الأعداء، فكأنها لانفلالها مواضع الضرب.
طلعن شموساً والغمود مشارقٌ ... لهن وهامات الرجال مغارب
طلعن: فعل السيوف. وشموساً: نصب على التمييز. شبهها بالسيوف لما انتضيت من أغمادها.
يقول: مطالع هذه الشموس، الأغماد لظهورها منها، ومغاربها، هامات الرجال؛ لأنها تغيبت فيها فهن يطلعن من مطالعها، وهي الأغماد، ويغربن في مغاربها، وهي الهامات.
مصائب شتى جمعت في مصيبةٍ ... ولم يكفها حتى قضتها مصائب
يقول: ليست هذه مصيبةً واحدةً، بل هي مصائب متفرقة، جمعت في مصيبةٍ واحدة؛ لأنه كان يموت خلقاً كثيراً، فماتوا بموته، ولم يكفها ذلك حتى تبعتها مصائب أخر، وهي أقوال العداة: إنا شامتون بموته، فإن هذه مصيبة انضمت إليها.
رثى ابن أبينا غير ذي رحم له ... فباعدنا منه ونحن الأقارب
رثى: أي رحم، ورق. وغير: فاعله، ومفعوله: ابن أبينا.
يقول: رثى هذا الميت، الذي هو ابن أبينا، من هو غير ذي رحم لنا، بل هو بعيد عنه وعنا، وباعدنا هذا الراثي عن هذا المرثي، ونحن أقاربه وبنو عمه.
وعرض أنا شامتون بموته ... وإلا فزارت عارضيه القواضب
العارضان: جانبا اللحية: وهما العذاران.
يقول: عرض الراثي أنا شامتون بموته، إلا أنه كذب، وزارت السوف عارضيه.
أليس عجيباً أن بين بني أبٍ ... لنجلٍ يهوديٍّ تدب العقارب؟!
تدب العقارب: كناية عن النميمة.
يقول: أليس من العجائب أن تدب عقارب ولدٍ يهودي، بين بني أبٍ! ووصفه بأنه ابن يهودي لذلته وحقارته. وقيل: أراد بأن اليهود اشتهر عنهم مكاتمة عداوة المسلمين، والمشي بينهم بالسعايات.
ألا إنما كانت وفاة محمدٍ ... دليلاً على أن ليس لله غالب
يقول: كانت وفاة محمد، المرثي في عزته ومنعته ومجده، دليلاً على أن الله تعالى لا يغلبه أحد. ومثله لأبي تمام:
كفي فقتل محمدٍ لي شاهدٌ ... أن العزيز مع القضاء ذليل
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي
هو البين حتى ما تأنى الحزانق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
هو: إضمار للبين، ولم يجر له ذكر، وذلك لتعظيم الأمر ومثله قوله تعالى " قل هو الله أحدٌ " وتأنى أي تثبت، وأصله: تتأنى. والحزانق: جمع الحزنقة وهي الجماعة.
يقول: هو البين المتناهي الذي كنا نحاذره، حتى أن الجماعات لا تقف وتثبت، وحتى أنت يا قلبي من وجد ممن أفارقه في أحبابي. يعني: أن البين بلغ حداً إذ ارتحل القلب فارتحل مع ما ارتحل.
وقفنا ومما زاد بتاً وقوفنا ... فريقي هوىً منا مشوقٌ وشائق
وقوفنا: فاعل زاد. وقوله: فريقي هوىً: نصب على الحال من النون والألف في قوله وقوفنا. يقال: شاقني الشيء، والمشوق: هو العاشق الذي شاقه غيره، والشائق: هو المعشوق؛ لأنه الحامل على الاشتياق فهو شائق، وأنا مشوق.
يقول: وقفت أنا والحبيب للتوديع ومن جملة ما عمنا أنا وقفنا في حالٍ ما كنا عليه، ونحن فرقتان: أحدهما محب مشوق والآخر محبوب يشوق صاحبه، بعد فراقه.

وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهاراً في الخدود الشقائق
البهار: جمع بهارة، وهي شيء أصفر، من الرياحين. والشقائق: هي التي تدعى شقايق النعمان، وهي حمر. وروى: قرحاً منوناً على الاسم، وقرحى غير منونةٍ، صفة الأجفان، والمعنى واحد.
يقول: قد صارت الأجفان قريحة من البكاء غداة التوديع لخوف الفراق، وصار بهاراً أصفر في الخدود الشقائق، ومثله لابن المعتز قوله:
لم تشن شيئاً ولكنها ... بدلت التفاح بالياسمين
على ذا مضى الناس: اجتماعٌ وفرقةٌ ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامق
وروى: مضى الدهر أي على هذا. وذلك، إشارة إلى ما تقدم ثم فسره فقال: اجتماعٌ وفرقةٌ. يعني: أن الناس يجتمعون تارةً ويتفرقون أخرى، وواحدٌ يموت وآخر يولد وواحدٌ مبغض وآخر عاشق، وقيل: أن معناه أن بني آدم على اجتماع بعد فرقة، وميت بعد مولود، ومبغض بعد عاشق، ومثله للأعشى.
شبابٌ وشيبٌ، وافتقارٌ وثروةٌ ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
تغير حالي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
تغير: فعل ماض. وروى: تغير: وهو فعل مضارع، وأصله تتغير، لأن الحال مؤنث فحذف أحد التاءين. والأول أولى. والغرانق: هو الشاب الناعم، وجمعه: غرانيق.
يقول: إن الليالي قد أثرت في وغيرتني، وهي بحالها، وشبت أنا والزمان لا يتغير عن حاله وجدته.
سل البيد: أين الجن منا بجوزها؟ ... وعن ذي المهاري: أين منها النقانق؟
البيد: جمع البيداء، والهاء في بجوزها: أي بواسطها. والمهاري: جمع المهرية. وهي الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيدان، وهي قبيلة. والنقانق: جمع النقنق، وهو ذكر النعام.
يقول: سل المفاوز: هل الجن تقطع وسطها كما نقطعها نحن! وسلها: أيضاً عن حال إبلنا في سرعة سيرها، هل تقطها النعام كما تقطها إبلنا؟ لأن النعام موصوفة بسرعة السير.
وليلٍ دجوجي كأنا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق
السمالق: جمع السملق، وهي الأرض البعيدة الأطراف، وفاعل جلت: السمالق، وجلت: أي أظهرت.
يقول: وكم ليلة مظلمة؟ كأنما أظهرت لنا المفاوز وجهك المضيء حتى اهتدينا بضوئه.
فما زال لولا نور وجهك جنحه ... ولا جابها الركبان لولا الأيانق
جنحه: جوانبه، وهو فاعل زال، والهاء في جابها: للسمالق أو للبيد. والأيانق: جمع الأينق: وهو جمع الناقة.
يقول: لولا نور وجهك ما زال ظلام الليل، ولولا النوق؛ لما قطع الركبان تلك السمالق؛ لبعدها وصعوبتها.
وهزٌّ أطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوبٌ شبارق
الهز: تحريك الإبل ركبانها في السير. وهو عطف على الأيانق، وقيل: عطف على قوله: وليل دجوجي فكأنه قال: ورب هزٍّ والأول أولى.
والمعنى لولا الأيانق ولولا هزها الذي طير النوم عني، لما قطعنا هذه المفاوز، حتى كأنني من السكر: أي من النعاس في الغرزين: وهما؛ ركابان للبعير من الخشب. وثوب شارق: أي مقطع مخرق. تعباً وضعفاً واسترخاءً.
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق
شدوا: أي غنوا وأحدوا. والذفرى: العظم الناشز خلف الأذن. وقيل: الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير. وتقديره شدوا بالممدوح، ابن إسحاق، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: حدى الحداة باسم الممدوح، بصوتٍ كالغناء فسمعت الإبل حدوهم فعرفت، ورفعت رءوسها، حتى أدركت ذفاريها الرحال والوسائل.
بمن تقشعر الأرض خوفاً إذا مشى ... عليها وترتج الجبال الشواهق
تقشعر: أي تضطرب، وكذا، ترتج الجبال: يعني حدوا بمن إذا مشى على الأرض اضطربت خوفاً، وإذا علا الجبال الشاهقة اضطربت هيبةً منه.
فتىً كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الجون: الأسود. الحيا: المطر.
يقول: إن هذا الرجل هو كالسحاب الأسود الذي فيه المطر، فهو ترجى منه الأمطار، ويخشى منه الصواعق. أي أنه مرجو مخوف.
ولكنها تمضي وهذا مخيمٌ ... وتكذب أحياناً وذا الدهر صادق
يقول: إن السحاب قد تغيب، وهذا مقيمٌ أبداً، وقد تكذب السحاب فلا تمطر وهذا صادق الدهر فلا يخيب راجيه.
تخلى عن الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق

يقول: اعتزل عن الدنيا استحقاراً لها، وتعفف فما ازداد إلا جلالة وعظماً فلم يخل من ذكره المشرق والمغرب.
غدا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق
المدارى جمع: المدارى والمدارة وهي شيء يفرق به الشعر، وهو المشط وقد يكون من الذهب، والفضة والحديد والعاج والخشب.
يقول إذا السيوف الهندية بالهام والأعناق، فبعضها مدارى يعملها في الهام، وبعضها مخانق للزومها في الأعناق وقطعها إياها.
تشقق منهن الجيوب إذا غزا ... وتخضب منهن اللحى والمفارق
يقول: تشقق من هذه السيوف الجيوب، إذا غزا الممدوح أعداءه، وتخضب منها مفارق الرأس واللحى، إذا ضرب أعداءه بها.
يجنبها من حتفه عنه غافلٌ ... ويصلي بها من نفسه منه طالق
التأنيث: للسيوف، والتذكير: لمن.
يقول يجنب هذه السيوف من غفل هلاكه عنه، ويصلى بها من صارت نفسه طالقةً منه.
يحاجي به: ما ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ ... يرى ساكتاً والسيف عن فيه ناطق
يحاجي: أي يغالط، والأحجية: المعماة.
معناه: يحاجي بهذا الرجل فيقال: ما ناطقٌ ساكتٌ؟ فجواب المجيب: هذا الرجل؛ لأنه يرى ساكتاً إذا أمسك عن الكلام. وفي الحرب، السيف ينطق عنه بقتل أعدائه، فيقوم فعل السيف مقام لفظه.
نكرتك حتى طال منك تعجبي ... ولا عجبٌ من حسن ما الله خالق
يقول: إنما نكرتك لما رأيت محاسناً خارجة عن المعتاد، حتى تعجبت منك، ثم عاودت نفسي فقلت: ولا عجب من صنع الله تعالى. ويجوز أن يريد: إني لما سمعت بوصفك نكرتك فلما عاينتك رأيت مصداق ما سمعت فزال التعجب عني.
كأنك في الإعطاء للمال مبغضٌ ... وفي كل حربٍ للمنية عاشق
يقول: كأنك مبغضٌ مالك؛ لكثرة تفريقه للناس، وكأنك عاشق للموت في كل حرب، لملازمتك دواعيها وأسبابها.
ألا قلما تبقى على ما بدا لها ... وحل بها منك القنا والسوابق
يبقى: فعل القنا، والسوابق. والهاء في بها ولها: ترجع إليها أيضاً. وتقديره ألا قل ما تبقى القنا والسوابق على ما بدا لها، وحل بها من جهتك، من مدافعة الطعن بالقنا، وإجراء الخيل السوابق.
وقيل: إن قوله: تبقى ترجع إلى الحرب يقول: ما تبقي الحرب على ما بدا لها منك؛ لأنك إذا حضرتها هزمت الأعداء فلا تبقى حرب. وقوله: وحل بها... إلى آخره: حال. أي في تلك الحال.
خف الله واستر ذا الجمال ببرقعٍ ... فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
العواتق: جمع العاتق، وهي المرأة الحسناء.
يقول: اتق الله واستر جمالك ببرقع، فإنك إن ظهرت لذوات الخدور من النساء، الجواري الأبكار، ذبن وجداً بك، وشوقاً إليك. وروى حاضت في موضع ذابت أي إذا رأينك حضن؛ لأنه يقال: إن الشهوة إذا غلبت على النساء حضن. ويجوز أن يريد بذلك: أن الحسان من النساء بالإضافة إلى جمالك، بمنزلة من حاضت، في باب سقوط درجتها عن صواحبها.
سيحيي بك السمار ما لاح كوكبٌ ... ويحدو بك السفار ما ذر شارقٌ
حذف مفعول سيحيي وهو الليل لدلالة الكلام عليه، وكذلك يحدو بك السفار: وهي الإبل.
يقول: إن المحدثين بالليل يحيون الليالي بذكرك وحديثك، والمسافرون يحدون إبلهم بك ما طلع نجم وما طلعت الشمس، والأولى أنهم يسمرون ويحدون بشعري الإبل فيك.
فما ترزق الأقدار من أنت حارمٌ ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
ولا تفتق الأيام ما أنت راتقٌ ... ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
يقول: إن الأقدار موافقةٌ لك، فترزق من ترزق، وتحرم من تحرمه أنت، ولا تنقض الأيام ما تبرمه أنت، ولا تبرم ما نقضته أنت.
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
يقول: دام لك الخير، وهذا دعاء له، ثم عاد إلى ذكر نفسه وقال: غيري من الناس طلب الغنى من غيرك، والتحق بغير بلدتك، فأما أنا فلا أفضل سواك عليك.
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
يقول: إن اللاذقية هي الغرض الأبعد الذي لا غاية بعده، ومنيتي رؤيتك، والدنيا كلها منزلك، وإن كان مسكنك اللاذقية، وأنت جميع الخلق، بما فيك من فضائل الناس كلهم، وهذا كقوله أيضاً:
إلا رأيت العباد في رجل
وهجى الحسين بن إسحاق على لسان أبي الطيب، فكتب إليه يعاتبه فأجابه

أتنكر يا ابن إسحاق إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي
يقول معاتباً له أتنكر؟!: أي تجحد مؤاخاتي لك، بعد ما عرفتها مني، وتحسب ماء غيري من إنائي، وهو مثل يعني: تحسب ما هجيت به من شعر غيري أنه من شعري فلا تميز بين شعري وشعر غيري؟!
أأنطق فيك هجراً بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماء
الهجر: الكلام القبيح.
يقول: أقول فيك فحشاً، بعد ما علمت أنك خير من في الأرض وتحت السماء، وروى: أأنطق فيك هجواً.
وأكره من ذباب السيف طعماً ... وأمضي في الأمور من القضاء
وأكره: عطف على قوله: خير من تحت السماء.
يقول: أقول فيك فحشاً بعد علمي بأنك أكره من حد السيف طعماً وأمضى من القضاء في الأمور!!
وما أربت على العشرين سني ... فكيف مللت من طول البقاء؟!
يقول: ما زاد سني على عشرين سنة، فكيف مللت من طول حياتي حتى أهجوك فتقتلني؛ لأني إذا هجوتك لا آمن على نفسي من الهلاك.
وما استغرقت وصفك في مديحي ... فأنقص منه شيئاً بالهجاء
يقول: لم استوف مدحي فيك بعد، وما أدركت الغاية فكيف أنقص منه شيئاً بالهجاء؟
وهبني قلت: هذا الصبح ليلٌ ... أيعمى العالمون عن الضياء!
معناه: هب أني قلت: إن هذا النهار ليلٌ! أيعمى العالمونعن ضياء هذا النهار؟! وهذا مثلٌ ضربه في أنه هجاه، وذكره مغايرة ليتقبله الناس بمشاهدتهم فضله.
وقالوا: إنه كالنهار الذي لا يخفي ضوء الشمس فيه، ولقالوا: إني عابثٌ في ذلك.
تطيع الحاسدين وأنت مرءٌ ... جعلت فداءه وهم فدائي
أصله: أتطيع، فحذف ألف الاستفهام. وقوله: جعلت فداءه. أخرجه مخرج الدعاء. وهم: يحتمل أن يكون عطفاً على التاء من جعلت، الذي هو ضمير المرفوع، فيكون قد عطفه على ضمير المرفوع المتصل من غير توكيد بالمنفصل، وكان حقه أن يقول: جعلت أنا فداءه وهم فدائي. غير أن هاهنا حسن ذلك لوقوع فداءه بين المعطوف والمعطوف عليه، ويحتمل أن يكون: وهم فدائي جملة منفصلة عن الجملة الأولى، فيكون هم مبتدأ وفداء خبره فتكون الواو عطفت جملة على جملة، أو يكون للحال.
المعنى: أتطيع الحاسدين الذين كذبوا علي، وتسمع كلامهم في؟ وأنت الرجل! جعلت أنا فداءه والحساد فدائي. يعني: جعلت فداءه لأفضاله علي، فهم فدائي لفضلي عليهم.
ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: وأنت مرء يعني أنت رجل مستحق أن توصف بالرجولية فلا ينبغي أن تسمع كلام الحاسدين في، ثم ابتدأ بالدعاء له وعلى الحاسدين. ويجوز أن يكون بعضه متصلاً ببعض.
وهاجي نفسه من لم يميز ... كلامي من كلامهم الهراء
يعني: إنما الهاجي نفسه، من لم يميز كلامي من جزالته وحسن موقعه من كلام حسادي، الفاسد الساقط، الذي لا معنى له. لأن تركه الفرق بين كلامي، وكلامهم، ينبىء عن الجهل، والجهل ذم مذموم، فكأنه هجا نفسه.
وإن من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقل من الهباء
يقول: إن من العجائب أن تراني، وتعرف فضلي وعقلي، ثم تجعلني عديلاً إلى من هو أقل من الهباء. يعني: أنه لا وزن له ولا خطر.
وتنكر موتهم وأنا سهيلٌ ... طلعت بموت أولاد الزناء
يقول: أتنكر موت حسادي إذا رأوني؟! وأنا سهيل اليماني الذي بطلوعي تموت أولاد الزناء.
وذلك أن العرب تزعم أن ما نتج من أمهار الخيل، إذا ضرب الفحل أمه من دون إذن صاحبه فإنه يموت إذا طلع سهيل، فكذلك تموت الحساد بسببي.
وقال يمدحه أي الحسين بن إسحاق التنوخي:
ملام النوى في ظلمها غاية الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السقم
الهاء في ظلمها للنوى لأنها مؤنثة، ويجوز أن يكون للمرأة وإن لم يجر لها ذكر وفي بها: للنوى خاصة.
يقول: لومي البعد بتبعيد هذه المرأة عني، واختصاصه بها غاية الظلم له، فلعل به من السقم والعشق مثل ما بي فتعشق هذه المرأة الذي ذهب بها، كما أعشقها أنا. وبين ذلك بقوله:
فلو لم تغر لم تزو عني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
يقول: لو لم، تغر النوى علي لم تقتض علي رؤيتكم، ولو لم تكن مريدةً لكم؛ لم تكن النوى خصماً لي بسببكم.
أمنعمةٌ بالعودة الظبية التي ... بغير وليٍّ كان نائلها الوسمي؟
الوسمي: أول المطر، والولي: الذي يليه.

يقول: أتنمعم علي هذه المحبوبة التي كالظبية بالعودة الثانية إلى الوصال، التي كان إعطاؤها مرة واحدة لا ثاني لها؟ فكان وصلها كالوسمي الذي لا يتبعها الولي. فجعل الوسمي مثلاً للأول، والولي مثلاً للعودة.
ترشفت فاها سحرةً فكأنني ... ترشفت حر الوجد من بارد الظلم
إنما خص السحرة، لأنه وقت تغير الأفواه ونكهاتها، والظلم: ماء الأسنان، وبريقها.
يقول: مصصت فاها وقت السحر، فكأنني مصصت حر الوجد من أسنان بوارد. يعني: لما استعذبت ازددت عشقاً، فازداد بذلك وجدي، وحصل حر الوجد في قلبي، والبرودة في فمي، كما قال في موضع آخر وهو:
بفي برودٌ وهو في كبدي جمر!
فتاةٌ تساوي عقدها وكلامها ... ومبسمها الدري في الحسن والنظم
يقول: تشابهت منها ثلاثة أشياء وهي: عقدها المنتظم من الدر، وكلامها الشبيه: الدر، وثغرها الذي تبسمت عنه كالدر فهي مشابهته في حسنها ونظامها وهو أبلغ من قول البحتري:
فمن لؤلؤٍ تبديه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
لأنه زاد عليه ذكر العقد.
ونكهتها والمندلي وقرقفٌ ... معتقةٌ صهباء في الريح والطعم
المندلي: أراد به العود. والقرقف: الخمر. والصهباء: البيضاء المشربة حمرة، وهي صفة الخمر.
يقول: هذه الثلاثة أيضاً متشابهة وهي الرائحة: فمنها العود الذي يبخر به، ومنها الخمرة الصافية فهي متشابهة في الريح والطعم فللعود نكهتها، وللخمر طعمها، ورائحة فمها.
جفتني كأني لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشهب في صورة الدهم
الشهب: الخيل البيض. والدهم: السود.
يقول جفتني هذه المرأة كأني لست أنطق قومها نظماً ونثراً، وكأني لست أطعنهم إذاً إلا على خيل دهم وشهب، وعذار قد اسودت فكأنها دهم، فكأنه يقول: لست ذليلاً في قومها مذموماً جباناً حتى تجفوني.
يحاذرني حتفي كأني حتفه ... وتنكزني الأفعى، فيقتلها سمي
النكرة: الغرزة بشيء مثل الإبرة. يقال: نكزته الأفعى: إذا غرزته ولم تعضه يقول: يخاف من موتي كأني موتٌ للموت! وتنكزني الأفعى فتموت! فكأني قتلتها بسمي، حتى كأني دونها، وكل ذلك إشارة إلى قوته وشجاعته.
طوال الردينيات يقصفها دمي ... وبيض السريجيات يقطعها لحمي
الردينيات: الرماح والسريجيات: السيوف. ويقصفها: يكسرها.
يقول: إن الرماح والسيوف لا تؤثر في أبداً، ولحمي ودمي يؤثران فيها، ويكسرانها ويقطعانها. وقيل: أراد: أني عزيزٌ في قومي. فمن أراد قتلي كثر الضرب والطعن عليه، في طلب ثأري، حتى تكسر الرماح والسيوف عليه.
برتني السرى برى الدى فرددنني ... أخف على المركوب من نفسي جرمي
السرى: مؤنثة، وقد جعلها جمعاً للسرية؛ فلذلك قال: رددنني، والأولى في أخف الرفع؛ لأنه وما بعده جملة من مبتدأ وخبر، فهو وإن وقع موقع الحال فلا يتغير الإعراب من حيث الصورة، ويجوز فيه النصب على بعض الوجوه.
يقول: أنحفتني السرى حتى قطعتني كقطع السكاكين فتركتني خفيفاً غاية الخفة، حتى كأني على المركوب أخف جرماً من نفسي؛ لأنه من أخف الأشياء.
وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي
زرقاء جوٍّ: هي زرقاء اليمامة، وكانت موصوفة بحدة البصر وقد روى شأواهما علمي: وهي تثنية الشأو، وهو الغاية. أي غايتهما علمي والتثنية للعينين أي سابقهما وهو فاعل من شاء إذا سبق وروى سأواهما علمي يقول ردني السرى خفيفاً بصيراً أبصر من هذه المرأة؛ لأنها أبصرت بعينها، وأنا أبصر بالقلب والعلم. علمي يسبق نظر عيني فقبل إبصار العينين تبصر عيني كما هو عليه.
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي
يقول: كأنني من خبرتي، ومعرفتي بالأرض، دحوت الأرض لكثرة تردادي بها، وكأن الإسكندر بنى سد يأجوج ومأجوج من عزمي؛ لقوته، ورفعته، ومضائه في الأمور.
لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه ... فأبدع حتى جل من دقة الفهم
أي كأن الإسكندر بنى السد من عزمي الذي صممته على قصد ابن إسحق وكأني دحوت الأرض من خبرتي بها لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه وعظم إبداعه حتى ارتفع أن يوصف بدقة الفهم. وهو المراد بقوله: حتى جل عن دقة الفهم. وقيل: برتني السرى بري المدى لألقى هذا الرجل.

نوأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
يقول: لألقى ابن إسحاق، وأسمع من ألفاظه، وعباراته الشريفة، اللغة التي استلذها، وإن كانت متضمنة شتمي!.
يمين بني قحطان رأس قضاعةٍ ... وعرنينها بدر النجوم بنى فهم
العرنين: مقدم الأنف وأعلاه، وبنى فهم: بدل من النجوم.
يقول: إنه يمين بني قحطان كلهم، ورأس قضاعة: التي هي قبيلة من قحطان، وعرنين قضاعة أيضاً، وهو بدر بني فهم: الذين هم رهطه الأدنون فجعلهم نجوماً وجعله بدراً.
إذا بيت الأعداء كان استماعهم ... صرير العوالي قبل قعقعة اللجم
يقول: إذا جاء أعدؤه ليلاً سمعوا صرير الرماح في عظامهم قبل استماعهم إلى صلصلة اللجم، يعني: أنهم لا يشعرون حتى تصير الحال هذه. وقيل: إنه يبادر إلى أخذ الرمح، وإن لم يجد فسحة لإسراج فرسه وإلجامه ركب بغير سرج ولجام.
مذل الأعزاء المعز وإن يئن ... به يتمهم فالموتم الجابر اليتم
روى: وإن يئن وإن يحن ومعناه واحد. وتقديره: مذل الأعزاء معز الأولياء.
يقول: هو يذل أعاءه وإن كانوا أعزاء، ويعز أولياءه المستجيرين به وإن كانوا من أعدائه الذين أيتم أولادهم، فالذين يؤتمهم يجبر يتيمهم ويرضيهم، ويقوم لهم مقام الآباء في النفقة عليهم والإحسان إليهم.
وإن تمس داءً في القلوب قناته ... فممسكها منه الشفاء من العدم
وروى: فممسكها بكسر السين، وروى: بفتحها، فالأول يريد به الممدوح والثاني يده، لأنها الموضع الذي يمسكه به، ويجوز أن يريد به المصدر: أي إمساكها.
يقول: إن أمست قناته داءً في قلوبهم؛ لطعنه إياهم بها فالذي يمسك القناة عنهم هي يده، شفاؤهم من الفقر، إمساكه لها يشفي من الفقر.
مقلد طاغي الشفرتين محكمٌ ... على الهام إلا أنه جائر الحكم
يقول: إنه تقلد سيفاًن طغى جانباه، وقد جعل الحكم على رءوس الأعداء، غير أنه جائر الحكم من كثرة القتل.
تحرج عن حقن الدماء كأنه ... يرى قتل نفس ترك رأس على جسم
يقول: إن سيفه يتأثم عن حقن الدماء، فكأنه يرى القتل في الاحتساب والالتذاذ كترك الرءوس على الأماكن، وتحرجه عن حقن الدماء. إما لأن سيفه لا يقتل إلا الكفرة، الذين يكون الإثم في الكف عنهم، أو يريد بيان كونه جائر الحكم: لعدم التمييز منه، أو لأنه جماد لا يلزمه إثم في القتل، ثم نزه نفس الممدوح فقال:
وجدنا ابن إسحاق الحين كحده ... على كثرة القتلى برياً من الإثم
وروى: كجده بالجيم.
يقول: وجدنا هذا الرجل كحد السيف مضاء في براءته من الإثم كبراءة السيف من الإثم، مع كثرة القتلى منه، لأنه لا يقتل إلا المستحق.
مع الحزم حتى لو تعمد تركه ... لألحقه تضييعه الحزم بالحزم
يقول: إنه مع الحزم في جميع الأمور، حتى لو تعمد ترك الحزم لألحقه ذلك بالحزم! يعني: إذا أحزمه في بعض الأمور، كان ذلك الحزم: وهو الجود وتبذير المال، في طلب المجد؛ فكأن تركه الحزم حزماً منه لما فيه من اقتناء الحمد والمجد.
وفي الحرب حتى لو أراد تأخراً ... لأخره الطبع الكريم إلى القدم
يقول: إنه مع الحزم في اقتناء المعالي، لو أراد أن يتأخر عن الحرب لأخره طبعه إلى التقدم. يعني: إنه إذا نوى أن يتأخر عن المحاربة قدمه إليها طبعه الكريم.
له رحمةٌ تحيي العظام وغضبةٌ ... بها فضلةٌ للجرم عن صاحب الجرم
يقول: له رحمة واسعة بحيث تحيي العظام البالية، وله مع هذه الرحمة غضب متجاوز عن الحد، بحيث أنه يفضل غضبه على جرم المجرم فيهلكه ويفنيه، وقيل أراد أنه واسع الرحمة له مع ثورة الغضب فضلة تمسكه لغضبه فهو مالكٌ أمره.
ورقة وجهٍ لو ختمت بنظرةٍ ... على وجنتيه ما انمحى أثر الختم
يصفه بالحسن ويقول: له رقةٌ بوجهه حتى لو ختمت عليه بنظرة أو لو نظرت إليه لبقيت على وجهه حمرة؛ لفرط حيائه، ولأثر الختم فيه أثراً لا ينمحي أبداً.
أذاق الغواني حسنه ما أذقتني ... وعف فجازاهن عني على الصرم
يقول: حسنه أذاق الغواني من ألم العشقف ما أذاقتني الغواني منه، وصار عفيفاً فجاز الغواني عني بتنزهه عنهن على ما فعلن بي من الهجران.
فدىً من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم

يقول: يفدي هذا الشريف الجواد السيد، كل من على الأرض، أولهم أنا البادىء بالفداء له قبلهم. والغبراء: اسم الأرض.
لقد حال بين الجن والإنس سيفه ... فما الظن بعد الجن بالعرب والعجم
يقول: حجز سيفه بين الجن والإنس؛ فمنع الجن عن قصدهم الشر للإنس، فإذا كان تأثيره في الجن! فما الظن بالإنس؛ في دفع بعضهم عن بعض. وروى بين الجن والأمن سيفه. يعني أن سيفه أخاف الجن وأزال عنهم الأمن والسكون.
وأرهب حتى لو تأمل درعه ... جرت جزعاً من غير نارٍ ولا فحم
يقول: قد أخاف كل شيء حتى الجمادات! فلو أنه أحد النظر إلى درعه لذابت؛ خوفاً منه، من غير نار وفحم، وإن لم يكن لها تمييز وعقل.
وجاد فلولا جوده غير شاربٍ ... لقيل كريمٌ هيجته ابنة الكرم
يقول: لولا علمنا بأنه صاح مع كثرة جودٍ منه، لقلنا إنه لفرط جوده سكران، وإن الذي حمله على جوده هو سكره الذي حصل له من الخمر.
أطعناك طوع الدهر يا ابن ابن يوسفٍ ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
الحاسدو لك: أراد بهم الحاسدون لك، غير أنه حذف النون. وروى: الحاسدون على الرغم: وهو عطف على الضمير في أطعناك الذي هو النون والألف، وحسن العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد المنفصل لطول الكلام.
يقول: أطعناك طاعة الدهر لك، وأطعناك أبد الدهر، بشهوةٍ ومحبة، والذين حسدوك أطاعوك على رغم منهم وذل.
وثقنا بأن تعطى فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم
كان حقه أن ينصب الياء من تعطى بأن، غير أنه سكنه ضرورةً.
يقول: لقوة ظنوننا وثقنا بأنك تعطينا، حتى لو لم تعطنا لظننا أنك قد أعطيتنا من قوة الوهم ولما شاهدنا من دوام جودك وكثرة عطاياك.
دعيت بتقريظك في كل مجلسٍ ... وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي
روى: دعيت، أي سميت بمدحي لك، يعني صار اسمي: مدحي لك فقيل: هذا الذي مدح الأمير، وعلى الأول: صار اسمك مدحي إياك. وقيل: هذا الذي قيل فيه كذا. وظن الذي يدعوني ويسميني أن اسمي: الثناء عليك، فيدعوني به، فيقول: يا من أثنى على الأمير ويا مادح الأمير.
وأطمعتني في نيل ما لا أناله ... بما نلت حتى صرت أطمع في النجم
روى: أعلق بالنجم.
يقول: أطمعتني في نيل ما لا أكاد أصل إليه، حتى صرت أطمع في نيل النجم الذي يعجز عن نيله كل حي.
إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني ... فكل ذهباً لي مرةً منه بالكلم
يقول: أنت تضرب الطعنة الواسعة فإذا ضربت القرن ثم أردت أن تعطيني الجائزة فكل لي ملء الجراحة ذهباً، والهاء في منه راجعة إلى القرن.
أبت لك ذمي نخوةٌ يمنيةٌ ... ونفسٌ بها في مأزق أبداً ترمي
النخوة: الكبرياء.
يقول: ابت ذمي لك نخوتك اليمنية، وأراد به وجهين: أحدهما أن الممدوح كان يميناً والمتنبي أيضاً ينسب إلى كندة، وهم من اليمن. فيقول: كونك من اليمن تأبى نفسي أن تذمك مع ما كان بيننا من الرحم، أو يريد: أن نخوتك في نفسك وهمتك العالية يمنعاني عن ذمي لك وعن هجوك، وكذلك يأبى ذمي لك، نفسك التي ترمي بها في كل معركة. وقيل: إنما ذكر ذلك لأنه كان متهماً بهجو ذلك الممدوح، فأراد إزالة هذه التهمة عن نفسه بهذا القول.
فكم قائلٍ: لو كان ذا الشخص نفسه ... لكان قراه مكمن العسكر الدهم
القرى: الظهر. والدهم: الكثير.
يقول: كم من قائل يقول: لو كان نفس هذا الممدوح جسم! لكان ظهره مستقراً للعسكر الكثير. يصف سعة نفسه وعظمها، وأن بعضها يسع الكثير من العسكر.
وقائلةٍ والأرض أعني تعجباً ... علي امرؤٌ يمشي بوقري من الحلم
يقول: ورب قائلةٍ، وأعني بها الأرض على وجه التعجب: علي رجلٌ يمشي، عليه مثلي من الحلم!
عظمت فلما لم تكلم مهابةٌ ... تواضعت وهو العظم عظماً عن العظم
يقول: عظم قدرك، فمنعت هيبتك أن تكلم، فلما علمت أن الناس هابوك تواضعت فتعظمت بذلك التواضع عظماً عن العظم، وذلك التواضع هو عين العظم. يعني: التواضع رفع النفس عن التكبر.
ودخل على عليٍّ بن إبراهيم التنوخي فعرض عليه كأساً بيده، فيها شراب أسود فقال ارتجالاً:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
لم تحل: أي لم تمنع، وهو فعل الكأس.

يقول: إذا شرب غيري الكأس، وهي الخمر، فأرعشت يديه من السكر، صحوت أنا، فلم تحجز الخمر بيني وبين عقلي. فأجرى العقل مجرى النفس؛ لأن قيام النفس بالعقل. وقيل: أراد لم تحل بيني وبين جدي؛ لأن جدي لا يفارقني أبداً.
هجرت الخمر كالذهب المصفى ... فخمري ماء مزنٍ كاللجين
يقول: تركت الخمر التي تشبه الذهب المصفى في لونها، وعدلت إلى الماء الصافي، الذي يشبه لونه الفضة لصفائه.
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
روى: أغار من المدامة.
يقول: أحسد أقداح الخمر إذا جرت على شفته حيث تتشرف به فأتمنى ذلك الشرف لي دونها.
وقيل: إنما أغار عليها لكون الشراب كان أسواداً، فنزه شفته عنها والقصة تدل على ذلك.
كأن بياضها والراح فيها ... بياضٌ محدقٌ بسواد عين
شبه بياض الزجاجة ببياض العين، والشراب الأسود بسواد العين، وحقق التشبيه بإحداق البياض بسواد العين، كإحداق الزجاجة بسواد الشراب.
أتيناه نطالبه برفدٍ ... فطالب نفسه منه بدين
يقول: أتينا الممدوح نطلب منه العطاء، فطالب نفسه بدين لازم. يعني: إنه أوجب على نفسه العطاء؛ لجوده وسخائه.
وشربها فقال:
مرتك ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهنئتها من شاربٍ مسكر السكر
مرتك أصلها: مرأتك، فحذف الهمزة ضرورة. والثاني أنه كان ينبغي أن يقول: أمرأتك؛ لأن هذه اللفظة على الانفراد لا تستعمل إلا بالألف، فإذا أتبعت هناك جاز استعمالها من غير الألف. فهو شاذ من وجهين.
يقول: جعل الله لك هذه الخمرة هنيئة مريئة لك، يا من يسكر السكر. يعني: لا يغلبه السكر بشرب الخمر بل يغلب هو السكر.
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
الحميا: اسم من أسماء الخمر.
يقول: رأيت الخمر في الزجاج على يده، فشبهت الخمر؛ لصفائها ورقتها وضيائها بالشمس، وشبهت بالزجاج بالبدر؛ لبياضه ونقائه، وشبهت كفه بالبحر؛ لكثرة سخائه وعطاياه.
إاذ ما ذكرنا جوده كان حاضراً ... نأى أو دنى يسعى على قدم الخضر
اسم كان: ضمير الجود.
يقول: إن جوده في سرعته ووصوله إلى الناس كأنه يسعى على قدم الخضر، لأنه يقال: إنه لا يذكر في موضع إلا وكان حاضراً في ذلك الموضع.
يقول: سواء كان الممدوح نائياً أو دانياً فإن جوده يصل إلينا في أسرع ما نريد.
وقال أيضاً يمدحه:
أحادٌ أم سداسٌ في أحاج؟ ... لييلتنا المنوطة بالتناد
أراد الاستفهام كأنه قال: أأحاد، فحذف الهمزة لدالالة قوله: أم سداسٌ. وهذا البناء للتكرار، فإذا قال: جاءني القوم أحاد، أراد به واحداً واحداً، وكذلك ما زاد عليه، ولا يراد به حقيقة العدد، وإنما خص السداس دون ما فوقها من سباع وغيره؛ لأن العرب لا تستعمل هذا المثال فيما فوق سداس، هذا قول بعضهم، وليس بواضح. فقد ذكر أبو حاتم: في كتاب الإبل هذا المثال فيما زاد على سداس إلى عشار. فالأولى أن يقال: إنما خص هذه لأنها ليالي الأسبوع، ومدار أيام الدنيا على هذا العدد.
يقول: إن هذه الليالي جاءت واحدة واحدة أم ستة ستة جمعت في واحدة. وقيل: إنه أراد ها هنا واحدة هذه الليلة أم ستة ليال مجموعة في واحدة؟ فكأنه يقول هذه الليلة واحدة أو ليالي الأسبوع كلها، وهي في طولها كأنها متصلة بيوم القيامة. وقوله: لييلتنا تصغير ليلة؛ وإنما صغرها مع وصفه لها بالطول؛ إشارة إلى أنها في نفسها قصيرة وإن كانت هي عنده طويلة؛ لطول سهره فيها. أو يقال: إنما صغرها على سبيل التعظيم كقول بعضهم:
دويهية تصفر منها الأنامل
وقيل: أراد بيوم التنادي: يوم الرحيل إلى الأعداء للمحاربة، وتنادى بعضهم بعضاً، ويدل على هذا قوله:
أفكر في معاقرة المنايا
فكأنه طالت عليه هذه الليلة لسهرة تفكراً في قتل الأعداء فإذا وصل إلى مراده قصرت عليه وزال عنه السهر.
كأن بنات نعشٍ في دجاها ... خرائد سافراتٌ في حداد
سافرات: يجوز فيها الرفع صفة لخرائد، ويجوز نصبها على الحال، فتكون مكسورة. والحداد: هي الثياب السود.

يقول: كأن هذه الكواكب في ظلمات هذه الليلة الطويلة نساء بيض الوجوه قد كشفن وجوههن، ولبسن ثياباً سوداً. فشبه الكواكب بوجوه الجواري السافرات، وشبه الليل في سواده بالثياب السود التي تلبسها الجواري.
أفكر في معاقرة المنايا ... وقود الخيل مشرفة الهوادي
معاقرة المنايا: أي ملازمتها. وقيل: معاقرتها: محاربتها، من العقر. والهوادي: جمع الهادية، وهي العنق. ومشرفة: نصب على الحال.
يقول: طال علي هذا الليل مما أفكر في ملازمة المنايا وممارستها في الحروب والإقدام على القتال، ولذلك أفكر في قودي الخيل إلى الحرب مشرفة الأعناق. وقيل: معناه لا أفكر في معاقرة المنايا.
زعيماً للقنا الخطي عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي
زعيماً: نصب على الحال من أفكر، وذو الحال: عزمي، والعزم: هو الكفيل. والقنا: المكفول له. وسفك دماء الحواضر والبوادي: المكفول به. والمكفول عنه: هو أبو الطيب.
يقول: أفكر في حال كوني زعيماً للرماح بأن تسفك دماء الناس كلهم، أهل الحضر وأهل البدو. وعلى إضمار لا في قوله: أفكر معناه لا أفكر في معاقرة المنايا مع تكفل عزمي بسفك دم الأعداء.
إلى كم ذا التخلف والتواني؟ ... وكم هذا التمادي في التمادي؟
التمادي: هو الإفراط في الأمور، وهو من المد، أو أراد ها هنا الإفراط في تأخيرها.
يقول لنفسه: إلى كم هذا التخلف والتقصير في طلب العز، واقتناء المكارم، وإلى كم تستعمل التمادي في التقصير وتتمادى تمادياً بعد تمادٍ.
وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد
الشغل: بالفتح المصدر، وبالضم، الاسم. وها هنا بالفتح.
يقول: معاتباً لنفسه إلى كم تشغل نفسك عن طلب المعالي؛ بأن تبيع الشعر في سوق الكساد وتقتصر عليه دون ما هو أجل منه، فأنت تجيد الشعر ولا تصيب الصلة التي تستحقها بشعرك.
وما ماضي الشباب بمستردٍ ... ولا يومٌ يمر بمستعاد
يقول حاثاً لنفسه على لزوم الكائن قبل فوته: إن الشباب إذا مضى، وهو الزمان الذي لا يمكن تحمل المشاق في طلب المعالي لا يمكن رده، فكذلك اليوم الذي يمر لا يمكن إعادته! سواءٌ كان من أيام الشباب أو غيرها. وروى بمستفاد بالفاء أيضاً.
متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها ف يالسواد
عيني: رفع لأنه فاعل لحظت والهاء في وجدته: لبياض الشيب، وفي منها: للعين.
يقول: إذا رأت عيني بياض شعري، فكأنما وجدت ذلك البياض في كراهته عليها كأنه في سوادها؛ لأن البياض في سواد العين يكون عمي، وهو من أثقل الأشياء، فكذلك الشيب.
متى ازددت من بعد التناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد
يقول: متى ازددت في السن، بعد تناهى الأشد وذلك أربعون سنة كانت تلك الزيادة نقصاناً، لأنه كلما ازداد السن بعد انتهاء الغاية، ازداد الجسم نقصاً، فتكون زيادتي حاصلة في نقصان سني.
أأرضى أن أعيش ولا أكافي ... على ما للأمير من الأيادي؟!
يقول: هل أرضى بملازمتي هذا التقصير والتخلف، ولا أجازي هذا الأمير على ما أسدى إلي من النعم بمدحي إياه؟!
جزى الله المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
المزاد: جمع المزادة. يصف المشقة التي مرت عليه وعلى إبله في المسير إلى هذا الممدوح، ودل بالدعاء للمسير: على أنه لم يذكره على سبيل الشكاية، وإنما ذكره على سبيل الشكر، حيث أوصله إليه فاكتسب بسببه فخراً ومالاً وذخراً، وشبه الإبل. وهزالها بالمزاد: وهي القرب البالية، وهذا التشبيه جيد. وقيل: إنه أراد أن المسير ترك المطايا خالية من القوت واللحم، لطول سفرنا كمزادنا الخالية من الزاد، فتكون الألف واللام في المزاد دالة على الإضافة.
فلم تلق ابن إبراهيم عنسى ... وفيها قوت يومٍ للقراد
عنسى: رفع لأنها فاعلة تلق.
يقول: إن ناقتي لم تلق ابن إبراهيم، إلا بعد أن صارت من الهزال بحال لم يبق فيها من اللحم قدر ما يقتاته القراد يوماً واحداً!
ألم يك بيننا بلدٌ بعيدٌ ... فصير طوله عرض النجاد؟!
يقول: كان بيني وبين هذا الممدوح بلد بعيدٌ، فصير هذا المسير طوله الطويل، كعرض النجاد في القصر، وقربه غاية القرب. وفيه التطبيق للمبالغة في الجودة.

وأبعد بعدنا بعد التداني ... وقرب قربنا قرب البعاد
بعدنا، وقربنا: مفعول بهما. وبعد التداني، وقرب البعاد: منصوبان على المصدر.
يقول: إن المسير أبعد بعدنا، فجعله كبعد التداني الذي كان بيننا، وكذلك قرب المسير قربنا، مثل قرب البعد الذي كان بيننا من قبل. يعني أبعد البعد وقرب القرب.
فلما جئته أعلى محلى ... وأجلسني على السبع الشداد
يقول: لما قصدته بعد هذا التعب، رفع منزلتي وأحسن جائزتي حتى إنه رفعني إلى السموات السبع وأجلسني فوقها.
تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
يقول: لقيني بطلاقة وجهه، وتبسمه، قبل أن أسلم عليه، وألقى إلي ماله قبل إلقاء الوسادة التي يجلسني فوقها.
نلومك يا علي لغير ذنبٍ ... لأنك قد زريت على العباد
يقول: يا علي، نلومك ولا ذنب لك، غير أنك قصرت وعبت على الناس بأفعالك وخصالك، فليس ذلك بذنب، وإنما هو فضلٌ منك وكرم.
وأنك لا تجود على جوادٍ ... هباتك أن يلقب بالجواد
هباتك: رفع لأنها فاعلة تجود. وتقديره: لا تجود هباتك على جواد أن يلقب كذلك بالجواد.
يقول: إن هباتك أبت أن يقلب أحدٌ بالجواد غيرك؛ لأنها فاقت هبات غيرك، حتى أخرجت جود الناس عن كونه جواداً، وهذا مثل قول بعض الشعراء:
رد معروفك الكثير قليلاً ... وأرى جودك الجواد بخيلاً
كأن سخاءك الإسلام؛ تخشى ... متى ما حلت عاقبة ارتداد
يقول: إنك من شدة مواظبتك على السخاء صار سخاؤك كالإسلام، لا تحول عنه، كما لا تحول عن الإسلام؛ خوفاً من عاقبة الارتداد؛ لأن عاقبته مذمومة، يجب على كل أحد التجنب منه؛ لأنه يلزمه في الدنيا: القتل، وفي الآخرة: العذاب الدائم. ومثله لأبي تمام.
مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع
كأن الهام في الهيجا عيونٌ ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
يقول: كأن هام أعدائك عيونٌ، وسيوفك مضروبة من النوم، فلا يكون مسكنهاإلا في الهامات، كسكون النوم في العين.
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
روى صغت وصغت. وروى: يخطرن بالكسر أي الرماح وبالضم الهموم، يقال: خطر الرمح. ويخطر، وخطر الشيء بالقلب يخطر، كأنك قد ضربت أسنة رماحك من الهموم؛ لأن محلها القلوب، كما أن محل الهموم القلوب.
والمعنى: أن قلوب الأعداء لا تخلو من أسنة رماحك، كما لا تخلو من الأحزان والهموم.
ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد
الكناية في جلبتها: للخيل ولم يجر لها ذكر، لدلالة الكلام عليه. ومعقدة السبائب: أي مضفورة الشعر للذنب.
يقول: في اليوم الذي حشرت الخيل وأتيت بها مشعثةً نواصيها معقدة أذنابها، لأنها كانت مهيأة للحرب.
وحام بها الهلاك على أناس ... لهم باللاذقية بغي عاد
الهاء في بها: للخيل، أي بسبب الخيل.
يقول: وطاف الهلاك بهذه الخيل على قوم كان لهم بغي عاد باللاذقية.
فكان الغرب بحراً من مياهٍ ... وكان الشرق بحراً من جياد
يقول: كان الأعداء بين البحرين، غريبها بحر الشام، وشرقيها بحر من جياد: وهو جيش الممدوح شبهه بالبحر لكثرته، ولبياض الحديد وبريقه فيهم وقيل: أراد بالبحر من المياه، دماء القتلى. فبين أنها لكثرتها كبحرالماء، والجانب الشرقي من عتاق الخيل.
وقد خفقت لك الرايات فيه ... فظل يموج بالبيض الحداد
الضمير في فيه: يرجع إلى البحر من جياد.
يقول: تحركت أعلامك في البحر من الجياد فكان يموج بالسيوف البيض المحددة شبه بياض السيوف بماء البحر.
لقوك بأكبد الإبل الأبايا ... فسقتهم وحد السيف حاد
الأبايا: جمع الأبية، وهي التي لا تنقاد، وتمنع أنفسها من الخطام.
يقول: إن أعداءك رأوك بأكباد غلاظ كأكباد الإبل الأبية، التي لا تنقاد لصعوبتها. فسقتهم مع غلظ أكبادهم ونحوتهم وحد سيفك حادٍ بهم وسائقهم.
وقد مزقت ثوب الغي عنهم ... وقد ألبستهم ثوب الرشاد
يقول: قاتلتهم حتى انقادوا، وكشفت عنهم ثوب الضلالة، وألبستهم ثوب الرشاد والحق، فصاروا راشدين بعد أن كانوا غاوين.
فما تركوا الإمارة لاختيارٍ ... ولا انتحلوا ودادك من وداد

يقول: ما تركوا الإمارة اختياراً، بل غصبتهم عليها، وما ادعوا ودك من اعتقاد قلوبهم، بل نفاقاً في حبك.
ولا استفلوا لزهدٍ في التعالي ... ولا انقادوا سروراً بانقياد
يقول: ما انخفضوا لك لزهدهم في العلو، ولا انقادوا لك سروراً بالانقياد، لكنهم انقادوا خوفاً
ولكن هب خوفك في حشاهم ... هبوب الريح في رجل الجراد
يقول: هب خوفك في قلوبهم فطيرها، كما تهب الريح في قطعة من الجراد فتبددها.
وماتوا قبل موتهم فلما ... مننت أعدتهم قبل المعاد
يقول: وإنهم ماتوا خوفاً منك، ولما صاروا كالموتى، فكأنهم ماتوا قبل الموتة، حتى إذا مننت عليهم أعدتهم قبل يوم القيامة بعفوك عنهم.
غمدت صوارماً لو لم يتوبوا ... محوتهم بها محو المداد
يقول: كانوا قد ماتوا فأعدتهم قبل المعاد! بأن غمدت سيوفك عن قتلهم بها ولو لم يرجعوا عن معصيتك لمحوتهم كما ينمحي المداد من الألواح.
وما الغضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصفٍ من الكرم التلاد
يقول: إن غضبك المستحدث وإن كان قوياً فلا يؤثر في كرمك الأصلي القديم، فلا يمكنه أن يغلب كرمك المتين.
فلا تغررك ألسنةٌ موالٍ ... تقلبهن أفئدةٌ أعادي
الموالي: هم الأصدقاء، وقد راعى فيه المطابقة، وجمع التأنيث في تقلبهن للألسنة.
يقول: لا تغتر بإظهارهم لك المولاة بألسنتهم فإن ألسنتهم وأفئدتهم مضمرةٌ للعداوة، فتغلب ألسنتهم قلوبٌ مضمرة على العداوة، فلا تغتر بظاهر أحوالهم.
وكن كالموت لا يرثي لباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
فاعل بكى: ضمير باكٍ.
يقول: كن كالموت لا يرحم، ولا يرق لباكٍ، يبكي من يده وفعله، ويروي الموت وهو عطشان بعد الري، فيزداد عطشاً.
فإن الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فساد
نفر الجرح: إذا تورم وظهر من أسفله فساد.
يقول حاثاً له على قتل الباقين منهم: أضمروا العداوة، ويتربصون بك الدوائر فلا تغتر بإظهارهم المودة، فإنهك كالجرح إذا كان اندماله على فساد، وغور فيه، فإنه يظهر غوره بعد حين، فكذلك حالهم معك.
وإن الماء يجري من جمادٍ ... وإن النار تخرج من زناد
أراد بالجماد: الحجر.
يقول: لا تأمن إظهار أحوالهم، فقد يجري الماء من الحجر الصلد، وكذلك النار التي تحرق كل شيء تخرج من الزناد الحديد.
وكيف يبيت مضطجعاً جبانٌ ... فرشت لجنبه شوك القتاد؟
يقول: كيف ينام عدوك وهو جبان، مضطجعاً على فراش من قتاد: يعني أن خوفك قد أثر تأثيراً به، حتى كأنه نائم على شوك القتاد، هيبةً منك، وقد يحصل من الجبان بعض أحوالٍ لا تحصل من الشجاع ضرورة خوفاً، ويجوز أن يكون توحيد الجبان لأنه أراد: أميرهم.
يرى في النوم رمحك في كلاه ... ويخشى أن يراه في السهاد
يقول: يرى هذا الجبان رمحك أصابت كلاه في نومه، فخاف أن يرى في اليقظة ما يراه في النوم، فلا يلذ له نوم أبداً، لذلك.
أشرت أبا الحسين بمدح قومٍ ... نزلت بهم فسرت بغير زاد
يقول: أشرت إلي أن أمدح قوماً نزلت بهم فما أكرموني وخرجت من عندهم بغير زاد، فهل ترى أن أمدح من هذا فعله؟!
وظنوني مدحتهم قديماً ... وأنت بما مدحتهم مرادي
كأنه قد كان قصدهم قبل قصده الممدوح، ومدحهم فلم يثيبوه شيئاً.
يقول: إنهم ظنوا أني مدحتهم، وما علموا أنك كنت أنت المقصود بذلك المدح.
وقيل: إنه مدحهم بعدما أمره به هذا الممدوح، فلم يعطوه، فقال للمدوح: أنت أمرتني بمدحهم فيجب عليك أن تخرج ثواب مدحي لهم، وكنت ضامناً وقد أخذ هذا المعنى من قول الحكمي:
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحه ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
وإني عنك بعد غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فنائك غير غاد
يقول: إني غادٍ عنك بعد غدٍ، وقلبي غير مرتحل عن فنائك. ومثله لأبي تمام:
مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد
محبك حيثما أتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
يقول: حيثما سرت ونزلت، فإني محبك، وحيثث كنت من البلاد فإني ضيفك، لأن عطاياك عظيمة وأياديك غير منقطعة ولا فانية. ومثله لأبي تمام قوله:
وما طوفت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي

إلا أن بيت المتنبي أجود منه؛ لأنه دل على هذا المعنى في المصراع الأول بمعنىً آخر، وأنه لم يقتصر على الراحلة والزاد، لأن لفظ الضيف يتضمن سائر وجوه النعم والتعظيم، لأن من حكم الضيف أن يكون معظماً مكرماًن فبين أنه كذلك حيثما سار من البلاد.
وقال أيضاً يمدحه. أي يمدح علياً بن إبراهيم التنوخي:
ملث القطر! أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
الملث: الدائم القطر، والكناية في أعطشها: للربوع، وقدمها للدلالة، ونصب ربوعا على التمييز، كأنه قال: من ربوع.. والنقيع: المنقوع.
يخاطب المطر فيقول: يا دائم القطر، أعطش هذه الربوع من ربوع، ولا تسقها ، وإن كنت لابد ساقيها، فاسقها السم النقيع! فإني شاكٍ منها؛ وقد بين العلة في ذلك في قوله.
أسائلها عن المتديريها ... فلا تدري ولا تذري دموعا
قوله: المتديريها: أي المقيمين بها والمتخيرين لها داراً، وكان الأصل المتدوريها، لأن الدار: أصلها دور، فهو من الواوي يقول أسائل هذه الربوع عن المقيمين فيها، فلا تدري سؤالي ولا تجيبني عنه ولا تبكي الدموع مساعدة عن بكاء الذين كانوا فيها، حزناً على خلوها منهم.
لحاها الله إلا ما ماضييها ... زمان اللهو والخود الشموعا
لحاها: أي لعنها، وأصله قشرها الله، والخود: الجارية الناعمة السهلة الخلق. والشموع: هي اللعوب المزاحة اللينة الكلام. وقيل: هي الصافية البياض.
يقول: لعن الله هذه الربوع إلا ماضيها، وهو استثناء منقطع، لكن شيئين منهما قد مضيا، فإني لا أدعو عليهما: أحدهما زمان اللهو، والثاني الخود الشموع وهي المحبوبة.
منعمةٌ، ممنعةٌ، رداحٌ ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
الرداح: السمينة الكبيرة العجز. والوقوع: جلوس الطير.
يقول: إنها منعمة ممنوعة الوصول إليها، سمينة حسنة الصوت والمنطق، فلو سمع الطير لفظها في الهواء لسقط على الأرض، فكأن لفظها كلف الطير الوقوع على الأرض.
ترفع ثوبها الأرداف عنها ... فيبقى من وشاحيها شسوعاً
رفع الأرداف: لأنها فاعلةٌ لترفع ومفعوله الثوب. والوشاح: شيء تقلد به العروس كتقليد السيف، ويكون طرفاه مرسلين من جانبي البدن، والشسوع: مبالغة في الشاسع وشسوعا: نصب على الحال.
يقول: إن أردافها ترفع الثوب عن جسمها؛ لعظم أردافها، فيصير الثوب بعيداً عن وشاحيها وجسمها. وقد دل بذلك على دقة الخصر، لأنه لو لم يدق لم يبعد الثوب عنه، وروى: شسوعاً بالضم: وهو مصدر واقع موقع شاسع. كقولهم: صوم وعدل، وصفة الشيئين أولى؛ لأنه صفة صريحة وحقيقة، وهذا محمول عليها.
إذا ماست رأيت لها ارتجاجاً ... له، لولا سواعدها نزوعا
ماست: أي تبخترت. والارتجاج: الاضطراب. والهاء في لها: للأرداف، وفي له: للثوب. والنزوع: بمعنى النازع، وهو فاعل، من نزعت الشيء إذا جذبته عنه.
يقول: إذا تبخترت هذه المرأة في مشيها رأيت لأردافها من ثقلها اضطراباً، لولا سواعد هذه المرأة، لكان ذلك الارتجاج نازعاً لثوبها عنها، فلكون سواعدها في الكم، وإمساكها لثوبها، لم ينفصل الثوب عن البدن!!
تألم درزه والدرز لينٌ ... كما تتألم العضب الصنيعا
تألم: أصله تتألم، فحذف إحدى التاءين، وهو فعل المرأة. ولينٌ: أصله لينٌ، فخفف. والعضب: السيف القاطع. والصنيع: الذي جرد. وقيل: الذي فيه جودة الصنع.
يقول: تتألم هذه المرأة لنعومتها من درز هذا الثوب مع كون درزه ليناً، كما أنت تتألم أيها المخاطب من ضرب السيف. يعني: أن هذا القدر من الخشونة يؤثر فيها ويقع موقع ضربها بالسيف.
ذراعاها عدوا دملجيها ... يظن ضجيعها الزند الضجيعا
يقول: ذراعاها، أي ذراعا هذه المرأة لامتلائهما، كأنهما عدوا دملجيها، لأنهما يكادان أن يكسراهما؛ لامتلائهما، أو أنه لا يمكنهما أن يدورا على ذراعيها، فيكون ذراعاها قد أمسكاهما. والدملجان: قد غاصا بذراعيها، فيعادي كلٌّ منهما صاحبه. من هذا الوجه. وقيل: أراد أن دملجيها لا ينحطان عن عضديها، إلى ذراعيها، لامتلاء ذراعيها بهما ومنعهما من أن يخرجا من ذراعيها، فهما والذراعان لا يلتقيان أبداً، كالعدوين.
يقول: يظن مضاجعها أن زندها شخص واحد، قد ضاجعه لعظمه وامتلائه.

وقيل: أراد أنها لدقة خصرها يظن المضاجع أنها زند: وهو الزند الذي يوري منه النار، والزند ينحف الخصر لكثرة القدح ووصول الحجر إليه من الجانبين، فكأنه شبهها في رقة خصرها بالزند.
كأن نقابها غيمٌ رقيقٌ ... يضيء بمنعه البدر الطلوعا
يقول: إن نقابها يشرق لإضاءة وجهها من تحته كما يشرق الغيم الرقيق من فوق القمر: الذي هو البدر. شبه نقابها بغيم رقيق، ووجها بالبدر ثم قال يضيء الغيم بسبب منعه البدر من الطلوع، ولو قال بدله الشمس لكان أبلغ.
أقول لها: اكشفي ضري. وقولي ... بأكثر من تدللها خضوعا
قوله: وقولي بأكثر، يعني بخضوع أكثر من تدللها، خضوعاً، فتكون الباء متعلقة بمحذوف، وتكون هذه الجملة خبراً لقولي، وخضوعاً نصب على الحال، تفسيرٌ للخضوع المقدر.
يقول: أقول لها في حال تضرعي وتواضعي لها: اكشفي ضري، وخضوعي في قولي هذا أكثر من تدللها علي على كثرته؛ وذلك أن الدلال يكون مع الخضوع، فكأنه يقول: إنها تتمنع وتتدلل وأنا أخضع لها وأتذلل حتى يزيد خضوعي على مالها من التدلل والتمنع، وإن كان تدللها غير متناهٍ كثيراً فخضوعي أكثر منه.
أخفت الله في إحياء نفس ... متى عصي الإله بأن أطيعا؟
يقول لها: أخفت لله تعالى في إحياء نفس على الوصال، فتكوني قد أحييته بعد الإماتة، أو يريد: إنك قد هممتي بإماتتي فكأنك خفت الله تعالى في تبقيتي على هذه الحال. وليس ذلك مما يخاف الله تعالى، بل إحياء نفس مما يتقرب به إلى الله تعالى، فكيف يعصي الإله بطاعته تعالى.
غدا بك كل خلو مستهاماً ... وأصبح كل مستور خليعا
وروى: كل خلق. والمستهام: من بلغ النهاية في الهوى. والخليع: هو المتظاهر بالهوى.
يقول: أصبح كل خلي من الهم والهاً بك متحيراً في هواك، وأصبح كل عفيف في حبك، خالعاً عذاره، ومثله:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميٌّ سافراً كان يبرق
أحبك أو يقولوا جر نملٌ ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
أو ها هنا بمعنى: أن أو إلى أن أو إلا أن.
يقول لها: إني أحبك إلى أن يقولوا: جر نملٌ ثبيراً وهو الجبل. وهذا لا يكون أبدا، أو إلى أن يقال: إن ابن إبراهيم، خوف وأفزع. وهذا أيضاً غير جائز، فلا يزول حبك أبداً عني، لأن هذين أبداً لا يكونان.
بعيد الصيت منبث السرايا ... يشيب ذكره الطفل الرضيعا
يقول: إنه رفيع الشأن، متفرق العساكر في البلدان؛ لكون البلاد كلها من ممالكه، أو للإغارة على أعدائه، ويشيب ذكر شجاعته الطفل الرضيع؛ لخوفه منه، وخص الطفل؛ لبعده عن الشيب، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " .
يغض الطرف عن مكرٍ ودهى ... كأن به وليس به خشوعا
الدهى: هو الدهاء. وخشوعاً: نصب لأنه اسم كأن. تقديره: كأن به خشوعاً، وليس أنه يغض طرفه عن مكرٍ ودهاءٍ، حتى كأنه لا يبصر شيئاً وهو مبصر، ولكن يتغافل بمكره، وهو يظن أنه خاشع البصر، وليس به خشوع لكنه يفعل مثل ذلك لدهائه.
إذا استعطيته مافي يديه ... فقدك، سألت عن سرٍّ مذيعا
فقدك: أي فحسبك، والمذيع: من عادته إفشاء السر، لأنه لا يكتمه. شبهه بمذيع السر، إذا سألوه المال. يعني: أن المذيع كما لا يكون له سر، كذلك هذا لا يثبت في يده غني.
قبولك منه منٌّ عليه ... وإلا يبتدىء يره فظيعا
منه: نصب لأنه مفعول قبولك، ومنٌّ عليه، خبر الابتداء وقبولك مبتدأ، وفظيع: أي أمر شديد منكر.
يقول: إذا قبلت بره وعطاءه فكأنك قد مننت عليه بقبولك ذلك، وإن لم يبتدىء بالنوال قبل السؤال، رأى ذلك قبيحاً منكراً. يعني: يسابقك إلى العطاء قبل الاستغناء.
لهون المال أفرشه أديماً ... وللتفريق يكره أن يضيعا
يقول: لهون المال عليه فرش تحته النطع من الأديم وصبه فوقه، لا لكرامته عليه، لأن النطع إنما يبسط لمن يضرب عنقه، ولو أراد إعزازه لجعله في الكيس، وإنما يكره أن يضيع المال، مخافة ألا يبلغ وقت تفريقه إياه، فيكره أن يضيع لأجل صرفه في مصارفه.
إذا ضرب الأمير رقاب قومٍ ... فما لكرامةٍ مد النطوعا
يقول: إن فرشه النطوع تحت المال، كما أنه إذا أراد أن يضرب رقاب قوم يلقى من تحتهم النطوع إهانةً لهم، لا إكراماً.

فليس بواهبٍ إلا كثيراً ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا
القريع: السيد الشريف.
يقول: إن الممدوح لا يهب إلا كثيراً، وإذا قتل، لا يقتل إلا سيداً شجاعاً كريماً مقارعاً.
وليس مؤدباً إلا بنصلٍ ... كفى الصمصامة التعب القطيعا
كفى: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما التعب، والثاني القطيع، وهو السوط. تقديره: كفى الصمصامة القطيع التعب.
يقول: إنه لا يؤدب إلا بسيف فيقيمه في التأديب مقام السوط، فيكفي السوط التعب والعناء.
عليٌّ ليس يمنع من مجيءٍ ... مبارزه ويمنعه الرجوعا
يقول: إنه لا يمنع مقاتله من المجيء إلى قتاله ونزاله، ولكنه إذا أراد أن ينصرف، منعه من الانصراف بقتله، فينتفي الرجوع.
عليٌّ قاتل البطل المفدى ... ومبدله من الزرد النجيعا
المفدى: الذي يفديه كل واحد من الناس، لشجاعته. والزرد: الدرع. والنجيع: الدم الطري. وقيل: دم الجوف.
يقول: إنه يقتل البطل الذي يفديه الناس لشجاعته، ويسلبه درعه ويلبسه بدل الدرع الدم الطري، الذي يخرج منه بالضرب والطعن.
إذا اعوج القنا في حامليه ... وجاز إلى ضلوعهم الضلوعا
في حامليه: يجوز أن يريد به، المطعونين. ومعناه: إذا صارت الرماح معوجة في المطعونين، ونفذ ذلك الرمح من ضلع إلى ضلع آخر، أي يخرج من جانب إلى جانب آخر، من هذا المطعون إلى مطعون آخر، وجواب هذا الكلام، بعد البيت الذي يليه. ويجوز أن يريد بحامليه: أعداء الحاملين للرمح. وإنما خص الرمح؛ لأن طعن الرمح أدل على الفروسية والشجاعة، لأنه يقابل مثل سلاحك.
ونالت ثأرها الأكباد منه ... فأولته اندقاقاً أو صدوعا
الهاء: في منه ترجع إلى لفظ القنا وكذلك أولته. وفي ثأرها للأكباد.
يقول: إذا اعوج القنا، وانصدع واندق في الأكباد، فكأن الأكباد نالت ثأرها من الرماح بهذا الاندقاق فأعطت الأكباد القنا اندقاقاً أو صدوعاً.
فحد في ملتقى الخيلين عنه ... وإن كنت الغضنفرة الشجيعا
إن استجرأت ترمقه بعيداً ... فأنت اسطعت شيئاً ما استطيعا
وروى: الخبعثنة فحد: أمر حاد يحيد، إذا تأخر عن المحاربة: والهاء في عنه: للممدوح، والغضنفرة: من صفات الأسد.
يقول: إذا اشتدت الحروب، واعوج القنا، ونالت الأكباد ثأرها من الرماح، فحد عنه، يا من يريد مبارزته عند التقاء الجيشين، وإن كنت أسداً شديداً شجاعاً، فإنه يقتلك لا محالة فتهلك.
وإن ماريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
أي: إن خاصمتني، أو شككت في قولي روى: حصاناً وجواداً وصريعاً نصب على الحال.
يقول: إن خاصمتني أو شككت في إخباري من حال هذا الممدوح، فاركب فرساً جواداً ومثله في قلبك نصب عينيك، وإن كان غائباً عنك فإنك تسقط من هيبته هالكا.
غمامٌ ربما مطر انتقاماً ... فأقحط ودقه البلد المريعا
البلد المريع، والممرع: هو الخصيب والمخصب وزناً ومعنى.
يقول: إنه غمام يمطر خيراً ونعمة إلا أنه ربما يمطر انتقاماً فيقحط قطره البلد الخصيب.
رآني بعد ما قطع المطايا ... تيممه وقطعت القطوعا
رأى: فعل الممدوح، وتيممه: فاعل قطع. والمطايا: مفعوله. وقطعت: فعل المطايا. والقطوع: مفعوله. وهو جمع القطع، وهو الطنفسة على ظهر البعير.
يقول: رآني الممدوح، بعد ما قطع المطايا، وأتبعها سيري إلى الممدوح وقصدي إياه، وقطعت المطايا الطنافس التي عليها؛ لطول ملازمتي لها؛ وكل ذلك لطول الطريق وبعد المسافة ومقاساة الشدائد. يذكر ذلك توصلاً إلى فضل عطاياه.
فصير سيله بلدي غديراً ... وصير خيره سنتي ربيعا
يقول: لما رآني أعطاني إعطاءً واسعاً، حتى جعل سيله بلدي غديرا: وهو مقر الماء. وصير خيره سنتي كلها ربيعاً؛ لأنه أفضل فصول السنة.
وجاودني بأن يعطي وأحوى ... فأغرق نيله أخذي سريعا
جاود: فاعل من الجود.
يقول: جاد علي بالعطاء وجدت عليه بالاحتواء والأخذ فجعل أخذه منه جوداً، لأنه كان يعد أخذه نعمة من جملة النعم عليه، فأغرق نيله وإعطاؤه أخذي بسرعة: أي لم يبلغ أخذي عطاؤه، فكأنه غرق أخذي.
أمنسي السكون وحضرموتاً ... ووالدتي وكندة والسبيعا

يقول: يا من أنساني هذه الأماكن لجوده، وإن كانت منشأي ومألفي، ويا من أنساني والدتي فلا أشتاقها؛ لأن عطاءك شغلني عن جميع ذلك.
قد استقصيت في سلب الأعادي ... فرد لهم من السلب الهجوعا
السلب: يجوز أن يكون الشيء المسلوب، ويجوز أن يريد به: المصدر، فيجوز فيه فتح اللام وإسكانها.
يقول: قد سلبت أعداءك كل شيء حتى النوم، فرد عليهم من جملة هذا السلب النوم. يعني: أنهم من خوفهم منك أن تسلبهم نفوسهم، لا ينامون، فأمنهم ليناموا.
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
تسر: مضارع أسار يسير إسارة، وسار وهو يسير سيراً والهلوع: أسوأ الجزع.
يقول: إذ لم تسير جيشك إليهم، وتركت قتالهم فقد سيرت إلى قلوبهم الجزع والخوف، فكأنك قد سيرت إليهم الجيش؛ لأن خوفهم منك يقوم على حقهم مقام الجيش.
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وخط: إذا ظهر واختلط البياض بالسواد، وأراد بالنواصي: شعرها. والفروع: الذوائب.
يقول: إنهم رضوا بك كارهين كرضاهم بالشيب إذا خالط شعر النواصي وسائر الفروع، فكما أن الشيب غير محبوب إلى كل أحد، فكذلك حالهم في رضاهم بك.
فلا عزلٌ وأنت بلا سلاحٍ ... لحاظك ما تكون به منيعا
العزل: هو فقد السلاح. من قولهم: رجل أعزل. وما؛ بمعنى الذي. كأنه قال: لحاظك الشيء الذي يكون به منيعاً. والهاء في به عائد إلى ما، والمنيع: الممنوع الجانب.
يقول: ليس فقدك السلاح بعزل؛ لأن لحاظك إذا نظرت إلى عدوك تغني عن السلاح، فصرت بالملاحظة منيعاً ذا سلاح.
لو استبدلت ذهنك من حسام ... قددت به المغافر والدروعا
الهاء في به: للذهن.
يقول: لو جعلت ذهنك بدلاً من سيفك، لقطعت به المغافر والدروع. يصفه بحدة الذهن وجودة الخاطر.
لو استفرغت جهدك في قتالٍ ... أتيت به على الدنيا جميعا
يقول: لو بذلت جهدك وقدرتك في القتال، لأتيت على جميع أهل الدنيا ولأفنيتهم، حتى لا تبقى الدنيا ولا أهلها.
سموت بهمةٍ تسمو فتسمو ... فما تلفي بمرتبةٍ قنوعا
التاء في تسمو الأول: للخطاب، والثاني: للهمة. أي تسمو أنت وتسمو همتك بسموك. ويجوز أن يكون: الأول للهمة، والثاني: للخطاب. أي تسمو همتك فتسمو أنت بسمو همتك. ويجوز أن يكونا للهمة أي تسمو همتك إلى درجة فما ترضى بها، فتسمو إلى ما فوقها. فما تلفى أنت أو همتك بمرتبة قنوعا، أي لا يرضى بمرتبة نالها بل يطلب فوقها.
وهبك سمحت حتى لا جوادٌ ... فكيف علوت حتى لا رفيعا؟!
الألف في رفيعا: ألف الإطلاق؛ لأن النكرة المنفية بلا تنصب بلا تنوين.
يقول: أحسب أنك بجودك علوت أقرانك حتى لا نظير لك فيه، فكيف قدرت على السمو والارتفاع حتى لا يبقى رفيع غيرك؟! وقال البخاري: يجوز أن يكون بلا من التنوين، لأن لا إذا تكررت يجوز فيها هذا الوجه نحو قولك: لا حول ولا قوة.
وقال أيضاً يمدحه أي علياً بن إبراهيم التنوخي، ويصف بحيرة طبرية:
أحق عافٍ بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهداً بها القدم
العافي: الدارس. والهمم: مبتدأ. وأحق: خبره.
يقول: إن أحق دارس بالبكاء عليه، همم الناس الدارسة، فهي أولى بالبكاء لدروسها، من الأطلال الدارسة. وقوله: أحدث شيء عهداً بها القدم: أي أنها قد تقادمت، فأحدث شيء بها القدم: أي صار أقربها عهداً قديماً. وقيل: أراد بالعافي: الطالب. والمعنى: أن الهمم أحق طالب بأن يبكى عليه. فكأنه يقول: أعرض عن البكاء على الأطلال، وابك على الهمم. وهو مأخوذ من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنه الكرم
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عربٌ ملوكها عجم
يقول: إنما عز الناس، وهممهم بالملوك، فما تفلح العرب إذا كانت ملوكها عجم؛ لأنهم لا همم لهم، وهم إذا رضوا بذلك فقد دنوا، فلا يرجى لهم فلاح.
لا أدبٌ عندهم ولا حسبٌ ... ولا عهودٌ لهم ولا ذمم
بكل أرضٍ وطئتها أممٌ ... ترعى بعبدٍ كأنها غنم
الذمم: جمع الذمة، وهي الحرمة. يعني: أن العجم ليس لهم حرمة.

يقول: وجدت في كل بلدٍ دخلتها أمماً أي جماعات، يلي عليهم عبد! فهم لا يأنفون عن الانقياد له، كأنهم غنم! وأراد بالعبد: العجم؛ لأنهم موالي العرب، وعبيدهم، وهم ينزلون من العرب منزلة العبيد، وفيه تعيير للعرب حيث رضوا بأن يلي عليهم العجم وانقادوا لهم.
يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبري بظفره القلم
ويروى: حين يلبسه ويلمسه يصف بهذا العبد الذي صار والياً. ويقول: صار بحيث يستخشن الخز الذي هو في غاية اللين، حين يلمسه، بعد أن كان عبداً قد غلظت يداه من الكد، حتى لو أراد أن يبري بظفره القلم لبراه؛ لطول ظفره.
إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبةٌ لهم
يقول: إن كنت ألوم حسادي على حسدهم إياي، وعداوتهم لي، فإني أعلم أنهم معذورون على حسدهم لي، لأني عقوبة لهم، لما لي من الفضل والعلو، فأقتلهم غيظاً وحسداً. وقريب منه قول الآخر:
ولا خلوت الدهر من حاسدٍ ... وإنما الفاضل من يحسد
وكيف لا يحسد امرؤٌ علمٌ ... له على كل هامةٍ قدم؟!
العلم: الجبل.
يقول: كيف لا يحسد رجل مشهور بالفضل والكمال، عالي المحل، وله على كل هامة قدم، فهو أفضل من كل أحد.
يهابه أبسأ الرجال به ... وتتقي حد سيفه البهم
أبسأ الرجال: آنسهم. يقال: أبسأت به وأبهأت به إبساءً وإبهاء: إذا أنست به.
يقول: يخاف هذا الرجل آنس الرجال به، وأقربهم إليه. وتتقي: أي تحذر، من حد سيفه الشجعان.
تقديره: كيف لا يحسد امرؤ وهذه صفته؟!
كفاني الذم أنني رجلٌ ... أكرم مالٍ ملكته الكرم
فاعل كفاني: أنني، وما يتصل به. والمفعول الأول: الياء التي هي ضمير المتكلم. والمفعول الثاني: الذم.
يقول: منعني من أن أذم نفسي، فأكرم ما أملك وأدخره لنفسي، إنما هو الكرم فلا سبيل لأحد أن يذمني مع هذا الكرم.
يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم
يقول: يجلب الغنى على اللئيم، ما لا يجلب عليه الفقر؛ لأن اللئيم إذا صار غنياً يبخل فيذم، وإذا كان فقيراً لم يذمه أحد.
هم لأموالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح يلتئم
يقول: إن اللئام خدم أموالهم، وعبيدهم، حتى أوقعوا أنفسهم في الهلاك بسببها، وليست الأموال لهم، لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يكتسبون بها حمداً ولا أجراً. ثم قال: والعار يبقى والجرح يلتئم: يعني أن غناءهم عارٌ عليهم، يبقى بعدهم. والجرح يلتئم: أي أن الجرح أهون من العار؛ لأن الجرح يندمل ويذهب أثره والعار يبقى على وجه الدهر.
من طلب المجد فليكن كعلي ... ىٍ يهب الألف وهو يبتسم
ويطعن الخيل كل نافذةٍ ... ليس لها من وحائها ألم
أي: كل طعنةٍ نافذةٍ، فحذفها والكناية في لها، وحائها: للطعنة والوحاء: السرعة، يمد ويقصر.
يقول: من طلب الشرف فليكن مثل هذا الممدوح، الذي يهب الألف لسائله وهو ضاحك، ويطعن أعداءه كل طعنة نافذةٍ من إحدى الجانبين إلى الجانب الآخر، ليس بهذه الطعنة ألم؛ لسرعتها وخفة يده بها. وقيل: أراد أنه يموت في الحال، فلا يحس بالألم بعد الموت.
ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم
الهاء في فعله: للمدوح، أو للأمر. وروى: بعد فعلةٍ. وهي المرة الواحدة من الفعل.
يقول: إنه يعلم عواقب الأمور قبل فعلها ووقوعها، فإذا فعل أمراً لم يندم على فعله؛ لأنه لم يفعله إلا وهو عالم بعاقبته.
يمدحه بجودة الرأي وحدة الفطنة وشدة الذكاء.
والأمر والنهي والسلاهب وال ... بيض له والعبيد والحشم
السلاهب: جمع السلهب وهي الفرس الطويل. وقيل: هو الرمح الطويل. والحشم: حاشية الرجل، الذين يغضبون له، ويغضب لهم.
يقول: إن الممدوح له هذه الأشياء: من الأمر والنهي والخيل والسيف والعبيد والحواشي. وروى بدل الحشم: الخدم.
والسطوات التي سمعت بها ... تكاد منها الجبال تنقصم
يقول: للمدوح الحملات المشهورة، التي سمعت بها أيها المخاطب، كما سمع بها كل أحد، وهي التي تقرب الجبال من أن تتصدع وتتقطع، من شدتها وسطواتها.
يرعيك سمعاً فيه استماعٌ إلى الدا ... عي وفيه عن الخنا صمم

يرعيك سمعاً أي يصغي إليك. يقال: أرعني سمعك أي استمع مني واجعل سمعك راعياً، أو مراعياً لقولي. وقيل معناه: اجعل سمعك مرعىً لكلامي ومكاناً له والداعي: أراد به الداعي حقيقة.
يقول: إنه يصغي إلى المستغيث سمعاً وعادته الإصغاء إلى كل من يدعوه، ولكنه عن الفحش والقبيح أصم: أي يعرض عنه، ولا يصغى إليه، فكأنه أصم لا يسمع ذلك.
يريك من خلقه غرائبه ... في مجده كيف يخلق النسم؟!
يريك: تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، أحدها. الكاف، والثاني غرائبه، والثالث كيف، وهو في موضع النصب، وهو في معنى يعلمك. والنسم: جمع نسمة، وهي النفس.
يقول: يريك هذا الممدوح إذا نظرت إليه وهو يخلق غرائب كرمه، ويبتدع محاسن شيمه، التي لم يسبق إليها، كيف يخلق الله الخلق على غير احتذاء ولا مثال. يعني: أنه يصطنع من أهلكه البؤس، حتى صار كالمعدوم فيحسن إليه وينعم عليه، حتى يحسن حاله؛ فكأنه أوجده بعد عدمه، فإذا رأيت ذلك، استدللت به على قدرة الله تعالى، على إيجاد الشيء بعد أن لم يكن.
ملت إلى من يكاد بينكما ... إن كنتما السائلين ينقسم
يخاطب صاحبه ويقول: عدلت إلى زيارة من لو جئتما يا صاحبي تسألانه نفسه يقسمها بينكما، فيكون نصفه مع أحدكما، ونصفه مع الآخر؛ ليبلغ كل واحد إلى أمله. وأصله قول أبي تمام:
لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
من بعد ما صيغ من مواهبه ... لمن أحب الشنوف والخدم
الشنف: ما يجعل في أعلى الأذن، والقرط: ما يجعل في أسفله. والخدم: جمع خدمة: وهي الخلخال.
يقول: لم أقصده إلا بعد أن سبقت إلي مواهبه، وأغناني بها، وصيغ لي منها لمن أحبه من امرأتي وجاريتي ومحبوبتي ومن يتصل إلى الشنوف والخلاخيل، وفي هذا إشارة إلى أنه قد أغناه بمواهبه قبل وصوله إليه؛ لأن الإنسان لا يصوغ أنواع الحلي إلا بعد الغنى والكفاف.
ما بذلت ما به يجود يدٌ ... ولا تهدي لما يقول فم
تقديره: ما بذلت يد ما به بجود، ولا يهتدي فمٌ لما يقول.
ما الأولى نافية، والثانية، والثالثة، بمعنى: الذي.
يقول منبهاً على فضله وعطاياه، وفصاحته: لم يبذل إنسيٌّ الذي يجود به هذا الممدوح، ولم يهتد فم أحد للقول الذي يقول هو، لما يختص به من زيادة الجود والفصاحة.
بنو العفرني محطة الأس ... د ولكن رماحها الأجم
العفرني: اسم من أسماء الأسد، والأنثى: عفرناة. ومحطة: جد الممدوح. وبنو: رفع بالابتداء، والعفرني: جر بالإضافة. ومحطة: بدل من العفرني، وهو في موضع الجر. والأسد: جر لأنه نعت لمحطة، وجميع ذلك كاسم واحد مبتدأ، والأسد خبر الابتداء، كما تقول: بنو أبي عبد الله حمزة الظريف، منطلقون.
يقول: إن محطة جدهم، هو الأسد، وبنوه الأسود، إذ أولاد الأسود تكون أسوداً، ثم فصل بينهم وبين الأسد الحقيقي، الذي هو من البهائم، وبين أن رماحهم قائمة لهم مقام الأجم للأسود.
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
يقول: هم قوم لا يعدون فيهم بالغاً، إلا إذا طعن من نحور الشجعان، فأما مجرد الاحتلام، في ملابسة الحروب فلا يعدونه بلوغاً. ومثله لبعض العرب:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... ولكن فتى الفتيان كل فتى بدا
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغرٌ عاذرٌ ولا هرم
يقول: إنهم عرفوا بالجود، فكأنهم ولدوا على تركة أحدهم منه، سواء كان طفلاً، أو شيخاً، فلا يعذرهم صغرهم ولا كبرهم.
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعةً كتموا
يقول: إنهم عادوا أظهروا العداوة لقوتهم وجرأتهم، وإن أعطو أحداً، أخفوا ذلك؛ ليكون أدل على الكرم وأبعد من الامتنان.
تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا
يقول: تظن أيها المخاطب من قلة اعتدادهم بالنعم وامتنانهم بها، أنهم أنعموا غافلين، وما علموا بما أنعموا، ومثله لابن الرومي:
أيها السيد الذي لا تنفك ... ك أياديه عندنا موصولة
فهي معروفة لدينا وإن كا ... نت لديه مجحودة مجهولة
إن برقوا فالحتوف حاضرةٌ ... أو نطقوا فالصواب والحكم
برقوا: أي أوعدوا، أو برق: إذا لمع.

يقول: إن أوعدوا أعداءهم فهلاكهم حاضر مقرون به، وإن نطقوا فجميع كلامهم صواب وحكم وقيل: أراد بقوله: برقوا، أنهم إن لمعوا في الدروع والبيض عند الحرب، قتلوا أعداءهم فيكون كقوله:
ويحمل الموت في الهيجاء إن حلو
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم: خاب سائلي القسم
اليمين الغموس: التي تغمس صاحبها في الإثم. وفي الحديث اليمين الغموس تدع الديار بلاقع ومثله للطائي:
وبلاقعاً حتى كأن قطينها ... حلفوا يميناً بالهلاك غموسا
يعني: كأن سكان الأطلال حلفوا يميناً غموساً، فعوقبوا، بكون ديارهم بلاقع.
وقولهم مبتدأ، وخاب سائلي في موضع النصب لأنهم مفعول وقع عليهم قولهم والقسم خبر الابتداء.
يقول: إنهم إذ حلفوا واجتهدوا في اليمين، فأعظم يمينهم أن يقول: خاب سائلي إن فعلت كذا. ومثله قول الآخر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
أو ركبوا الخيل غير مسرجةٍ ... فإن أفخاذهم لها حزم
يقول: إذا ركبوا الخيل غير مسرجةٍن شدوا أفخاذهم عليها فتجري أفخاذهم مجرى الحزم؛ لثباتهم في الفروسية واعتيادهم ركوب الخيل.
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
اللاقح: الشديد.
يقول: إذا حضروا الحرب في حال شدتها، أخذوا من نفوس المعلمين ما احتكموا، أو أرادوا.
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
الأعراض: الأجسام وما يذكر به الرجل من مدح أو ذم.
يقول: أجسامهم ووجوههم مضيئة كشيم نفوسهم، فكأنها أخلاق أنفسهم في الإضاءة والخلوص من الشوائب. ومنه قول الآخر:
أضاءت لهم أجسامهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
لولاك لم أترك البحيرة وال ... غور دفىءٌ وماؤها شبم
البحيرة: تصغير البحر في الأصل، وإنما أنث لأنه أراد به: بحيرة الشام وطبرية، والهاء فيه لازمة له؛ لأنه اسم هذا الموضع وصار علماً كحمزة وطلحة. والغور موضع بالشام. وقيل معناه: لولاك لم أترك البحيرة ولم أترك ماءها البارد، وكذلك لم أفارق الغور؛ مع أنه مكان طيب دفىء، وإنما فارقت هذه المواضع؛ مع أنها طيبة لأجلك. وقيل: الغور موطن الممدوح فيقول: لولا قصدك لم أترك البحيرة، وهي طيبة، وماؤها عذب، ولم أقصد الغور، مع أنه دفىء خالٍ من الطيب، لكن فضلك وكرمك وحبي لك، حملني على ذلك.
والموج مثل الفحول مزبدةٌ ... تهدر فيها وما بها قطم
الموج: قد يكون واحداًن اسم للجنس، وقد يكون جمع موجة، ولهذا شبهه بالفحول، والمزبدة: التي حصل لها زبد، وهو الفقاعة التي تكون فيه، إذا ضربته الريح، وتهدر: أي تصوت، والهاء في ما بها: للموج. أنثها لتأنيث الجماعة، والقطم: شهوة الضراب. شبه موج البحيرة في اضطرابه، بالفحول إذا هاجت.
يقول: إن موجها مثل الفحول، مزبدة مصوتة، فكأنها فحول هائجة للضراب، غير أنها ليس لها شهوة الضراب.
والطير فوق الحباب تحسبها ... فرسان بلق تخونها اللجم
حباب: الماء طرائقه. وفرسان بلق: أراد به الخيل البلق، شبه بياضها ببياض الماء، وسوادها بالسواد الي يحصل من ظلمة اضطراب الموج، وشبه تصرف الموجة على غير مراد الطائر، بالخيل عند انقطاع لجمها.
يقول: إن الطير فوق حباب هذا الموج، في أنه يمضي بها يميناً وشمالاً على غير فقد منها، كأنها فرسان خيل بلق، قد خانتها اللجم بالانقطاع. شبه الزبد بالخيل البلق؛ لأنه أبيض يابس يضرب إلى الخضرة.
كأنها والرياح تضربها ... جيشا وغىً: هازمٌ ومنهزم
الهاء في كأنها: للبحيرة، أو للموج الذي هو جمع موجة، أو للطير. شبه أحد هذه الأشياء، إذا ضربتها الريح بجيشين: أحدهما هازم، والآخر منهزم.
كأنها في نهارها قمرٌ ... حف به من جنانها ظلم
شبه البحيرة وصفاء سمائها، بالقمر. وشبه الجنان، بشدة خضرتها. والمناسبة للسواد بظلم الليل. وقوله: في نهارها قمر: تشبيه بديع، وهو أن يجتمع الليل والقمر في النهار، والغرض وصف مائها بالصفاء، وبساتينها بالخضرة.
ناعمة الجسم لا عظام لها ... لها بناتٌ وما لها رحم

يقول: هذه البحيرة ناعمة الجسم؛ لأنها ماء، ولا شيء ألين من الماء. وقوله: لها بنات. أراد به: السمك الذي فيها، وليس لها رحم، وقيل: أراد به السفن. والأول أليق.
يبقر عنهن بطنها أبداً ... وما تشكى ولا يسيل دم
يبقر: أي يشق، وعنهن: أي عن البنات. وتشكى: أصله تتشكى فحذف إحدى التاءين.
يقول: يشق بطن هذه البحيرة عن بناتها التي هي السمك، أي يصطاد منها السمك، ولا تشتكي من ذلك ولا تتألم ولا يسيل منها دم، وإن حملناها على السفن، فمعناه أي يشق بطنها عن هذه السفن، وعلى الأول قول ابن الرومي:
بنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
تغنت الطير في جوانبها ... وجادت الروض حولها الديم
جادت: مطرت عليها مطر الجود.
يقول: الطير تتغنى في جوانب هذه البحيرة، والرياض التي حولها مهتزة، والديم فاعل جادت مفعولها الروض.
فهي كماويةٍ مطوقةٍ ... جرد عنها غشاؤها الأدم
الماوية: المرآة. وغشاؤها: رفع لأنه اسم ما لم يسم فاعله. والأدم: بدل من الغشاء. شبه هذه البحيرة بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة المطوقة. وقوله: جرد عنها غشاؤها الأدم. قيل: حشو لإتمام البيت، لا فائدة فيه. وقيل: أراد توكيد صفائها، فكأنه قال: كأنها مرآة مطوقة ساعة ما تجرد من غشائها. كما يقال: هذا ثوب حل من الورقة. وقوله الأدم: قيل مع هذا، إنه لا فائدة له. والأولى: أنه بدل.
يشينها جريها على بلدٍ ... يشينه الأدعياء والقزم
الكناية في يشينها: للبحيرة. وفي يشينه: للبلد. والقزم: سقاط الناس، ورذلهم.
يقول: ليس لهذه البحيرة عيب، غير أنها تجري في بلدٍ أهله سقاط.
فقد اشتمل البيت على مدح البحيرة ومدح البلد الذي تجري عليه، وذم أهله.
أبا الحسين استمع فمدحكم ... في الفعل قبل الكلام منتظم
يقول: إن أفعالكم تمدحكم وتثني عليكم، فمدحكم منتظم في أفعالكم، قبل مدح المادحين إياكم بالكلام والشعر. أي شيمكم تمدحكم.
وقد توالى العهاد منه لكم ... وجادت المطرة التي تسم
العهاد: مطر. جمع عهدة، والوسمى: هي المطرة في أول السنة. والهاء في منه: قيل للممدوح. وقيل للممدوح الذي جرى في البيت الذي قبله.
يقول: على الأول مخاطباً لقبيلة الممدوح، قد توالى من هذا الممدوح لكم الإحسان، وكساكم الثناء، فأحسن إليكم، وحسن حالكم به كما تحسن الأرض حين يسمها المطر بالنبات. وعلى الثاني يقول: قد توالى مدحكم كتوالي العهاد بعضها في إثر بعض، وجادت بمدحكم المطرة التي تسم الأرض بالنبات. شبه. مدحه لهم بالأمطار المتواترة.
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
يقول: أعيذكم بالله من صروف الدهر، فإنكم كرام، وهو متهم بالإساءة إلى الكرام، ولا يؤمن على قصده إياكم بالمكاره.
وقال يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي:
دمعٌ جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى؟ ولا كربا
أنى: بمعنى كيف؟ أو من أين؟ وكرب: أي قارب.
يقول: دمعي جرى في ربع المحبوبة، فقضى لأهله ما وجب لهم من الحق، وشفاني من وجدي، ثم رجع عما أعطى فقال: أنى ولا كربا؟ أي كيف أنه قضى الواجب وشفى الوجد، وهو لم يفعل ذلك؟! لأنه قارب أن يفعل ما هو شفائي وقضاء بحقهم ومثله قول الآخر:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا ... من العقول وما رد الذي ذهبا
يقول: عطفنا على هذا الربع، وقد كان الفراق قد أبقى بعض عقولنا، طمعاً في أن يرده علينا فأذهب الربع هذه البقية، وما رد الذي أذهبه الفراق!
سقيته عبراتٍ ظنها مطراً ... سوائلاً من جفونٍ ظنها سحبا
فاعل ظنها في الموضعين: ضمير الربع. والهاء في الأولى: للعبرات. وفي الثانية: للجفون.
يقول: سقيت هذا الربع دموعاً سائلاتٍ من جفوني، حتى ظن الربع أن هذه العبرات مطراً، وأن جفوني سحبٌ ماطرة: وهي جمع سحاب.
دار الملم بها طيفٌ تهددني ... ليلاً فما صدقت عيني ولا كذبا
الإلمام: زيارة الطيف. والألف واللام في الملم بمعنى: التي.

يقول: هذا الربع. دار المرأة التي ألم بها طيف خيالها، ألم بها ليلاً، ويهددني الطيف بالهجران، على ما جرت به عادة المرأة تعذب بالدلال، وتهدد بالهجران، فما صدقت عيني في الرؤيا؛ لأنها أرتني ما لا حقيقة له! ولا كذب الطيف بالتهدد؛ فإنه قال: لأهجرنك. فأصبحت والهجران واقع!
ناءيته فدنا، أدنيته فنأى ... جمشته فنبا قبلته فأبى
روى: نأيته، وأنأيتة. أي أبعدته، وروى: ناءيته: أي نأيت عنه فحذف الجر عنه والتجميش: المغازلة، فنبا: أي ارتفع وجفا.
يقول: كلما أردت من الطيف أمراً قابلني بضدة، فلما بعدت عنه، قرب مني، ولما قربته بعد، ولما غازلته ومازحته، قابلني بالجفاء، ولما قبلته، قابلني بالإباء؛ لأن خلقها لما كان لا يستمر على حال واحدة، كذلك الخيال يجري على هذا المثال. وهو كقول الشاعر:
صدت وعلمت الصدود خيالها
والأصل فيه قول الآخر:
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
هام الفؤاد بأعرابيةٍ سكنت ... بيتاً من القلب لم تمدد له طنبا
الطنب: الحبل الذي يشد به الخيمة. قوله: هام أي تحير وأصابه الجنون من العشق.
يقول: هام قلبي بأعرابية سكنت من القلب بيتاً ليس له أطناب وأوتاد، بخلاف بيوت أهل البادية. وقيل: إن معناه أنها ملكت فؤادي بلا مشقة، فكانت كمن سكن بيتاً لم يتعب في شد أطنابه.
مظلومة القد في تشبيهه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
الضرب: العسل الثخين، وقيل: هو الشهد.
يقول: من شبه قدها بالغصن، فقد ظلمها؛ لأن قدها أحسن وأقوم، ومن شبه ريقها بالعسل، فقد ظلمها؛ لأنه أطيب وأحلى منه. وإنما قال ذلك: لأنه وضع التشبيه في غير موضعه.
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
ما تحت حلتها: يعني جسمها. وقوله: بيضاء إشارة إلى أنها مخدرة منعمة، لا تبرز للشمس، ولا تكد في العمل، وإشارة إلى نقائها من الدنس والريب، بل هي عفيفة ترد يد طالبها عنها.
يقول: هي تطمعك في نفسها بلين كلامها، فإذا طلبتها وجدتها أعز مطلوب. ومثله قول الآخر:
يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
كأنها الشمس، يعيى كف قابضه ... شعاعها ويراه الطرف مقتربا
يقول: كأنها من قربها وبعد منالها الشمس، فإنك ترى شعاعها قريباً منك، فإن أردت أن تقبض عليه، لم يمكنك! فكذلك هذه المرأة. ومثله قول أبو عينية:
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريب ولكن في تناولها بعد
ومثله للآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا؟
الشادن: الغزال إذا كبر.
يقول: مرت بنا هذه الجارية بين جاريتين متساويتين في السن حياءً من أن تمر بنا وحدها، فاستخفت بهما، فعرفتها لفضل حسنها فقلت لها: أنت غزال فكيف شابه الغزال العرب؟! أو كيف اجتمع الغزال مع العرب؟؛ لأنها غزال والتربان من العرب
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجلٍ إذا انتسبا
فاستضحكت: أي ضحكت. والشرى: موضع ينسب إليه الأسود.
يقول: لما قلت لها، من أين جانس هذا الشادن العرب؟! ضحكت من قولي. وقالت: هذا ليس ببعيد؛ كما أن المغيث يرى كأنه ليث الشرى وهو مع ذلك من بني عجلٍ، فكذلك أنا.
جاءت بأشجع من يسمى وأسمح من ... أعطى وأبلغ من أملي ومن كتبا
التأنيث في جاءت: يرجع إلى عجل؛ لأنه قبيلة. والأولى أنه فعل الأعرابية.
يقول: جاءت هذه المرأة أو هذه القبيلة بأشجع من يدعى ويسمى من الناس وأسخاهم وأبلغهم في الإملاء والكتابة. يصفه بالشجاعة، والسخاء، والبلاغة، يداً ولساناً.
لو حل خاطره في مقعدٍ لمشى ... أو جاهلٍ لصحا أو أخرس خطبا
يقول: إن خاطره لو حل في زمن أزال عنه زمانته حتى يمشي، ولو حل في جاهل لصحا من جهله، ولو حل في أخرس لصار خطيباً بليغاً.
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا
يقول: إنه إذا ظهر للناس من الحجاب، حجبت عينيك هيبته فلا تقدر أن تنظر إليه لجلالته، فكأنه محتجب، وهو كما قال الفرزدق:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... يخضع الرقاب نواكس الأبصار
وقوله: ليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا احتجب يطلع على ما غاب من أحوال الناس فلا يخفى عنه شيء فكأنه غير محتجب.
والثاني: أنه إذا احتجب لا يمكنه ذلك، لأن نور وجهه ينم عليه ويخرق الحجاب إليه. وهي كقوله:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
والثالث: أراد أنه ليس بشديد الاحتجاب، فمن أراد الدخول عليه لا يصعب عليه رؤيته، وإن كان محتجباً؛ لتواضعه.
بياض وجهٍ يريك الشمس حالكةً ... ودر لفظٍ يريك الدر مخشلبا
المخشلب الرديء من الدر، وقيل هو الخرز الأبيض الذي يشبه اللؤلؤ. ليس بعربي؛ لكنه. استعمله على ما جرت به عادة العامة في الاستعمال واسمه في اللغة الخضض.
يقول: لو قست الشمس إلى بياض وجهه، لرأيتها سوداء حالكة! ولو قست لفظه بالدر كان بالنسبة إليه كالرديء الذي لا قيمة له! ووصفه بغاية الحسن والفصاحة.
وسيف عزمٍ ترد السيف هبته ... رطب الغزار من التامور مختضبا
هبة السيف: حركته. وغرار السيف: ما بين حده إلى وسطه. والتامور: دم القلب.
قيل في معناه وجهان: أحدهما يقول: إن له سيف عزم متى تحرك كان أمضى من السيف، الذي هو رطب الغرار من دم القلب. والثاني: أراد أنه متى تحرك عزمه خضب سيفه من دم قلب عدوه، فكأن سيفه لا يقتل إلا عند إمضاء عزمه فيهم.
عمر العدو إذا لاقاه في رهجٍ ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
قوله: إذا وهب قال ابن جنى: يعني أنه إذا أراد أن يهب؛ لأنه إذا وهب الشيء فليس يملكه كقوله جل وعلا: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " . أي أردت قراءته.
يقول: إن عمر عدوه إذا لاقاه في الحرب، أقل من عمر ما يحويه من الال، إذا أراد هبته، فيكون عمره أقصر بقاءً من المال في يده. وقيل أراد بقوله: إذا وهب إزالة الهبة؛ لأن عمر ما يحويه لا ينقطع إلا بالهبة دون الإرادة.
توقه؛ فإذا ما شئت تبلوه ... فكن معاديه أو كن له نشبا
نصب تبلوه بإضمار أن وتقديره: أن تبلوه. فحذف أن وأبقى عملها.
يقول لصاحبه: احذر هذا الرجل؛ فإن لم تثق بقولي وأردت اختباره فكن عدوه، أو ماله، لترى ما يفعل بك من الإبادة والإفناء؛ لأن عادته إهلاك أعدائه وتفريق ماله.
تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا
المذاقة: الذوق، ويجوز أن يكون طعم الشيء المذوق. وحالت: التأنيث للمذاقة وجعل المذاقة مما يقطر اتساعا، أي لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشرب.
يقول: هو في حال الرضى، حلو الأخلاق، فإذا تغيرت لغضبٍ عادت حلاوته مرارة، بحيث لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشربه أحد لمرارته.
وقد عيب هذا البيت من جهة التصريع لأنه لا يستعمل إلا في أول القصيدة لا في حشوها إلا عند الخروج من قصةٍ إلى قصة أخرى. وأجيب بأن هذا هو الأكثر وقد جاء مثل ذلك كما قال الآخر في أثناء التشبيب:
ألا نادٍ في آثارهن الغوانيا ... سقين سهااً ما لهن وماليا؟
وتغبط الأرض منها حيث حل به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا
أيها: منصوب بتحسد لا بركب لأنه صلة، والصلة لا تعمل إلا في الموصول.
يقول: إذا حل في مكان من الأرض غبطها سائر المواضع لكونه فيها؛ لما نالها من الشرف والفخر، فتتمنى سائر البقاع حصول هذا الشرف بحلوله فيها، وكذلك إذا ركب فرساً حسدته جميع الخيل لما يحصل لمركوبه من الشرف، فتتمنى أن يتحول هذا الفخر إليها بركوبه إياها. ومثله لأبي تمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعةٌ ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ولا يرد بفيه كف سائله ... عن نفسه ويرد الجحفل اللجبا
الجحفل: الجيش العظيم. واللجب: الشديد الصوت.
يقول: إذا جاءه السائل لا يرده بقوله ولا ينهره، وهو مع ذلك يرد الجيش العظيم بكلمة تهديد تخرج من فيه. وإنما قال: لا يرد بفية إشارة إلى أنه لا يرده خائباً بقوله: لا ولكن يرده بالعطاء. ومنه قول الآخر:
لنا جانبٌ منه دميثٌ إذا ... رامه الأعداء ممتنعٌ صعب
وكلما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا

أراد: من قبل أن يصطحبا. فحذف أن وأعملها والهاء في صاحبه للدينار.
يقول: كلما لقي الدينار في ملكه ديناراً آخر مثلة وهو المراد بقوله صاحبه افترق الدينار من قبل إتمام صاحبه للصحبه بينهما: بأن يهب أحدهما لواحدٍ والآخر لآخر.
وقد عيب البيت من جهة المناقضة لأنه قال: لقي الدينار صاحبه فأثبت بينهما المصاحبة، ثم نفاها. بقوله: قبل أن يصطحبها. والجواب: أنه أراد بالاصطحاب: أي يفترقان قبل استدامة الصحبة بينهما. فلا مناقضة فيه. ومثله قول الآخر:
لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق
مالٌ كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل: هذا مجتدٍ، نعبا
نعب الغراب: إذا صاح ومد عنقه، فإن قدها قيل: نعق.
يقول: له مال كأن غراب البين ينتظره! فإذا رأى طالب المعروف نعب في ماله، فيفرق شمله، كما يفرق شمل الأحباب عند صياحه. وقيل: أراد أن الغراب لا يفتر من الصياح، فكذلك هو في العطاء.
بحرٌ عجائبه لم تبق في سمرٍ ... ولا عجائب بحرٍ بعدها عجبا
الهاء في بعدها: راجعة إلى العجائب الأولى.
يقول: هو بحر ذو عجائب، تزيد على عجائب البحر، وسائر العجائب التي تحكى في الأسمار، فلم تبق عجائبه في حديث الأسمار ولا عجائب البحار بعدها عجباً.
يعني: العجائب التي تذكر في الأسمار وعجائب البحار بالإضافة إليه كلاشيء.
لا يقنع لبن عليٍّ نيل منزلةٍ ... يشكو محاولها التقصير والتعبا
لا يقنع: أي لا يرضى، وابن عليٍّ مفعوله، والفاعل: نيل منزلة، والهاء في محاولها: للمنزلة.
يقول: إنه إذا وصل إلى منزلة صعبة يقصر عنها من يطلبها، فإنه لا يرضى بها وطلب منزلة أعلى منها، وإن كانت بحيث يشكو طالبها قصوره عنها وتعبه فيها.
هز اللواء بنو عجلٍ به فغدا ... رأساً لهم وغدا كلٌّ له ذنبا
هز: أي حرك.
يقول: إن بني عجل حركوا لواءهم بسببه ومكانه، فجعلوه أميراً لهم، فرفعوا لواءهم فوقه، فأصبح هو سيدهم، وصاروا أذناباً له وأتباعاً. وقيل: إنه أراد أنه صار الناس أذناب بني عجل بقوته، فهم سادة الناس وهو سيدهم.
التاركين من الأشياء أهونها ... والراكبين من الأشياء ما صعبا
نصب التاركين، والراكبين: على المدح كأنه قال: أمدح التاركين.
المعنى: أنهم يتركون من الأمور ما هو سهل، ويفعلون ما هو أصعب على غيرهم؛ لفضل قوتهم وشجاعتهم. وهذا من قول الآخر:
ولا يرعون أكناف الهوينى ... إذا حلوا ولا روض الهدون
مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا
هذا أيضاً نصب على الحال، وحذف النون للإضافة. والعذبا: جمع عذبة، وهي الخرقة التي تشد على رأس الرمح.
يقول: إنهم قد برقعوا خيلهم بالسيوف؛ أي حفظوها بسيوفهم من الأعداء، فكأنهم غطوها بالسيوف، وجعلوها مكان البراقع. وقيل: أراد أنهم جعلوا برقعها سيوف الضرب بوجوهها فيقع موقع البراقع منها، وكذلك جعلوا رءوس أعدائهم الشجعان، على رماحهم، بدل الخرق التي تشد عليها. وقيل: أراد شعر الهام. ومثله قول مسلم:
تكسو السيوف نفوس الناكثين به ... وتجعل الهام تيجان القنا الذبل
إن المنية لو لاقتهم وقفت ... خرقاء تتهم الإقدام والهربا
خرقاء: أي متحيرة فزعة ولاقتهم: أي حاربتهم.
يقول: إن الموت لو لقيهم في الحرب لبقي متحيراً لا يدري القوم فلا يأمن في نفسه أحد الأمرين ومثله لأبي تمام:
شوسٌ إذا خفقت عقاب لوائهم ... ظلت قلوب الموت منهم تخفق
مراتبٌ صعدت والفكر يتبعها ... فجاز وهو على آثارها الشهبا
الشهب: الكواكب المضيئة. قوله: فجاز أي الممدوح. قيل أراد جاز هذا الممدوح على آثار هذه المراتب ولم يبلغها، وقيل الفكر على آثارها ولم يبلغها.
يقول: إن الممدوح له مراتب تصعد، والفكر من الناس يتبعها، ولم يلحقها بعد.
وقيل: أراد أن لهم مراتب تبعها الفكر ليبلغ إلى محلها، فجاز الفكر الشهب، وهو بعد في آثار تلك المراتب ولم يصل إليها!
محامدٌ نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت منه ولا نضبا
نزفت: أي أنزفت. ونضب: أي فني من قولهم: نضب الماء. إذا جف. وقوله: ليملأها أي ليملأ شعري تلك المحامد.

المعنى: لهذا الممدوح، أو لقومه محامدٌ ومفاخر، قد استفرغت شعري في وصفها ليملأها شعري، فآل عن أجزاء ما امتلأت المحامد منه، ولا فني شعري أيضاً فأنا أبداً أمدحهم، فلا شعري ينفد، ولا هو يبلغ كنه وصفهم.
مكارمٌ لك فت العالمين بها ... من يستطيع لأمرٍ فائتٍ طلبا
فت: أي سبقت.
يقول: لك مكارم سبقت جميع الخلق بها فلم يدركوا فيها شأوك، ولا يقدر أحد على رده ولا طلبه.
لما أقمت بأنطاكية اختلفت ... إلي بالخبر الركبان في حلبا
أنطاكية على مسيرة يومين من حلب.
يقول: لما أقمت بأنطاكية تزودت الركبان بالخبر من عندك، وأنا بحلب، فذكروا وصولهم إلى النعم الجزيلة والأيادي الجميلة.
فسرت نحوك لا ألوي على أحدٍ ... أحث راحلتي: الفقر والأدبا
نصب الفقر والأدب؛ لأنهما بدل من راحلتي.
يقول: لما عرفت الحال سرت نحوك غير ملتف إلى أحد من الناس دونك، وحثثت نحوك راحلتين: وهما الفقر والأدب، لتزيل عني الفقر وتشرفني بالإكرام لأجل الأدب.
أذاقني زمني بلوى شرقت بها ... لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
الانتحاب، والنحيب: تردد البكاء في الصدر، والهاء في بها وذاقها: للبلوى. وبكى، وعاش، وانتحب: فعل الزمن.
يقول شاكياً من زمانه: إنه أذاقني من بلاه ومحنه ما نشب في حلقي فشرقني، ولو ذاق الزمان ما أذاقني، لبكى وانتحب ما عاش!
وإن عمرت جعلت الحرب والدةً ... والسهمري أخاً والمشرفي أبا
يقول: إن طال عمري جعلت الحرب والدتي؛ فأعتني بأمرها كما يعتني الرجل بأمر والدته، والرمح أخاً والسيف أبا: يعني لازمت الحرب، والرمح والسيف، كما يقال: فلان ابن بجدة هذا الأمر، وفلان أخو فلوات، وأراد: في إدراك ثأري من الزمان وأهله.
بكل أشعث يلقى الموت مبتسما ... حتى كأن له في قتله أربا
الأرب: الحاجة. وبكل رجل أشعث: أي أغبر معاودٍ للحرب، يلقى الموت وهو ضاحك، حتى يظن أن له حاجةً في أن يقتل. والمراد بالموت: علاماته. ومثله لأبي تمام:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
قحٍّ يكاد صهيل الجرد يقذفه ... عن سرجه مرحاً بالعز أو طربا
القح: الخالص من كل شيء، والجرد: جمع أجرد، وجرداء: وهو القصير الشعر، وقيل: هو الذي يتجرد من الخيل ويسبقها.
يقول: بكل أشعث خالص في نسبه عربي يكاد يرميه صهيل الخيل عن سرجه مرحاً وشوقاً إلى الحرب، سروراً بالموت.
الموت أعذرلى، والصبر أجمل بي ... والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
يقول: إن الموت يعذرني إذا قتلت شوقاً إليه، والصبر أجمل بالحر من احتمال الضيم، والبر أوسع بمن يريد العز إن لم يكن في هذا الموضع يطلبه في موضع آخر، والدنيا لمن غلب. وجميع البيت مثل ضربه.
وقال أيضاً يمدحه ويذم الزمان:
فؤادٌ ما تسليه المدام ... وعمرٌ مثل ما يهب اللئام
فؤاد: خبر ابتداء محذوف، وتقديره: فؤادي فؤادٌ، وهذا فؤادٌ، وكذلاك في قوله: وعمرٌ. وما الأولى للنفي، والثانية: بمعنى الذي. واللئام: جمع لئيم، وهو من يجمع ثلاثة أحوال: البخل، ومهانة النفس، والدناءة في الأصل.
يصف بعد همته وعلو قدره وعزة مطلبه فيقول: إن فؤادي لا يغلبه شرب الخمر، ولا يسليه السكر عما يطلبه من الشرف والعلو، ولي عمرٌ منكدٌ منغص مثل هبة اللئيم التي تكون منغصة حقيرة؛ فلقصر عمر أخاف ألا أدرك مطلوبي وقيل غرضه في ذلك شكاية حاله، وضيق صدره، وقصر عمره، وتنغيص حياته، وإنه صار إلى حدٍّ لا يسليه الشراب. هذا مثل قصار الهمم، وإن كانوا طوال العمر.
ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارٌ ... وإن كانت لهم جثثٌ ضخام
الجثث: جمع الجثة، وهي شخص الإنسان ما دام حياً جالساً أو نائماً، فإذا كان قائماً فهو قامة.
يذم أهل الدهر فيقول: إن الدهر دهرٌ، أو هذا دهرٌ، أهله صغار، ليس لهم همة مع عظم أجسامهم، التي هي مثل: جسم البغال وأحلام العصافير وهذا مثل.
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
الرغام والرغام: التراب.

يقول: لست من هؤلاء الناس، وإن كنت أعيش فيما بينهم، بل جوهري يخالف جوهرهم وطباعي تنافي طباعهم، كما أن الذهب يتولد من التراب، ومع ذلك جوهره يخالف جوهر التراب. شبه نفسه بالذهب وسائر الناس بالتراب. ومثله قوله: فإن المسك بعض دم الغزال ومثله: فإن في الخمر معنىً ليس في العنب ومثله: فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
أرانب غير أنهم ملوكٌ ... مفتحةٌ عيونهم نيام
يقول: هؤلاء أرانب في الحقيقة، غير أنهم ملوك! فجعلهم أرانب، واستعار لهم اسم الملوك وهو عكس ما يقال: هم ملوكٌ في صورة الأرانب، وقد فتحوا عيونهم وهم مع ذلك كأنهم نيام لجهلهم. ومثل هذا قول الشاعر:
وخبرني البواب أنك نائم ... وأنك إذا استيقظت أيضاً فقائم
وإنما شبههم بالأرانب؛ لأنها إذا نامت لا تطبق أجفانها فشبههم بها لهذه العلة، وما لها من الضعف والخسة ودناءة الأصل والقدر، وقوله: غير أنهم ملوك أي رفع زمنهم قدرهم ودانت لهم الدنيا، والمراد به ذم الزمان وأهله.
بأجسامٍ يحر القتل فيها ... وما أقرانها إلا الطعام
يحر: من الحرارة، أي يسرع ويشتد؛ لخسة شجاعتهم.
يقول: إن هذا الدهر، أهله لشرههم بالطعام لا يموت أكثرهم إلا عن التخمة، فكأن الذين يقاتلونهم بالفراغ من الطعام لأنهم لا يموتون أكثرهم إلا بأكلها، فهي أقرانهم دون الرجال. وهذا مثل.
وخيلٍ ما يخر لها طعينٌ ... كأن قنا فوارسها ثمام
الثمام: نبتٌ ضعيف ورقه مثل خوص النخل.
يقول: إنهم لضعفهم إذا طعنوا فارساً، لا يسقط عن ظهر فرسه، فكأن رماحهم من شجر الثمام. شبهها به لضعفه وكون ورقة على شكل أسنة الرماح، فهو إشارة إلى ضعفهم وقلة شجاعتهم. وهذا مثل.
خليلك أنت لا من قلت خلى ... وإن كثر التجمل والكلام
الخليل والخل: هو الصديق. وسمي بذلك لمداخلة صديقه في جميع أموره وأحواله، ولأن حب كل واحد منهما يدخل في خلل صاحب قلبه، والتجمل: إظهار الجميل من القول وغيره.
يقول: ليس لك صديق في الحقيقة إلا نفسك، فأنت صديق نفسك، لا من تسميه خليلاً، وإن كثرت مجاملته، وأظهر لك الود بالكلام. ومثله للآخر.
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
وهذا مثل.
ولو حيز الحفاظ بغير عقلٍ ... تجنب عنق صيقله الحسام
حيز: جمع. والحفاظ: مراعاة الحقوق والذمم. والحسام: رفع لأنه فاعل تجنب.
يقول: هؤلاء لا عقول لهم؛ فلذلك ليس لهم حفاظ بالعقل، فلو أمكن تحصيل الحفاظ من دون العقل، لتجنب السيف عنق الصيقل، الذي أرهف حده، وأظهر رونقه، وأبرز حسنه فكأنه إذا ضرب به لا يؤثر؛ لمحامات حرمته، ومراعات حقه.
وشبه الشيء منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام
الطغام والطغامة: الذي ليس له معرفة.
المعنى: أن الدنيا تميل إلى الأراذل؛ لخساسة قدرها كما يميل الشبه إلى شبهه، فكما أنها رذلة خسيسة، فهي أيضاً تنجذب إلى الخساس والأراذل؛ للتجانس بينهما. وهذا أيضاً مثل.
ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحط القتام
القتام: الغبار.
يقول: لو لم يعل ولم يرتفع، إلا من له محل وقدر، لكان يجب ألا يعلو الغبار مع أنه من جنس التراب على الجيش؛ لفضلهم ومالهم من التمييز والعقل ومثله:
قالت: علا الناس إلا أنت! قلت لها: ... كذاك يسفل عند الوزن من رجحا
وهذا مثل.
ولو لم يرع إلا مستحقٌّ ... لرتبته أسامهم المسام
الرعى هنا: السياسة. والأسامة: رعى المال، يقال أسام ماله فهو مسيم والمال مسام.
يقول: لو لم يقم برعاية الناس إلا من هو مستحق له، لوجب أن تكون الرعية هي الراعي، والأمير هو المرعي؛ لأن في الرعية من هو أشرف من هؤلاء الرعاة وهذا مثل.
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياءٌ في بواطنه ظلام
خبر واختبر: بمعنى جرب. والهاء في بواطنه للضياء.
يقول: من جرب النساء وعرفهن، وعرف ظاهرهن فإنه وإن كان ضياءً فباطنه ظلام وضلال.
إذا كان الشباب السكر، والشي ... ب هماً، فالحياة هي الحمام

يقول: إذا كان الإنسان شاباً فهو كالسكران، لكونه جاهلاً غافلاً. وفي حال المشيب في الحزن والهم والأسقام! فالحياة هي الموت في الحقيقة، إذ ليس له فيها راحة، فلا فرق بين حياته وموته، كأنه تنبيه وحث على ترك الغفلة، والنهوض لمعالي الأمور، في حال الشباب وهذا مثل أيضاً.
وما كلٌّ بمعذورٍ ببخلٍ ... وما كلٌّ على بخلٍ يلام
يعني: أن الكريم لا يعذر على بخله؛ لكرمه ولاتصال الآمال به. وإن بخل المعسر لا يلام، لأن فضله ومنزلته إنما هو بالمال. وهذا أيضاً مثل ضربه.
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
المقام: الإقامة.
يقول: لم أر من هو مثلي في الفضل، يقيم بين قوم لا يشاكلونه، لأنهم سفلة أخساء فمقامي فيما بينهم عجيب.
بأرضٍ ما اشتهيت رأيت فيها ... فليس يفوتها إلا الكرام
يقول: مقامي بأرضٍ مخصبة، فيها كل ما اشتهيت من أنواع النعم، وليس يفوت إلا الكرام تلك الأرض فإني لا أراهم فيها وإن كنت أشتهي ذلك.
فهلا كان نقص الأهل فيها ... وكان لأهلها منها التمام!
يقول: هلا كان هذا النقص الذي في أهل هذه الأرض في نفس الأرض، وكان التمام الذي فيها لأهلها، فيكون منها كرماً وفضلا.
بها الجبلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث، وذا اللكام
يقول: هذه الأرض، فيها جبلان عاليان: أحدهما من فخر، وهو المغيث.
والثاني من صخر، وهو اللكام جعل الممدوح كالجبل قدراً.
وليست من مواطنه ولكن ... يمر بها كما مر الغمام
يقول: هذه الأرض ليست من مواطن المغيث؛ لخستها ودناءتها، مع شرفه وكرمه، ولكنه يمر بها ليحميها وينعم على أهلها، كما يمر الغمام بالأرض الجدبة فيحييها بالنبات. وقد استدرك ها هنا ما قال في قوله: فليس يفوتها إلا الكرام.
ثم قال: وبها الجبلان. فقال: وإن كان هذا الكريم فيها فليس هو من أهلها لأن أهلها لئام، وإنما يجتاز فيها كاجتياز السحاب.
سقى الله ابن منجبةٍ سقاني ... بدرٍّ ما لراضعه فطام
أنجبت المرأة: إذا ولدت نجيباً، فهي منجبة وابن منجبة هو الممدوح. والنجيب: الكريم السليم من العيوب.
يقول: سقى الله ابن منجبةٍ وهو الذي سقاني بدرٍّ وخير كثير، ما لراضعه فطام: أي لأن نعمته دائمة لا تنقطع، بل تتصل وتدوم.
ومن إحدى فوائده العطايا ... ومن إحدى عطاياه الدوام
روى: من وهي للممدوح وهو بدل من قوله: ابن منجبة. فتكون في موضع نصب. وروى: من فتكون للتبعيض.
يقول: له فائدة من فوائد العلا والجاه، فإذا أعطي عطية جعلها دائمة، والدوام بعض عطاياه المشكورة.
فقد خفي الزمان به علينا ... كسلك الدر يخفيه النظام
روى: به فيكون للممدوح. وروى: بها فيكون راجعاً إلى العطايا. وله معنيان: أحدهما: أن الزمان والشدائد صارت مغمورة مستورة بهذا الرجل وبعطاياه، لاشتمال هذا الرجل وعطاياه على الزمان وشدائده، فلا يظهر للزمان تأثير بالإضافة إليه وإلى عطاياه، كما أن الدر إذا نظم في السلك فإنه يخفي السلك ويستره لاشتماله عليه ولنفاسته.
والمعنى الثاني: أن قبح الزمان وخسة أهله صارت خافية بحسن كرمه وعطاياه.
يعني: أن كرمه صار جابراً لمعايب الدهر ومعايره. وهذا مثل.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
المروءة: مصدر مرؤ، كالإنسانية. والغرام: قيل هو العذاب وأصله من المشقة.
يقول: إن المروءة لذيذة له مع أنها تؤذي صاحبها؛ لما فيها من تفريق المال وتحمل المشاق، فهو يلتذ بها لعشقه لها، كما أن العاشق يتلذذ بالغرام، وما يجد من ألم الشوق وحرق الهوى. وهذا أيضاً مثل.
تعلقها هوى قيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقام
يقول: عشق هذا الممدوح المروءة، كما عشق قيس بن الملوح، الملقب بالمجنون لليلى العامرية، ولكنه واصل المروءة المعشوقة، فليس لها سقام العشق. مثل ما كان لقيس في عشق ليلى؛ لأن السقام إنما يكون من الهجر وعدم الوصال، فهو لما واصلها لم يجد السقام. وهذا أيضاً مثل.
يروع ركانةً ويذوب ظرفا ... فما يدري: أشيخٌ أم غلام!

ركانةً وظرفاً: نصب على التمييز. وقوله: أشيخ مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره: أشيخ هو أم غلام؟ والجملة في موضع نصب بقوله: فما تدري، والركانة: الوقار والثبات.
يقول: إذا نظرت إليه راعك وقاراً وهيبة، وإذا راعيته راعك بظرفٍ وحسن خلق، فله ركانة الشيوخ وظرافة الأحداث.
وتملكه المسائل في نداه ... فأما في الجدال فما يرام
المسألة تستعمل في سؤال العطاء، وسؤال العلم، فلما أراد هاهنا سؤال العطاء، بين ما يزيل الشبهة فقال: تملكه مسائل السائلين، وإذا سألوه المال فلا يمكنه ردهم، فأما إذا سألوه مسائل العلم والجدال، فلا يرومه أحد. يمدحه بالسخاء والعلم.
وقبض نواله شرفٌ وعزٌّ ... وقبض نوال بعض القوم ذام
ويروى: وفيض نواله. وهو الأولى. والذام: العيب. يقول: أخذ نواله شرف لنا وعز، لكرمه وفضله وأخذ عطايا بعض القوم وهم سقاط: عيبٌ. ومثله:
عطاؤك زينٌ لامرىءٍ إن حبوته ... بخيرٍ وما كل العطاء يزين
أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمام
الحمام: في أصل اللغة، عبارة عن كل طائر ذي طوق.
يقول: نعمه لازمة للناس، مثل الأطواق للحمام. فنعمه كالأطواق، والناس كالحمام وأخذ هذا بعض المتأخرين فقال.
ترك الناس حماما هتفاً ... بنداه تحت أطواق المنن
إذا عد الكرام فتلك عجلٌ ... كما الأنواء حين تعد عام
الأنواء: جمع نوء وهو سقوط نجم من منازل القمر في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله وذلك في كل ثلاثة عشر يوماً، وبانقضائها تنقضي السنة.
يقول: إذا عد الكرام فهم بنو عجلٍ دون غيرهم، فكأن الكرام اسم لهم خاص، كما أن الأنواء تكون عاماً، فلا عام إلا ذو أنواءٍ وما الأنواء إلا نفس العام، فكما أن الأنواء لا تنفصل عن العام، كذلك الكرم لا يزايلهم.
تقى جبهاتهم ما في ذراهم ... إذا بشفارها حمى اللطام
تقى: أي تحفظ، وتمنع. وذراهم: ناحيتهم. والشفار: جمع الشفرة، وهي حد السيف والهاء في فيها: ضمير السيوف وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: هو ضمير عجل. واللطام: كناية عن الضراب. وحمى: أي اشتد.
يقول: إن جباههم تصون وتدفع عن أموالهم وحريمهم، والحرم: المستجيرون في شدة المحاربة، وهو حين اشتداد حد السيوف للضراب.
ولو يممتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا
يقول: لو قصدتهم يوم القفيامة مجتدياً معروفهم، لأعطوك صلاتهم وصيامهم: أي ثوابها مع شدة الحاجة إلى الطاعة في ذلك اليوم واختاروا لأنفسهم النار؛ كراهة رد المستميح، إذ ليس هناك أموال. وهذا مأخوذ من قول الآخر.
ولو بذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
ولو لم يجد في العمر قسماً لزائر ... لجاد له بالشطر من حسناته
فإن حلموا فإن الخيل فيهم ... خفافٌ والرماح بها عرام
العرام: الجهل والطيش.
يقول: إن كانوا حلموا حلم ذو رزانة وسكون، فخيلهم تخف ولا تحلم، وتسرع في العدو، وفي رماحه خفة ونزق، أي هم جهال في الحروب. ومثله للفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... ويزيد جاهلنا على الجهال
وعندهم الجفان مكللاتٌ ... وشذر الطعن والضرب التؤام
المكللات: التي أديرت عليها اللحم مثل الإكليل. وشزر الطعن: إذا كان عن يمين وشمال، وأراد بالتوام هنا: متابعة الضرب، مكان الواحد اثنان.
يقول: إنهم يقرون الضيف بالجفان المكللات باللحوم، ويطعنون أعداءهم شزراً في الحروب، ويضربونهم ضرباً متتابعاً، وهذا من قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
نصرعهم بأعيننا حياءً ... وتنبوا عن وجوههم السهام
يقول: إذا سألناهم استحيوا من نظرنا إليهم، فكأنا صرعناهم فنأخذ منهم ما نسأله، وهم في الحروب لا يؤثر السلاح في وجوههم. يصفهم بالحياء عند المسألة والوقاحة عند الحرب. وحياءٌ: نصب على التمييز. وقول ليلى الأخيلية أبلغ من هذا وهو:
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخفان خادر
قبيلٌ يحملون من المعالي ... كما حملت من الجسد العظام

يقول: هم جماعة يتعاونون على القيام بالمعالي، ويحملونها كما تعاونت العظام على حمل الجسد، فقوام المعالي ونظامها بهم، كما أن قوام الجسد وثباته بعظامه وهذا مثل.
قبيلٌ أنت أنت، وأنت منهم ... وجدك بشرٌ الملك الهمام
تقديره: قبيل أنت منهم، وأنت منهم، وأنت أنت.
يقول: إن بني عجل قبيلة أنت منهم، وأنت أنت: أي أنت المشهور، ولك المحل العظيم. وهذا تفخيم لشأنه، وجدك المسمى: بشرٌ، منهم، وهو الملك الهمام. أي كفاهم شرف كونك وجدك منهم.
لمن مالٌ تمزقه العطايا ... ويشرك في رغائبه الأنام؟
الرغيبة: وهي المال النفيس. والرغائب: جمع الذي يرغب فيه.
يقول: ليس مال تفرقة العطايا ويشرك جميع الخلق في رغائبه غير مالك، وهذا مفهوم من الكلام؛ لأن من يدل عليه: فعلى هذا يكون البيت مستقلاً بنفسه، ويجوز أن يكون معنى البيت الذي يليه متصلاً به، فيكون فيه معنى التضمين.
ولا ندعوك صاحبه فترضى ... لأن بصحبةٍ يجب الذمام
يقول: أنت لا ترضى بأن تدعى صاحب المال الذي وصفته، لأن الصحبة مما توجب مراعاة حقه، وذلك يمنع من تفريقه. والمعنى الثاني: لمن المال الذي تفرقه العطايا، ويشرك فيه الناس، لا يدعوك صاحبه فترضى أنت به؛ لأنك إذا أقررت بأنك صاحبه فيلزمك حفظه.
تحايده كأنك سامريٌّ ... تصافحه يدٌ فيها جذام
تحايده: أي تتجنبه وتميل عنه إلى جانب آخر. والهاء ضمير المال. وفي تصافحه: يجوز أن تكون للمال، ويجوز أن يكون للسامري. والسامري يجوز أن يكون اسم السامري المذكور في القرآن، ويجوز أن يكون منسوباً إليه. وكل اسم في آخره ياء مشددة، إذا نسب إليه حذفت الياء منه، وألحقت به ياء النسبة، كما لو نسبت إلى كرسي، قلت: رجل كرسي. والجذام: الأكلة التي تقع في اليد.
يقول: إنك تتجنب من مالك، فكأنك السامري، الذي اتخذ العجل والال بمنزلة اليد الجذماء، والسامري لا تمسه يد فكيف الجذماء! لأن الله تعالى قال في حقه " لا مساس " والأولى أن المراد به المنتسبون إليه بالشام. وهم قوم من ولده يستقذرون الناس ولا يخالطونهم تعززاً منهم، ويغسلون ثيابهم إذا أصابهم الناس فيقول: إنك تتجنب أن تمس مالك فكأنك منتسب إلى هؤلاء القوم لأن السامري إذا كان يتجنب أن تمسه اليد السليمة، كان من اليد الجذماء أشد اجتناباً. والغرض: أنه يفرق ماله.
إذا ما العالمون عروك قالوا ... أفدنا أيها الحبر الإمام
عروك: أي قصدوك، وأتوك. والحبر: العالم.
يقول: العلماء إذا سألوك عن العلم واستفادوا منك قالوا: أفدنا أيها الإمام في العلم.
إذا ما المعلمون رأوك قالوا ... بهذا يعلم الجيش اللهام
المعلم: من جعل لنفسه علامة ليعرف بها، وتلك علامة الشجعان. واللهام: هو الجيش العظيم.
يقول: إن الشجعان إذا رأوك قالوا: بهذا يعلم الجيش. أي أنه ليس فيهم أشهر منه فكأنه قال: هو علامة الجيش وزعيم الجيش وفارسه المشهور.
لقد حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
وروى: في فم الزمن. يعني أن أوقات الزمان حسنت لكونك فيها، كما يحسن وجه الإنسان بالابتسام في الفم.
وأعطيت الذي لم يعط خلقٌ ... عليك صلاة ربك والسلام
يقول: إنك أعطيت ما لم يعط أحد من المخلوقين، فعليك صلاة الله تعالى، وهي الرحمة منه، وعليك سلامه، أي تحيته.
الجزء الثانيوقال يمدح أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي المالكي:
لجنيةٍ أم غادةٍ رفع السجف! ... لوحشيةٍ؟ لا، ما لوحشيةٍ شنف
الشنف: ما يعلق في أعلى الأذن. والقرط ما يعلق على شحمة الأذن. والسجف: الستر، وهو جانب البيت. وقوله: لجنية أراد ألجنيةٍ؟ إلا أنه حذف ألف الاستفهام، لدلالة أم عليها يجوز أن تكون أم منقطعة، وتكون بمعنى بل وفي الكلام حذف تقديره: لجنية رفع السجف أم لغادة رفع السجف؟ فحذف من الجملة الأولى لدلالة الثانية.

ومعنى البيت على الخبر كأنه يقول مخبراً: لجنية رفع السجف ثم أضرب وقال: بل لغادة رفع السجف. بل قال: لا يرفع هذا الستر لجنية ولا لغادة بل رفع لوحشية، ثم رد على نفسه ذلك فقال: ما رفع لوحشية إذ ليس للوحشية شنف، فكأنه نفى أن يكون تشبيهه للمحبوبة بسائر ما شبه به النساء. ومعناها على الاستفهام، أنه نظر إلى محبوبته وقد رفع عنها ستر قبتها، فحيره حسنها، فلم يدر أجنيةٌ هي؟! أم غادة ناعمة؟ فقال: هذا الستر المرفوع لجنية أو غادة أو وحشية ثم استدرك فقال لو كانت وحشية لم يكن لها شنف.
نفورٌ، عرتها نفرةٌ فتجاذبت ... سوالفها والحلى والخصر والردف
نفور: أي تنفر عن الريبة. عرتها: أي أصابتها، وغشيتها. والسالف: مقدمة صحفة العنق، وجمعها سوالف.
يقول: هذه الجارية نفور فلئن رمقن طرفاً إليها، نفرت منا، فتجاذبت هذه الأشياء، لأن سوالفها كانت ناعمة، وحليها كان ثقيلاً والخصر كان دقيقاً، والردف كان ثقيلاً وما أشبه ذلك.
وخيل منها مرطها، فكأنما ... تثنى لنا خوطٌ ولاحظنا خشف
خيل: من التخيل، وهو الاضطراب، والفساد فكأنه قال: وأفسد، وفاعله المرط: وهو كناية عن الذي تلبسه نساء العرب مكان الإزار.
يقول: لما نظرنا إليها نفرت منا فتعثرت في مرطها فاضطرب عليها ثوبها. ثم شبهها في تلك الحالة بالغصن الرطب، وبالخشف فقال: كأنما تمايل لنا مرط بانٍ؛ لاعتدالها وحسنها وكأنما لاحظنا خشفاً لحسن عينيها وروى: ولاح لنا خشف.
زيارة شيبٍ وهي نقص زيادتي ... وقوة عشق وهي من قوتي ضعف
تقديره: أمري زيادة شيب، وأمري قوة عشق. فيكون خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون تقديره: شكواي زيادة عشق. ويجوز نصبه على إضمار فعل محذوف. أي أشكو زيادة شيب، ويمكن أن يكون المضمر هي تقديره: هي زيادة شيب.
يقول: شيبني الهوى فكلما زاد شيبي زاد جسمي نقصاً، وكلما قوي عشقي، ضعفت قوتي، فالزيادة نقصان، والقوة ضعف.
هراقت دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حلف
الحف، والحليف: الصاحب المحالف الملازم.
يقول: سفكت دمي الجارية التي تحبني، مثلما أحبها، وبها من الوجد ما بي، والشوق لي ولها ملازم ومصاحب. والباء الأولى متعلقة بها، والثانية بالوجد.
ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثياباً غيرها الشعر الوحف
الشعر الوحف: هو الكثير الملتف الشديد السواد.
يقول: هراقت دمي من كلما عريتها من ثيابها، ألبسها الشعر الكثير ثياباً غير الثياب التي عريتها منها. ومثل هذا قول بكر بن النطاح.
بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم
وقابلني رمانتا غصن بانةٍ ... يميل به بدرٌ ويمسكه حقف
الحقف: الكثيب من الرمل المعرج. شبه ثدييها برمانتين وقدها بغصن البانة. وجعل الرمانتين على غصبن بانة، ليكون أعجب وأحسن؛ لأن البان لا يحمل الرمان. وشبه وجهها: بالبدر. وردفها: بالكثيب، وهذا من تمام قوله: هراقت دمي.
أكيداً لنا يا بين؟ واصلت وصلنا ... فلا دارنا تدنو ولا عيشنا يصفو
أكيداً؟ نصب على المصدر أي أتكيد كيداً.
يقول: يا بين، واصلت، وفرقت بيننا، فارتفع الوصل فكأنك كدتنا فتركتنا لا تدنو دارنا، ولا يصفو عيشنا، والكيد: اتصال الضرر بالغير من حيث لا يعلم.
أردد ويلي لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر لهفي لو شفى غلةً لهف
روى: ويلي ولهفي على الإضافة إلى ياء المتكلم. وروى: ويلا ولهفا بالألف. وهي: إما بدل من الياء، وإما على الندبة.
ويل: دعاء للشر. واللهف: شدة الحزن. يقول: أردد هاتين الكلمتين على لساني، ومعناهما في قلبي، فلو نفع ذلك لنفعني، وقضى حاجتي، وشفى غلتي، فيكون على هذا جواب لو محذوفاً، ويجوز أن يجعل أردد فأكثر، فجواب لو تقديره: لو قضى الويل حاجةً، لكنت أردد الويل، ولو شفى اللهف غلة كنت أكثر ذكره.
ضنىً في الهوى كالسم في الشهد كامنٌ ... لذذت به جهلاً وفي اللذة الحتف
الشهد: العسل في الشمع. والضنى: الهزال والألم. والحتف: الهلاك.
يقول: الألم كامن في الهوى، كالسم إذا كمن في العسل، فيلتذ العاشق بالهوى، كالعسل الممزوج بالسم، يجد الإنسان حلاوته وفيه هلاكه.

فأفنى، وما أفنته، نفسي كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
يجوز في قوله: وما أفنته نفسي. تقديران.
أحدهما: أن ينصب نفسي بالفعل الأول. تقديره. فأفنى الضنى نفسي وما أفنته، فيكون الضنى فاعله، ونفسي مفعوله.
والثاني: أن ترفع نفسي بالفعل الثاني ما أفنته وتكون التاء مخبرة لتأنيث الفعل، ليست بضمير، وتحذف المفعول من الفعل الأول وهو المختار عند البصريين، لأن إعمال الثاني أولى لقربه من الاسم.
يقول: إن الضنى أفنى نفسي وأهلكها ولم تفنه نفسي، حتى كأن هذا الممدوح كهف الضنى دون النفس، فيمنع نفسي من أن تصل إليه. والمراد: أنه كهف له، وملجأ لنفسي وكيف يقدر الهوى على إفناء نفسي؟!
قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ... كآرائه ما أغنت البيض والزغف
البيض: الأولى السيوف، والبيض الثانية: جمع بيضة، وهي الترك. والزغف: الدروع اللينة. وقيل: هي الطويلة.
يقول: إنه قليل النوم، صلب الرأي، فلو كانت البيض والرماح مثل رأيه في المضاء لم ينفع معها المغافر والدروع. والعرب تمتدح بقلة النوم.
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
التقطيب: تعبيس الوجه.
يقول: إنه شجاع، فصيح، فعبوس وجهه في الحرب يقوم مقام العسكر في هزم الأعداء. وحرف من لفظه، يستفاد منه ما يستفاد من اللفظ الكثير من غيره. فكأن حرفه يستغرق جميع الألفاظ!
وإن فقد الإعطاء حنت يمينه ... إليه حنين الإلف فارقه الإلف
يقول: إنه لا يفتر عن العطاء، وإذا لم يعط في حال، حنت يمينه، واشتاقت إلى الإعطاء، كما يشتاق الصديق إلى صديقه بعد فراقه.
أديبٌ رست للعلم في أرض صدره ... جبالٌ جبال الأرض في جنبها قف
فاعل رست: جبالٌ. والقف المرتفع من الأرض.
يقول: هو أديب رست في صدره جبال العلم، التي هي إذا قيست جبال الأرض إليها صغرت في جنبها، كالقف إلى جنب الجبال. شبه العلوم التي في صدره بالجبال ثم فضلها على جبال الأرض.
جوادٌ سمت في الخير والشر كفه ... سمواً أود الدهر أن اسمه كف
متعدٍّ من ود: معنا. حمل الدهر على أن يود ويتمنى، وفاعله ضمير السمو، ومفعوله الدهر، والهاء في اسمه: للدهر، وفي كفه: للممدوح.
يقول: كفه قد علت في فعل الخير والشر، والنفع والضر، سمواً يتمنى الدهر أن يكون اسمه كفاً ليشاركه في الاسم، وإن فارقه في المعنى.
وأضحى وبين الناس في كل سيدٍ ... من الناس، إلا في سيادته خلف
أي بين الناس في سيادة كل سيد خلاف، إلا في سيادته، فإن الناس اتفقوا على أنه سيد.
يفدونه حتى كأن دماءهم ... لجاري هواه في عروقهم تقفو
يقول: يفديه الناس بأنفسهم، لتمكن حبه في قلوبهم، فكأن هواه جرى في عروقهم قبل جريان الدم فيها، وكأن دماءهم تتبع ما جرى في عروقهم من المحبة قبل جريان الدماء فيها. واللام في قوله: لجاري هواه يجوز أن تكون معناه: من أجل جاري هواه في عروقهم كأنه دماء تقفو، ومفعول تقفو محذوف على هذا، وهو في وهذا لجاري، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: لجاري وهواه فيكون المفعول مقدماً على الفعل. والفعل معداً إليه باللام لتقدمه على الفعل، كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " فتقديره: تقفو الدماء جاري هواه في العروق.
وقوفين في وقفين: شكرٍ ونائلٍ ... فنائله وقفٌ، وشكرهم وقف
وقوفين قيل: نصب بإضمار فعل. أي أذكر وقوفين. وقيل: على الحال من يفدونه وقيل من قوله تقفوا وقيل من قوله: بين الناس إلا في سيادته خلف في هذا الحال. وتقديره: رأيتك راكبين، أي أنا راكب، وأنت راكب.
يقول: إن الممدوح والناس واقفين وقفاً فالممدوح واقفٌ نائله على الناس. والناس واقفون شكرهم عليه. فجعل الممدوح مقابل الناس. فنائله وقفٌ على الناس كلها، وشكرهم وقف عليه وحده.
ولما فقدنا مثله دام كشفنا ... عليه، فدام الفقد وانكشف الكشف
قال ابن جنى: عليه بمعنى: عنه والهاء فيه: تعود إلى مثله. ومعناه: إنا لما لم نجد مثله طلبناه لعلنا نجده فدام كشفنا مدةً عن مثله، ثم لما لم نجد مثله دام الفقد بعد ذلك، وانقطع الكشف، على ألا ننظر له. ويجوز أن يكون بمعنى: له. والهاء للمدوح. فكأنه يقول: دام كشفنا لمثله وباقي الكلام على وجهه.

وما حارت الأوهام في عظم شأنه ... بأكثر مما حار في حسنه الطرف
يصفه بعظم شأنه وحسن وجهه.
يقول: ما تحيرت العقول في عظم حاله أكثر مما تحير البصر في حسن وجهه، فهما متساويان.
ولا نال من حساده الغيظ والأذى ... بأعظم مما نال من وفره العرف
الوفر: المال الكثير. والعرف: المعروف.
يقول: لم ينقص الغيظ والأذى من أبدان حساده، أكثر مما نقص الجود من ماله.
تفكره علم، ومنطقه حكمٌ ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
الحكم: الحكمة. ومعناه ظاهر.
اعلم أن العروض الطويل إذا لم يكن مصرعاً لا يجيء إلا من مفاعلن مقبوضة فأما مفاعيلن على ما جاء في هذا، فإنما يؤتى به في المصرع فقط. والتصريع: هو إعادة القافية.
عذره من وجهين: أحدهما: أن هذا وإن كان هو الأكثر، فقد جاء في مثل هذا عن العرب، ألا ترى أن الكامل لا يكون عروضه مفعولن إلا في المصرع، وقد جاء عن العرب مفعولن في الكامل من ذلك قول ربيع بن زياد.
ومجنبات ما يذقن عدوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار
والثاني: أن مفاعيلن، أصل العروض الطويل، فيكون قد رجع هاهنا إلى الأصل لضرورة الشعر، لأنه إذا جاز الخروج عن أصل الكلمة للضرورة، فالرجوع إلى الأصل أولى.
وروى: ومنطقة حجا، وروى: تقى.. وهذا لا اعتراض عليه.
أمات رياح اللوم وهي عواصفٌ ... ومغنى العلا يودي ورسم الندى يعفو
المغنى: المنزل. ويودي: أي يهلك، ويدرس. والواوات للحال.
يقول: رياح اللؤم في حال عصوفها وشدتها، كاد منزل العلا يهلك بتلك الريح، ورسم الجود يعفو ويدرس بها، والمراد بها، والمراد أنه: أعاد المعالي والجود بعد ذهاب دولتها.
فلم نر قبل ابن الحسين أصابعاً ... إذا ما هطلن استحيت الديم الوطف
الديم: جمع ديمة، وهي مطر يدوم أياماً من غير ريح، ولا رعد، وأقله نصف يوم وأكثره خمسة أيام. والوطف جمع الوطفاء: وهي السحابة المتدلية الأطراف، الدانية من الأرض. وقوله: قبل ابن الحسين أراد قبل أصابع ابن الحسين، فحذف المضاف ويجوز أن يكون أخبر بالجملة عن البعض.
المعنى: أصابع هذا الرجل إذا ما هطلن بالعطايا، زادت على هطل السحاب الوطف، حتى نستحي من أصابعه.
ولا ساعياً في قلة المجد مدركاً ... بأفعاله ما ليس يدركه الوصف
يقول: ما رأينا ساعياً غاية المجد، فأدرك بفعله ما لا يدركه الوصف، إلا هذا الممدوح: فإنه أدرك من المجد ما لا يوصف.
ولم نر شيئاً يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف
العبء: الحمل الثقيل. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ما رأينا شخصاً يحمل المغارم، ومؤن العفاة والحلم والوقار مثل ما يحمله الممدوح. وهو مع ذلك يستصغر الدنيا لعظم همته، ومع ذلك يحمله طرف.
ولا جلس البحر المحيط لقاصدٍ ... ومن تحته فرشٌ ومن فوقه سقف
فرش: روى بالفتح وبالضم، فالفتح: مصدرٌ في معنى المفروش. والضم: جمع فراش. والبحر المحيط: هو البحر الأعظم الذي يحيط بجميع الأرض.
يقول: هو بحر؛ لكثرة جوده وما رأينا بحراً قط جالساً لقاصد، وتحته فرش وفوقه سقف.
فواعجباً مني أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيس والصحف
القرطاس: شيء يستعملونه بدل الكاغد. كان من قشورٍ بيض. والصحف: جمع صحيفة وهي الكتب.
يقول: أتعجب من نفسي حيث أطلب استيفاء وصفة في الشعر، والقراطيس، مع أن وصفه يستغرق جميع القراطيس والصحف!
ومن كثرة الأخبار عن مكرماته ... يمر له صنفٌ، ويأتي له صنف
روى: الأخبار بفتح الهمزة وكسرها، الفتح هو الجمع، والكسر مصدر أخبر.
يقول: من كثرة ذكر الممدوح في الآفاق يأتيه صنف من الناس، ويصدر عنه صنف آخر.
وتفتر منه عن خصالٍ كأنها ... ثنايا حبيبٍ لا يمل لها الرشف
تفتر فاعله ضمير الأخبار أي تنكشف من هذا الممدوح، عن خصال حميدة حلوة لا يمل ذكرها، فكأن تلك الخصال ثنايا الحبيب التي لا يمل ترشفها ومصها. يعني: أن خصاله مستطابة كاستطابة رشف المحبوب.
قصدتك والراجون قصدي إليهم ... كثيرٌ، ولكن ليس كالذنب الأنف
قصدي: في موضع نصب، لأنه مفعول، والراجون: فاعله. أي الذين يرجون قصدي إليهم كثير، ولكن أنت كالأنف، وغيرك كالذنب، وليسوا سواء. والراجون قصدي نصب على الحال.

ولا الفضة البيضاء والتبر واحداً ... نفوعان للمكدى وبينهما صرف
واحداً نصب لأنه خبر ليس. ونفوعان: خبر ابتداء محذوف. أي هما نفوعان. والمكدى: المحروم. وهذا البيت من تمام البيت الذي قبله.
يقول: قصدتك ولو قصدت غيرك لوجدت عنده خيراً، ولكنك أكرم وأكثر عطاء من غيرك، فليس الذهب والفضة سواء وإن نفعا الطالب المحروم، ولكن أنت كالذهب وغيرك كالفضة.
ولست بدونٍ يرتجى الغيث دونه ... ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
بدونٍ: أي قليل صغير المقدار. وهو اسم يثنى ويجمع. ودونه: نصب على الظرف، وخلف. اسم غير ظرف.
يقول: لست بدون الناس فيبعد عنك العاني، ويرجو الغيث دونك أي سواك بل أنت أفضل من الغيث وأجود، ولأنت في الجود غاية ما خلفها غاية أخرى بل أنت النهاية التي ليست وراءها نهاية فكيف تقصد غيرك؟!
ولا واحداً في ذا الورى من جماعةٍ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف
يقول: ليس واحداً في هذا الخلق من جماعة، ولا بعضاً من جميع الناس، ولكنك مثليهم، لأن الضعف مثل الشيء مرتين.
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
ضعفه: رفع لأنه فاعل يتبع ومفعوله الضعف ويجوز على العكس من ذلك وقوله: ولا الضعف نصب لأنه معطوف على خبر ليس، ومثله: نصب لأنه صفة نكرة مقدمة عليها، فنصب على الحال، والنكرة ألف والهاء في مثله: ترجع إلى ضعف الضعف ومعناه أنه أكثر من الخلق ثناءً ألف مرة
أقاضينا! هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: إن الذي قلته أنت أهله، ثم قال: قد غلطت في ذلك، بل ما قلته ليس بثلثي ما تستحقه ولا نصفه بل هو أقل من ذلك.
وذنبي تقصيري وما جئت مادحاً ... بذنبي ولكن جئت أسأل أن تعفو
يعتذر من تأخيره الخدمة والمدح.
فيقول: ذنبي وتقصيري وما جئت مادحاً، ولكن جئت أسأل أن تعفو عن ذنبي في التقصير، وتقديره وما جئت مادحاً، بل جئت بذنبي أسأل أن تعفو ما تقدم. وقيل معناه: إني لم أقصدك مادحاً بذنبي، إني مقصر وكيف أمدحك بما يعد من ذنبي؟! وهو التقصير في مدحك، وإنما جئتك أسأل العفو عن تقصيري.
وقال يمدح علي بن منصور الحاجب ويصف جيشه
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
الشموس: رفع بالابتداء. وخبره قوله: بأبي ويدل عليه الباء. تقديره: الشموس مفدية بأبي. والجانحات: المائلات. وغواربا. نصب على الحال. والجلابب، أصلها جلابيب، فحذف الياء ضرورة. وهي جمع جلباب: وهي الملحفة. وقيل: ثوب أوسع من الخمار.
يقول: أفدي بأبي نساءً كالشموس مائلات إلى الغروب يعني أنهن تهيأن للغروب والخروج للغيبة في الهوادج، والخروج إلى المقاصد، وأنهن كن يلبسن الثياب، والملاحف من الحرير. يصف تنعمهن وغناءهن. وقيل: أراد بقوله: غوارب أنهن كن يلبسن المصبغات بالحمرة، فكن كالشمس في حمرة الشفق.
المنهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا
نهبت المال: أخذته وأغرت عليه. وأنهبته: أي أمكنته من نهبه وجعلته نهباً له. فنهبت: يتعدى إلى مفعول واحد. وأنهبت: إلى مفعولين، فأحد المفعولين للمنهبات. عيوننا وقلوبنا: عطف عليه. والمفعول الآخر: وجناتهن. والناهبات: صفة لوجناتهن. والناهب: مفعول الناهبات. وهذا الناهب: ينهب وجنات النساء.
يقول: إنهلن جعلن وجناتهن ناهبات لعيوننا وقلوبنا! فهذه الوجنات هي الناهبات الناهب، وهو الذي ينظر إليهن فينهبها بالنظر، والوجنات تنهب قلبه وعينه.
وقيل: أراد أنهن جعلن وجناتهن ناهبة لقلوبنا وعيوننا، فهذه الوجنات تنهب الناهب: أي الرجل الشجاع الذي يغير على الأعداء.
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلال غرائبا
ناعمات: أي لينات المعاطف والقاتلات: أي بالهجر. والمحييات: أي بالوصل. المبديات: أي المظهرات من الدلال: وهو الغنج والتحكم. غرائبا: أي عجائب.
حاولن تفديتي وخفن مراقباً ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا
الترائب: جمع التريب، وهو موضع القلادة من الصدر.

يقول: أردن أن يقلن: جعلنا الله فداك، فخفن من الرقيب فوضعن أيديهن على ترائبهن، فإن من أراد أن يفدي غيره وضع يده على صدره. وقيل معناه: إنهن لما منعن من التفدية، وضعن أيديهن فوق صدورهن من الحزن والوجع؛ تسكيناً لقلوبهن مما فيها من ألم الفراق.
وبسمن عن بردٍ خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
يقول: ضحكن عن ثغر مثل البرد، صفاءً ورونقاً، فخشيت أن أذيب هذا البرد من حر أنفاسي لما فيها من شدة الحزن، فكأنها النار، فكنت حينئذ أنا الذائب دون البرد، وبقي البرد عل حالة وذبت أنا.
يا حبذا المتحملون وحبذا ... وادٍ لثمت به الغزالة كاعبا
حبذا: كلمة تدل على حصول المحبة في قلب المتكلم، وهو اسم موضوع لذلك، وهو في موضع الرفع بالابتداء والمتحملون: خبره. والمنادى هو: حبذا أدخل فيه النداء تأكيداً وكأنه يقول: يا حبذا المتحملون. وقيل: المنادى محذوف. أي يا قوم حبذا المتحملون. والغزالة: اسم من أسماء الشمس. والوادي: مجرى السيل في البادية.
يقول: ما أحب إلي هؤلاء المتحملون! وما أحب إلي الوادي الذي قبلت فيه حبيبتي! فكأنني قبلت شمساً ناهدة الثديين، فلما استطاب هذا الوقت اشتاق إلى القوم الذين كانت هي فيما بينهم، وإلى الوادي الذي حصل فيه التقبيل، فكأنه يشير إلى أنه وإن منع من المحبة بخوف الرقيب اتفق له هذه الحالة المذكورة.
كيف الرجاء من الخطوب تخلصاً ... من بعد ما أنشبن في مخالبا!
تخلصاً: نصب بالرجاء لأنه مصدر، يعمل عمل الفعل، فكأنه يقول: كيف أرجو التخلص من حوادث الدهر وبلاياه، بعد أن تمكنت مني، وأدخلت في مخالبها! والتأنيث في أنشبن: للخطوب.
أوحدنني ووجدن حزناً واحدً ... متناهياً فجعلنه لي صاحبا
أوحدنني: يجوز أن يريد أن المحبوبات رحلن عني وتركنني وحيداً قريناً للحزن عليهن. ويجوز أن يكون ضمير الخطوب. أي خطوب الدهر فرقت بيني وبين أحبائي وافردتني منهم، ويجوز أن يريد: أوجدتني وحيداً، أو واحد أزماني.
يقول: إن خطوب الدهر أوجدتني على ما ذكرناه ووجدت حزناً وحيداً متناهياً في الشدة، فجعلنه لي صاحباً وقرنته بي! فأنا وحيد والحزن وحيد.
ونصبنني غرض الرماة يصيبني ... محنٌ أحد من السيوف مضاربا
يقول: إن الخطوب جعلتني هدفاً للشدائد، ورمتني بمحن تصيبني! وهي أحد من مضارب السيوف؛ لأن من أصابته السيوف ربما يبرأ، ومن أصابته المحن لا يبرأ.
أظمتني الدنيا، فلما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
أظمتني: أي أعطشتني. والأصل: أظمأتني بالهمزة. فقلبت الهمزة ألفاً، ثم حذفها لسكونا وسكون التاء بعدها.
يقول: أظمأتني الدنيا بما أصابتني من محنها، فلما سألتها أن تكشف عني بالراحة والرضا أزادتني بلاءً فأمطرت علي مصائباً.
وحبيت من خوص الركاب بأسودٍ ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
الخوص: جمع أخوص وخوصاء، وهو في البعير مثل الحول، إلا أنه أقل منه. وقيل: الخوصاء. الغائرة العين، وهو من أمارة الكرم. والدارش: ضرب من جلد الماعز، إذا كان مدبوغاً وتقديره: جئت بأسود من دارش ومن في قوله: من خوض الركاب. بمعنى: بدل. أي بدل ذلك.
يقول: أعطيت بدل الإبل، الخف والنعل الأسود، من جلد دارشٍ، فلبست ذلك، وغدوت أمشي راكباً: أي صرت راكباً عليه، وأنا ماشٍ في الحقيقة.
حالاً متى علم ابن منصورٍ بها ... جاء الزمان إلي منها تائباً
حالاً: نصب بفعل محذوف. أي أشكوا حالاً. أوأذكر حالاً. وقيل: نصب على الحال.
يقول: لي حالٌ لو علم ابن منصور بها لغيرها إلى ما هو أحسن منها. فيكون كأن الزمان ندم على إساءته إلي، وتاب منها. وقيل: أراد جاءني الزمان معتذراً مما جنى؛ لأنه يخاف أن ينتقم لي منه.
ملكٌ سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يتباريان: يعارض كلٌّ منهما صاحبه. والساكب: الجاري.
يقول: إن دم أعدائه يجري من سنان قناته، مثلما يجري معروفه من بنانه، فكأن كل واحد منهما يباري صاحبه وينافسه، في أن أيهما أكثر انسكاباً. ونصب عرفاً ودماً: على التمييز.
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا

يقول: إنه يستصغر ما يعطي القصاد من المال الكبير الخطر! حتى يظن أن دجلة مع كثرة فيضها، وغزارة مائها لا تكفي لشارب واحد.
كرماً فلو حدثته عن نفسه ... بعظيم ما صنعت لظنك كاذبا
نصب: كرماً على أنه مفعول لأجله أي يستصغره لأجل كرمه. وقيل: نصب على المصدر: أي كرم كرماً. عن ابن جنى.
يقول: إنه كريم يفعل أفعالاً عظيمة حتى لو حدثته عن أفعاله لظنك كاذباً، لعظم ما صنعت نفسه! ولا يعلم أنها صنعت ذلك؛ لاستعظامه إذا سمعه.
وهذا ليس بالمدح الجيد وهو إلى الجهل والغباوة أقرب.
سل عن شجاعته وزره مسالماً ... وحذار ثم حذار منه محاربا
حذار: أي احذر. وهو مبني على الكسر.
يقول: سل عن شجاعته لتعلم رجوليته والقه زائراً مسالماً؛ حتى تستفيد منه، واحذر أن تقصده وتجرب شجاعته مبارزاً، فإنه يهلكك ويقتلك للوقت، ولا تصل إلى مقصدك منه.
فالموت تعرف بالصفات طباعه ... لو لم تلق خلقاً ذاق موتاً آئباً
هذا تأكيد للبيت الذي قبله، ومعناه: أنه كما يموت من يحاوله، فتعرف أحوال شجاعته بالاستخبار، كما أن الموت تعرف صفاته وطباعه بالوصف لا بالتجربة، لأنك لا تلقى أحداً ذاقه ثم عاد، حتى تعرف حقيقته، فكذلك حاله والطباع: هي الطبع وهي مؤنثة. وقيل: هي جمع الطبع. وروى كالموت تعرف بالطباع صفاته أي يعرف الموت طبعاً ومشاهدة لا تجربة
إن تلقه لا تلق إلا جحفلاً ... أو قسطلاً أو طاعناً أو ضاربا
أو هارباً أو طالباً أو راغباً ... أو راهباً أو هالكاً أو نادبا
الجحفل: العسكر، وسمي به لكثرة الخيل فيه. والقسطل: الغبار. والنادب: المتفجع على أمر وقع فيه.
يقول: إذا لقيته لقيت عسكراً، أي يقوم مقام العسكر، أو يكون معه عسكر أو رأيت غباراً وطاعناً وضارباً؛ لأنه شجاع لا يكون إلا عند هذه الأمور. يجوز أن تكون هذه أحوال الممدوح أو هارباً: أي لا تلقاه إلا هارباً من قبيح، أو طالباً، لمكرمة أو راغباً إليه سفراً وحضراً، لا يفارقه السائل أو راهباً من بأسه، أو هالكاً بسيفه وسطوته، أو نادباً: أي متوجعاً ومتفجعاً؛ من إيقاعه به. وقيل نادباً: أي داعياً إلى القتال قائداً إليه من قولهم: ندبت فلاناً لهذا الأمر فانتدب.
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا
وإذا نظرت إلى السهول رأيتها ... تحت الجبال فوارساً وجنائبا
العواسل: الرماح المضطربة المهتزة. والجنائب: جمع جنيبة.
المعنى: أن عسكره ملأ السهل والجبل، فإذا نظرت إلى الجبال رأيتها فوق السهول كأنها رماح وسيوف، لكثرة ما عليها، وكأنها سترتها، فلا ترى سواها. وإذا نظرت إلى السهول قد امتلأت بفوارسه، وجنائبه، فكأنها صارت فوارس وجنائب.
وعجاجةً ترك الحديد سوادها ... زنجاً تبسم أو قذالاً شائبا
القذال: قذالان، وهما ما اكتنفنا القفا من يمين وشمال. يقول: رأيت عجاجةً. جعل سواد تلك العجاجة الحديد كأنها زنج أسود تبسم، أو قذالاً قد شاب. شبه لمعان السيوف في سواد الغبار، كتبم الزنجي حين يبدو بياض أسنانه من تحت سواده، أو بقذال قد شاب، فيلوح الشيب في وسط سواد الشعر وهو تشبيه عجيب.
فكأنما كسي النهار بها دجى ... ليلٍ وأطلعت الرماح كواكبا
روى: كسي أي ألبس. وروى: كسي أي لبس، فعلى هذا يقال: كسوته فكسي. والهاء في بها: للعجاجة.
يقول: كأن النهار بهذه العجاجة قد لبس ظلمة الليل، وكأن أسنة الرماح فيها بمنزلة الكواكب، فتكون الرماح قد أطلعت الكواكب، وهي أسنتها.
قد عسكرت معها الرزايا عسكراً ... وتكتبت فيها الرجال كتائبا
الهاء في معها وفيها: للعجاجة. وعكسرت: أي جمعت عسكراً وتكتبت: تجمعت.
يقول: قد جمعت المصائب جمع هذه العجاجة كعسكر لإهلاك أعدائه، وتجمعت في هذه العجاجة الرجال، فكانوا كتائب: أي قطعةً قطعة.
وإنما ذكر للرزايا عسكراً، وللرجال كتائب، لأن العساكر أكثر من الكتائب، فيدل على أن الرزايا أكثر على الأعداء من رجاله.
أسدٌ فرائسها الأسود يقودها ... أسدٌ يصير له الأسود ثعالبا

يقول: هؤلاء الرجال الذين في العجاجة أسود فرائسها الأسود. شبه أعداءه بالأسود أيضاً، ثم قال: يقود هذا الأسود أسدٌ، وهو الممدوح. تصير له جميع الأسود من جيشه وجيش عدوه بمنزلة الثعالب، فلا يقومون قدامه.
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
حذف التنوين من علي وأصله: علياً الحاجب، وإنما حذفه ضرورة؛ لسكونها وسكون اللام من الحاجب وقد قرىء: " قل هو الله أحد " بحذف التنوين من أحد.
يقول: إنه من الشرف في رتبة منع الناس عن الوصول إليها، وحجبهم عن نيلها، ثم علا إلى ما هو أعلى منها؛ فسمي لذلك علياً الحاجب. فكأنه سمي علياً لعلوه، وحاجباً، لأنه حجب الناس عن رتبته.
ودعوه من فرط السخاء مبذراً ... ودعوه من غصب النفوس الغاصبا
المبذر: الذي يفسد ماله بالتفريق.
يقول: أفرط في السخاء؛ فدعي مبذراً، وأكثر من غصب نفوس الأعداء؛ فسمي غاصباً.
ومخيب العذال فيما أملوا ... منه وليس يرد كفاً خائبا
يقال خيبه: إذا قطع أمله. وذكر الكف في قوله خائباً ذهاباً بها إلى العضو. كما قال الأعشى:
يضم إلى كفيه كفاً مخضبا
والذي زاده حسناً: أن الخائب هو صاحب اليد، فالمعنى يرجع إليه.
يقول: إنه يخيب عذاله. إذا عذلوه في سخائه ولا يرد سائلاً خائباً من عطائه.
هذا الذي أفنى النضار مواهباً ... وعداه قتلاً والزمان تجاربا
النضار: بالضم الذهب، وبالكسر الجمع. وهو جمع نضر، وهو المذهب.
يقول: هذا الممدوح هو الذي أفنى جميع الذهب بالمواهب، حتى لا يوجد شيء منه إلا وهو من مواهبه، وأفنى أعداءه فلم يبق منهم أحد، ولذلك أفنى الزمان تجارباً حتى لا يوجد زمان إلا وله فيه تجربة.
هذا الذي أبصرت منه حاضراً ... مثل الذي أبصرت منه غائبا
روى: مثل رفعاً ونصباً؛ فالرفع تقديره: أن يكون هذا مبتدأ أول والذي مبتدأ ثان. ومثل خبر الذي والجملة خبر هذا. والضمير في منه: يعود إلى هذا. وتقدير النصب: أن يكون هذا مبتدأ والذي خبره ونصب مثل بأبصرت، ونصب حاضراً وغائباً على الحال من الكرم والشرف، مثل ما كنت أسمعه وأنا غائب لا كالذي يزيد.
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
يقول: هو كالبدر، فمتى التفت إليه رأيت نوراً مضيئاً منه. يعني أن عطاءه يصل إلى الحاضر والغائب، وكذلك بهاؤه واشتهاره لا يخفى على أحد.
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
يقول: هو كالبحر من حيث ينتفع به القريب والبعيد، فالقريب ينتفع بجواهره، والبعيد ينتفع بالسحائب التي تنشأ من البخار، فتحمله الريح إلى البلاد القاصية. شبهه بالبحر؛ لعموم عطاياه، وشمولها القريب والبعيد.
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كبد السماء: وسطها. يقول إن عطاياه، وبهاءه، وذكره، بلغ القاصي، والداني. كالشمس فإنها تكون في وسط السماء وشعاعها يعم الأرض شرقاً وغرباً.
أمهجن الكرماء والمزرى بهم ... وتروك كل كريم قومٍ عاتبا
هجنت الرجل: نسبته إلى الهجنة، والعيب. وأزريت: إذا قصرت. والمقصر يهم بما يظهر من كرمه وتقدمه في خصاله الحميدة، ويا من يترك كل كريم قوم عاتباً عليه، لأنهم عجزوا عن شأوك. والعتب: أول الغضب.
يقول: يا من هجن عليك، لكونك فوقهم، ويجوز أن يكونوا عاتبين على أنفسهم حيث لم يكونوا مثله.
شادوا مناقبهم وشدت مناقباً ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا
شادوا: رفعوا. والمناقب: هي الأفعال الكريمة. والمثالب: الأفعال الذميمة.
يقول: إن مناقب الناس، إذا قيست إلى مناقبك، كانت تلك المناقب كالمخازي لهم.
لبيك غيظ الحاسدين الراتبا ... إنا لنخبر من يديك عجائبا
غيظ الحاسدين: نصب؛ لأنه منادى مضاف. ونصب الراتب؛ لأنه نعت له، والراتب: الثابت ونخبر أي نعلم، ونرى ونجرب فنعلم.
كأن الممدوح دعاه، لما انتهز بما شهر من إحسانه وفضله، أو دعاه حقيقة، فأجابه. فقال لبيك يا من تغيظ الحساد، فيبقى الغيظ في قلوبهم غير زائل عنها. إنا لنعلم ونرى عجائب من يديك ضرباً وطعناً وسجناً وكناية يعجز الناس عن بلوغه، وجعل البيت، مصرعاً؛ لأنه انتقل من المديح إلى الإجابة.

تدبير ذي حنكٍ يفكر في غدٍ ... وهجوم غرٍّ لا يخاف عواقبا
الحنك: التجارب، ويجوز في تدبير، وهجوم: الرفع على خبر الابتداء المحذوف، كأن قائلاً قال: ما تلك العجائب؟ فقال: هي تدبير ذي حنك وهجوم غرٍّ، أو على الابتداء وحذف الخبر المقدم عليه، أي له تدبير ذي حنك. والنصب: بدلاً من عجائب. والغر: الذي لم يجرب الأمور.
يقول: له في السياسة تدبير ذي الرأي والتجربة، وفي الحروب إقدام الغر، الذي لم يجرب الأمور فلا يخشى العاقبة.
وعطاء مالٍ لو عداه طالبٌ ... أنفقته في أن تلاقي طالبا
روى: عطاء رفعاً ونصباً، على ما ذكرناه عداه: جاوزه من غير أن يأخذه.
يقول: له عطاء مال لو جاوزه طالب، لبذل ذلك المال في تحصيل من يطلبه ليأخذه.
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا
قصر ثناي: وهي واجبه المد قصر للضرورة وما أسطيعه: أصله ما أستطيعه، فحذف استخفافاً.
يقول: خذ من ثنائي عليك ما أقدر عليه، ولا تلزمني في مدحك ما تستحقه ويجب لك فليس ذلك في وسعي ولا يجب أن يحيط به وهمي وخاطري.
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
دهش الرجل: أي تحير، ودهشته وأدهشته: إذا حيرته.
يقول: خذ ما أقدر عليه وإلا تلزمني الواجب؛ لأني قد دهشت بما رأيت من صفاتك، وأقل ما أرى من فعلك يخير الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين، مع قوتهم! فكيف أقدر أنا على الاستيفاء بالوصف! وكيف يحيط وصفي وعلمي بكنهك؟! وقال يمدح عمر بن سليمان الشرابي ويذكر حسن بلائه وهو يومئذ يتولى الفداء بين الروم والعرب
نرى عظماً بالصد والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
الصد: الإعراض، مع قرب المسافة. والبين: البعد من حيث المسافة.
يقول: إنا نستعظم أمر الإعراض والهجر مع القرب، ولا نستعظم البين: الذي هو بعد المسافة، وهو أعظم منه، ونتهم الواشين في إظهار سرنا، والدمع من جملة الواشين؛ لأنه يفضحنا ويهتك أستارنا.
ومن لبه مع غيره كيف حاله؟ ... ومن سره في جفنه كيف يكتم؟!
يقول: من كان عقله مع غيره أي: مع المحبوبة. كيف حاله؟! لأنه إذا عدم عقله ولبه، لم يدر ما يقول ويسمع، ومن يكون سره في عينه كيف يكتمه! لأن العاشق لا يمكنه إمساك الدمع فيظهر سره بذلك.
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
الواو: في قوله: والنوى ورقيبنا: واو الحال، والجملة في موضع نصب.
يقول: لما اجتمعت أنا والمحبوبة في حال ما كان النوى والرقيب غافلين عنا، ظلت أنا أبكي وأشكو إليها ما بي من الشوق والوجد، وهي تضحك من شكواي وبكائي تعجباً من حالي، ومسرةً بما ابتليت.
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
شبهها بالبدر، وشبه نفسه بالميت. ثم ذكر متعجباً فقال: لم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها؛ لأن البدر لا يضحك، وهي بدر ضاحك، وكنت ميتاً، فلم أر قبل نفسي ميتاً يتكلم! لأني كنت أشكو إليها حالي وأتكلم به، وكنت ميتاً فالعجب من ذلك.
ظلومٌ كمتنيها لصبٍّ كخصرها ... ضعيف القوى من فعلها يتظلم
المتنان: لحمتان في الصلب، يكتنفان القفا. والخضر: معقد الإزار. والقوى: جمع القوة.
يقول: متنها قوي ممتلىء، وخصرها دقيق نحيف، فهي تظلم العشاق، كما يظلم متناها خصرها، لأنهما يكلفانها فوق طاقتها، وعاشقها ضعيف القوة كخصرها. وقوله: من فعلها يتظلم زيادة، ليس فيه كبير فائدة إلا إتمام البيت، ولو قال بدل المتن الردف لكان أولى؛ لأن المتن لا يوصف في الشعر بالعبارة والفخامة، وإنما يذكر بالاهتزاز والرشاقة، ويوصف الردف بالعظم. وهذا البيت مأخوذ من قول خالد الكاتب:
صباً كئيباً يتشكى الهوى ... كما اشتكى نصفك من نصفكا
بفرعٍ يعيد الليل والصبح نيرٌ ... ووجهٍ يعيد الصبح والليل مظلم
الباء في قوله: بفرع متعلقه بقوله ظلوم ويجوز أن يكون من الضمير الذي في ظلوم.
يقول: إنها ظلمتني حين فتنتني: بفرع أسود لو نشرته في النهار لصار ليلاً، وبوجه منير، لو أسفرت عنه ليلاً لصار نهاراً. والواو واو الحال في الموضعين.
فلو كان قلبي دارها كان خاليا ... ولكن جيش الشوق فيه عرمرم

يقول: لو كان قلبه دارها، كان خالياً كخلوها، ولكن قلبي وإن كان جارياً مجرى دارها من حيث أنه محلها فإنه مملوء بالشوق بل جيش الشوق فيه كثير. وروى: ولو كان قلبي خالياً كان دارها، وقيل: هذا أولى. ومعناه: لو كان قلبي عامراً بالشوق لكان دارها؛ لأن جسمي ناحل مثل رسومها وفؤادي محترق كاحتراق أثافيها غير أن جيش الشوق فيه عرمرم.
أثافٍ بها ما بالفؤاد من الصلى ... ورسمٌ كجسمي ناحلٌ متهدم
الأثافي: تثقل وتخفف، وهي الأحجار التي تنصب تحت القدر. والصلى: الاحتراق.
تقدير البيت ومعناه: أثافٍ بها من الاحتراق، ما بالفؤاد من النار والشوق. ورسم تلك الدار ناحل متهدم كجسمي في نحوله.
بللت بها ردني والغيم مسعدي ... وعبرته صرفٌ وفي عبرتي دم
الردن: طرف الكم. والصرف: أي الخالص.
يقول: وقفت على آثار هذه الدار، فبكيت حتى بللت كمي من دموعي، وكان الغيم في تلك الحال يساعدني على البكاء، غير أن دمع الغيم كان صافياً لا يمازجه دم، وكان دمعي ممزوج بالدم.
ولو لم يكن ما انهل في الخد من دمي ... لما كان محمراً يسيل فأسقم
يقول: إن الذي ينصب من عيني دم؛ لأنه لو لم يكن دماً لما كان أحمر، ولم أسقم كلما سال من جفني؛ لأن الدم هو الذي يسقم إذا أفرط سيلانه، ومثله:
وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
بنفسي الخيال الزائري بعد هجعةٍ ... وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم
يجوز في الخيال: الرفع على الابتداء، أي الخيال مفدى بنفسي. والنصب على إضمار فعل النسبة: أي أفدي الخيال. وهكذا في قوله. والألف واللام في الزائري: بمعنى الذي. أي الذي زارني بعد ما نمت نومة، وأفدي قوله معاتباً لي: بعدنا تطعم النوم، أي أن الخيال عاتبني فقال لي: كيف تنام بعد مفارقتي؟! فنفسي فداؤه لهذا القول.
سلامٌ فلولا الخوف والبخل عنده ... لقلت: أبو حفصٍ علينا المسلم
أي قال الخيال: سلام. فهو حكاية لقوله. ويجوز أن يكون أراد بالسلام: السلامة، فيكون التقدير بنفسي قوله: أتنام بعدنا؟ وأراد: أن الخيال لما رآه نائماً ولى عنه مغاضباً، فأخبر عن انصرافه بالسلام، لأن العادة أن يسلم الإنسان على صاحبه عند الانصراف، ثم استأنف وقال: فلولا الخوف والبخل عنده: أي لولا أن هذا الخيال فيه خوف وبخل، لكان يشبه الممدوح في حسنه وبهائه وطيب سلامه، فكنت أقول: إن هذا المسلم هو أبو حفص؛ وإنما قال ذلك، لأن الخوف والبخل محمودان في النساء، لأنها إذا خافت لم تقدم على ما لا يحل، وإذا بخلت حفظت ماء وجهها ومال زوجها.
محب الندى الصابي إلى بذل ماله ... صبواً كما يصبو المحب المتيم
الصابي: المائل. والمتيم: الذي استعبده الحب. والتيم: العبد.
يقول: إنه عاشق لبذل ماله، عشقاً متناهياً، كما يعشق المحب المستعبد حبيبته.
وأقسم لولا أن في كل شعرةٍ ... له ضيغماً قلنا له: أنت ضيغم
الضيغم: هو الأسد. من الضغم وهو العض يقول: لا يمكننا تشبيهه بالأسد؛ لأن كل شعرةٍ منه تقوم مقام الأسد، فلولا هذا، لقلت: إنه الأسد.
أتنقصه من حظه وهو زائدٌ! ... ونبخسه والبخس شيءٌ محرم؟!
هذا البيت تمام معنى البيت الذي قبله يقول: أتنقصه من حظة بأن تسميه أسداً، وهو زائد عليه فنكون قد بخسته حقه، والبخس أمر محرم.
يجل عن التشبيه، لا الكف لجةٌ ... ولا هو ضرغامٌ ولا الرأي مخذم
الضرغام: الأسد. والمخذم: السيف القاطع.
يقول: هو يرتفع عن التشبيه، فكفه أكثر من لجة البحر، وقلبه أجرأ من الأسد، ورأيه أمضي من السيف القاطع، والإنسان يشبه في سخائه بالبحر، وفي شجاعته بالأسد، وفي مضائه بالسيف.
ولا جرحه يوسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو، ولا يتثلم
يقول: لا يداوي جرحه، ولا يرى غوره: أي لا تعلم كنه صفاته وحقيقة أمره، ولا ينبو حده، فجعل له حداً لمضائه، وجعل ذلك الحد لا ينبو عن الضريبة، بخلاف حد السيف، فإنه قد ينبو ولا يعمل، وقد يتثلم وينكر، وهذا لا ينكر ولا يتثلم.
ولا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم

أظهر التضعيف في حاللٌ ويحلل: للضرورة، والأصل في القياس الإدغام: يعني أنه إذا أحكم أمراً، لا يقدر أحد على حله، وإذا حل أمراً، لا يحكمه أحد.
ولا يرمح الأذيال من جبريةٍ ... ولا يخدم الدنيا، وإياه تخدم
لا يرمح الأذيال: أي لا يضربها برجله. وروى: ولا يسحب الأذيال.
يقول: إنه متواضع لا يسحب ذيله من التجبر والخيلاء، وأنه زاهد في الدنيا، تارك لها ولا يخدمها وهي تخدمه، مقبلة عليه جارية تحت أمره، منقادة إليه.
ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته ... ولا يسلم الأعداء منه ويسلم
يقول: إنه لا يحب البقاء في الدنيا إلا للأفضال على الأولياء، وكذلك لا يحب أن يسلم أعداؤه ويسلم هو، بل يجب الانتقام منهم.
ألذ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسرٍ تلقاه معدم
الصهباء: الخمر البيضاء، المعصورة من العنب الأبيض.
يقول: ذكره؛ لتضمنه المحاسن، ألذ من الخمر الممزوج بالماء. وإنما قال ذلك؛ لأنها إذا مزجت بالماء كانت ألذ طعماً وأضعف سورة، وأحسن من الغنى بعد الفقر!
وأغرب من عنقاء في الطير شكله ... وأعوز من مسترفدٍ منه يحرم
العنقاء: اسم على غير مسمى، والعرب تزعم أنه طائر عظيم في عنقه بياض، وأنه بحيث لا يراه أحد، ولا يصل إليه. وقيل: إنه طائر ذهب فلم يبق في أيدي الناس غير اسمه. وإنما سمي عنقاء، لأن في عنقه بياض كالطوق. ويضرب المثل بالعنقاء في الشيء الذي لا يوصل إليه، فيقال: طارت به العنقاء وهو أعز وأغرب من العنقاء، ويقال له: عنقاء مغرب إضافة، وصفة، وإغرابها العادي: ذهابها في الطيران. والأعواز، والعوز: عدم الشيء.
يقول: مثل الممدوح في الناس أعز وجوداً، وأغرب من هذا الطائر الذي ليس له وجود، كذلك مثله أقل وجوداً من رجل يطلب عطاءه ورفده فيحرمه ويمنعه
وأكثر من بعد الأيادي أيادياً ... من القطر بعد القطر والوبل مثجم
مثجم: من أثجمت السماء، إذا دام مطرها. وأياديا: نصب على التمييز.
يقول: هو أكثر أيادياً بعد الأيادي من تتابع القطر في الوبل الدائم.
سني العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللوم آلى أنه لا تهوم
التهويم: اختلاس أدنى النوم.
يقول: إنه كريم جواد، فلو ظن أن نومة يدنيه من البخل، حلف عليه ألا ينام، مع أنه شيء لا يقدر عليه.
ولو قال: هاتوا درهماً لم أجد به ... على سائل أعيا على الناس درهم
يقول: إن جميع ما في أيدي الناس من هباته، فلو طلب درهماً واحداً ليس من عطاياه لأعيا على الناس ذلك، لأنه لم يوجد ما ليس من مواهبه.
ولو ضر مرءاً قلبه ما يسره ... لأثر فيه بأسه والتكرم
الهاء في قلبه: للممدوح، وفي يسره للمرء.
يقول: إنه يسر بما فيه من البأس والشجاعة، فلو كان إنسان يضره ما يسره، لكان هذا الممدوح يضره بأسه وكرمه.
يروي بكالفرصاد في كل غارةٍ ... يتامى من الأغماد بيضاً ويوتم
الفرصاد: التوت وقوله: بكالفرصاد: أراد بدمٍ كالفرصاد حمرةً. وأراد باليتامى: سيوفاً فارقت أغمادها فصارت كاليتامى، وقيل: إنما قال ذلك؛ لأن أجفانها كسرت وفللت كأنها اليتامى.
يقول: يروى سيوفه عند كل غارة بدم الأعداء، وإنه يؤتم أولاد من قتله بهذه اليتامى التي هي السيوف، وقد روى: من الأغماد تنضى: أي تجرد.
إلى اليوم ماحط الفداء سروجه ... مذ الغزو سارٍ مسرج الخيل ملجم
الغزو: رفع: بالابتداء وخبره محذوف أي هذا الغزو واقع وكائن، لم يحط الفداء، والسعي بين العرب والروم بالصلح سروجه، من وقت الغزو إلى اليوم، فهو يسعى في ذلك، مسرجٌ خيله وملجم لها. ونسب الفعل إلى الفداء لأنه كان بسببه.
يشق بلاد الروم والنقع أبلقٌ ... بأسيافه والجو بالنقع أدهم
النقع: الغبار، وصفه بأنه أبلق، لبرق الحديد في خلاله، فقد اجتمع فيه السواد والبياض.
المعنى: أنه يقطع بلاد الروم وقد اسود الجو من غبار خيله، وبياض السيوف يلمع من خلال الغبار، فالجو أدهم: أي اسود بالغبار، والغبار أبلق بالسيوف، فأعلى الجو أسود، وأسفله بالسيوف أبلق.
إلى الملك الطاغي فكم من كتيبةٍ ... تساير منه حتفها وهي تعلم

إلى: يتعلق بقوله: يشق بلاد الروم إلى الملك الطاغي وهو ملك الروم، جعله طاغياً لكفره. والهاء في منه للممدوح، وفي حتفها للكتيبة.
يقول: هو يشق بلاد الروم إلى الملك الكافر، فكم من كتيبة لملك الروم تساير حول هذا الممدوح ومنه هلاكها، وهي تعلم ذلك لأنه كان يغير عليهم.
ومن عاتقٍ نصرانهٍ برزت له ... أسيلة خدٍّ عن قليلٍ ستلطم
العاتق: البكر. ونصرانة. أي نصرانية وروى عنه أنه قال: ربما أنشدت وعذراء نصرانية برزت له: أي لهذا الممدوح. للنظر إليه عند دخوله البلد، وقيل: بروزها هو خروجها مع الرجال إلى المعركة، وقيل: هو مفارقها.
يقول: كم من جاريةٍ عذراء نصرانية وضعت خوفاً من عسكره. وقوله: عن قليل ستلطم: يعني أنه يعاود الغزو فيقتل رجالها فتلطم وجهها، أو تسبى فتلطم عند السبي.
صفوفاً لليثٍ في ليوث حصونها ... متون المذاكي والوشيج المقوم
المذاكى: الخيل التي نمت أسنانها الواحد مذكى. والوشيج: الرماح، سمى به لتداخله. والمواشجة: المداخلة. وصفوفاً: نصب على الحال من عاتق وهي في معنى الجمع، لأن كم تدل على الكثرة. وقيل: هو حال من الكتيبة. أي أتت الكتائب حوله صفوفاً.
يقول: إن الكتيبة تساير هذا الممدوح صفوفاً، والعواتق وقفن صفوفاً، ينظرن إلى قائدٍ كأنه أسد في خيل كأنهم أسود، حصونها متون الأفراس، وأطراف الرماح، لا كالروم الذين يتحصنون بحصون المدر والأحجار. ومنه قول الآخر وهو:
أن الحصون الخيل لا مدر القرى
تغيب المنايا عنهم وهو غائبٌ ... وتقدم في ساحاتهم حين يقدم
ساحة الدار: أصلها، وأصله من الاتساع، والانبساط.
يقول: إذا غاب عنهم الممدوح غاب موتهم، فإذا عاد إلى ديارهم قدم عليهم موتهم فأهلكهم.
أجدك ما تنفك عانٍ تفكه ... عم ابن سليمانٍ ومالاً تقسم
أجدك: نصب على المصدر. أي أتجد جداً ومعناه: أيجد هذا الفعل. وقوله: عم ابن سليمانٍ: أي يا عمر بن سليمان، فرخمه. وهذا جائز على مذهب الكوفيين؛ إذا كان الاسم على ثلاثة أحرف، متحرك الأوسط، ولا يجوز عند البصريين إلا إذا زيد على ثلاثة أحرف، فيرد عليه الترخيم.
يقول: إنك أبداً في فكاك الأسرى وتفريق الأموال.
مكافيك من أوليت دين رسوله ... يداً لا تؤدي شكرها اليد والفم
أوليت فلاناً خيراً: أي فعلت به خيراً.
يقول: جزاك الذي أنعمت على دين رسوله، نعمة لأتقوم بشكرها اليد واللسان فلا يمكن لأحد مكافأته، ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
على مهلٍ إن كنت لست براحمٍ ... لنفسك من جودٍ فإنك ترحم
يقول: ارفق بنفسك ولا تتعبها في طلب المجد، وتحمل المؤن والكلف في الجود بالمال والنفس، فإنك تنفق مالك وتجود بنفسك، فإن كنت لا ترحم نفسك فإن الله يرحمك، وكذلك الناس لما أنت فيه من تكلف الجود بالنفس والمال.
محلك مقصودٌ وشانيك مفحمٌ ... ومثلك مفقودٌ ونيلك خضرم
الخضرم: الكثير.
يقول: محلك عامر بالقصاد، وعدوك مفحم لا يقدر على ذلك، ونظيرك مفقود، وعطاؤك كثير لا يكاد يحصى.
وزارك بي دون الملوك تحرجٌ ... إذا عن بحرٌ لم يجز لي التيمم
التحرج: ترك الحرج، وهو الإثم، وهو فاعل زارك.
يقول: حملني على زيارة تلك الملوك تحرز من الإثم، الذي يلزمني في تركي قصدك، وقصدي غيرك، لأن قصدك واجب لا يجوز العدول عنه إلى غيره، كما أنه إذا ظهر البحر، وأمكن الوصول إليه، لا يجوز العدول إلى التيمم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: " فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً "
فعش لو فدى المملوك رباً بنفسه ... من الموت لم تفقد وفي الأرض مسلم
قوله: فعش دعاء.
يقول: لو فدى العبد مولاه بنفسه من الموت، لفداك المسلمون كلهم؛ لأنهم عبيدك، فكيف تفقد وفي الأرض مسلم؟! وقال يمدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الأصبع الكاتب:
أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطس: أي تكسر، وتهد وترض. واليرمع: الحجارة: يقول: يا إبل الأحباب، إن الدموع تؤثر في الخد إذا جرت، وترضه، كما تفعلن أنتن بالأحجار، فإنكن تكسرنها من شدة وطئكن عليها. واليرمع: الحجارة الرخوة كالمدر يفتت باليد.
فاعرفن من حملت عليكن النوى ... وامشين هوناً في الأزمة خضعا

من حملت: مفعول فاعرفن وفاعله النوى والهون بالفتح: الرفق، وبالضم: الهوان.
يقول للركائب: اعرفن الذي حملته عليكن النوى: وهو البعد. واعرفن حقه وامشين له مشياً ليناً، لئلا تتعبنه. وذلك يدل على عظم حال من عليهن.
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فاليوم يمنعه البكا أن يمنعا
البكا: يمد ويقصر.
يقول: قد كان في أول أمري يمنعني الحياء من البكاء لفقد الأحباء، فالآن تزايد الحب وغلب البكاء الحياء ومنعه من منعي عن البكاء، فصار الحياء ممنوعاً بعد أن كان مانعاً. ومثله قول بعض الأعراب:
قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النفض والإبرام حتى علانيا
حتى كأن لكل عظم رنةً ... في جلده ولكل عرقٍ مدمعا
حول الكلام عن الإخبار عن النفس إلى الغيبة.
فقال: وقد بلغ البكاء إلى حدٍّ حتى صار يبكي جميع جسد العاشق، فصار كل عرق منه يجري الجمع، وكل عظم أو عضو يرن رنيناً من ألم الفراق! وشدة الاشتياق! ويجوز أن يكون الهاء راجعاً إلى كل عضو.
وكفى بمن فضح الجداية فاضحاً ... لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا
الجداية: الغزالة. ومن: في موضع الرفع، لأنه فاعل كفى ويجوز أن يكون فاضحاً تمييزاً أو حالاً، وذا في موضع الجر؛ لأنه بدل من مصرعي ومصرعاً نصب على التمييز. والمصرع: يجوز أن يكون اسماً، ومصدراً. وكلاهما محتمل في البيت.
يقول: كفى بمن فضح الغزالة بحسن جيده وعينه أن يكون فاضحاً لمحبه، وكفى بمصرعي هذا مصرعاً.
المعنى: أنه إذا فضح الغزالة، فليس بعجب أن يفضحني في حبه، وكفاني مصرعي يوم فراق من هذه حاله.
سفرت وبرقعها الفراق بصفرةٍ ... سترت محاجرها ولم تك برقعا
روى: الحياء والفراق.
يقول: هذه المرأة سفرت وجهها ومحاجرها، وقامت لها مقام البرقع، ولم تكن هذه صفرة برقعها.
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهبٌ بسمطي لؤلؤٍ قد رصعا
الهاء، في كأنها للصفرة وفي فوقها للمحاجر. ويجوز أن يكون في فوقها للصفرة أيضاً. والسمط: اسم لكل جانب من جوانب القلادة.
يقول: كأن صفرة وجهها والدمع فوقها، قلادة من ذهب رصع بلؤلؤ. وشبه الصفرة بالذهب والدمع باللؤلؤ لصفائه ورقته
كشفت ثلاث ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
وروى: نشرت يقول: كشفت ثلاث ظلم، فصارت الليالي أربعاً. شبه كل ذؤابة منها بليلة لسوادها، ولم يجعلها قطعة من الليل؛ دلالة على كثرة الشعر ووفور السواد.
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
يقول: استقبلت القمر بوجهها، وهو قمر أيضاً، فأرتني قمرين معاً، أحدهما قمر السماء، والثاني وجهها. ومعاً: نصب على الحال، أي مصطحبين. وقيل: أراد بالقمرين الشمس والقمر. فكأنه يقول: أرتني الشمس والقمر معاً في وجه واحد وجعل وجهها شمساً للمبالغة.
ردي الوصال سقى طلولك عارضٌ ... لو كان وصلك مثله ما أقشعا
روى: ما أقشع وما أقلع فاعله ضمير وصلك والهاء في مثله للعارض وهو السحاب.
يقول: ارجعي إلى الوصال الذي كان بيننا، ثم دعا لها أن يسقى طلولها سحابٌ دائم لا انقطاع له، ولو كان وصلك مثله أي مثل هذا السحاب في الإدامة ما أقشع ذلك الوصل.
زجلٌ يريك الجو ناراً، والملا ... كالبحر والتلعات روضاً ممرعاً
زجل: صفة السحاب أي ذي صوت وهو الرعد. والملا: المكان الواسع، وأراد الأرض. والتلعات: جمع تلعة وهي المكان المرتفع. والممرع: الخصيب.
يقول: سقى طلولك سحابٌ ذو رعدٍ، يريك الجو ناراً؛ من كثرة بروقه، ويريك الأرض الواسعة كالبحر؛ من كثرة مائه، ويريك التلعات معشبةً ممرعة كأنها روضة مريضة مخصبة.
كبنان عبد الواحد الغدق الذي ... أروى، وآمن من يشاء، وأفزعا
الغدق: الكثير، وهو صفة البنان. وروى وأفزعا وأجزعا شبه بنان الممدوح بسحابٍ هذه صفته، ثم أخذ في وصف البنان بأنه غدق يروى كل أحد ويؤمن من يشاء ويخيف. وصفه بغاية السخاء وغاية الفتوة والعلا، وهذا تحقيق. التشبيه بالسحاب لأنه يروي البلاد والعباد ويأتي بالغيث الذي هو رحمة، وبالصاعقة التي هي نقمة.
ألف المروءة مذ نشا فكأنه ... سقي اللبان بها صبياً مرضعا
اللبان: اللبن وقيل: هو جمع اللبن، ونصب صبياً على الحال.

يقول: إنه اعتاد المروءة من صغره؛ فكأنما سقى بها اللبن وهو يرضع، أي كأنه رضع المروءة من لبن أمه
نظمت مواهبه عليه تمائماً ... فاعتادها فإذا سقطن تفزعا
روى نظمت على ما لم يسم فاعله ومواهبه اسمه، والمفعول الأول القائم مقام الفاعل. وتمائما نصب على أنه المفعول الثاني. هذه رواية ابن جنى. قال: ومعناه أن اعتقاده أن مواهبه تقيه من الذم كاعتقاد التمائم أنها تقيه من الآفات، فإذا خلا من مواهبه يفزع كما يفزع ذو التمائم إذا سقطت تمائمه.
وروى نظمت على الفعل المسند إلى الفاعل. وفاعله المواهب، والتمائم المفعول. والمعنى: مواهبه حصلت له من الحمد والثناء وأدعيه السؤال، ما هو كالتمائم، فهو إذا خلا من ذلك أنكر ذلك، وفزع من سقط تميمته. وروى: عقدت مواهبه.
ترك الصنائع كالقواطع بارقا ... تٍ والمعالي كالعوالي شرعا
الصنائع: النعم. والعوالي: جمع عالية، وهي الرمح الأعلى. والشرع: الممدودة المقومة نحو الأعداء. وبارقات وشع: نصب على الحال. وقيل: لأنه مفعول ثانٍ لترك.
يقول: أظهر الصنائع حتى صارت كالسيوف اللامعات، ورفع المعالي حتى جعلها كالرماح الشرع إلى الأعداء.
متبسماً لعفاته عن واضحٍ ... تغشي لوامعه البروق اللمعا
روى تغشى بالغين: أي تستر وتعشى: أي تظلم وتورث العشي. ونصب مبتسماً على الحال من قوله: ترك الصنائع بارقات وهو مبتسم، ويجوز نصبه على المدح بفعل مضمر، أي أعني مبتسماً. وقوله: عن واضح أي عن ثغر واضح، والمفعول الثاني من تغشى محذوف، أي تغشى لوامعه البروق برقها.
يقول: إنه يلقى سائليه مبتسماً ضاحكاً عن ثغر واضح يغلب لمعانه لمعان البرق اللامع.
متكشفاً لعداته عن سطوةٍ ... لو حك منكبها السماء لزعزعا
متكشفاً: بدل من قوله: متبسماً ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير في متبسماً فيكون العامل متبسماً. وفاعل زعزع ضمير منكبها أي حركها، ومنكبها: جانبها أو بعضٌ منها.
يقول: إنه يلقى عفاته مبتسماً في حال ظهوره لأعدائه أي مكاشفتهم بالعداوة، وله سطوة لوحك بعض منها السماء لحركها.
وإن شئت قطعت الثاني عن الأول فيجوز فيه الرفع على إضمار المبتدأ وكذلك في متبسماً.
الحازم اليقظ الأغر العالم ال ... فطن الألد الأريحي الأروعا
الكاتب اللبق الخطيب الواهب ال ... ندس اللبيب الهبرزي المصقعا
الحازم: الجامع للأطراف، الذي أحواله كلها مجموعة. واليقظ: الكثير التيقظ في الأمور. والأغر: الأبيض. والفطن: العالم بدقائق الأمور. والألد: شديد الخصومة العالم بها. والأريحي: الذي يهتز للعطاء. والأروع: الذي يروعك بجماله.
والندس: الفطن المتجاسر على الأمور. والهبرزي: الخالص الكرم والأصل. وقيل: هو الذي يبرز البدائع من مجده. والمصقع: الفصيح. وهذه الصفات كلها نصب على المدح.
نفسٌ لها خلق الزمان لأنه ... مفني النفوس مفرقٌ ما جمعا
نفسٌ: خبر ابتداء محذوف، أي هي نفسٌ، أو ابتداء وخبره محذوف، أي له نفس.
يقول: إنه يفرق ما جمعه من المال ويفني بالقتل أعداءه فخلقه كخلق الزمان.
بيدٍ لها كرم الغمام لأنه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا
يقول: إنه يعم الخاص والعام بجوده، فيشبه الغمام الذي يسقي المكان العامر والخالي.
أبداً يصدع شعب وفرٍ وافرٍ ... ويلم شعب مكارمٍ متصدعا
الشعب الأول: هو الجمع. والثاني هو التفريق.
يقول: إنه يفرق ما اجتمع عنده من الأموال؛ ليجمع بتفريقه ماتفرق من المكارم، فهذا دأبه أبدا.
يهتز للجدوى اهتزاز مهندٍ ... يوم الرجاء هززته يوم الوعى
الوعى غير معجم بمعنى الوغى بالإعجام: وهو الحرب. وتقديره يهتز للجدوى يوم الرجاء اهتزاز مهند هززته يوم الوغى.
يقول: يهتز للعطاء كاهتزاز السيف للحرب.
يا مغنياً أمل الفقير لقاؤه ... ودعاؤه بعد الصلاة إذا دعا
يا مغنياً: نصب لأنه نداء نكرة، وأمل الفقير: مبتدأ. ولقاؤه: خبره.
والجملة في موضع نصب؛ لأنها صفة للنكرة المناداة.
يقول: يا من علا الناس بمواهبه، فكل فقير يرجو لقاءه ويدعو الله تعالى بعد صلاته، أن يجمع بينه وبينه؛ ليغنيه مثل غيره.
أقصره ولست بمقصرٍ، جزت المدى ... وبلغت حيث النجم تحتك فأربعا

أقصر الرجل عن الأمر: إذا تركه. وقوله: فأربعا أراد فأربعن فأبدل النون ألفاً. ومعناه: أقم.
يقول: أقصر وأقم فقد تجاوزت الغاية من المجد، وبلغت مكاناً فوق النجم، فاترك سعيك فليس وراءه غاية. وقوله: فلست بمقصر. أي أقصر فإنك إذا قصرت بعد تجاوز الغاية فلست بمقصر في الحقيقة، إذ ليس بعد الغاية غاية. وقيل: أراد أقصر، أنا أعلم أنك لا تقصر، ولا تقبل مني ذلك.
وحللت من شرف الفعال مواضعاً ... لم يحلل الثقلان منها موضعا
وروى: من شرف المعالي.
يقول: قد نزلت من الشرف والكرم منازل كثيرة لا يقدر الثقلان أن ينزلوا واحداً منها.
وحويت فضلهما وما طمع امرؤٌ ... فيه، ولا طمع امرؤٌ أن يطمعا
يقول: قد جمعت فضائل الجن والإنس، وما طمع أحد في ذلك الفضل؛ لأنه لم يكن في أحد من الخصال مثل ما فيك، ولا خطر ببال أحد.
نفذ القضاء بما أردت كأنه ... لك، كلما أزمعت شيئاً أزمعا
وروى: بعد القضاء.
يقول: إن القضاء يتصرف بإرادتك، فكأنه لك أي كأنه قضاؤك، وأنت تملكه، فكلما عزمت على شيء يعزم هو أيضاً عليه، متابعة لك.
وأطاعك الدهر العصي كأنه ... عبدٌ إذا ناديت لبى مسرعا
وروى: أرادك الدهر.
يقول: إن الدهر الذي لا يطيع أحداً، أطاعك! حتى كأنه عبدك، إذ ناديت أجابك مسرعاً بالتلبية والإجابة.
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
ظلع: أي عجز.
يقول: إن مفاخرك أبطلت مفاخر الخلق، فكأنها أكلتها ورجعت مطيات وصفي عن غايات تلك المفاخر، ظالعة معييةً بها.
وجرين جري الشمس في أفلاكها ... فقطعن مغربها وجزن المطلعا
الهاء في أفلاكها ومغربها للشمس.
يقول: إن مفاخرك في الدنيا كجري الشمس، فقطعت المغرب وجازت المشرق وبلغت حيث تبلغ الشمس. وإنما قال: في أفلاكها أراد إجرائه.
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها ... لعممنها وخشين ألا تقنعا
نيطت: أي وصلت. كناية في عممنها للمفاخر. والثاني في ألا تقنعا. ويجوز أن يكون للخطاب، ويجوز أن يكون فعل المفاخر. وقوله: وخشين. يجوز أن يكون للمفاخر، ويجوز أن يكون فعل الدنيا الموصولة بدنيا أخرى وما فيها. فأورده على الجمع.
يقول: لو وصلت هذه الدنيا بأخرى مثلها لعمتها مفاخرك، وخشيت مفاخرك الدنيا وما فيها، ألا تقنع أنت ومفاخرك بها.
فمتى يكذب مدعٍ لك فوق ذا ... والله يشهد أن حقاً ما ادعى
روى: يكذب بالرفع على الاستفهام. والله بالواو وهو الأولى لأن ما بعده من البيت يدل عليه. وروى يكذب بالجزم على الجزاء. فالله بالفاء على الجواب. ومعناه على الاستفهام.
يقول: متى يمكن أن يكون من ادعى لك فوق الذي قلت مكذباً؟! لأن الله يشهد أن ما ادعاه لك حق.
وعلى الجزم، معناه: متى ادعى لك مدع فوق هذا وكذب هذا المدعي، فالله يشهد أن ما يدعيه حق وأنه صادق.
ومتى يودي شرح حالك ناطقٌ ... حفظ القليل النزر مما ضيعا
النزر، والقليل: بمعنىً واحد. وجمع بينهما لاختلاف لفظهما، أو للمبالغة.
يقول: متى يقدر ناطق على شرح حالك؟! فإن علمه لا يحيط بكنه صفاتك، ومتى ظن أنه استوفى حالك، كان قد حفظ اليسير مما ضيع، فإن ما ضيعه كثير وما حفظه يسير.
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
تقديره: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا كذا، فالفتى؛ اسم ما لم يسم فاعله، ورجلاً خبره، وطراً نصب على الحال. وقيل: على المصدر. أي: فسم الناس إذا طررتهم طراً: أي جمعتهم جمعاً.
يقول: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا إذا كان مثل هذا الممدوح، فيجب أن تسمى جميع الناس إصبعا؛ لأنهم بالإضافة إليه كالإصبع من الجسد، فإذا كان اسمه رجلاً، فاسمهم كلهم الأصبع.
أو كان لا يسعى لجودٍ ماجدٌ ... إلا كذا فالغيث أبخل من سعى
قوله: فالغيث أبخل من سعى ومن للعقلاء، والغيث ليس منهم؛ وإنما حسن ذلك لوجهين: أحدهما: لأن المعنى أبخل الساعين، وهذا يعم من يعقل ومن لا يعقل، فغلب من يعقل كقوله تعالى: " والله خلق كل دابةٍ من ماءٍ " إلى آخره.
والثاني: وهو أن السعي لما كان من صفات العقلاء وقد استعمل في الغيث، أطلق عليه لفظ العقلاء لقوله تعالى: " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " .

يقول: إن كان السعي في طلب المجد والجود، لا يعد سعياً حتى يكون مثل سعيك، فالغيث المضروب به المثل في الجود، أبخل الساعين؛ لبعده عن بلوغ غايتك وكونك فقته.
قد خلف العباس غرتك ابنه ... مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا
يقول: يابن عباس. إن أباك قد خلف غرتك خلفاً منه وعوضاً عن رؤيته إلى يوم القيامة، فإذا رأيناك فكأنا رأيناه، وإذا سمعناك، فقد سمعناه.
واجتاز بمكان في بعض أسفاره بالليل، يعرف بالفراديس، فسمع زئير الأسد فقال يخاطبه:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم؟ ... فتسكن نفسي، أم مهانٌ فمسلم؟
فتسكن نفسي: نصب لأنه جواب الاستفهام فنصبه بالفاء.
يقول: يا أسد الفراديس وهو رستاقٌ بدمشق أجارك مكرم حتى تسكن نفسي إليكن؟ أم مهانٌ فمسلمٌ إلى أعدائه.
وحكى عنه أنه قال: ما كانت نفسي نافرة فتسكن، وإنما قلت: فأعلم حقاً.
ورائي وقدامي عداةٌ كثيرةٌ ... أحاذر من لصٍ ومنك ومنهم
يقول: قد أحاط بي من قدامي وورائي، أشياء محذورة، فأعداءٌ أحاذرهم، ولصٌّ أخاف قطعه طريقي، وأسودٌ أحاذرها وأسمع زئيرها.
فهل لك في حلفي على ما أريده ... فإني بأسباب المعيشة أعلم؟
الحلف: من المحالفة، وهي المعاهدة.
يقول للأسود: هل تتحالفين معي على ما أريد من طلب الولاية، فإني مثلك في الافتراس والشجاعة، ولي فضل عليك من جهة أني أعلم بأسباب المعيشة ووجوه المكاسب، منك.
إذاً لأتاك الرزق من كل وجهةٍ ... وأثريت مما تغنمين وأغنم
يقول: لو حالفتني لأتاك الرزق من كل ناحية، فكنت أنت تكسبين من جهةٍ، وأنا أكتسب من جهة، فيكثر ما لنا ويتسع رزقنا.
وقال يمدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي:
صلة الهجر لي وهجر الوصال ... نكساني في السقم نكس الهلال
النكس بالفتح أولى، وهو مصدر نكسته والنكس بالضم. أكثر ما يستعمل في عود المرض بعد زواله، وروى ذلك أيضاً في البيت.
والمعنى: أن مواصلة الهجر لي، وهجران الوصال، رداني إلى السقم والنحول، مثل الهلال ينكس إلى النحول بعد الكمال على التدريج، فكأنه يقول كنت صحيح الجسم كامل الخلق فصرت كالهلال.
فغدا الجسم ناقصاً والذي ين ... قص منه يزيد في بلبالي
البلبال: الهم والحزن. وقيل: الاضطراب والتحير.
يقول: قد نحل جسمي، ونقصت أجزاؤه! وما ينقص من الجسم يزيد في الحزن بقدر ما نقص منه!
قف على الدمنتين بالدو من ريا ... كخالٍ في وجنةٍ جنب خال
الدمنة: البعر الملبد، والرماد المتراكم بعضه على بعض. والدو: الصحراء المستوية سميت بذلك لدوي الرياح فيها. وريا: اسم محبوبته. وإنما سمى الدمنتين؛ لأن من عادات العرب ينزلون موضعاً فإذا نفذ ماؤه وتلونت أرضه، انتقلوا إلى موضع آخر.
يقول لنفسه، قف على ما بين الدمنتين في الدو، من دو ريا. فكأنهما خالان في وجنة المحبوبة، أحدهما في جنب الآخر. شبه سواد البعر والرماد في عرصة الدار، بخالٍ في وجنة المحبوبة. وقال في جنب خال. وأراد منه حبيبته، إنها تحسن في عينه كالخيال على الخد.
بطلولٍ كأنهن نجومٌ ... في عراصٍ كأنهن ليالي
الطلول: ما شخص من آثار الديار: كالوتد، والحوض. العرصة: ساحة الدار. والباء في بطلولٍ. في موضع الحال، من قوله: كخال في وجنة. والعامل فيه معنى التشبيه، ويجوز أن يكون بدلاً من الدمنتين، أي قف بطلول في موضع الحال. شبه الأطلال بالنجوم، لأنه اهتدى بها إلى دار حبيبته كما يهتدي بالنجوم، أو لأن الأمطار غسلتها فبيضتها فصارت كالنجوم، وشبه العراص بالليالي؛ لخلائها ووحشتها ولما فيها من الرماد المحترق، وأشار أنه لا خير فيها.
ونؤيٍّ كأنهن عليهن ... خدامٌ خرسٌ بسوقٍ خدال
النوي: جمع النوى، وهو حاجز يحفر حول الخيمة لمنع المطر أن يدخل إليها. والخدام: جمع الخدمة، وهي الخلخال. والسوق: جمع ساق. والخدال: جمع الخدلة، وهي الممتلئة. والهاء في كأنهن: للنؤي، وفي عليهن: للعراص. شبه النؤي بالخلخال؛ لاستدارته حول الخيمة، وشبه موضع البيت بالساق الخدله؛ لامتلائه من الطيف، يوم ارتحال أهله عنه، وجعل الخدام خرساً؛ لأنها لا صوت لها كما لا صوت للنؤي.
لا تلمني فإنني أعشق العشا ... ق فيها يا أعذل العذال
الهاء: ضمير العرصة، والطلول.

يقول: لا تلمني على الوقوف بهذه الأطلال؛ فإني أعشق العشاق؛ وإن كنت أعذل العذال. وفيها: متعلق بقوله: لا تلمني وإن شئت بقوله لا تلمني بالعذال. أو بقوله: فإني أعشق العشاق فيها.
ما تريد النوى من الحية الذوا ... ق حر الفلا وبرد الظلال؟
يقول: أي شيء تريد النوى مني؟ وأنا كالحية الذواق، قد تعودت قطع الفلا، وقاسيت حرها وبرد ظلالها. يعني: أني لا أبالي بالنوى؛ لتعودي الأسفار.
فهو أمضى في الروع من ملك المو ... ت وأسرى في ظلمةٍ من خيال
يقول: هذه الحية الذواق يعني: نفسه أمضى في الحرب وأكثر إتلافاً للنفوس من ملك الموت، وأسرى في ظلمة الليل من الخيال، فلا ترده الظلمات.
ولحتفٍ في العز يدنو محبٌّ ... ولعمر يطول في الذل قال
تقديره: هو محب لحتفٍ يدنو في العز. وهو قالٍ لعمرٍ يطول في الذل.
يعني: أنه يحب العز؛ وإن كان مع الحتف، ويبغض العمر؛ وإن كان مع الذل.
نحن ركبٌ ملجن في زي ناسٍ ... فوق طيرٍ لها شخوص الجمال
قوله: ملجن أي من الجن. فحذف النون؛ لسكونها وسكون اللام من الجن.
يقول: نحن ركب نشبه الجن في أفعالها للزومنا المفاوز، وإن كنا في صورة الإنس، ورواحلنا تشبه الطير؛ لسرعة سيرها، وإن كانت في صورة الجمال.
من بنات الجديل تمشي بنا في البي ... د مشي الأيام في الآجال
الجديل: فحل كريم تنسب إليه كرائم الإبل. وهي تمشي بنا في الفلوات، وتفنيها شيئاً فشيئاً، كما تمشي الأيام في الآجال فتفنيها جزءًا فجزءًا.
كل هوجاء للدياميم فيها ... أثر النار في سليط الذبال
الهوجاء: في الأصل المجنونة، وهي ها هنا: الناقة التي ترمي بنفسها في المسير، من النشاط كأنها هوجاء، ولا يوصف الذكر بها. فلا يقال: بعير أهوج. والدياميم: جمع ديمومة وهي الفلاة. والسليط: قيل: هو السراج. وقيل: هو دهن الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة.
يقول: كل واحد من هذه الرواحل هوجاء، قد أثر المفاوز فيها وأهزلها وأخذ لحمها؛ كما تأخذ النار دهن الفتيلة وتفنيه.
عامداتٍ للبدر والبحر والضر ... غامة ابن المبارك المفضال
يجوز في عامداتٍ الجر: على البدل من هوجاء. والرفع: على إضمار المبتدأ. والنصب: على الحال. والعامل، ما في الجملة من قوله: للدياميم فيها. أي بمنزله الدياميم عامدات.
يقول: إن هذه الرواحل يقصدون ابن المبارك، الذي هو كالبدر جمالاًن وكالبحر سخاءً، وكالأسد شجاعة وإقداماً، وهو كثير الفضل غزير الإحسان.
من يزره يزر سليمان في المل ... لك جلالاً ويوسفاً في الجمال
وربيعاً يضاحك الغيث فيه ... زهر الشكر في رياض المعالي
جلالاً: نصب على التمييز. وربيعاً: عطف على قوله: يزر سليمان فكأنه قال: ويزر ربيعاً. وجعله ربيعاً؛ لانتفاع الناس فيه وبسببه وعطائه، ولما جعله ربيعاً، جعل رياضه المعالي، وزهرها الشكر والثناء، يعني أنه ربيع يسقي رياض المعالي، الغيث جوده، وزهر تلك الرياض الشكر. ويجوز أن يكون أراد شكر الناس. فشبه جوده بالغيث، وشكرهم بالزهر ومعاليه بالرياض.
نفحتنا منه الصبا بنسيم ... رد روحاً في ميت الآمال
نفحتنا: أي هبت علينا دفعة بعد دفعة. والنسيم: الريح اللينة في هبوبها.
يقول: كانت أمالنا منقطعة عن الناس لبخلهم، فهبت الصبا علينا، بنسيم هذا الربيع، ورد الروح في آمالنا الميتة وأحيتها بعد موتها. وأراد بالنسيم: إشاعة جوده واشتهار كرمه.
هم عبد الرحمن نفع الموالي ... وبوار الأعداء والأموال
يقول: همه مقصور على الإحسان إلى الأولياء، وإهلاك الأموال والأعداء في وجوه البر، واقتناء الحمد والمجد والذخر، ولا يشتغل بغير ذلك من اللهو وجمع الأموال.
أكبر العيب عنده البخل والطع ... ن عليه التشبيه بالرئبال
الرئبال: الأسد.
يقول: إن أكبر العيب عنده البخل، لفرط جوده، وهو شجاع، فإن شبهته بالأسد فقد طعنت فيه؛ لأنه أشجع من الأسد. ويجوز أن يريد: أن من أراد أن يطعن عليه، يمكنه ألا يشبهه بالأسد. وهذا ليس بطعن في الحقيقة.
والجراحات عنده نغماتٌ ... سبقت قبل سيبه بسؤال

يقول: إن عادته في تقديم النوال على السؤال، فإذا سمع نغمات السائل قبل العطاء، تألم منها كما يتألم من الجراحات، وتؤثر تلك النغمات فيه تأثير الجراحات؛ تأسفاً على سبق السؤال على الإعطاء. وقيل: أراد أن يلتذ بالجراحات في الحروب التذاذه بنغمات السؤال. يمدحه بالسخاء والشجاعة.
ذا السراج المنير هذا النقي ال ... جيب هذا بقية الأبدال
الأبدال: زهاد الدنيا. ويقال: إن الأرض لا تخلو منهم. أربعون منهم في الشام، وثلاثون في سائر الأرض، وسمو أبدالاً؛ لأنهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر!! وقوله النقي الجيب: أي سليم القلب، من الغش والخيانة. يصفه بالاشتهار كالسراج المنير، وبسلامة القلب؛ وبأنه من أولياء الله تعالى، الذين بهم بقاء الدنيا وقوامها.
فخذا ماء رجله وانضحا في ال ... مدن تأمن بوائق الزلزال
البوائق: جمع البائقة، وهي الداهية، وروى: تأمن، وتؤمن.
يقول: إنه ولي الله تعالى، فلو رش الماء الذي غسل به رجله في المدن والبلدان، لأمنت من الزلزال. وقيل: أراد أن الأرض لا تستقل من طيه إياها، هيبةً منه، فلو أخذ الماء الذي غسل به رجله ورش عليها لسكنت من هيبته.
وامسحا ثوبه البقير على دا ... ئكما تشفيا من الإعلال
البقير: القميص الذي لا كم له. وقيل: هو الفرجي؛ لأنه يبقر مقدمه.
يقول: إن العليل إذا مسح ثوبه شفي من جميع الأدواء.
مالئاً من نواله الشرق والغر ... ب ومن خوفه قلوب الرجال
قابضاً كفه اليمين على الدن ... يا ولو شاء حازها بالشمال
مالئاً وقابضاً: نصبا على المدح. وقيل: على الحال من قوله: هذا بقية الأبدال أي يكون هذا على هذه الأحوال.
يقول: إنه قد ملأ الأرض كلها من عطاياه، واستولى عليها شرقاً وغرباً، وملأ من خوفه قلوب الناس. وقبض عن الدنيا كفه، زاهداً عنها، ولو شاء لنالها بأهون سعيٍ، فالرواية على هذا: عن الدنيا.
وقيل: أراد أنه استولى على الدنيا كلها بيمينه، ولو شاء لأخذها بأصغر الأخذ. وهو المراد بقوله بالشمال. والرواية على هذا: على الدنيا.
نفسه جيشه وتدبيره النص ... ر وألحاظه الظبا والعوالي
يقول: إنه وحده يقوم مقام الجيش، وتدبيره بنفسه يقوم مقام النصرة، ورأيه ولحظاته تقوم مقام السيوف والرماح.
وله في جماجم المال ضربٌ ... وقعه في جماجم الأبطال
الجمجمة: عظم الرأس.
يقول: إذا فرق ماله بالهبات، فإنه يقصد الأبطال ويضرب جماجمهم بالسيف، ويسلب أموالهم. فالضرب الواقع في جماجم الأموال، هو الواقع في رءوس الأبطال.
فهم لاتقائه الدهر في يو ... م نزالٍ وليس يوم نزال
فهم: راجع إلى الأبطال. يعني: أن الأبطال يخافون منه أبداً، فكأنهم طول الدهر في قتال؛ لخوفهم منه، وإن لم يكن قتال. والدهر نصب على الظرفية.
رجلق طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال
العنبر الورد: الذي يضرب إلى الحمرة، ومنه العنبر الأشهب: الذي يضرب إلى البياض، وهما جيدان. والأسود رديء. والصلصال: طين يابس، وهو الذي له صوت.
يقول: إن طينه الذي خلق منه، عنبر الورد، وطين غيره من صلصال، فله فضل على الناس.
فبقيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبةً في الزلال
يقول: إنه لما خلق، بقيت من طينته بقية، فخالطت الماء، فصارت تلك البقية عذوبةً في الماء الزلال، ولولاها لكانت كماء البحر.
وبقايا وقاره عافت النا ... س فصارت ركانةً في الجبال
يقول: إن بقايا وقاره وسكونه وهيبته، كرهت الناس فلم ترض بهم؛ لعلمها أنهم لا يستحقونها، فتحولت إلى الجبال فصارت سكوناً فيها.
لست ممن يغره حبك السل ... م وألا ترى شهود القتال
روى: بفتح التاء في ترى. وشهود بضم الشين. وروى: بالضم والفتح.
يقول: لست ممن يغتر بأنك تحب السلم، أي الصلح وألا تختار شهود القتال. وعلى الرواية الأخرى وألا ترى شاهد القتال. فشهود. فعول: بمعنى فاعل.
ذاك شيءٌ كفاكه عيش شان ... يك ذليلاً وقلة الأشكال
يقول: ذاك الشيء، أي ترك القتال، كفاكه ذلة مبغضيك وقلة من يشابهك؛ لأن أعداءك ذلوا وقلوا وأمثاله فقدوا، فليس يوجد أحد يقاومك وكفيت أمر الحرب بهذا الوجه، فلا تحتاج إلى القتال.

واغتفارٌ لو غير السخط منه ... جعلت هامهم نعال النعال
واغتفار: عطف على قوله: عيش شانيك.
يقول: كفاك الحرب اغتفارك ذنوب أعدائك، ولو غير السخط والغضب ذلك الاغتفار واستولى عليه، لجعل أعداءك نعالاً لنعال الأفراس، ولدستهم بخيلك.
لجيادٍ يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دمٍ في جلال
وروى: لجيادٍ وبجياد وهو من تمام البيت الذي قبله، أي تجعلهم نعالاً لنعال جياد، أو تطأهم بجياد تدخل في الحرب أعراء: أي عارية، فتكتسي بالدم فترجع والدم قد غطاها، فكأنها في جلال: أي لابسة جلالاً.
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
هذا البيت معطوف على قوله: جعلت هامهم. يعني: أن السيوف كانت تختضب بالدم، فتستعير لوناً غير لونها، وألقى لونها البياض على ذوائب الأطفال؛ لأنها كانت تشيبهم من الخوف، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " قال البخاري؟: معناه: أنه يقتل الآباء، ويؤتم الأولاد؛ فيشيبون من الحزن والخوف!
أنت طوراً أمر من ناقع السم ... وطوراً أحلى من السلسال
السم الناقع: هو القاتل لوقته. والسلسال: الماء العذب، السهل في الحلق.
يقول: أنت في حالٍ أمر من السم القاتل، وفي حالٍ أطيب من الماء العذب السائغ.
إنما الناس حيث أنت وما النا ... س بناسٍ في موضعٍ منك خال
يقول: أنت كل الناس، فإذا غبت عن موضع فقد غاب الناس كلهم. وقيل: إنما صار الناس ناساً، إذا كنت فيهم؛ لأنهم يأتمون بك، وكل موضع خلا منك، فأهله لا تعد من الناس.
وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد العزي الأوراجي الكاتب:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء
أمن: فعل ماضٍ، من الأمن، والازديار: افتعال من الزيارة. والدجى: جمع دجية، وهي الظلمة. وضياء: رفع بالابتداء وخبره مقدم عليه، وهو قوله: حيث كنت.
يقول: إن رقباءك أمنوا أن تزوري أحداً في الظلام؛ لأن كل موضع تكونين فيه، مضيءٌ بنور وجهك. ومثله قول الآخر:
طارقٌ نم عليه نوره ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا
قلق المليحة، وهي مسكٌ هتكها ... ومسيرها في الليل وهي ذكاء
القلق: الحركة، والاضطراب. وذكاء: اسم الشمس، وهي معرفة غير مصروفة. وقلق: مبتدأ. وهتكها: خبره. ومسيرها: عطف على قلق. وخبره: محذوف. تقديره: ومسيرها في الليل، وهي ذكاء هتك.
يقول: إنها كالمسك إذا حرك فاح فحركتها تهتكها وتنم عليها، وكذلك مسيرها بالليل وهي الشمس هتكٌ لها. فجعل نفسها مسكاً، ووجهها شمساً، فالمصراع الأول من قول امرىء القيس.
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ومثل المصراع الثاني:
أرادوا ليخفوا في الظلام مسيرهم ... فنم عليهم في الظلام التبسم
أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فبه علي خفاء
المدله: هو الذاهب العقل.
يقول: كان لي حزنٌ عليك، فحيرتني يوم الفراق عنه، حتى لم أحس به، وزال علمي به عني، فأسفي الآن على الحزن المتقدم، الذي حيرتني عن علمه، حتى صار خافياً علي. فكأنه اشتاق إلى حزنه الأول: الذي كان قبل حزن الفراق.
وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
الشكية، والشكاية، والشكوى: بمعنى واحد.
يقول: شكايتي الآن من عدم السقام، لا من السقام؛ لأن السقام إنما كان عندما كان لي أعضاء، فلما فقدت الأعضاء وصرت معدوماً لزوال السقام عني، فأنا أشتاق السقام؛ لأن بوجوده وجود الأعضاء أيضاً.
مثلت عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها؛ كلتاهما نجلاء
عين نجلاء: أي واسعة، وكذلك طعنة نجلاء. وقوله: فتشابها ذكره وحقه: فتشابهتا؛ لأن أحديهما العين، والأخرى جراحة، وهما مؤنثان. غير أنه ذهب بهما إلى المعنى، فكأنه قال: فتشابه الشيئان المذكوران. وأراد بالعين: العضو. وبالجراحة: الجرح. كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
وأما قوله كلتاهما فأنثه رداً إلى لفظ العين، والجراحة. وأفرد قوله: نجلاء؛ لأن لفظة كلتا مفردة، وإنما تدل على التثنية لصيغته.

يقول: جعلت بعينيك مثالاً في قلبي. أي جرحت قلبي جراحة واسعة مثل عينك الواسعة، فكل واحد من العين والجراحة واسع.
نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
السابري: قيل أراد به الثوب الرقيق. وقيل: هو الدرع. والصعدة: القناة القصيرة. ونفذت: فعل العين.
يقول: نفذت عينك السابري على أحد المعنيين ورقته، ووصلت إلى قلبي فجرحته جرحاً واسعاً، ثم قال: ربما تندق الرمح ويلتوي الصلب القوي في هذا السابري؛ إن أراد به الدرع، فالمعنى ظاهر: أي أن عينك نفذت هذا الدرع إلى قلبي، وربما كانت تنكسر عليه الرماح ولا تعمل فيه. وإن أراد به الثوب الرقيق فمعناه أن قميصه ربما كان لا تعمل فيه الرماح بل تندق دون الوصول إلي؛ هيبة مني، في قلب من يريد طعني، ومع ذلك فإن عينك نفذته! وقيل أراد: أن عينك وصلت إلى قلبي وجرحته ولم تخرق الدرع ولا القميص. كما قال:
رامياتٍ بأسهمٍ ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء
الصخرة: إذا كانت بالوادي كانت أصلب وأثبت.
يقول: أنا كصخرة الوادي في الصلابة والثبات، فإذا زاحمني أحدٌ في الفضل والكمال، أو في حال القتال لا يقدر على إزالتي عما أنا عليه من الحال، وما أختص به من الجلال.
وقوله: فإذا نطقت فإنني الجوزاء له معنيان.
أحدهما: أنه شبه نفسه بالجوزاء؛ لعلو محله عن كل ناظر. أي إذا نطقت لم يدرك غايتي أحد في البلاغة، كما لا يدرك أحد الجوزاء، وخصه بالذكر لأنه يشبه صورة الإنسان. والثاني: أنه أراد به ما يقول المنجمون من أن الجوزاء وصاحبه عطارد، يدلان على البلاغة والنطق. فيقول: أنا كالجوزاء: يستفاد من علمي ويقتبس من فوائدي، ويستمد من فصاحتي، كما أن الجوزاء يعطى من ولد فيه النطق والبراعة والبلاغة.
وإذا خفيت على الغبي فعاذرٌ ... ألا تراني مقلةٌ عمياء
يقول: إن خفي على الجاهل فضلي، فأنا أعذره، كما أعذر الأعمى إذ لم ير شخصي؛ لأن الجاهل أعمى القلب.
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضي أم البيداء؟!
الشيم: جمع الشيمة، وهي العادة. وأفضي: أوسع، وهو اسم المبالغة، وأراد: أصدري أم البيداء أوسع؟! يقول: عادة الليالي لقصدها بمحنها وصروفها، أن تشكك ناقتي، فلا أدري أصدري أوسع بالأيام، وبأموالها، أم الفضاء أوسع.
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسادها في المهمة الإنضاء
الإسآد: قيل هو إسراع السير. وقيل: سير الليل كله. وقيل: هو إدامة السير ليلاً ونهاراً. والمهمة: الأرض الواسعة. والإنضاء: مصدر أنضاه. إذا هزله. وتبيت: فعل الناقة. وتقدير البيت: فتبيت تسئد مسئد الإنضاء في نيها إسآداً مثل إسآدها في المهمة.
وإعرابه: تبيت. من أخوات كان، واسمه ضمير الناقة، وتسئد: فعل. في موضع نصب، لأنه خبر تبيت. ومسئداً: نصب على الحال من الضمير الذي فيه تبيت، وهو اسم الفاعل، وفاعله الإنضاء: وهو مرفوع به؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل. وإسآدها: نصب؛ لأنه وصف مصدر محذوف، كأنه قد أسأد مثل إسآدها، والضمير في إسآدها: راجع إلى الناقة، والناصب قوله: مسئد. ونظير التقدير الذي ذكرناه قول القائل:
تبيت هندٌ تصلي، مصلياً عمرو ... في دارها، صلاتها في المسجد
هذا كما تقول: مررت بهند واقفاً عندها عمرو فواقفاً: حال من مررت، وعمرو: مرفوع بواقف.
معناه: أن هذه الناقة تسرع في السير، والمهمة. والإنضاء يأخذ من الناقة وينقص منها، مقدار ما تنقص هي من المهمة.
ومثله لكشاجم في الشمعة قوله:
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في الموقف
والمتنبي حول هذا المعنى إلى المفازة والناقة كما ترى.
أنساعها ممغوطةٌ، وخفافها ... منكوحةٌ، وطريقها عذراء
الأنساع: جمع نسع، وهو سير مضفور كهيئة العنان. والممغوطة: الممدودة. والخف: من البعير، بمنزلة القدم من الإنسان. ومنكوحة: أي دامية. فذكر بلفظ النكاح لذكره العذراء.
يقول: أنساع هذه الناقة ممتدة لهزالها فجالت عليها أنساع رحلها، وخفافها دامية من الحفا وطريقها مجهولٌ لم يسلكه أحد.
يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما يتلون الحرباء

الخريت: الدليل العالم بخفيات الطرق، كخفاء ثقب الإبرة. والتوى: الهلاك. والحرباء: دابة أكبر من العظاية، على خلقتها. ويقال: إنها ذكر أم حبين تستقبل الشمس دائماً كيف دارت. والهاء في فيها: للطريق، لأنها تؤنث. وقيل: ترجع إلى البيداء.
المعنى: أن هذه الطريق مجهولة فالدليل إذا سلكها يتقلب يميناً وشمالاً وخلفاً وقداماً، ومن ناحية إلى ناحية؛ وهذا هو التلون، كما تتقلب الحرباء في الشمس. ذكره ابن جنى.
وقيل: أراد أنه يصفر لونه مرة، ويسود تارة، ويحمر أخرى؛ خوف الهلاك ورجاء الاهتداء. فهذا هو التلون كحال الحرباء مع الشمس.
بيني وبين أبي عليٍّ مثله ... شم الجبال ومثلهن رجاء
الهاء في مثله: للممدوح. والشم: جمع أشم، رفع لأنه بدل من قوله: مثله ويجوز أن يكون الابتداء مضمر أي: هو شم الجبال. فيكون كالتفسير لمثله ومثلهن منصوب؛ لأنه وصف لنكرة وهو رجاء فلما تقدمت على الموصوف نصبت على الحال.
يقول: بيني وبين الممدوح جبالٌ، هي مثل الممدوح في العلو والثبات والرزانة والوقار. فشبه الجبال به، ولم يشبهه بالجبال.
وهذه عادته: أن يمكن التشبيه في الموصوف، ويجعل المعنى ثابتاً فيه. ثم قال: ومثلهن رجاء. أي لي رجاء عنده مثل هذه الجبال.
وعقاب لبنانٍ، وكيف بقطعها ... وهو الشتاء، وصيفهن شتاء؟
العقاب: جمع عقبة. ولبنان: جبل بالشام في ناحية دمشق. والباء في بقطعها زائدة. قوله: وهو الشتاء في موضع نصب على الحال.
يقول: بيني وبينه عقابٌ وهي شديدة البرد، وصيفها مثل شتاء غيرها، فكيف لي بقطعها في الشتاء وهي بهذه الصفة؟
لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء
لبس: أي عمى وغطى وأخفى، علي الطريق في هذه العقاب، فكأنها مع بياضها سوداء؛ حيث أن الطريق خفي فيها وهي بيضاء، كما يخفى في سواد الليل، إذ العادة أن الطريق لا يخفيه إلا سواد الليل وظلمة الغيم، فمتى خفي بالبياض صار بمنزلة السواد.
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء
النضار: هو الذهب. وقام الماء: أي جمد. وأراد بالكريم: الممدوح. يعني إنما جمد لتحيره في عطائه، وخجله من كثرة سخائه، وسال الذهب في هباته كما سال الماء.
جمد القطار فلو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجس الأنواء
الأنواء: الأمطار بالقمر؛ وقد بيناه. وتتبجس: أي تتفجر. ورأى: فعل القطار، رده إلى اللفظ، وليس فيه علامة التأنيث. وروى: كما أرى أي لو رأته القطار كما أرى وأشاهد، لميزت كما ميزت، ولو رأته الأنواء والقطار على اختلاف التقدير. يعني: لو رأته الأنواء كما رأته القطار. ويجوز رفع الأنواء من ثلاثة أوجه: أحدها: بقوله: رأته.
والثاني: بقوله: بهتت الأنواء.
والثالث: فلم تتبجس وهو المختار عند البصريين، وباقي الأفعال فيه ضمير الأنواء.
يقول: إن المطر لما رأى جوده جمد وتحير فصار ثلجاً، ولو رأته الأنواء كما رآه المطر لتحيرت ولم تتفجر بالماء؛ خجلاً منه، وهذا على مذهب من يعتقد أن الأمطار من النجوم.
في خطه من كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأن مداده الأهواء
يقول: كل أحد يهوى خطه لحسنه، فشهوة كل قلب حاصلة في خطه، فكأن مداد خطه من أهواء الناس ومحبتهم.
ولكل عينٍ قرةٌ في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
القرة: المسرة وأصله البرد. والمغيب: الغيبة. والأقذاء: جمع قذىً، وهو ما يسقط في العين. وروى الإقذاء مصدر من أقذيت عينه إذا طرحت فيها القذى.
يقول: كل أحد يسر من قربه ويحزن لفراقه، فكأن رؤيته قرة العين، وغيبته قذى يسقط فيها.
من يهتدي في الفعل ما لا يهتدي ... في القول حتى يفعل الشعراء
تقديره: من يهتدي في الفعل إلى ما لا يهتدي إليه الشعراء في القول حتى يفعله. فالشعراء: رفع بقوله: ما لا يهتدى وأما يهتدى. ففيه ضمير الممدوح، وكذلك في حتى يفعل وفي هذا البيت وجوه: أحدها: أن من يصلح أن يكون بمعنى الذي، موضعه رفع بخبر الابتداء المحذوف. أي هو الذي، وما بعده إلى آخر البيت صلة، والضمير العائد إليه مستتر في الفعل الذي يليه.
والثاني: يصلح أن يكون استفهاماً: أي من يفعل هذا غيره؟ وهو مرفوع بالابتدائ وما بعده خبر عنه.

والثالث: أنه حذف حرف الجر من يهتدى وعداه إلى المفعول. والأصل: من يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى. فحذف إلى وأوصل الفعل إلى المفعول.
والرابع: أن ما في قوله ما يهتدى يصلح أن يكون بمعنى الذي، وأن يكون نكرة موصوفة. أي يهتدى في الفعل إلى شيء لا يهتدى إليه الشعراء.
والخامس: أنه حذف الضمير الراجع إلى ما وهو قوله: إليه وهذا لا يجوز إلا في ضرورة؛ لأنه من صلة ما وإنما يجوز حذفه إذا كان متصلاً بالفعل كقولك: ما شربته ماء، وما شربت ماء. فأما إذا انفصل الضمير فلا يجوز حذفه.
المعنى: أنه يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى إليه الشعراء بالقول، حتى يفعله هو، فإذا فعله اهتدوا إليه.
في كل يومٍ للقوافي جولةٌ ... في قلبه ولأذنه إصغاء
القوافي ها هنا: القصائد.
يقول: إن الممدوح في كل يوم يمدح بالقصائد وينشد، فللقوافي جولان في قلبه، ولها استماع في أذنه.
وإغارةٌ فيما احتواه كأنما ... في كل بيتٍ فيلقٌ شهباء
الفيلق: القطعة من الجيش. والشهباء: بيضاء من الحديد، وإنما تكون دالة إلى الكتيبة، لا إلى الفيلق، والبيت من الشعر.
يقول: إنه كل يوم يقصد ويمدح، ويهب ماله للشعراء، فكل بيت يمدح به، جيشٌ يغير على ماله؛ وذلك لتمكين الشعراء من ماله.
من يظلم اللؤماء في تكليفهم ... أن يصبحوا وهم له أكفاء
من: بمعنى الذي. أي: هو الذي يظلم اللؤماء. ويجوز أن يكون نكرة موصوفة. أي: هو رجلٌ يظلم اللؤماء. واللؤماء: جمع لئيم.
يقول: هو الذي يطلب من اللئام أن يفعلوا مثل فعله، وأن يكونوا نظراء له، فهو يظلمهم بذلك؛ لأنه يكلفهم ما ليس في طباعهم، فهم يظلمون بذلك.
ونذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتبين الأشياء
نذمهم: أي نعيرهم.
يقول: نحن نعير اللئام ونذمهم ولا يجب أن نذمهم؛ إذ بهم عرفنا فضل الممدوح؛ لأنهم لو كانوا مثله لما عرفنا فضله، وإنما عرفنا فضله لقصورهم عنه؛ لأن الشيء إنما يتبين إذا قرن بضده. وروى: وبضدها تتبين الأشياء، على ما لم يسم فاعله.
من نفعه في أن يهاج وضره ... في تركه، لو تفطن الأعداء
يقول: إن الممدوح نفعه في أن يهيج للحرب؛ لأنه حينئذٍ يغير على أعدائه، ويغنم أموالهم وينتفع بها.
وضره في ترك هيجانه؛ لأنه إذا لم يحارب، صالح أعداءه. واستضراره بذلك: حيث يفرق ما جمعه في حال الحرب. ولو تفطن الأعداء بذلك قصدوا إلحاق الضرر به.
فالسلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
السلم: يذكر ويؤنث. والهيجاء: الحرب. شبه المال بالطائر فاستعار له جناحين.
يقول: الصلح يكسر جناحي ماله، بنواله وتفرقته. أي أن الصلح يقل ماله، وما يكسره الصلح يجبره الحرب؛ لأنه يغنم أموال أعدائه فهو يتلف ويخلف.
يعطي فتعطى من لها يده اللها ... وترى برؤية رأيه الآراء
اللها: الدراهم والدنانير، واحدها لهوة. وأصلها القبضة التي تلقى في فم الرحاء. والآراء: جمع الرأي، وهو مقلوب مخفف من الأأراء.
يقول: إنه يعطي عطاء كثيراً، والمعطى إليه يعطي من عطاياه. يعني: أنه قد أغناه بعطائه، حتى أنه يجود على غيره، وإذا نظر غيره إلى آرائه، تعلم منه الرأي والتدبير، ويبصر به وجه الصواب، بسداد رأيه. وقيل: أراد أنه إذا نظر إلى رأيه فكأنه قد أبصر جميع آراء الناس.
متفرق الطعمين مجتمع القوى ... فكأنه السراء والضراء
يقول: إنه جمع اللين والشدة، والبأس والجود، والرأي لا يدخله خلل، فكأنه لاجتماع اللين والشدة والسراء والضراء. وقيل: أراد بقوله مجتمع القوى باجتماع هذين الخلقين فيه اجتمعت قواه وكملت صفاته.
وكأنه مالا تشاء عداته ... متمثلاً لوفوده ما شاءوا
متمثلاً: نصب على الحال. وما: بموضع رفع.
يقول: كأنه صور مما يكرهه أعداؤه، ومما يحبه أولياؤه في حال تمثله لوفوده وهم أولياؤه. وقيل: أراد أنه يسيء إلى أعدائه في حال إحسانه إلى أوليائه، فيجمع الأمرين في وقت واحد.
يا أيها المجدي عليه روحه ... إذ ليس يأتيه لها استجداء
يقول: يا أيها الرجل الموهوب له روحه، من حيث لم يأت أحد يستجديه. أي: يستوهبه. يعني: لو طلب طالبٌ روحك لوهبته منها، فمن لا يطلب ذلك فكأنه وهبه منها. ومثله:

ولو لم يكن في كفه غير روحه... البيت
ومثله قوله:
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
احمد عفاتك لا فجعت بفقدهم ... فلترك ما لم يأخذوا إعطاء
يقول: احمد سائليك؛ حيث لم يستوهبوك نفسك؛ لأنهم لو استوهبوها منك لأعطيتهم إياها! فتركهم لروحك بمنزلة الإعطاء منهم لك. وقوله: ولا فجعت بفقدهم حشوٌ لطيف. وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاء لهم، لما ذكر من أنه ينتفع بهم. والثاني: أنه دعاء له بدوام النعمة وبقاء الدولة. فكأنه قال: لا زلت مقصوداً.
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياء
لهذا البيت معنيان: أحدهما: أن الأموات لا تكثر إلا إذا غضبت على الأحياء فقتلتهم وأفنيتهم فشقوا. وقوله: كثرة قلة يعني أنها في الحقيقة قلة من حيث كانت فناءً وعدماً، أو لأن الأموات تبلى فتذروها الرياح وتأكلها الوحش والطير، فهي تقل وإن كثرت.
والثاني: أن الأموات لا تكثر إلا إذا مات هذا الممدوح، وشقي الأحياء بفقده، وأنهم يموتون كلهم بموته؛ فحينئذ تكثر الأموات كثرة في قلة؛ لأنه من حيث هو موت رجل واحد قليل، ومن حيث ينضم إليه موت الخلق كثير. ومثله قول الآخر:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت حيٍّ ... يموت بموته خلقٌ كثير
وقال أبو عمرو السلمي: عدت أبا علي الأوراجي في علته التي مات فيها بمصر فاستنشدني:
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ
فجعل يستعيده ويبكي، فخرجت ولحقت بمنزلي فقيل: إنه مات! وكان أبو علي يتصوف.
والقلب لا ينشق عما تحته ... حتى تحل به لك الشحناء
الشحناء: البغض، كأنها تشحن الصدر، أي تملؤه عداوة.
يقول: إن القلب لا ينشق عما دونه وما فيه، بالرماح والأسلحة، إلا إذا نزلت به عداوتك. وقيل: أراد أن القلب لا يحتمل عداوتك، فإذا حلت به عداوتك انشق القلب فمات فزعاً وخوفاً. فكأنه يقول: لا يهلك أحد إلا ببغضه.
لم تسم يا هارون إلا بعد ما اق ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء
يقول: لما ولدت تنافست الأسماء في الشرف بك حتى تقارعت بالقرعة عليك فخرج سهم هارون فسميت به، فلم تسم بهارون إلا بعد هذه الحالة.
فغدوت واسمك فيك غير مشاركٍ ... والناس فيما في يديك سواء
يقول: فصرت لا شريك لك في هذا الاسم، إذ لام يسم أحد بهذا الاسم مثلك في الفضل، فصرت منفرداً به والناس شركاء في أموالك، يتصرفون فيها كيف شاءوا.
لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء
اللام في قوله: لعممت جواب القسم، أي والله لعممت، أي ملأت المدن. وملاء: جمع ملآن. واللفاء: الشيء القليل الذي لا قدر له.
يقول: قد عممت الأرض بجودك، حتى المدن ممتلئة به، وسبقت ثناءك، لما لك من القدر حتى صار هذا الثناء الذي أثني به عليك قليل، في جنب قدرك.
وقد صرع البيت في أثناء القصيدة من غير انتقال إلى قصةأخرى. وهذا جائز وإن قل.
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهي ومن السرور بكاء
المنتهي: هو الانتهاء.
يقول: جدت حتى بلغت الغاية في الجود وكدت تستحيل بخيلاً، لأن الشيء إذا بلغ غايته انعكس إلى ضده. ثم قال: ومن السرور بكاء! أي أن الإنسان إذا تناهى في السرور دمعت عيناه، فيصير السرور بكاء.
أبدأت شيئاً منك يعرف بدوه ... وأعدت حتى أنكر الإبداء
يقول: ابتدأت فابتدعت بنوع المكارم ما لم يعهد قبلك، فمنك مبدؤه ثم كررته وزدت على ما كنت ابتدأت به، حتى تنسى الأول لأجل الثاني. ومثله:
فإذا أتيت بجود يومك مفخراً ... عمت به أرواح جودك في غد
فالفخر عن تقصيره بك ناكبٌ ... والمجد من أن تستزاد براء
ناكب: أي عادل. وبراء: أي بريء.
يقول: إن الفخر لا يقصر بك وهو ناكب عن أن يقصر بك؛ لأنك قد بلغت الغاية. والمجد: وهو الشرف، بريء من أن تستزيده؛ لأنه ليس فيه رؤية لم تبلغها أنت فتسأل الزيادة حتى تبلغها.
فإذا سئلت فلا لأنك محوجٌ ... وإذا كتمت وشت بك الآلاء

الآلاء: النعم واحدها أليٌّ وإلي أي متى طلب الناس منك شيئاً فليس لأنك أحوجتهم إلى السؤال، ولكن سألوك تشرفاً بسؤالك وتلذذاً به، وإذا كتمك كاتم، أو كتم محلك وذكرك، دلت عليه نعمك الظاهرة المنتشرة، فلا يمكنه ذلك. ومثله قول مسلم:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعةً ... للشاكرين على الإله ثناء
يقال: كسب المال وكسب الرجل المال.
يقول: إن مدحنا إياك، لا يكسبك رفعة؛ لأنك في نفسك رفيع، وإنما نمدحك شكراً لإحسانك، وتشرفاً بمدحك، وترفعاً بالثناء عليك. ثم ضرب مثلاً بأن من يثني عليك كالشاكرين لله تعالى؛ لأنهم يشكرون الله تعالى، لنفع يعود إليهم، لاإلى الله عز وجل. وأخذه من قول الأول
فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لعزة ملكٍ أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لي أيها الثقلان
وإذا مطرت فلا لأنك مجدبٌ ... يسقي الخصيب ويمطر الدأماء
أجدب القوم: إذا أجدبت أرضهم، أو وقعوا في مكان جدب. والدأماء: البحر.
يقول: إذا مطرت فلست تمطر لإجداب محلك وجدب بلدك، ولكن تمطر مع الاستغناء عنه، كما يمطر المكان الخصيب وكما يمطر البحر مع كثرة مائه.
لم تحك نائلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرخصاء
الصبيب بمعنى المصبوب، وهو المطر. والرخصاء: عرق الحمى. والهاء في به: للنائل. والتأنيث: للسحاب؛ لأنه بمعنى الجمع.
يقول: إن السحاب لم يعارضك في السخاء بمائه وإنما حسدك لزيادتك عليه فحم بسبب كثرة عطائك، فهذا الذي ينصب عنه، عرق الحمى التي أصابته.
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجهٍ ليس فيه حياء
يقول: لم تلق الشمس وجهك، إلا بوجه ليس فيه حياء؛ إذ لو كان في وجهها حياء لم تقابله؛ لقصور نورها وبهائها عن نوره وبهائه.
فبأيما قدمٍ سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء
قوله: ما صلة وأي استفهام في معنى التعجب وأدم الهلال: جلده. والحذاء: النعل يقول: إنك بلغت من العلا محلاً لم يبلغه أحد فبأي قدمٍ سعيت إليها؟! ثم دعا له: بأن يكون أديم الهلال نعلاً لأخمصيه: أي لا زلت عالياً حتى يصير الهلال لك بمنزله النعل.
ولك الزمان من الزمان وقايةٌ ... ولك الحمام من الحمام فداء
دعا له فقال: وقاك الله من حواث الزمان بالزمان، وفداك بالموت من الموت. وقيل: أراد ليهلك الزمان دون هلاكك، وليمت الموت دون موتك. وقيل: أراد به أهل الزمان، وقاية لك من حوادث الزمان، وموت أهل الزمان فداء لموتك فيموتون عنك.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
الورى: الخلق من بني آدم. واللذ: بحذف الياء: لغة في الذي.
يقول: لو لم تكن من بني آدم، الذين هم في الحقيقة منك؛ لأنك جمالهم وشرفهم، ولو لم تكن فيهم لعدوا في العدم، ولكانت حواء بولادة نسلها عقيماً، كأنها لم تلد أحداً.
ودخل أبو الطيب يوماً على أبي علي الأوراجي فقال له أبو علي: وددنا أنك كنت معنا يا أبا الطيب اليوم. فقال أبو الطيب: ولم؟ فقال: ركبنا ومعنا كلبٌ لابن مالك، فطردنا به وحده ظبياً، ولم يكن لنا صقرٌ. فاصطاده! فقال أبو الطيب: أنا قليل الرغبة في ذلك والنظر إلى مثل هذا. فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه حتى تستحسنه فتقول فيه شيئاً. فقال أبو الطيب: أنا أفعل. قال له: فأحب منك ذاك. وتحدث أبو علي ثم قال: أنا أحب أن تفعل ما وعدتني، فقال له أبو الطيب: قد أحفيت السؤال! أتحب أن يكون ذلك الساعة؟ فقال أبو علي: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن، وحرف الروي. فقال أبو علي: بل الأمر فيهما لك. فأخذ أبو الطيب درجاً وأخذ أبو علي درجا يكتب فيه كتاباً إلى إنسان، فقطع عليه أبو الطيب الذي يكتبه وأنشده يصف كلب صيد أرسل على غزال وليس معه صقر.
ومنزلٍ ليس لنا بمنزل
ولا لغير الغاديات الهطل
الغاديات: السحاب يأتي غدوة، واحدها غادية. والهطل: جمع هاطلة، وهي الكثيرة المطر. يقال: هطلت السماء تهطل هطلاً وهطلاناًح إذا صبت صباً دائماً شديداً.
يقول: رب منزل ليس بمنزل الإنس، وإنما هو منزل السحاب التي تصب الأمطار.
ندى الخزامى ذفر القرنفل

محللٍ ملوحش لم يحلل
الخزامى، والقرنفل: نبتان طيبان. وقيل: الخزامى خيري البر، والندى: الرطب. من بلد الندى. والذفر: الحاد الرائحة الطيبة والخبيثة، وبالدال النتن خاصة. والمحلل: المكان الذي يكثر الحلول فيه. وأراد: من الوحش فحذف النون، وقد مضى مثله.
يقول: هذا المنزل فيه رائحة الخزامى والقرنفل، وإنه منزل الوحش وفيه تخلق دون الناس، فلا يحله أحدٌ من الناس. وقيل: أراد هذا المكان محلل الوحش، وإن أخذه سهل حلال؛ لكثرته وقرب تناوله، فكأن هذا المنزل قد أحل فيه تناول الوحش ما لم يحل اصطياده في غير ذلك الموضع.
عن لنا فيه مراعي مغزلٍ
محين النفس بعيد الموئل
عن: أي ظهر وعرض. فيه: أي في المنزل. والمراعي: اسم من راعى. والمغزل: الظبية التي معها ولدها. فالمراعي الظبى، والمغزل: الظبية. ومحين النفس: الذي دنا حين أجله. والموئل: الملجأ.
يقول: ظهر لنا في هذا المنزل ظبي يراعي ظبية ذات ولدٍ. أي يرعى معها. وهو محين النفس: أي أن الحين لاحق به، ودنا هلاكه، وهو بعيد الملجأ: أي لا ملجآ له؛ لأن الكلب صلاه فصار هالكاً.
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى
وعادة العري عن التفضل
الحلي: الحلي، فخفف. والعري والتفضل: أن يلبس ثوباً يبتذل له في منزل الخدمة. والهاء في أإناه: لمراعي مغزل.
يقول: إن حسن جيده أغناه عن التزين بالحلي، واعتياده أن يكون عرياناً كفاه، لفضله عن لبس الحلي.
كأنه مضمخٌ بصندل
معترضاً بمثل قرن الأيل
يقول: كأنه مطلي بالصندل، لا من كونه يضرب إلى الصفرة كلون الصندل، وقرنه في الطول مثل قرن الأيل: وهو التيس الجبلي. وقيل: الثور الجبلي. ومعترضاً: حال من الهاء في كأنه. وهو من سرعة عدوه يسق لحظة الكلب فلا يقدر أن يتأمله.
يحول بين الكلب والتأمل
فحل كلابي وثاق الأحبل
عن أشدقٍ مسوجرٍ مسلسل
أقب ساطٍ شرسٍ شمردل
الكلاب: صاحب الكلب. والوثاق: الرباط. والأشدق: واسع الشدقين وهما شق الفم عن يمين وشمال أي عن كلب أشدق. ومسوجر: أي في عنقه ساجور. وهو الخشب الذي يكون في عنق الكلب. ومسلسل: أي في عنقه سلسلة. والأقب: الضامر البطن. والساطي: البعيد ما بين الرجلين، إذا مشى. والشرس: السيىء الخلق. والشمردل: الطويل. وقيل: الخفيف الكثير الحركة.
يقول: حل الكلابٌ رباط الحبال عن كلب هذه صفته.
منها، إذا يثغ له لا يغزل
موجد الفقرة رخو المفصل
منها: يرجع إلى الأحبل، والكلاب، وإن لم يجر للكلاب ذكر؛ لدلالة الكلام عليها. وإذا يثغ صوت الثغاء: أي صوت الغنم. واستعاره للغزال وجزم يثغ بإذا ولا يجوز إلا في الشعر. وقوله: لا يغزل من قولهم: غزل الكلب يغزل، إذا دنا وأدرك الغزال، فتحير ولم يمسكه وقوله موجد الفقرة: أي وثيق الفقرة: وهو عظم الظهر وأراد برخو المفصل: أنه سريع التعطف.
يقول: إن هذا الكلب إذا أدرك أيلاً وثغاله لم يدهش من ثغائه، ولم يمسك عنه لاعتياده الاصطياد، وإنه وثيق عظم الظهر ورخو المفصل: أي سريع التعطف
له إذا أدبر لحظ المقبل
كأنما ينظر من سجنجل
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلا جاء المدى وقد تلي
أحزن: أي وقع في الحزن، وهو ما غلظ من الأرض. والمسهل: الواقع في السهل. والسجنجل: المرآة.
يقول: من تيقظه يرى ما وراءه كما يرى ما قدامه. وإنه يعدو في الحزن من الأرض مثل ما يعدو في السهل.
يقول: كأن عينه المرآة؛ من حيث إنه يرى بها خلفه وأمامه، كما يبصر الإنسان وجهه في المرآة؛ عن عكس المقابلة في الصورة.
يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربعٍ مجدولةٍ لم تجدل
الإقعاء: هو أن يجلس على إليتيه ويرفع ركبتيه. وأقعى الكلب: إذا وقع على ذنبه. وجلوس: نصب على المصدر. المجدولة: المحكمة.
يقول: إذا تبع الصيد وعدا خلفه، أدرك الغاية، وتقدم الصيد، فيتلوه الصيد: يعني أنه يصير متبوعاً بعد أن كان تابعاً. يعني يسبق الصيد ثم يعطف عليه فيصييده ثم قال: يجلس هذا الكلب مثل جلوس البدوي على النار: يعني أنه لعظم جثته يشبه البدوي، وجلوسه يشبه جلوسه عند الاصطلاء بالنار، وقوله: بأربع. أي يقعي بأربع قوائم مفتولة وهي في الحقيقة لم تفتل.
فتل الأيادي ربذات الأرجل

آثارها أمثالها في الجندل
الفتل: جمع أفتل. يعني أنه مفتول اليدين، وقيل: إنه جمع فتلاء، وهي التي تباعد ذراعها عن جنبها. وهي محمودة في الكلب. والأيادي: جمع الأيدي. والأيدي: جمع اليد. وربذات: أي مسرعات.
يقول: إن هذا الكلب يده على هذه الصفة. وإن رجله خفيفة سريعة الانتقال. وقوله آثارها: أي آثار هذه القوائم إذا مشى على الصخر. يعني أنها تؤثر في الحجر، وتترك فيه آثارها.
يكاد في الوثب، من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي
التفتل: الالتواء. والكلكل: الصدر. والحضار: العدو.
يعني: يلتوي في وثبه حتى يكاد أن يجمع بين صدره وظهره، ورأسه وقوائمه. فآخر عدوه كأوله، لا يلحقه فتور ولا تعب. يسرع أولاً ولا يبطىء آخرا
كأنه مضبرٌ من جرول
موثقٌ على رماح ذبل
ذي ذنبٍ أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
مضبر: أي مجتمع الخلق. والجرول: الحجر. والذبل: جمع الذابل، وهو الذي أخذه الحفا، ولم يلبس. والأجرد: قصير الشعر. والأعزل: المائل في أحد شقي الجسد، وهو عيب في الخيل، والكلاب.
يقول: كأنه أحكم ونحت من الحجر، وهو موثق على قوائم طوال، مثل الرماح الذبل. ثم وصف ذنبه، بأنه قليل الشعر؛ ليكون أخف، وأنه غير أعزل؛ لأنه عيب. وقوله: يخط في الأرض قيل: إنه من فعل الذنب، أي ذنبه طويل يخط في الأرض دفعة بعد أخرى، فيمحوا في الثاني، ما يخط في الأول، كما يفعل بالحروف الحساب على التخت، وقيل: أراد أن الكلب يخط ذلك، ووجه التشبيه أن أكثر ما يخط من حروف الهند أحرف معدودة، مختلفة الصور، فشبه آثار يدي الكلب ورجيله، يمنة ويسرة، على ما فيها من الاختلاف بتلك الصور.
والجمل: أصله جمل فشدد للضرورة.
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يبلي السوط تحريكٌ بلي
نيل المنى، وحكم نفس المرسل
وعقلة الظبي، وحتف التتفل
تحريكٌ: مرفوع؛ لأنه فاعل يبلي والسوط مفعوله.
يقول: كان هذا الكلب؛ من سرعته بمعزل عن جسمه. أي يكاد يترك جسمه ويتميز منه لسرعته. وقيل إن الهاء عائدة إلى الذنب، أي أن ذنبه طويل، بعيدٌ من جسمه، فكأنه في ناحية منه.
يقول: لو كان السوط يبلي من كثرة تحريكه، لكان هذا الكلب يبلى من سرعة عدوه، فكما لا يؤثر التحريك في السوط فكذلك كثرة العدو لا تؤثر فيه. فشبه جسمه لدقته وصلابته بالسوط.
وقيل: شبه ذنبه لدقته بالسوط. يعني: لو كان السوط يبلي من كثرة التحريك لكان ذنبه يبلي من كثرة تحريكه إياه.
والتتفل: ولد الثعلب. وقوله: نيل المنى: أي أن صاحبه إذا أرسله على الصيد نال مناه، وحكم لنفسه بما أراد. وهذا الكلب عقلة الظبي: أي هو للظبي بمنزلة العقال، لأنه لا يمكنه من العدو، وأنه هلاك ولد الثعلب. أي لا يقدر أن يفلت منه. وهو من قول امرىء القيس:
.......... قيد الأوابد هيكل
فانبريا فذين تحت القسطل
قد ضمن الآخر قتل الأول
في هبوة كلاهما لم يذهل
لا يأتلي في ترك ألا تأتلي
مقتحماً على المكان الأهوال
يخال طول البحر عرض الجدول
انبريا: أي اندفعا واعترضا. قوله فذين: أي فردين ونصبه على الحال، وأراد به الظبي والكلب. والقسطل: الغبار. والهبوة: الغبرة. أي أقبلا وظهرا للناظر يعدوان في الغبار منفردين لا ثالث معهما، وقد ضمن الآخر وهو الكلب قتل الأول وهو الغزال، لأن الكلب عدا خلف الظبي، وكل واحد منهما في وسط الغبار لم يغفل عن عدوه، بل كان مجداً فيه. الظبي للهرب. والكلب في الطلب. أي كل منهما لم يعرض له بغته ولم يأخذه سهوة والله أعلم ولا في قوله: لا يأتلي زائدة أي لا يأتلي في ترك أن يأتلي. ونصب مقتحماً على الحال، والعامل فيه لا يأتلي. وإن شئت نصبته بما بعده. أي يخال طول البحر مقتحماً. وهذه الأبيات تصلح أن تكون للكلب ولكل من الكلب والظبي يقول: إنه لا يقصر في ترك التقصير وإنه يطرح نفسه لشدة عدوه على الأمر الأعظم الأخوف ولا يبالي، لقلة مبالاته يظن طول البحر عرض النهر الصغير فيطرح نفسه فيه.
حتى إذا قيل له نلت افعل
افتر عن مذروبةٍ كالأنصل
لا تعرف العهد بصقل الصيقل
مركباتٍ في العذاب المنزل

افتر: أي كشر. ومذروبةٍ: أي محدودة. والأنصل: جمع نصل.
يقول: حتى إذا وصل إلى الغزال وقيل له: أصبته افعل به ما شئت. كشر عن أنياب محددةٍ مصقوله كأنها النصول في الحدة، وهذه الأنياب كانت مصقولة خلقةً لا بصنعة صيقل، وإنها مركبة في حنك شديد، كل من عضه حطمه، كأنه عذاب منزل على الغزال.
كأنها من سرعةٍ في الشمأل
كأنها من ثقلٍ في يذبل
كأنها من سعةٍ في هوجل
التأنيث: للمذروبة. ويذبل: جبل. والهوجل: ما اتسع من الأرض.
شبه حنكه؛ لسرعته بالشمال وشبه شدقه بيذبل الجبل المتسع. أي كأن هذه الأنياب مركبة في الشمال، وشبه شدة عض الحنك بالجبل. أي كأن الأنياب من ثقلها مركبه في يذبل.
كأنه من علمه بالمقتل
علم بقراط فصاد الأكحل
المقتل: يجوز أن يكون مصدراً أو اسماً للموضع الذي إذا أصيب قتل، فمعناه على المصدر: أي كأنه لعلمه بالمقتل وأراد به إراقة الدماء علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. وعلى الاسم: أي كأنه من حذقه بالصيد واجتنابه عند العض مواضع القتل علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. والأكحل: عرق باطن الزراع.
فحال ما للقفز للتجدل
وصار ما في جلده في المرجل
فلم يضرنا معه فقد الأجدل
التجدل: السقوط على الجدالة، وهي الأرض. والأجدل: الصقر.
يقول: فحال: أي استحال وانقلب ما للقفز: وهو الوثوب، وهي القوائم أي صارت قوائمه التي يقفز بها للسقوط، وصار ما في جلدها من اللحم في المرجل: أي ذبحناه وطبخناه بعد سلخ الجلد فلم يضرنا مع هذا الكلب فقد الصقر؛ لأنا صدنا بالكلب وحده، وذلك لأن الكلب لا يقدر على صيد الغزال إلا مع الصقر، إلا هذا الكلب.
إذا بقيت سالماً أبا علي
فالملك لله العزيز ثم لي
ختم بالدعاء له ومعناه ظاهر
قصائد بدر بن عماروقال يمدح بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وهو يومئذٍ على حرب طبرية من قبل أبي بكر محمد بن رائق:
أحلماً نرى أم زماناً جديدا ... أم الخلق في شخص حيٍّ أعيدا؟!
أحلماً: نصب بنرى. وأم زماناً: عطف عليه بأم. وجديدا: صفة لزمان. وقوله: أم الخلق: رفع لأن أم ها هنا منقطعة، والأولى متصلة.
يقول: إن ما أرى من صفات هذا الممدوح وأفعاله عجب أنراه في المنام لبعده عن العادة، أم هذا زمان جديد، غير ما كان من قبل؛ لأننا نرى فيه ما لم يعهد في زمانٍ قبله! أم الناس قد أعيدوا في شخصٍ واحد؟!
تجلى لنا فأضانا به ... كأنا نجومٌ لقينا سعودا
تجلى: أي ظهر. فأضانا به: أي صرنا مضيئين به. وهو فعل لازم وأضاء يلزم ويتعدى.
يقول: ظهر لنا هذا الممدوح، فعلا نوره وشرفه حتى أنرنا به، ولما ظهر كنا كأنا النجوم لقينا سعوداً فحسن بنوره وبركته.
رأينا ببدرٍ وآبائه ... لبدر ولوداً، وبدراً وليدا
أراد بالبدر الأول: الممدوح. والثاني: هو القمر. وبدراً ولوداً ووليداً: نصب برأينا. واللام في قوله لبدر: لام المفعول إذا قدم على الفعل كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " أي إن كنتم تعبرون للرؤيا.
يقول: لما رأينا بدراً وهو الممدوح وأباه، لأن أباه قد ولد بدراً، ورأينا بدراً قد ولد، وهذا غير معهود في العالم أن يكون البدر والد البدر. جعله بدراً في الحقيقة ثم تعجب من كونه مولوداً!
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا، له فتركنا السجودا
يقول: رضينا أن نسجد له؛ إعظاماً، فكره هو ذلك وأنكر منا السجود له، ولم يرضه. وطلبنا رضاه بترك السجود؛ موافقة وإيثاراً لرضاه على رضانا.
أميرٌ أميرٌ عليه الندى ... جوادٌ، بخيلٌ بألا يجودا
هذا كقول أبي تمام:
ألا إن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
يقول: هو أمير على الناس، والسخاء أمير عليه؛ لأنه يطيع أمره، فهو أبداً جواد لا يعدل عنه. وهو بخيل بألا يجود: أي بخيل. بترك الجود وهذا غاية الجود.
يحدث عن فضله مكرهاً ... كأن له منه قلباً حسوداً
يقول: هو يكره أن يحدث عنه بما فيه من الفضل؛ تنزهاً عن الكبر، فمتى حدث عنه فضله حدث مكرهاً عليه من غير اختيار منه، حتى كأن نفسه تحسده فلا تحب أن تسمع ثناءه، كما لا يحب الحاسد ذلك.
ويقدم إلا على أن يفر ... ويقدر إلا على أن يزيدا

أقدم على الأمر: إذا دخل فيه غير خائف منه.
يعني: أنه شجاع يقدم على كل أمر صعب إلا على زيادةٍ من مجده وعلو محله، فلا نهاية فوقه ولا يقدر عليه.
كأن نوالك بعض القضاء ... فما تعط منه نجده جدودا
يقول: إنك إذا أعطيت إنساناً صار له بنوالك جد في الناس، وحظ من السعادة، فكأن عطاءك بعض القضاء حيث أنه يسعد كما يسعد بالقضاء.
وربتما حملةٍ في الوغى ... رددت بها الذبل السمر سودا
رب وربما وربت وربتما: لغات كثم وثمت وما زائدة.
يقول: رب حملة لك في الحرب، فرجعت ورماحك السمر صاروا سوداً من الدم الذي جف عليها.
وهولٍ كشفت ونصلٍ قصفت ... ورمح تركت مباداً مبيدا
النصل: حديد السيف من غير قائم، وكذلك من الرمح والسهم والسكين.
يقول: ورب هول كشفته عن أوليائك في الحروب وغيرها، ورب سيف كسرته في أعدائك، ورب رمحٍ كسرته في طعنك العدو بعد أن قتلته فتركته مباداً مبيدا: أي مكسوراً وكاسراً لمن طعن به.
ومالٍ وهبت بلا موعدٍ ... وقرنٍ سبقت إليه الوعيدا
يقول: رب مال وهبت ابتداء من غير وعد يتقدمه، ورب قرن: أي عدو، سبقت الوعيد إليه: أي قتلته قبل أن أوعدته وتهددته.
بهجر سيوفك أغمادها ... تمني الطلى أن تكون الغمودا
الطلى: جمع طلية، وهي صفحة العنق. والباء في بهجر سيوفك أي بسبب هجر سيوفك.
يقول: إذا فارقت سيوفك الأغماد لا تعود إليها، وتنتقل من هامٍ إلى هام من رقاب أعدائك، فهي تتمنى أن تكون أغماداً لسيوفك حتى لا تسيئها ولا تضرها، وقيل: أراد أنها تتمنى أن تكون غموداً لسيوفك ومن جملة قتلاك؛ لعلمها أن أعداءك إذا ماتوا بسيوفك كان ذلك فخراً لهم.
إلى الهام تصدر عن مثله ... ترى صدراً عن ورود ورودا
الهاء في مثله للهام، فرده إلى اللفظ.
يقول: ترد هذه السيوف الهام بعد صدورها عن هام آخر، فيصير الصدور عن ورود الهام، فهي أبداً صادرة واردة. وقوله: ترى فعل السيوف ويجوز أن يكون للخطاب. والورود: الإتيان: والصدور: الرجوع.
قتلت نفوس العدى بالحدي ... د حتى قتلت بهن الحديدا
الكناية في بهن للنفوس. يقول: قتلت العدى بالسلاح حتى كسرت السلاح في الأعداء مثل قوله:
ورمح تركت مباداً مبيدا
وقوله:
القاتل السيف في جسم القتيل
ومثله لأبي تمام:
وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا
فأنفدت من عيشهن البقاء ... وأبقيت مما ملكت النفودا
طابق بين أنفدت وأبقيت.
يقول: أفنيت من نفوس العدا البقاء، حتى عدمت وفنيت، وأبقيت مما ملكت النفوذ. أي أفنيت أعداءك بالقتل ومالك بالبذل.
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
يقول: كأنك تبغي البقاء والخلود. بالموت في الحرب، والغنى بالفقر! يعني: أنت تحرص على إتلاف مالك في الجود. ونفسك في الحرب، فكأنك ترى غناك في الفقر، وخلودك في الموت.
خلائق، تهدي إلى ربها ... وآية مجدٍ أراها العبيدا
خلائق: خبر ابتداء محذوف، أي هذه الأفعال خلائق. وربها: قيل هو الممدوح وقيل: هو الله تعالى، وأراها وفعل الله تعالى أو الممدوح يقول: هذه الأفعال خلائق غريبة تدل على صاحبها. الذي هو الممدوح. علامة مجد، أراها الممدوح الذي هو ربها، أي أعلمها العبيد، أي الذين أنفسهم أنفس العبيد، وأراد سائر الناس. وعلى الوجه الآخر: أنها تدل على الله تعالى أنه مجد، أظهرها الله تعالى لعباده لتدل على قدرته.
مهذبةٌ حلوةٌ مرةٌ ... حقرنا البحار بها والأسودا
يقول: هذه خلائق مهذبة. أي مخلصة من كل عيب، وهي حلوة لأحبابه، ومرةٌ لأعدائه. وقيل. حلوة: أي كل أحد يستحلها ويستحسنها. ومرةً: أي لا يمكن الوصول إليها لصعوبتها، ولما فيها من بذل المال والمخاطرة بالنفس، حتى إذا قيست البحار إليها حقرت، وكذلك الأسود حقيرة؛ لما له من السخاء والشجاعة.
بعيدٌ على قربها وصفها ... تغول الظنون وتنضي القصيدا
تغول: يعني تهلك، يقال: غالته غول: أي أهلكته. وتنضي: أي تهزل.

يقول: هذه الخلائق قريبة منا، نشاهدها ولكن وصفها بعيد؛ لأنا لا ندرك غورها، فظنوننا تهلك قبل الإحاطة بها، وأشعارنا تعجز عن استيفائها. وهو المراد بقوله: وتنضي القصيد أي تعجزها.
فأنت وحيد بني آدمٍ ... ولست لفقد نظيرٍ وحيدا
يقول: أنت أوحد بني آدم؛ لفضلك وقصور الناس عن محلك، لا لأنه كان لك نظير ففقدته لأنه مات وانقضى فبقيت وحيداً، بل أنت مع وجود الخلق كلهم بلا نظير، وضد ذلك قول الشاعر:
خلت الديار فسدت غير مدافع ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
وقال أيضاً فيه وقد فصده الطبيب من أجل علة فغرق المبضع فوق حقه فأضر به ذلك:
أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لا تكلف الإبل
وروى مكان المليحة البخيلة ومكان قوله: في البعد في البخل يقول: أبعد بعد المحبوبة البخل: أي أن بخلها على محبها أشد عليه من بعدها لأنه بعدٌ لا يحتاج معه إلى تكليف الإبل مشقة السير. ومثله قول أبو تمام:
لا أظلم البين قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوىً قذفا
غير أن أبا الطيب ذكر هذا المعنى في المصراع الأول، وزاد مثلاً آخر في المصراع الثاني.
ملولةٌ ما يدوم ليس لها ... من مللٍ دائم بها ملل
الهاء في ملولة للمبالغة؛ إلحاقاً لها بالأسماء، كالمحمولة والمركوبة والمحلوبة، ولو جعله وصفاً لكان بغيرها؛ لأن فعولاً إذا كان صفةً لا يلحقها علامة التأنيث نحو: امرأة صبور وشكور. وما بمعنى الذي، موضعه نصب. أي تمل الذي يدوم. ويجوز أن تكون بمعنى شيء أي تمل كل شيء يدوم، ومللها دائم، فليس لها من مللها الدائم ملل. وكان القياس أن تمله كما تمل كل شيء يدوم.
وروى. بالتاء فما تكون للنفي ومعناه: أنها ملولة لا تدوم على حالة واحدة؛ فتكون تأكيداً لقوله ملولة ومثل هذا البيت قول بعض المتأخرين:
إن خلف الميعاد منك طبيعةٌ ... فعدينا إذا تفضلت هجرا
يعني: أن من عادتك إخلاف وعدك، فتفضلي وعدينا بالهجر؛ لتجري على طبيعتك فتخلفي وعدك فتصلينا خلافاً لوعدك.
كأنما قدها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
انفتلت: أي تثنت، والتوت. وقيل: إذا التفتت.
يقول: كأن هذه المرأة حين تثني قدها سكران من خمر طرفها. وهذا يتضمن وصفها بالتبختر، ووصف عينيها بالملاحة.
يجذبها تحت خصرها عجزٌ ... كأنه من فراقها وجل
الهاء في كأنه للعجز. والوجل: الخائف. وتحت خصرها: نصب على الظرف. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة. أي يجذبها عجز كائن تحت خصرها، فلما تقدم نصب على الحال.
يقول: خصرها دقيق، وعجزها غليظ، فإذا أرادت النهوض جذبها عجزها وأمسكها، كأنه يخاف انفصالها عنه فهو متعلق بها كما يتعلق الرجل بذيل صاحبه إذا خاف نهوضه كما قال الآخر:
فقعودها مثنى إذا قعدت ... وقيامها فرداً إذا نهضت
أي إنها إذا أرادت القيام جذبها ثقل ردفها مرة أخرى.
بي حر شوقٍ إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
يتصل الفعل بحر الشوق.
يقول: بي حر شوق إلى مص ريق هذه المرأة، متى اتصل هذا الحر والشوق ينفصل عني الصبر. وقيل: إن يتصل فعل الترشف، كأنه يقول: متى اتصل الترشف ووجدت إليه سبيلاً انفصل صبري وزاد حر الشوق لاستطابة الريق والإشفاق من انقطاعه.
الثغر والنحر والمخلخل وال ... معصم دائي والفاحم الرجل
الثغر: السن ما دامت نابتة في الفم. والنحر: الصدر. والمخلخل: الساق وهو موضع الخلخال. والمعصم: الذراع. والفاحم: الشعر الأسود. والرجل: بين الجعد والسبط.
ومهمةٍ جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
المهمة: المفازة. جبته: أي قطعته. وعرامس: جمع عرمس، وهي الناقة القوية الصلبة. والذلول: ضد الصعبة.
يقول: رب فلاةٍ قطعتها على قدمي، وكانت بحيث يعجز عن قطعها الإبل القوية المعودة السير والركوب. يفضل نفسه عليها.
بصارمي مرتدٍ، بمخبرتي ... مجتزىءٌ بالظلام مشتمل

مرتدٍ: أي متقلد. ومخبرتي: بخبرتي: مشتمل أي ملتحفٌ وروى متشحٌ أي متزين. وقوله: بالظلام مشتمل أي ملتحف. وقوله: بصارمي مرتد في موضع الحال ومجتزىء، أي قطعته وأنا كذلك، وكذلك ما بعده إلى آخر البيت، ولو نصبته على الحال لجاز، ولكنه أضمر المبتدأ وجعل قوله: مرتد خبره والجملة في موضوع النصب على الحال.
يقول واصفاً نفسه بجرأة القلب، والهداية لمعرفة المفاوز: ورب مهمة سرت فيها ليلاً وقطعتها وحدي راجلاً لا يصحبني أحد غير سيفي، ولا دليل يدلني إلا معرفتي وخبرتي، وقد اشتملت الظلام وأقمته مقام اللحاف.
إذا صديقٌ نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
نكرت وأنكرت بمعنىً واحد. وقوله: لم تعيني أي لم يتعذر علي. والحيل رفع لأنه فاعل لم تعيني.
يقول: إذا رأيت من صديقي ما كرهت لم يصعب علي الاحتيال في فراقه. أي أني أفارقه وأسير عنه. ومثله لجرير:
سريعٌ إذا لم أرض داري خياليا
في سعة الخافقين مضطربٌ ... وفي بلادٍ من أختها بدل
الخافقان: جانبا الأرض بين المشرق والمغرب؛ سميا بذلك لوجود الخلق بينهما، ذهابهم ومجيئهم والمضطرب: يجوز أن يكون بمعنى الاضطراب، وأن يكون اسماً لمكان الاضطراب.
يقول: إذا ضاق بي مكان رحلت عنه إلى غيره؛ لأن في سعة الأرض مكانٌ غيره، ويقوم بدل مكان البلد الأول والهاء في أختها للبلد وروى أمثاله من الأشعار كثيرة منها:
ولله أرضٌ ذات طوالٍ عريضةٌ ... إذا ذل منها جانبٌ عز جانب
ومثله قول البحتري:
شرق وغرب تجد من معرضٍ ... فالأرض من تربة والناس من رجل
ومثله:
وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " وأرض الله واسعة " وقوله: " ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها " .
وفي اعتماد الأمير بدر بن عما ... رٍ عن الشغل بالورى شغل
الاعتماد: يجوز أن يكون من قولك: اعتمدت فلاناً إذا استعنت به، كأنك جعلته عماداً لك. ويجوز: افتعالاً من عمدت الشيء، إذا قصدته.
يقول: إن اعتمادي بدراً أشغلني عن كل أحد، فلا أبالي بصديق إذا تغير عني وتقديره: في اعتماد الأمير بدر بن عمار شغلٌ لي شغلني عن الورى.
أصبح مالاً كماله لذوي ال ... حاجة لا يبتدي ولا يسل
يقول: أصبح مالا معداً لذوي الحاجة يتناولونه فهو للمحتاجين، كماله له، فكما أنه إذا أراد ماله لم يحتج إلى ابتداء من معط، ولا إلى مسألة، فكذلك المحتاجون يأخذون ويتصرفون فيه متى شاءوا فهو لا يبتدىء بهم بالعطاء، لأنه لا يحزن المال دونهم ولا يسأل، لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وقيل: أراد أنه أصبح مالاً كماله. على معنى: كما أن ماله لا يستأذن الواردون في أخذه، فلا يكون منه ابتداء بالدفع ولا سؤال من الوارد، فكذلك نفسه مبذولة لهم.
هان على قلبه الزمان فما ... يبين فيه غمٌّ ولا جذل
يكاد من طاعة الحمام له ... يقتل من ما دنا له أجل
هان: أي سهل، من قولهم: هذا أمر هين.
يقول: إنه يحتقر الزمان، فلا يحزن لإدباره، ولا يفرح بإقباله. بل غرضه فعل الجميل، لاقتناء الثناء الجزيل.
وقوله: طاعة الحمام له. الهاء في: له الأولى للمدوح، وفي له الثانية: ترجع إلى من.
يقول: إن الموت يطيعه حتى أنه لفرط طاعته يقرب أن يقتل من لم يحن أجله.
يكاد من صحة العزيمة، ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل
يقول: إنه صحيح العزم، فمن صحة عزمه إذا هم بأمر قارب أن يكون ذلك الفعل، قبل أن يفعله.
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
يقول: إنك إذا نظرت إليه تعرف حقيقته المختصة به في عينه؛ لظهور أثرها عليه، فكأنه قد اكتحل بالذكاء والفطنة، وهذا من قوله تعالى: " سيماهم في وجوههم " وفي المثل: إن الجواد عينه فراره ويجوز أن تكون العين بمعنى النفس. ويجوز أن تكون العين بمعنى الرؤية.
أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
الهاء في عليه: للممدوح وفي منها للفكرة.
يقول: أخاف من حدة فكرته، أن يشتعل من حرارتها، لأن الذكي والفطن يوصف بأنه متقد القلب.
أغر، أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكرثوا الذي فعلوا
روى استكبروا واستكثروا.

أغر: أي أبيض الوجه، صيغته تتعدى إلى مفعولين. أو معروف مشهور كالغرة في الفرس. ثم ابتدأ فقال: أعداؤه إذا سلموا منه بالهرب، استعظموا ذلك من أنفسهم.
يقبلهم وجه كل سابحةٍ ... أربعها قبل طرفها تصل
يقبلهم: من قولهم: أقبلتهم وجه الخيل، فيتعدى إلى مفعولين، ومنه:
وأقبلت أفواه العرق المكاويا
وقيل: أراد يقبل عليهم بوجه، فحذف حرف الجر ضرورة. وأربعها: قوائمها الأربع، والتأنيث للسابحة.
يقول: إنه يستقبل أعداءه بوجه كل فرس سابحة، من سرعة عدوها تصل قوائمها إليهم قبل وصول طرفها إليهم، يعني أنها إذا نظرت إليهم وصلت قوائمها قبل طرفها.
جرداء ملء الحزام مجفرةٍ ... تكون مثلى عسيبها الخصل
جرداء: أي قصيرة شعر الحافر. وقيل: هي المتجردة من الخيل لتقدمها. ومجفرة: أي عظيمة البطن لملء حزامها. والعسيب: العظم الذي عليه شعر الذنب، ويستحب قصره. والخصل: جمع خصلة وهي القطعة من الشعر. يعني: إن عظم ذنبه قصير، وشعره طويل.
إن أدبرت قلت: لا تليل لها ... أو أقبلت قلت: ما لها كفل!
التليل: العنق.
يقول: إنها مشرفة العنق ممتلئة الكفل، فإذا أقبلت عليك حال عنقها بينها وبين كفلها حتى ظننت أنه لا كفل لها، وإذا أدبرت حال ردفها بينك وبين عنقها، حتى ظننت أنه لا عنق لها. وهذا محمود فيها.
والطعن شزرٌ والأرض واجفةٌ ... كأنما في فؤادها وهل
روى: واجفة، وراجفة، ومعناهما واحد: وهو الاضطراب. والوهل: الخوف. والواو في والطعن. للحال والهاء في فؤادها: للأرض.
يقول: إنه يقبل على أعدائه بخيل، والطعن شزرٌ والأرض مضطربة، حتى كأن في قلبها فزع لشدة الارتعاد.
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
الخريدة: الحبيبة. والخجل: فتور يصيب المرأة عند الاستحياء. والهاء في خدها: راجعة إلى السابحة، وقيل إلى الأرض. ومعناه على الأول: إن الدماء قد صبغت خد السابحة، ولا تفزع ولا تنفر، كما يصبغ خد الجارية الحبيبة. الخجل؛ لأنه يولد الحمرة في الوجه. وهذا من قول امرىء القيس:
كأن دماء الهاديات بنحرها ... عصارة حناءٍ بشيبٍ مرجل
وعلى الثاني: أراد أن الأرض قد احمرت بالدم، مثل احمرار خد الجارية بالخجل. وقوله: خد الأرض. استعارة.
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
ما تسحها: أي ما تصبها. والمقلة: شحمة العين التي تجمع البياض في السواد. أراد أن الخيل تسيل عرقها من شدة عدوها، وشبه العرق بالدمع، وشبه جلود الخيل بالعيون، وهذا التشبيه حسن؛ لأن الدمع والعرق لا يكونان إلا من الشدة.
سار ولا قفر من مواكبه ... كأنما كل سبسبٍ جبل
روى: سار. وتقديره: وهو سار. والقفر: المكان الخالي. والسبسب: الفضاء الواسع يقول: إنه إذا سار ملأ الدنيا خيلاً ورجالاً، فلا يكون موضعٌ خالٍ من مواكبه؛ لكثرة جيشه، فتصير المفاوز بمنزلة الجبل لكثرة جيشه وكثرة سلاحهم.
يمنعها أن يصيبها مطرٌ ... شدة ما قد تضايق الأسل
الهاء في يمنعها ويصيبها: للمواكب. والأسل: الرماح. وفاعل يمنعها: شدة. وفاعل يصيبها: المطر.
يقول: إن الرماح تضامت وتضايقت حتى حالت بين الخيل وبين المطر فمنعها تضايقها أن يصيبها المطر.
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
وروى: يا همام.
يقول: مع هذه الأوصاف المذكورة أنت رجل في الحقيقة. والشرى: موضع بعينه توصف أسوده بالجرأة.
إن البنان الذي تقلبه ... عندك في كل موضع مثل
قوله عندك لا فائدة فيه إلا تمام البيت.
يقول: إن البنان الذي تقلبه بالسخاء هو مثلٌ مضروب في كل موضع، أي: إن الناس يضربون المثل في الجود ببنانك.
إنك من معشرٍ إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
المعشر: مفعل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة.
يقول: إنك من قوم كرام، لا يعدون الجود إلا بذل الأعمار، فإذا وهبوا ما دون الأعمار، فقد بخلوا عند أنفسهم.
قلوبهم في مضاءٍ ما امتشقوا ... قاماتهم في تمام ما اعتقلوا
الامتشاق: قيل هو استلال السيف. وقيل التقلد به.
يقول: إن قلوبهم في المضاء مثل سيوفهم المستلة، وقاماتهم في الطول مثل رماحهم المعتقلة.

أنت نقيض اسمه إذا اختلفت ... قواضب الهند والقنا الذبل
أنت لعمري البدر المنير ولكنك ... في حومة الوغى زحل
القواضب: القواطع. وقوله: نقيض اسمه أي أنك بدر تضيء الدنيا، ولكنك في الحرب تستحيل زحلاً على أعدائك وتصير ظلمة عليهم ونحساً لهم مثل زحل.
كتيبةٌ لست ربها نفلٌ ... وبلدةٌ لست حليها عطل
النف: الغنيمة. والعطل: التي لا حلي عليها.
يقول: كل كتيبة لست صاحبها فهي غنيمة لأعدائها، وكل بلدة لست واليها، فهي عطل: أي لا عدل فيها. يعني: أن الجيوش لا تمنع إلا بك، والبلاد لا تتزين إلا بعدلك.
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسبل
أي قصدت من شرق الأرض ومغربها، فأضمر الأرض وإن لم يجر لها ذكر لتقدم العلم بها كقوله تعالى: " ما ترك على ظهرها من دابة " .
يقول: كثر القصد إليك من نواحي الأرض شرقها وغربها، حتى اشتكتك الركاب والسبل؛ لكثرة سير القصاد عليها إليك، وركوبهم عليها. ومثله قول أبي العتاهية.
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
لم تبق إلا قليل عافيةٍ ... قد وفدت تجتديكها العلل
تجتديكها: أي تطلبها منك، والهاء: للعافية.
يقول: إنك وهبت جميع مالك، فلم يبق لك إلا قليل عافية في بدنك؛ وعلمت العلل بسخائك فقصدتك تسأل العافية منك؛ وإنما قال: قليل العافية، لأنه أراد أنه كثير التعب في طلب المكارم وحمل المغارم، فلم يبق من العافية إلا السلامة من المرض فقط.
عذر الملومين فيك أنهما ... آسٍ جبانٌ ومبضعٌ بطل
كان الطبيب فصده فغرق المبضع في ذراعه، فذكر أبو الطيب عذرهما، وأراد بالملومين: الطبيب والمبضع. فقال: إن عذرهما. أنه كان جباناً ومبضعه جريئاً؛ فلما أراد فصده دهش فلم يمكنه ضبط مبضعه فغاص في العرق فوق الواجب، وليس من واحد منهما ذنبٌ.
مددت في راحة الطبيب يداً ... وما درى كيف يقطع الأمل
يعتذر عن الطبيب ويقول: إن صناعة الطبيب فصد العروق، لا قطع الآمال، ويدك معدن الآمال، وقد أمرته بقطع الآمال، ولا عهد له بذلك، فاعذره على غلطه. ومثله لابن المعتز:
يا فاصداً ليدٍ جلت أياديها ... ونال منها الذي يرجوه راجيها
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلاب الندى فيها
إن يكن النفع ضر باطنها ... فربما ضر ظهرها القبل
النفع: أراد به الفصد؛ لأن العافية تعود إليه.
يقول: إن كان الفصد ضر باطن يدك فطالما ضر ظهرها تقبيل الناس. أراد أنها لدقتها ولطافتها يؤثر فيها التقبيل. ومثله لابن الرومي:
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
ومثله قول أبي تمام:
تقبل الركن ركن البيت نافلةً ... وظهر كفك موقوفٌ على القبل
يشق في عرقها الفصاد ولا ... يشق في عرق جودها العذل
الفصاد: مصدر كالفصد.
يقول: إن كان الفصد يشق عرق يدك ويؤثر فيه، فإن عرق جودها لا يؤثر فيه اللوم.
خامره إذ مددتها جزعٌ ... كأنه من حذاقةٍ عجل
الهاء في خامره: للطبيب، وقيل للمبضع. ومعناه. خالطه. العجل: المستعجل.
يقول: لما مددت يدك إلى الطبيب، أخذته هيبة فدهش، وأخذه الجزع فأداه حذقه إلى الاستعجال، فتجاوز الحد وأفرط فيه، فكأنه من حذاقته مستعجل.
جاز حدود اجتهاده فأتى ... غير اجتهادٍ لأمه الهبل
الهبل: الثكل: وهو موت الولد. أي جاوز الحد فغلط. ثم دعا عليه أنه يفقد.
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمق الزلل
النجاح: الظفر. والتعمق: التكلف وتناهي الحد.
يقول: إن الإنسان إنما يظفر بمراده إذا جرى على طبعه، فإذا تكلف أد إلى الغلط والزلل.
إرث لها إنها بما ملكت ... وبالذي قد أسلت تنهمل
يقول: ارحم يدك فإنها تنهمل بما تملكه من الأموال، وبالدم الذي قد أسلته منها، فلا تجمع عليها سلب الأموال وإسالة الدم فيضر ذلك بها.
مثلك يا بدر لا يكون، ولا ... تصلح إلا لمثلك الدول
يقول: مثلك غير موجود، ولا يوجد في المستقبل، ولا تصلح الدولة إلا لمثلك، فإن لم يكن أحد مثلك فالملك لا يستحقه أحد غيرك أبداً.
وقال أيضاً في بدر بن عمارٍ يمدحه:

بقائي شاء ليس هم، ارتحالا ... وحسن الصبر زموالا الجمالا
ارتحالا: نصب بشآء، وفاعله: ضمير بقائي. وحسن الصبر: نصب بزموا. والجمال: عطف عليه، وليس: بمعنى: لا وأنه ليس له خبر.
وقيل. اسم ليس: مضمر. وهم: خبره. وقيل. اسمه: هم. غير أنه استعمل الضمير المنفصل في موضع المتصل. قوله. زموا: أي أمسكوا الجمال وحبسوها ليركبوها ويحملو عليها ومثله لأبي تمام:
قالوا الرحيل؛ فما شككت بأنه ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
تولوا بغتةً فكأن بيناً ... تهيبني ففاجأني اغتيالا
البغتة، والفجاءة، والاغتيال متقاربة برحيلهم قبل وقوعه، فكأن البين كان يخاف مني أن يجاهرني بالإقدام علي، فهجم علي وأنا غافلٌ عنه. فقوله: تهيبني من ألفاظ الفخر استعمله في الغزل.
فكان مسير عيسهم ذميلاً ... وسير الدمع إثرهم انهمالا
الذميل: ضرب من السير السريع. وروى: عيرهم.
قال ابن جنى: معناه أن مسير إبلهم كان ذميلاً. وهو السير المتوسط. وسير دمعي انهمالا يعني: أن دمعي سبق عيسهم، فكان سيره أسرع من سير عيسهم. وقيل: إن معناه أن دمعي كان يباري إبلهم فالإبل تسرع السير، والدمع يسرع. وهو الصحيح، لأن الذميل هو السير السريع. كذا ذكره ابن السكيت.
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخاةٍ فلما ثرن سالا
وروى: فلما سرن. مناخاةٍ: أي باركات. يقال: أنخته فبرك، ولا يقال: ناخ. وثار البعير يثور: إذا نهض من مبركه. وسالا: من سال سيلاً فاعله: ضمير الدمع.
يقول: كأن العيس سائرات، كانت فوق جفني مناخة، قد سدت مجاري الدمع وحبسته من السيلان، فلما نهضت عن جفنه عند سيرهن، سال الدمع المحبوس. وهذا من بدائع ما ذكره أبو الطيب.
وحجبت النوى الظبيات عني ... فساعدت البراقع والحجالا
الظبيات، بتحريك الباء، جمع ظبية، نحو جفنة وجفنات. ويجوز الإسكان. والتأنيث: للنوى؛ لأنها مؤنثة. والحجال: جمع حجلة.
يقول: لما ارتحلوا حجبت النوى هذه النساء اللواتي هن كالظبيات عني ورافقت هذه النوى البراقع والحجال، فكما كانت البراقع والهوادج تسترهن، فكذلك النوى، سترتهن عني، فاتفقا من هذا الوجه.
وقيل: إن مساعدتهما هو أن البراقع والهوادج إنما يحصل لهن عند إرادتهن الارتحال، وهو وقت النوى، فكأن النوى ساعدت البراقع والحجال حيث إنهما يكونان معاً.
لبسن الوشي لا متجملاتٍ ... ولكن كي يصن به الجمالا
نصب متجملات على الحال. والمتجمل: من يتكلف التجمل. المعنى: أنهن لبسن ثياب الوشي والديباج، لا لاجتلاب الحسن واكتساب الجمال؛ ولكن لبسنه ليسترن حسنهن ويصن جمالهن. وقيل: أراد أنهن يلبسن ذلك صيانةً لجمالهن من العيون.
وضفرن الغدائر لا لحسنٍ ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
الضفر: الفتل. والغدائر: جمع غديرة، وهي الذؤابة، وسميت غديرة؛ لأنها غودرت حتى طالت. والضلال: الضياع.
المعنى: أنهن لا يضفرن شعورهن ويضعن فيها؛ لطولها وكثافتها ووفورها.
وقيل: أراد أنهن خفن ضلال الناس في شعورهن.
وفيه وجهان: أحدهما: أن الدنيا تصير مظلمة من سواد شعورهن، فيضل الناس عن الطريق حضراً وسفراً، فإذا ضفرنها تظهر لهم وجوههن، فيغلب ضياء الوجوه سواد الشعور، فلا يضلون.
والثاني: أن الناس يضلون عن الدين؛ افتتاناً بهن وبحسن شعورهن، فإذا ضفرنها صار الأمر أهون؛ لأنه لا يكاد يتبين فيه الجعودة. التي هي غاية حسن الشعر.
بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤةٍ لجالا
جال: فعل الجسم، والثقب. أنث قوله: من برته رداً إلى المعنى، لأن من يقع على المذكر والمؤنث. ولو قال: براه لجاز. والهاء فيه عائدة إلى الجسم. والوشاح ها هنا النطاق.
يقول: جسمي فداء المرأة التي برت جسمي وأنحلته، حتى لو جعلت ثقب لؤلؤة وشاحي: أي لو توشحت بلؤلؤة، لجال جسمي في ثقبها؛ لدقته ونحوله. وجال: فعل الجسم، وفعل الثقب.
ولولا أنني في غير نومٍ ... لبت أظنني مني خيالا
يقول: ذبت حتى صرت كالخيال، الذي لا حقيقة له، لا أنام بالليل؛ لما بي من الوجد، ولو كنت ممن أنام، ثم رأيت جسمي في النوم، لقدرته خيالاً لا حقيقة له، وقيل: معناه لولا أنني متيقظ لظننت نفسي الخيال، الذي يرى في النوم.

بدت قمراً، ومالت خوط بانٍ، ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
رنت: نظرت. ونصب قمراً وما بعده: على الحال، لأنه أقام اسم الجنس مقام الصفة، فإذا جاز أن يكون صفة، جاز أن يكون حالاً.
ومعناه: بدت منيرةً كالقمر. أي وجهها. ومالت لينة الأعطاف كالغصن: وأراد به القامة. وفاحت زكية كالعنبر، ورنت كحلاء الجفون كالغزال. ومثل هذا قول بعض المتأخرين وهو قوله:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلةً ... وفحن عبيراً والتفتن جآذرا
كأن الحزن مشغوفٌ بقلبي ... فساعة هجرها تجد الوصالا
مشغوف: أي ممتلىء، من شغفه الحب إذا ملأه. والهاء في هجرها للمحبوبة.
يقول: إنها كلما هجرتني واصلني الحزن، فكأنه عاشقٌ لقلبي، كما أعشقها، فلا يجد الحزن سبيلاً إلى قلبي إلا عند هجرانها، فمتى هجرتني واصلني الحزن والكمد.
كذا الدنيا على من كان قبلي ... صروفٌ لم يدمن عليه حالا
روى: يدمن فيكون حالاً منصوباً به. وروى: يدمن. وحالاً: نصب على التمييز. أي لم تزل الدنيا على هذه الحال مذ كانت، لا تثبت صروفها على حالٍ واحد.
يقول: كما أنها لا تدوم لي على حالة واحدة، فكذلك كان حالها مع غيري من الناس الذين قبلي.
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
وروى: أشد الغم في الدنيا سرور. والهاء في عنه: للسرور. وكذلك في صاحبه.
يقول: لا أغتر لسرور الدنيا؛ لعلمي بزوالها، فكل سرور يتيقن صاحبه زواله عنه، فهو أشد الغم عندي؛ لأن العاقل لا يفرح بما تئول عاقبته إلى الحزن والزوال.
ألفت ترحلي وجعلت أرضي ... قتودي والغريري الجلالا
القتود: خشب الرحل. والغريري: فحلٌ منسوب إلى غرير والجلال: مبالغة في الجليل، وهو عظيم الجسم.
يقول: ألفت الرحيل، وجعلت أرضي ظهر البعير، وخشب الرحل، لا أنقلب عنه لكثرة أسفاري وشدة ملازمتي له.
فما حاولت في أرضٍ مقاماً ... ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا
أزمعت: أي عزمت.
يقول: ما أقمت في مكانٍ، لأني متنقل من أرض إلى أرض. ولا زلت عن أرض: أي عن ظهر البعير. الذي جعله كالأرض، يمسي ويصبح عليه، فإذا كان كذلك، فلم يقم عن الأرض الحقيقية، ولا زال عن الأرض المستعارة. وهي ظهر البعير.
وقيل: ليست هذه كناية عن إدامة السفر؛ لأنه إذا لم يقم في موضع، فلا يحتاج إلى الإزماع لزواله عنها ورحيله منها.
على قلقٍ كأن الريح تحتي ... أوجهها جنوباً أو شمالا
روى: على قلق: أي أنا على الاضطراب، والتحرك. وروى: على قلقٍ. أي على بعير قلقٍ سريع السير. وروى: يميناً أو شمالاً.
يقول: لم أزل أقلق في السير حتى كأني راكبٌ متن الريح، أصرفها كيف أشاء. مرة جنوباً ومرة شمالاً، والشمال تأتي من شمالك إذا استقبلت القبلة والجنوب تقابلها.
إلى بدر بن عمار الذي لم ... يكن في غرة الشهر الهلالا
وروى: إلى البدر. ومثله من الأسماء، حسنٌ. والحسن والعباس. وحذف التنوين من عمار؛ لسكونها وسكون اللام الأولى من الذي. ويجوز أن يكون جعله اسماً لقبيلةٍ فلم يصرفه.
يقول: لم أزل أتقلب في الأسفار حتى وصلت إلى بدر بن عمار، الذي لم يزل بدراً كاملاً، ولم يكن هلالاً قط، وليس كالبدر الذي يكون ناقصاً في غرة الشهر، ثم يزيد إلى أن يكمل.
ولو يعظم لنقصٍ كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا
يقول مؤكداً للمعنى الذي ذكره في البيت الأول: أي لم يزل عظيماً مذ كان، لا أنه كان ناقصاً ثم صار عظيماً، ولم يزل أميراً فيما مضى، ولا يزال أميراً في المستقبل، ويجوز أن يكون دعاء.
بلا مثلٍ وإن أبصرت فيه ... لكل مغيبٍ حسنٍ مثالا
بلا مثل متعلق بقوله ولن يزالا: أي لم يزل أميراً بلا مثل، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي هو بلا مثل. يعني: أنه جمع كل فضيلة، فكل شيء حسن غائب، يوجد فيه نظيره ومثله وإن كان لا مثل ولا نظير له يجمع ما جمعه من الفضائل، فهو شبه كل شيء حسن.
حسامٌ لابن رائقٍ المرجى ... حسام المتقي أيام صالا

لابن رائق المرجى: في موضع الجر. ويجوز أن يكون صفة مستأنفة للممدوح في موضع الرفع، والأول أولى. وحسام المتقي: جر لأنه صفة لابن رائق وهو اسم جنس بمعنى صفة. وابن رائق: قائد كبير، كان للخليفة المتقي بالله، وكان ابن عمار من قبل ابن رائق.
والمعنى: أن ابن رائق سيف الخليفة، لما صال الخليفة على أعدائه وحارب بني اليزيد في البصرة، وكان بدر حساماً لابن رائق: أي كان يعتمد عليه في حروبه، وكان يقتل به أعداءه.
سنانٌ في قناة بني معدٍ ... بني أسدٍ إذا دعوا النزالا
بني أسد: يجوز أن يكون منصوباً بالنداء المضاف، ويجوز أن يكون بدلاً من قناة بني معد: أي في بني أسد الذين هم قناة بني معد. ويجوز أن يكون بدلاً من معد والتقدير: سنان في قناة بني أسد.
يقول: هو يقوم في الدفع عنهم مقام السنان في القناة يوم الحرب والمنازلة.
أعز مغالبٍ كفاً وسيفاً ... ومقدرةً ومحميةً وآلا
المغالب: الذي يغالبك وتغالبه. والمحمية والمقدرة: القبيلة والأتباع. وكفاً: نصب على التمييز، وعطف سيفاً عليه، وإن كان لا يقال: هو أعزهم سيفاً لأنه أضمر فيه قوله: وأمضاهم سيفاً. يعني: أنه أعز من كل من يغالبه فنفسه أعز، وسيفه أقطع، وحميته وقدرته أكثر وصفه بخمسة أوصاف.
وأشرف فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرم منتمٍ عماً وخالا
الفاخر: صاحب الفخر، ويجوز أن يكون اسم الفاعل: من فخر يفخر. وروى: منتمٍ ومعتز ومعناهما واحد.
يقول: هو أشرف من فخر بنفسه وقومه، وأعمامه وأخواله أشرف من كل شريف. نفساً وما عده نصب على التمييز.
يكون أحق إثناءٍ عليه ... على الدنيا وأهليها محالا
يقول: إن أحق ما يستحقه من الثناء، محال أن يثنى به على الدنيا، وجميع من فيها؛ لأنه أفضل من جميع أهل الأرض، فثناؤه لا يستحقه أهل الدنيا.
ويبقى ضعف ما قد قيل فيه ... إذا لم يترك أحدٌ مقالا
يترك ويترك: بمعنى واحد، وهو افتعل من الترك. وضعف الشيء: مثله مرتين.
يقول: إذا أثنى عليه الناس، ولم يتركوا مقالاً؛ بقي من أوصافه، ضعف ما وصفوا به.
فيابن الطاعنين بكل لدنٍ ... مواضع يشتكي البطل السعالا
اللدن: الرمح اللين. ومواضع: قيل إنه نصب بالطاعنين، فهو مفعول به. وقيل: نصب على الظرف. وتقديره: مواضع يشتكي فيها البطل السعال.
المعنى على الأول يقول: يابن الطاعنين صدور الشجعان. وهي المواضع التي يخرج منها السعال، فهي مواضع شكاية السعال.
وعلى الثاني: أنهم يطعنون في المواضع التي لا يقد الشجاع أن يسعل فيها؛ من ضيقها وشدتها.
ويابن الضاربين بكل عضبٍ ... من العرب الأسافل والقلالا
يقول: يابن الذين يضربون بكل سيف قاطع، أسافل العرب وقلالها. أراد بالأسافل: الأرجل. وبالقلال: الرءوس: وقيل: أراد بالقلال. رؤساء العرب وبالأسافل. الأتباع. وقيل: القلال: العرب الذين يسكنون الجبال. والأسافل: سكان السهول.
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا؟!
المتشاعر: الذي يتكلف قول الشعر، وغرو: أي أولعوا. والداء العضال: الذي لا دواء له.
يعني: أرى المتشبهين بالشعراء وليسوا منهم قد أولعوا بذمي، وطعنوا في، وحسدوا منزلتي عندك، وأنا أعذرهم لأني الداء الذي لا دواء له، لأني أبداً أغيظهم، فلابد لهم من أن يذموني.
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا
يقول: من يعيبني؛ إنما يعيبني للنقص الذي فيه، كما أن المريض يجد الماء العذب مراً؛ لأنه في فيه لاقى الماء، فكذلك ليس في شعري ولا في فضائلي مطعن، فمن طعن فلنقص فيه.
وقالوا: هل يبلغك الثريا؟ ... فقلت: نعم، إذا شئت استفالا
الثريا: من الأسماء التي لا تجيء إلا مصغرة، مثل الحميا والحديا والكميت. والاستفال: الانحطاط. وقالوا: الضمير يرجع إلى المتشاعرين، ويجوز أن يرجع إلى الناس، ويكون البيت مستأنفاً.
يقول: إنهم يقولون: أتطمع أن يبلغك الثريا؟ فقلت لهم: قد بلغني فوق الثريا، فإذا شئت أن يحطني عن المحل الذي أنا عليه، يبلغني الثريا في الانحطاط، لا في الارتفاع.
هو المفني المذاكي والأعادي ... وبيض الهند والسمر الطوالا

المذاكى: جمع المذكى، وهو الفرس الذي أتي عليه بعد أن يقرح سنه. وسكن الياء من الأعادي وأصلها الفتح.
يقول: إنه يفنى الخيل بالركض في حروب الأعداء بالقتل، والسيوف والرماح بضرب وطعن. يصفه بغاية الشجاعة.
وقائدها مسومةً خفافاً ... على حيٍّ تصبحه ثقالا
قائدها: أي قائد المذاكى. والمسومة. المعلمة: من السمة. ومسومة وخفافاً وثقالاً: نصب على الحال. والتاء في تصبحه: للمذاكى.
يقول: هو يغير على أعدائه بخيل توافيهم صباحاً، وهي وإن كانت خفافاً في أنفسها سريعة السير فإنها ثقالاً على أعدائه؛ لأنها تهلكهم وتغير عليهم.
جوائل بالقنى مثقفاتٍ ... كأن على عواملهما الذبالا
الجوائل: جمع جائلة، ونصبها على الحال من المذاكى. والقنى: جمع القناة ومثقفات: نصب على الحال من القنى.
وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلاه. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة، شبه أسنة الرماح بقناديل وسرج مشعلة لصفائها وبريقها.
إذا وطئت بأيديها صخوراً ... بقين لوطء أرجلها، رمالا
يصف شدة وطء الخيل، وأنها إذا وطئت بأيديها الصخور الصلبة سحقتها، حتى تصير رملاً، فلا تصل أرجلها إلى موضع الأيدي، إلا وقد صارت رمالا.
جواب مسائلي: أله نظيرٌ؟ ... ولا لك في سؤالك لا، ألا، لا
يقول: من سألني قائلاً: هل لهذا الرجل نظير؟ فجوابي له: لا، ولا لك نظير في سؤالك هذا؛ لأن كل أحد يعلم أنه لا نظير له. ثم افتتح الكلام بقوله: ألا وكرر لا تأكيداً للرد. فكأنه قال: لا لا، كقولك وقد سألك إنسان هل زيد قائم؟ فتقول: لا لا. وفيه تقديم المعطوف على المعطوف عليه وذلك لا يجوز إلا عند الضرورة كقول القائل:
ألا يا نخلة من ذات عرقٍ ... عليك ورحمة الله السلام
لقد أمنت بك الإعدام نفسٌ ... تعد رجاءها إياك مالا
وقد وجلت قلوبٌ منك حتى ... غدت أوجالها فيها وجالا
يقول: كل نفسٍ جعلت مالها رجاءها إياك، فقد أمنت من الفقر؛ لأنك تحقق رجاءها، فكأنه مال له حاصل والأوجال: جمع وجل، وهو الخوف. والوجال: جمع الوجل، وهو الخائف. والهاء في أوجالها وفيها للقلوب.
يقول: قد خافت قلوب الأعداء منك، حتى صار الخوف الذي في قلوبهم خائفاً منك، فتعدى الخوف من قلوبهم إلى نفس الخوف! وقيل: الوجال: جمع الوجل الذي هو الخوف، وهو للتكثير. والأوجال للتقليل. يعني صار قليل وجلهم كثيراً.
سرورك أن تسر الناس طراً ... تعلمهم عليك به الدلالا
الدلال والدل: الشكل والغنج.
يقول: إنك لا تسر إلا بأن توصل السرور إلى الناس كلهم، لتعلمهم كيف يتدللون عليك؛ لأنهم إذا علموا أنك تسر بالإحسان إليهم تدللوا عليك بقبول هباتك وسألوك ما لا يستحقونه منك.
إذا سألوا شكرتهم عليه ... وإن سكتوا سألتهم السؤالا
يقول: إذا سألوك شكرتهم على سؤالهم إياك؛ لحبك العطاء. وإن سكتوا عن سؤال سألتهم أن يسألوك؛ لأنك تلتذ بنغمات سؤالهم، وتحب أن تشكرهم على سؤالهم، فتشتهي أن تكون أبداً شاكراً للسؤال.
وأسعد من رأينا مستميحٌ ... ينيل المستماح بأن ينالا
المستميح: طالب العطاء. والمستماح: المطلوب منه العطاء. والإنالة: الإعطاء. والنيل. الأخذ.
يقول: أسعد من رأينا من الناس، هو الطالب يعطي المطلوب منه؛ بأن يأخذ منه العطاء، وليس كذلك إلا سؤالك؛ لأنهم يأخذون من مالك ما يريدون، ويمنون عليك بما يأخذونه منك.
يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا
يقول: إن سهمك إذا لقي رجلاً نفذ منه وفارقه، كما يخرج من القوس من شدة قوته، ولا يزال يمضي كذلك ما دام يلقى الرجال، واحداً بعد واحد. فقوله: مالاقى الرجالا في موضع النصب على الظرف: أي مدة ملاقاة الرجال وقيل: إن ما للنفي ومعناه. أن سهمه يفارق ما لاقاه فراقه القوس، كما لم يلق شيئاً، ولم يصب أحداً، فيكون أبلغ في القوة.
فما تقف السهام على قرارٍ ... كأن الريش يطلب النصالا
يقول: إن السهام تتجاوز المرمى إلى غيره، فلا تقف على قرار، فكأن الريش يطلب النصل ويطردها وهي تفر منه وهو يطلبها
سبقت السابقين فما تجاري ... وجاوزت العلو فما تعالي
المجاراة: المغالبة في الجري. والمعالاة: من العلو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الثالث والرابع بدون توابع من كتاب ارشاد الفحول للشوكاني

  المحتوي  المحتويات المسلك الأول : الإجماع المسلك الثاني : النص على العلة المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه المسلك الرابع: الإستدلال على ...