الأحد، 12 نوفمبر 2023

ج3وج4.كتاب معجز أحمد المؤلف : أبو العلاء المعري

http://www.islamicbook.ws/adab/majz-ahmd-004.html

ج3وج4.كتاب معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

يقول: سبقت بالفضل كل سابق، فما يجاريك أحد؛ لعلمه بالقصور عنك. وجاوزت في العلو والقدر غاية لا يمكن لأحد أن يباريك في العلو والارتفاع، ويغلبك فيه.
وأقسم لو صلحت يمين شيءٍ ... لما صلح العباد له شمالا
وروى: الأنام بدل العباد.
يقول: إنك تقوم مقام الخلق كلهم وتزيد عليهم، وهم لا يقدرون على الاستقلال بما تقدر عليه وحدك؛ فضرب اليمين مثلاً للقوة والأمر العظيم الذي يحتاج فيه إلى فضل القوة، وضرب الشمال مثلاً للضعف وما لا يحتاج فيه إلى فضل القوة.
أقلب منك طرفي في سماءٍ ... وإن طلعت كواكبها خصالا
خصالا: نصب على الحال. شبهه بالسماء، وخصاله بالكواكب.
يقول: أنا أنظر منك إلى سماء من المجد، ونجوم: الخصال الجميلة.
وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا!
يقول: أعجب منك! كيف قدرت على أن تزيد وتنشأ شيئاً بعد شيىء، وأنت قد حويت الكمال في المهد! وهو من قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبياً " " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " .
وقال فيه ارتجالاً يمدحه. وهو على الشراب وقد صفت الفاكهة والنرجس.
إنما بدر ابن عمارٍ سحابٌ ... هطلٌ فيه ثوابٌ وعقاب
هطل: أي كثير المطر.
يقول: إن الممدوح كالسحاب الهطل، فيه شرٌّ لأعدائه وخير لأوليائه، كالسحاب الذي يرجي مطره وتخشى صواعقه.
إنما بدرٌ رزايا وعطايا ... ومنايا وطعانٌ وضراب
معناه: أنه ذو رزايا إلى آخره. وصفه بهذه الأشياء مبالغة، من حيث أن هذه الأوصاف لما كثرت منه كأنه خلق منها، كما تقول لمن كثر منه الأكل والشرب: أنت أكلٌ وشربٌ فلما كثر منه ما ذكر صار كأنه خلق منها.
ما يجيل الطرف إلا حمدته ... جهدها الأيدي وذمته الرقاب
نصب جهدها، لأنه مصدر أقيم مقام الحال: أي حمدته جاهدة جهدها. ويروى: الطرف بكسر الطاء: وهو الفرس الكريم. يعني: ما يجيل فرسه في الحرب إلا حمدته الأيدي أي أيدي جيشه ورجاله؛ لأنه يكفيها ألم الطعن والضرب والرمي، وتولى هو بنفسه ضراب أعدائه.
وقيل: أراد حمدته الأيدي في تلك الحال على بذله الأموال ونشره النوال. وتذمه الرقاب: أي تذمه رقاب أعدائه، لأنه يقطها. ومعناه أنه لا يتغير. وأراد بذلك: أن الحرب لا يشغله عن الجود. ومثله قوله:
فواهبٌ والرماح تشجره ... وطاعنٌ والهبات متصله
وقد يروى: ما يجيل الطرف بفتح الطاء: أي أنه في كل لمحة يجيل طرفه فينعم على قوم ويضرب رقاب قوم، فالأيدي تحمده على العطاء والرقاب تذمه على قطعها.
ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
يقول: إنه ليس يقتل أعداءه خوفاً منهم، وما به حاجة إلى قتلهم؛ لأنهم عجزوا عنه، ولكنه عود إنالة جوده وعطائه كل شيء، حتى الذئاب، فإن عز إطعام لحوم القتلى، فيكره إخلاف ما عوده؛ لألأ يخيب رجاء الذئاب ومثله قوله:
سفك الدماء بجوده لا بأسه ... كرماً لأن الطير بعض عياله
فله هيبة من لا يترجى ... وله جود مرجىً لا يهاب
لا يترجى: أي لا يرجى.
يقول: إنه عظيم الهيبة واسع الجود، فمن يهابه لا يرجو عفوه، لشدة سطوته وعظم هيبته، ومن يرجوه لا يخاف سطوته لسبق جوده وعظم كرمه؛ لأنه يضع كلاً موضعه، فالمسيء لا يرجو رضاه والمحسن لا يخاف سخطه.
طاعن الفرسان في الأحداق شزراً ... وعجاج الحرب للشمس نقاب
شزراً: أي يميناً وشمالاً، وقيل: هو الذي أريد به أعلى الصدر.
يقول: هو يطعن الفرسان في أحداقهم حين تشتد الحرب ويرتفع الغبار، وتصير الشمس من كثرة الغبار مستترة، فكأن الغبار نقاب للشمس.
وتخصيص الأحداق بالطعن؛ بيان لحذقه بالطعن، وثبات قلبه، وأنه يهتدي في مثل هذا الخوف والظلمة إلى الأحداق، أو إشارة إلى أن سائر الأبدان مغطاة بالسلاح، سوى الأحداق.
باعث النفس على الهول الذي ... ما لنفسٍ وقعت فيه إياب
الهاء في فيه: للهول.
يقول: إنه يطرح نفسه ويحملها على أمر مهول، بحيث أن من وقع فيه لم يسلم منه، ولا ترجع نفس وقعت في ل الأمر المهول. يصفه بالشجاعة والإقدام ومثله قوله:
وأورد نفسي والمهند في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد
بأبي ريحك لا نرجساً ذا ... وأحاديثك لا هذا الشراب

يقول: أفدي بأبي ريحك، لا هذا النرجس، لأن ريحك أطيب من ريحه، وأفدي بأبي أحاديثك لا هذا الشراب؛ لأن حديثك ألذ من الشراب فهما أحب إلينا من هذا النرجس وهذا الشراب أيضاً.
ليس بالمنكر أن برزت سبقاً ... غير مدفوعٍ عن السبق العراب
أن برزت: في موضع الرفع؛ لأنه اسم ليس، ومعناه: أن سبقت. وقوله: سبقاً نصب على التمييز، ويجوز أن يكون نصباً على المصدر، ومعناه: أن سبقت سبقاً.
يقول: ليس من العجب أن تسبق الكرام وتبرز عليهم في مجدك، كما أنه ليس بمنكر أن تسبق الخيل العراب غيرها، وإنما لم يقل: غير مدفوعة مع تأنيث الخيل؛ لأنه في معنى يدفع، والفعل إذا قدم على جماعة المؤنث يجوز فيه التذكير والتأنيث، فهذا وإن كان اسماً فهو حمله على الفعل وشبهه به، وقيل: أراد بالعراب: الجنس كأنه قال: جنس غير مدفوع.
وهذه الأبيات من بحر الرمل وأصله فاعلاتن ست مرات، وهو قد جاء بها على الأصل، ولم يسمع من العرب إلا محذوف العروض: وهو أن يحذف من الجزء الثالث سبب وهو تن فيبقى فاعلاً ويحول إلى مثل وزنه فيصير فاعلن.
وعذره أنه صرع الأبيات من غير إعادة القافية، وأيضاً فإنه اعتبر الأصل، لأنه أصل دائرة الرمل، فأتى بها على الأصل؛ ليعلم أن أصلها ذلك. وأما البيت الأول فلا إشكال فيه لأنه مصرع مقفى.
يصف الأسد وقتال بدر إباه وخرج بدر بن عمارٍ إلى أسدٍ، فهرب الأسد منه! وكان خرج قبله إلى أسد آخر فهاجه عن بقرةٍ افترسها، بعد أن شبع وثقل، فوثب على كفل فرسه، فأعجله عن استلال سيفه، فضربه بسوطه، ودار الجيش به فقتل. فقال أبو الطيب:
في الخد أن عزم الخليط رحيلا ... مطرٌ تزيد به الخدود محولا
أن في قوله: أن عزم الخليط مفتوحة الألف، ويكون الفعل بعدها مصدراً. ومعناه: لأن عزم. أو لأجل أن عزم ومثله: " أن كان ذا مالٍ " ويجوز كسرها، فتكون شرطاً وجوابه محذوف. أو إن عزم الخليط رحيلا: أي عزم على الرحيل، فحذف الجار كقول عنترة.
ولقد أبيت على الطوى وأظله
أي أظل عليه. ومحولا: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون جمع محل مثل كعب وكعوب. والخليط: المخالط، ويقع على الواحد والجمع.
والمعنى: إن في خدي من أجل فراق أحبائي، دمعاً متقاطراً كالمطر في التقاطر والسيلان، ولكنه يخالف المطر في الفعل؛ لأن المطر يخصب المحول وينبت البقول، ودمعي يجري على خدي الناضر، فيبطل نضرته ويغير حسنه ويزيد ذبوله. وهو المراد بالمحول.
يا نظرةً نفت الرقاد وغادرت ... في حد قلبي ما حييت فلولا
نصب نظرةً؛ لأنها منادى نكرة. ومعناه: التعجب كقوله تعالى: " يا حسرةً على العباد " وفلول: جمع فل، وهو الأثر في الحد، من السكين وغيره.
يقول: يا نظرة عند الوداع ما أعظمها! فإنها نفت الرقاد عني، وغادرت في قلبي أثراً لا يندمل ما دمت حيا.
كانت من الكحلاء سؤلي إنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا
كانت: راجعة إلى النظرة. والكحلاء: يجوز أن يكون من التكحل، ويجوز أن يكون من الكحل: الذي هو خلقة.
يقول: كانت تلك النظرة من هذه الجارية الكحلاء سؤلي وأمنيتي، فلما نظرت إليها كانت تلك النظرة أجلاً لي في الحقيقة لا سؤلا! وترك الهمزة من سولاً، لأن الواو ردف فلا يجوز غير ذلك.
أجد الجفاء على سواك مروءةً ... والصبر إلا في نواك جميلا
المصراع الأول له معنيان: أحدهما: أن من المروءة ترك جفائك، إلا على غيرك. فقد أمنت جفاءك لأنني لا أراه مروءة وليس ترك المروءة من عادتي، فلا أجفوك أبداً.
والثاني: أن جفاء الناس إياي، على سواك لا أحتمله لأن احتماله ليس من المروءة، فإذا كان احتماله من المروءة لأجلك، فاحتمال الصبر في كل حادثة جميل، إلا في بعدك وهجرك، فإنه قبيح.
فأول البيت مأخوذ من قول أبي عبادة البحتري:
ألام على هواك، وليس عدلاً ... إذا أحببت مثلك أن ألاما
وآخره من قول الآخر:
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وأرى تدللك الكثر محبباً ... وأرى قليل تدلل مملولا
التدلل: الدلال والغنج.
يقول: إن الدلال الكثير منك محبب، وأنا أمل القليل من غيرك ومثله:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا

تشكو روادفك المطية فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلا
الروادف: جمع ردف، وأقامه مقام الواحد، كأنه جعل ناحية من عجزها ردفاً؛ لأنه أراد المبالغة في الثقل، أو أراد: الردف والأفخاذ.
يقول: تشكو المطية التي ركبتها ثقل ردفها وعجزها عن حملها، كما تشكو النفس التي يدخلها عشقك. والتأنيث: للنفس المضمرة، ويجوز أن يكون أتبع التأنيث المطية.
ويغيرني جذب الذمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
يغيرني: أي يحملن على الغيرة. والهاء في قلبها وفمها: للمطية وروى: لعطفها. والقلب: مصدر قلبت. وفمها: نصب بالمصدر. قيل: بالجذب. وقيل: بالقلب.
يقول: متى جذبت هذه المطية زمامها وقلبت رأسها مع الزمام: حملني ذلك على الغيرة؛ لأنها تتصور بصورة من يطلب تقبيلك.
حدق الحسان من الغواني هجن لي ... يوم الفراق صبابةً وغليلا
يقول: لما نظرت يوم الفراق إلى الجواري الحسان، وتأملت حسن عيونهن هيجت لي أحداقهن رقة الشوق وحرارة القلب.
حدقٌ يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
يذم: أي يحفظ. كأنه يدخله في ذمته وجواره، وفاعله: بدر.
يقول: إن بدراً يمنع كل من استجار به من كل من يريد قتله، سوى من هذه الحدق، فإنه لا يقدر على منعها ومثله قوله:
وقي الأمير هوى العيون؛ فإنه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
الفارج الكرب العظام بمثلها ... والتارك الملك العزيز ذليلا
يقول: هو يكشف الأمور العظام، ويدفعها بمثلها من الأمور العظام؛ لأنه لا يزيل الكربة عن الصديق إلا بإلحاق كربةٍ مثلها بعدوه، وكذلك يترك الملك العزيز ذليلاً، لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه ومثله قوله:
وكم ذدت عنهم ردىً بالردى ... وكشفت من كربٍ بالكرب
محكٌ إذا مطل الغريم بدينه ... جعل الحسام بما أراد كفيلا
محكٌ: أي لجوج في الخصومة. وأراد بالغريم: قرنه وبالدين: روحه.
يقول: إنه لجوج، فإذا أنال قرناً، أو طالب بدم، أو طلب ما يريد طلبه، جعل سيفه ضامناً لها حتى يؤديه إليه. أي أنه لا يحتاج لأخذه إلى الكفيل، بل يأخذه بسيفه؛ لقدرته وتمكنه.
نطقٌ إذا حط الكلام لثامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا
نطقٌ: أي جيد النطق. واللثام: ما يديره الرجل من طرف عمامته على الفم، فإذا رفعه إلى الأنف لئام. وقوله: إذا حط الكلام لثامه. أي حطه ليتكلم؛ فأسند الفعل إلى سببه.
يقول: هو فصيح بليغ، فإذا حدر لثامه ليتلكم، أفاد الناس عقولاً بما ينطق من الحكم والمواعظ والأمثال.
أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا
العدوى: تعدي الداء إلى ما يقاربه. والمعنى أن سخاءه أعدى إلى الزمان السخاء، فسخا به الزمان علي، وجمع بينه وبيني، وقد كان الزمان يبخل به علي فيما مضى، فلولا سخاؤه لكان لا يسخو الزمان به علي.
وقال ابن جنى: معناه أن الزمان تعلم من سخائه، فسخا بهذا الممدوح وأخرجه من القدم إلى الوجود، ولولا سخاؤه لبخل هذا الزمان به على الناس، فاستخلصه لنفسه، فهو إن كان في حال العدم لم يكن سخياً، حتى يعدى الناس سخاؤه على الزمان. ويجوز أن يوصف بذلك على معنى: أن الزمان لما علم ما يكون فيه من السخاء إذا وجد، استفاد منه ما تصور كونه بعد وجوده، ولولا علمه به لبقي بخيلاً. والشيء إذا تحقق كونه أجري عليه من أوصاف الموجود كقوله تعالى: " ونادى أصحاب الجنة " .
وكأن برقاً في متون غمامةٍ ... هنديه في كفه مسلولا
هندية: رفع لأنه خبر كأن. ومسلولاً: نصب على الحال. والهاء في هنديه: للممدوح. شبه سيفه بالبرق للمعه، وكفه بالغمامة لجودها وكرمها.
ومحل قائمه يسيل مواهباً ... لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا
الهاء في قائمه: للهندي. ومحله: كفه. ومواهباً: نصب على التمييز. وكن: يرجع إلى المواهب.
يقول: إن المحل قائم سيفه. وهو كفه. تسيل مواهباً، ولو كانت تلك المواهب سيلاً لعمت الأرض فلم تجد مكاناً تسيل فيه، وجعل الكف تسيل بالمواهب لكونها آلة العطاء في الغالب.
رقت مضاربه فهن كأنما ... يبدين من عشق الرقاب نحولا
يقول: إن مضارب سيفه رقت، فكأنها عشقت الرقاب فنحل جسمها، ولهذا كان العشق يورث النحول. والمضارب: جمع المضرب، وهو حد السيف.

أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
المعفر: من عفرته، إذا ألقيته على العفر: وهو التراب. والهزبر. من أسماء الأسد. فكأنه وصفه بشدة الصوت.
يقول: يا من يعفر الأسد بشديد صوته! لمن ادخرت سيفك المصقول! أي لا تدخره؛ فإنك لا تحتاج إليه، لأن السوط إذا كفاك معركة الأسد مع أنه لا يقاومه أحد واستغنيت عن السيف، فإنك لا تحتاج إليه، ولا إلى أحد، لأن كل شجاع دون الأسد.
وقعت على الأردن منه بليةٌ ... نضدت بها هام الرفاق تلولا
يروى: وقعت، ووقفت: والأردن: نهر بأرض الشام، وتنسب إليه تلك البلد. ونضدت: أي جعلت بعضها فوق بعض. والرفاق: جمع رفقة، وهم قوم يجتمعون للسفر. والكناية في نضدت: للبلية. والهاء في منه: لليث. وفي بها: للأردن، وأراد بها البقعة.
يقول: حصلت من هذا الأسد بلية من البلايا، نضدت في هذه البلدة هامات أهل الرفقة تلولا، من كثرة ما افترسم ن الناس.
وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً ... ورد الفرات زئيره والنيلا
وردٌ: اسم للأسد، إذا كان يضرب لونه إلى الحمرة. والبحيرة: بحيرة طبرية، وهي من الأردن، وبينها وبين الفرات أكث من عشرة أيام، وكذلك بينها وبين النيل. وشارباً: نصب على الحال. والزئير: صوت الأسد. والفرات: نهر يجري من بلاد الروم، ويمر في حدود الشام من قبل المشرق.
يقول: إنه إذا ورد البحيرة ليشرب منها سمع زئيره من الفرات إلى النيل مع بعد المسافة.
متخضبٌ بدم الفوارس لابسٌ ... في غيله من لبدتيه غيلا
الغيل: الأجمة. ولبدة الأسد: ما تلبد على كتفه ومنكبيه من وبره.
يقول: إنه مختضب من دماء الفوارس، لكثرة ما افترسهم. وخصهم بالذكر؛ لأنهم أمنع من غيرهم، وأنه من كثرة وبره، كأنه كان لابس أجمةٍ، فهو من وبره في أجمة.
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا
الفريق: الجماعة من الناس. وحلولا: أي حالين، وهو نصب على الحال من الفريق، وإن شئت على القطع.
يقول: إذا قابل إنسانٌ عينه في الظلمة، ظن أنها نار قوم نازلين في مفازة، وهذه النار يكون ضوءها أضوأ وأظهر من السراج. شبه بريق عينه بهذه النار.
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
يقول: إن هذا الأسد منفرد في أجمة عن الناس، كالرهبان الذين ينفردون عن الناس، غير أنه لا يعرف التحريم والتحليل وهم يعرفون ذلك.
يطأ الثرى مترفقاً من تيهه ... فكأنه آسٍ يجس عليلا
الثرى، والبرى: مرويان، وهما التراب. والتيه: الكبر.
يقول: إنه يمشي على التراب، بالرفق لا بالكبر، فكأنه طبيب يجس عليلاً؛ لأنه إذا جس العليل ترفق.
ويرد عفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
عفرة الأسد: الشعر المستدير على رقبته. واليافوخ: قحف الرأس. يعني: أنه ينفش وبره حتى يصير شعر رقبته على رأسه، مثل الإكليل؛ لكثرته واستدارته.
وتظنه مما يزمجر نفسه ... عنها بشدة غيظة مشغولا
الزمجرة: ترديد الصوت في الصدر. والهاء في عنها: للنفس. وتقديره مشغولاً عنها. وتظنه: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما: الهاء في تظنه، ونفسه بدل عنها. والثاني: مشغولا.
يقول: تظن هذا الأسد مشغولاً عن نفسه بشدة غيظه، من كثرة ما يزمجر. أي تدل كثرة زمجرته على اشتغاله عن نفسه بغيظه. وروى: تزمجر بالتاء. ونفسه: بالرفع، على أن تكون نفسه فاعلة تزمجر.
قصرت مخافته الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
قصرت: أي جعلت الخطى قصيرة. والفاعل: المخافة، والمفعول: الخطي. والكمي: الشجاع المتكمي بالسلاح. والمشكول: المشدود بالشكال.
يقول: لما خاف الكمي منه، ركب فرسه، فهو يهيجه للإقدام جرأة، والفرس يحجم عنه خوفاً منه، فكأنه ركب فرسه مشكولاً. فشبه تقارب خطوه بالقيد. وقيل: أراد من خوف هذا السبع، لا يجسر الفرس أن يجري، فكأن خوفه صار قيداً.
ألقى فريسته وبربر دونها ... وقربت قرباً خاله تطفيلا
البربرة: ترجيع الصوت. والتطفيل: الدخول على القوم وهم يأكلون من غير دعوة.
يقول: ظن الأسد حين علم أنك أسد مثله، أنك أردت التطفيل عليه في فريسته، فألقاها وبربر دونها، ذباً عنها، فوثب عليك.
فتشابه الخلقان في إقدامه ... وتخالفا في بذلك المأكولا

يقول: تشابه الخلقان؛ منك ومن الأسد في الإقدام، واختلفا في بذل المطاعم، فإنك تبذل مأكولك، وهو يضن به ويذب عنه.
أسدٌ يرى عضويه فيك كليهما ... متناً أزل وساعداً مفتولا
المتن: الصلب. والأزل: الأرسخ الممسوح العجز. والمفتول: القوي المكلم.
يقول: رأى الأسد فيك متنه الأزل، وساعده المفتول، وذلك من علم الشجاع البطل.
في سرج ظامئة الفصوص طمرةٍ ... يأبى تفردها لها التمثيلا
الظامئة: قليلة اللحم. والفصوص: المفاصل، واحدها فص. والطمرة: الوثابة، وقيل: المرتفعة الشاخصة.
يقول: نظر إليك الأسد وأنت على فرس لطيفة الأوصال، يأبى تفرد هذا الفرس بالكمال، أن يكون له مثل، وقيل: أراد لا يحتاج صاحبه معه إلى فرس آخر.
نيالة الطلبات لولا أنها ... تعطي مكان لجامها ما نيلا
يقول: إنها تدرك كل ما تطلبه وهي طويلة العنق، فلولا أنها تمكن ملجمها من رأسها ما وصل إليها، وقيل: إنه وصف صعوبتها. أي لولا أنها تحط رأسها للجام، لما كان ينال رأسها أحد، لكنها مكنت من نفسها ملجمها فأمكن إلجامها لذلك.
تندى سوالفها إذا استحضرتها ... وتظن عقد عنانها محلولا
السوالف: صفحات العنق. وتندى: أي تبتل من العرق، وذلك من أمارات العنق. والاستحضار: طلب الحضر.
يقول: من ازدياد جريها؛ عرقت سوالفها. وقوله: وتظن عقد عنانها محلولا: أي أنها تدخل في العنان وتدني صدرها، فيتسع العنان في يد فارسها، فكأنه محلول.
ما زال يجمع نفسه في زوره ... حتى حسبت العرض منه الطولا
الزور: أعلى الصدر، عاد إلى وصف الأسد.
يقول: ما زال يجمع نفسه في صدره للوثبة، حتى حسبت عرضه، طولاً. وقيل: أراد أن الفرس إذا أراد الوثوب ضم نفسه إلى صدره.
ويدق بالصدر الحجار كأنه ... يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا
الحجار: كالحجارة، وأراد بالحضيض: هاهنا أسفل الأرض.
يقول: إن المذكور قبله ما زال يدق الحجارة بصدره عند وثوبه، حتى كأنه يريد أن يشقها ويغوص فيها.
وكأنه غرته عينٌ فادني ... لا يبصر الخطب الجليل جليلا
ادنى: افتعل من الدنو: أي دنا.
يقول: كأن الأسد غرته عينه حين رآك إنساناً كسائر الناس فدنا إليك، ولم يعلم أنك أسد، ولو علم بأسك لم يجرء عليك، فلما لم يعلم ذلك، رأى الإقدام عليك خطباً حقيراً.
أنف الكريم من الدنية تاركٌ ... في عينه العدد الكثير قليلا
الأنف والأنفة: بمعنىً. والدنية: النقيصة. وهذا مثل. وأراد: أن الأسد أنف من الفرار فأقدم عليك، كما أن الكريم يطرح نفسه على العدد الكثير ويرى ذلك الكثير قليلاً لعلو همته. فكذلك الأسد أقدم عليك مخافة الأنفة.
والعار مضاضٌ، وليس بخائفٍ ... من حتفه من خاف مما قيلا
مضاض: أي مؤلم، وهذا أيضاً مثل.
يقول: من أنف من العار لم يخف حتفه؛ لأنه يرى حتفه أسهل عليه من مقال الناس فيه.
سبق التقاءكه بوثبة هاجم ... لو لم تصادمه لجازك ميلا
عدى الالتقاء إلى الكاف وهو لا يتعدى إلا بالواو أو مع.
يقول: لما رآك تقرب منه سبقك بوثبة هاجم، فلولا أنك صادمته لجازك ميلاً؛ لشدة وثبه. فضله على الأسد.
خذلته قوته وقد كافحته ... فاستنصر التسليم والتجديلا
المكافحة: المواجهة. والتجديل. السقوط على الجدالة: وهي الأرض.
يقول: لولا قوته لما قتلته؛ لأنه لقوته أقدم عليك، فلما واجهته بقوتك خذلته وخذلت قوته، حتى استنصر التسليم، فانقاد لك واختار السقوط على الأرض.
قبضت منيته يديه وعنقه ... فكأنما صادفته مغلولا
يقول: إن أجله قبض يديه وعنقه لك، فكأنه كان مغلولاً قبل أن تلحقه، فصادفته مغلولاً لما لم يمكنه المدافعة.
سمع ابن عمته به وبحاله ... فنجا يهرول منك أمس مهولا
نجا: أسرع المشي. والهرولة: اضطراب العدو. والمهول: الذي قد هاله أمر.
يقول: إن ابن عمة هذا الأسد وهو أسدٌ مثله سمع بحال الأول، وقتلك إياه، فلما ركبت إليه فر منك مسرعاً، خوفاً أن تقتله كما قتلت الأول.
وأمر مما فر منه فراره ... وكقتله ألا يموت قتيلا
أمر: أي أشد مرارة.

يقول: فراره أشد مرارة من القتل الذي فر منه. وسلامته من القتل بالهرب. يقوم له مقام القتل؛ لأنه يعيش ذليلاً مهيناً والموت في العز خيرٌ من العيش في الذل وقيل: أراد أن قتله للأسد أكرم له، فكأن الموت أولى له لأنه كان معززاً.
تلف الذي اتخذ الجراءة خلةً ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
الجرأة، والجراءة، والجسارة: الإقدام على الشيء. والخلة: الصداقة، وهو ها هنا يحتمل المصدر.
يقول: إن هلاك الأسد الذي اختار الجرأة والإقدام عليك، وعظ الأسد الآخر الذي فر منك، فخاف إن ثبت لك أن تقتله كما قتلت الأول. وقد روى: وعظ على المصدر، وهو خبر الابتداء.
لو كان علمك بالإله مقسماً ... في الناس ما بعث الإله رسولا
يقول: لو كانت معرفتك بالإله وصفاته وعدله مقسومة بين الناس، لكانوا كلهم عارفين بالله، وما احتاجوا إلى رسول يدعوهم إلى أمور دينهم.
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... فرقان والتوراة والإنجيلا
يقول: إن كلامك كله حكمٌ ومواعظ، ومختص بغاية الفصاحة، فلو كان موجوداً من قبل ما أنزل الله الكتب المذكورة لقام كلامك مقامها.
لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
أي لو كانت الأموال التي تعطيهم الآن، كانت لهم قبل عطائك لكانوا أغنياء لم يعرفوا التأميل ولم يوملوا أحداً. وقيل: أراد لولا عطاؤك لما عرف الناس التأميل، ولكن لما أعطيتهم أطمعتهم بعطاياك فعرفوا التأميل. والأول أولى.
فلقد عرفت وما عرفت حقيقةً ... ولقد جهلت، وما جهلت خمولا
يقول: كل أحد عرفك لشهرتك وشهرة ذكرك وبعد صيتك، ولكن لا يعرف حقيقة أمرك، فأنت معروف من حيث يعرفك كل أحد لشهرة ذكرك، وأنت مجهول لبعد غايتك، ولطف مكانك، لا لأنك خامل الذكر بين الناس.
نطقت بسوددك الحمام تغنياً ... وبما تجشمها الجياد صهيلا
تغنياً وصهيلا: مصدران، في موضع الحال. والحمام: رفع بنظفت، وكذلك الجياد لأن نطقت مكررة.
يقول: كل شيء يثني عليك حتى أن الحمام إذا غنت وصفت سؤددك، والخيل إذا صهلت وصفت ما تكلفها من المشقة والسير والحرب.
وقيل: أراد بالحمام. العجم من حيث كساهم من نعمه مثل أطواق الحمام قال ابن جنى: أشهد بالله أنه لو خرس بعد هذين البيتين لكان أشعر الناسز
وما كل من طلب المعالي نافذاً ... فيها، ولا كل الرجال فحولا
يقول: ليس كل من طلب المعالي يدرك منها ما أدركت، وينفذ فيها كما نفذت، ولا كل من هو على خلقة الرجال فحلا جامعاً لغايات الرجولية.
وورد كتابٌ من ابن رائق على بدرٍ بإضافة الساحل إلى عمله فقال يهنىء بدراً بذلك:
تهنى بصورٍ أم نهنئها بكا ... وقل الذي صورٌ وأنت له لكا
روى تهنى ونهنى: من التهنئة، والدعاء لصاحب النعمة بدوامها، وتسويغها، فأصلها هنأ الطعام. وصور: مدينة من ساحل الشام.
يقول: نهنئك بهذه المدينة، أم نهني هذه المدينة بك؛ حيث وليتها فإن هذه الولاية، ومن ولاك عليها، لو كانا لك لما استكثرنا لك ذلك؛ وهو معنى قوله: وقل الذي صور وأنت له لكا أي وقل لك الرجل الذي هذه المدينة وأنت له. أي أنك من جملة أصحابه في الظاهر، فكنت له كصور.
وما صغر الأردن والساحل الذي ... حبيت به إلا إلى جنب قدركا
الأردن: ديار فلسطين وما والاها. والساحل: ساحل الشام.
يقول: إن الأردن والساحل الذي أعطيته عظيم وملك جليل، وإنما صغر بالقياس إلى قدرك وعلو محلك، فهو ليس بصغير إلا إلى جنب مقدارك، فإنك تستحق أكثر من هذا.
تحاسدت البلدان حتى لوانها ... نفوسٌ لسار الشرق والغرب نحوكا
يقول: حسدت البلدان البلاد التي تليها، حتى أنها لو كانت من الأحياء لسار المشرق منها والمغرب إليك، ليكونا في ولايتك. ومثله قول أبي تمام:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
ومثله للبحتري:
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وأصبح مصرٌ لا تكون أميره ... ولو أنه ذو مقلةٍ وفم بكى
يقول: كل بلد لا تكون والياً عليه، لو كان له عينٌ وفمٌ لبكى من الحزن عليك، لكونك في غيره، واشتياقاً إلى توليتك عليه.

ونظر أبو الطيب ثياباً مطويةً إلى جانبه فسأل عنها. فقيل له: هي خلع الولاية. وكان أبو الطيب ذلك اليوم عليلاً فقال ارتجالاً:
أرى حللاً مطواةً حساناً ... عداني أن أراك بها اعتلالي
الحلة: ثوبان، إزار ورادء، ومطواة: أي مطوية وعداني. أي صرفني، وفاعله: اعتلالي.
يقول: أرى حللاً على جنبك حسنة مطوية، وإنما منعني أن أراك وهي عليك مرضى.
وهبك طويتها وخرجت عنها ... أتطوي ما عليك من الجمال؟
يقول: إنك وإن نزعتها وطويتها، فإنك في حلل من جمالك وحسنك، لا تقدر أن تخرج منه ولا أن تطويه.
لقد ظلت أواخرها الأعالي ... مع الأولى بجسمك في قتال
الأواخر: جمع آخر. والأعالي: جمع أعلى.
جعل الأعالي منها أواخر، لأنها تلبس بعد الشعار، فهي متأخرة عنها في البشرة. والأولى ما ولي الجسم وقرب منه، وقيل: الأعالي. ما يكون أعلى محلاً؛ وأشرف الثياب. يلبس آخراً.
يقول: إن الحلل التي لبستها تقاتل أعاليها التي هي أواخرها، مع التي تلي جسدك، وحسدتها وطلبت كل واحدة منهما أن تكون هي التي تلي جسدك وتقرب مك.
تلاحظك العيون وأنت فيها ... كأن عليك أفئدة الرجال
يقول: إن الناس كانوا ينظرون إليك، وهي عليك نظر محبة واستحسان، حتى كأن التي عليك ولبستها قلوب الناس، لتعلق القلوب بها واستحسانهم إياها عليك، ومثله قوله:
كأن عليه من حدق نطاقا
ومثله الآخر
لمقلتيها عظم الملك في المقل
متى أحصيت فضلك في كلام ... فقد أحصيت حبات الرمال
روى في مديح وفي كلام يقول: لك فضائل عدد الرمل، فإن قدرت على عدها فقد أحصيت مديحك وهذا غير ممكن، فكذلك عد فضائلك.
وسار بعد ذلك إلى الساحل ولم يسر معه أبو الطيب فبلغه أن الأعور بن كروس كتب إلى بدر يقول له: إنما تخلف عنك أبو الطيب رغبةً عنك، ورفعاً لنفسه على المسير معك. ثم عاد بدرٌ إلى طبرية فضربت له قبابٌ عليها أمثلةٌ من تصاوير. فقال أبو الطيب في ذلك يمدحه ويعتذر عن تخلفه عنه.
الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا
ما يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون للنفي. ومنع: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما الكلام، والثاني الألسن، وهي جمع اللسان. وروى: الألسنا: وهو الأفصح وما في قوله: ما أعلنا بمعنى الذي، وأصله ما أعلنه، فحذف الهاء.
يقول على الأول: الحب هو الذي يمنع الكلام من أن يعلن بالنطق ما في قلبه، وإذا لم يكن كذلك فليس بالحب الحقيقي. وتم الكلام ها هنا، وهذا مثل قول الآخر:
وما هو إلا أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم قال: وألذ شكوى عاشق ما أعلنا أي ألذ الشكوى للعاشق ما باح بها لكل أحد كقول أبي نواس:
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونهاستر
وقيل: إن أحد المصراعين متعلق بالآخر. ومعناه: الحب الحقيقي ما منع الألسن أن تبوح، في حالٍ يلتذ العاشق فيها بالشكوى، فيدرك الإبقاء على حبيبه والخوف من إغراء العذال به، فيدع ما يشتهيه، مراعاةً للحبيب كما قال الشاعر:
ولست بواصفٍ أبداً حبيباً ... أعرضه لأهواء الرجال
وقوله: وألذ شكوى، على هذا. في موضع الحال. ويجوز: أن يكون ما في قوله: ما أعلنا. بمعنى المصدر، فلا يحتاج إلى الهاء العائدة إليه، أي ألذ شكوى عاشق إعلانه.
وعلى الثاني: الحب لم يمنع الألسن من الكلام، كأنه يحسن عند نفسه الشكوى؛ لأن في ذلك راحته وقوله: وألذ شكوى. تأكيد للمعنى الأول، وتعليل له.
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ... من غير جرم واصلي صلة الضنى
نصب هجر الكرى وصلة الضنى على المصدر. أي الذي هجرني مثل هجر الكرى.
يقول: ليت الحبيب الذي هجرني من غير ذنب مني، هجر النوم عينين بهجره، وواصلني مثل مواصلتي السقم، حتى واصلني النوم وهجرني السقم.
بنا: أي تباعدنا. وقوله: فلو حليتنا. أي وصفت واكتسيت حليتنا. امتقع لونه وابتقع وانتقع: إذا تغير.
يقول لصاحبه: إنا لما تفرقنا تغيرت ألواننا من خوف الفراق وحزن التباعد وطول الضنى، فلو أردت وصفنا لم تقدر عليه، ولم تدر بأي شيء تصفنا؛ لكثرة ما ننتقل من لون إلى لون. وقوله: تلونا، نصب على التمييز.

وتوقدت أنفاسنا حتى لقد ... أشفقت تحترق العواذل بيننا
الإشفاق: الخوف مع الرحمة.
يقول: ألهبت أنفاسنا حرارة الشوق، حتى خفت أن تحترق العواذل اللائي كن بيننا. ووجه إشفاقه عليهن، مع أن العواذل يكن مبغضات للعشاق، لأن العاذل لا يكون في الأغلب إلا من يكون قريباً، أو ناصحاً شفيقاً. وقيل: إنه خاف أن تنم أنفاسه على حالهما، من حرارة الشوق. ويجوز أن يكون خوفه من احتراق نفسه واحتراق حبيبه، ثم يتعدى الاحتراق إلى العواذل، لأنهن لا يحترقن بحرارة أنفاسهما إلا بعد احتراقهما. ومثله قول بعض المتأخرين:
والبين يقدح من أنفاسنا شررا ... أشفقت تحرقنا يوم الوداع معا
أفدي المودعة التي أتبعتها ... نظراً فرادى بين زفراتٍ ثنا
سكن الفاء من زفرات ضرورة وأصلها الفتح. وثنا: أصله المد فقصره ضرورة أيضاً وفرادى: صفة لنظر؛ لأنه مصدر يقع على الواحد والجمع.
يقول: أفدى التي ودعتني وودعتها، فبقيت أنظر في أثرها لا أطرق ولا ألتفت إلى سواها، وكانت زفراتي تتصاعد اثنين اثنين؛ لشدة الجزع. يعني كلما نظر في أثرها مرةً زفر مرتين.
أنكرت طارقة الحوادث مرةً ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا
اعترفت بها: أي عرفتها وتعودتها. وقيل: معناه. صبرت لها حتى صارت لي عادة.
يقول: كنت في أمن من حوادث الدهر، فلما حدثت مرة أنكرتها وجزعت منها، ثم تكررت علي حتى صارت عادة لي، فلا أنكرها الآن. وهو من قول أبي العتاهية:
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
ومثله لآخر:
روعت حتى ما أراع من النوى ... وإن بان جيران علي كرام
ومثله لآخر:
روعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
وقطعت في الدنيا الفلا وركائبي ... فيها ووقتي: الضحى والموهنا
الفلا: نصب بقطعت. وركائبي، ووقتي: معطوفان عليها. والضحى، والموهنا بدا في وقتي. والوهن والموهن: قطعة من الليل، وقيل: صدر الليل قدر ساعتين منه؛ والضحى: صدر النهار.
يقول: استفدت لكثرة أسفاري في الفلوات، وأنضيت الركاب، وأفنيت ساعات نهاري وليلي. فعبر بالضحى، عن جملة النهار، وبالموهن: عن جميع الليل.
فوقفت منها حيث أوقفني الندى ... وبلغت من بدر بن عمار المنى
وقفته وأوقفته: أي حبسته، وبغير الألف أفصح. والهاء في قوله: منها راجعة إلى الدنيا.
يقول: لم أزل أطوف في الدنيا حتى وصلت إلى بدر، فحبسني جوده ونداه عنده، وبلغت عنده كل ما أتمناه: من نيل الغنى وإدراك العلا ومثله قوله من أخرى:
وقيدت نفسي في ذراك محبةً ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
لأبي الحسين جداً يضيق وعاؤه ... عنه ولو كان الوعاء الأزمنا
جداً: أي عطاء.
يقول: إن عطاءه قد بلغ إلى حدٍّ يضيق الوعاء عنه، حتى لو كان الزمان وعاءه، لضاق عنه.
وشجاعةٌ أغناه عنها ذكرها ... ونهى الجبان حديثها أن يجبنا
وشجاعةٌ: معطوفة على قوله جداً، وموضعه رفع بالابتداء.
يقول: إن شجاعته قد اشتهر ذكرها وشاع في الناس حديثها. فانقاد أعداؤه لحكمه، فاستغنى عن استعمال شجاعته لدخولهم في طاعته. وهو المراد بقوله: أغناه عنها ذكرها أي عن إظهارها واستعمالها، وقوي قلب الجبان من كثرة ذكرها، حتى اضطر إلى ترك جبنه.
نيطت حمائله بعاتق محربٍ ... ما كر قط وهل يكر وما انثنى؟!
نيطت حمائله: أي علقت، ونياط: عرق القلب معلق. والعاتق: رأس الكتف، وهو الكاهل أيضاً. وحمالة السيف: قلادته. والمحرب: كثير الجراءة والهاء في حمائله: للممدوح ومحرب: أراد به الممدوح أيضاً.
يقول: إن حمائل سيفه منوطة بعاتقه، وهو كثير الحرب، وإنه إذا حمل على عدوه لم ينثن عنه، فيحتاج إلى الرجوع إليها، لأن الكر يكون بعد الفر.
فكأنه والطعن من قدامه ... متخوفٌ من خلفه أن يطعنا
يقول: إنه يتقدم في المعركة، ويلقي الطعن قدامه ولا يتأخر، حتى كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فهو يتحرز بالتقدم كأنه يطعن من خلفه
نفت التوهم عنه حدة ذهنه ... فقضى على غيب الأمور تيقنا
فاعل نفت: هو حدة.

يقول: إنه من حدة فطنته وشدة ذكائه، صار توهمه علماً، فيقضي على الأمور الغائبة باليقين، لا بالتوهم والظن. وقيل: أراد أن إقدامه في الحرب، لعلمه بعواقب أمره في أنه يتلقى السلامة.
يتفزع الجبار من بغتاته ... فيظل في خلواته متكفنا
يقول: إن كل جبار يفزع من أن يهجم عليه بغتةً فيقتله، ويظل لابساً أكفانه إذا خلا بنفسه.
أمضى إرادته فسوف له قدٌ ... واستقرب الأقصى فثم له هنا
سوف: للاستقبال، وقدٌ: للمضي وتقريب العهد، فلما جعله اسماً أعربه، وثم: للمكان البعيد. وهنا: إشارة إلى المكان القريب.
يقول: إن مراده طوع أمره فما يريد فعله في المستقبل، بمنزلة ماضي المفعول، والبعيد عنك بمنزلة القريب
يجد الحديد على بضاضة جلده ... ثوباً أخف من الحرير وألينا
روى جلده بدل جسمه. والبضاضة: الطراوة والنعومة.
يقول: إنه مع نعومة جسمه ولين جلده، يجد الحديد والسلاح على بدنه أخف من الحرير وألين، وإن كان الحرير هو النهاية في الخفة واللين؛ وذلك لتعوده لبس السلاح وألفه له.
وأمر من فقد الأحبة عنده ... فقد السيوف الفاقدات الأجفنا
يقول: فقد السيوف المجردة من الأغماد، أشد عليه وأمر عنده من فقد الأحبة وبعدهم عنه.
لا يستكنٌّ الرعب بين ضلوعه ... يوماً ولا الإحسان ألا يحسنا
الإحسان: قيل إنه بمعنى العلم، ومعناه أن الخوف لا يستكن بين ضلوعه: أي لا يدخل ولا يستقر في قلبه وكذلك لا يستقر في قلبه العلم بألا يحسن إلى الناس. أي أنه جواد لا يعلم ترك الإحسان.
وقيل الإحسان: هو ترك الإساءة، وهو الإنعام ومعناه: لا يثبت الإحسان حتى يحسن هو إلى الناس، إذ ليس في الدنيا من يحسن إلى الناس غيره.
مستنبطٌ من علمه ما في غدٍ ... فكأن ما سيكون فيه دونا
مستنبط في يومه ما في غده دون جمع والهاء في فيه يجوز أن تكون للممدوح، ويجوز أن تكون راجعة إلى علمه يقول: إنه عالم بعواقب الأمور يعرف في يومه ما يحدث في غدٍ، فكأن ما سيكون مكتوب عنده، مجموع الصورة لديه.
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
تنقاصر: خبر الأفهام. مثل: نصب؛ لأنه صفة لمصدر محذوف. أي تتقاصر مثل تقاصرها عن الإدراك. الذي هو علم الله تعالى. الذيي الأفلاك فيه. والدنا: جمع الدنيا. فعلى هذا جعل كل أفق منها دنيا، فجاء الجمع لهذا.
يقول: إن الأفهام تعجز عن إدراك حقيقته، ويقصر الإدراك عن علم معانيه، كما تعجز عن إدراك حقيقة ما وراء العالم. وهو المراد بقوله: الأفلاك فيه والدنا؛ لأن الناس اختلفوا فيما هو خارج العالم.
فقال: كلما لم يعرفوا حقيقته ما ظرف له كذلك لا يعرفون حقيقة صفاتك.
وعن ابن جنى: إن المراد بقوله: الأفلاك فيه والدنا، هو الله تبارك وتعالى.
من ليس من قتلاه من طلقائه ... من ليس ممن دان ممن حينا
الطلقاء: جمع الطلائق. ودان: أطاع. وحين: دنا حينه، أي هلاكه. ومن ليس مبتدأ، ومن طلقائه خبره. أي من ليس من قتلاه، فهو من طلقائه. وكذلك الثاني.
يقول: إنه أفنى العباد ببأسه وسطوته، وملكهم بعفوه، فمن لم يقتله فهو طليق عفوه، ومن لم يطعه فهو ممن دنا حتفه وهلاكه.
لما قفلت من السواحل نحونا ... قفلت إليه وحشةٌ من عندنا
يقول: إنك لما رحلت عنا استوحشنا لبعدك، فلما رجعت إلينا زالت عنا الوحشة، ورجعت إلى السواحل التي غبت عنها.
وكان بدر الممدوح قد خرج إلى الساحل الذي رد إليه عمله، فلما عاد مدحه بهذه القصيدة.
أرج الطريق فما مررت بموضع ... إلا أقام به الشذا مستوطنا
أرج: أي فاحت منه رائحة الطيب. والشذا: المسك، وقيل: هو حدة ريحه.
يقول: إن الطريق الذي سلكته عبق من طيب ريحك، فكل موضع مررت به أقام به الريح طيباً لا يفارقه، حتى كأنه وطنه. أخذه من قول النميري:
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
إلا أن المتنبي زاد ذكر الاستيطان
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محييةً إليك الأغصنا
يقول: لو كانت الشجر التي مررت عليها عاقلة عارفة بمحلك، لكانت تمد أغصانها نحوك محييةً ومشيرة بالسلام عليك.
سلكت تماثيل القباب الجن من ... شوق بها، فأدرن فيك الأعينا

وروى: من شغف بها. والجن، فاعل سلكت.
يقول: تداخلت الجن في التماثيل التي على القباب المضروبة لتنظر إليك؛ شوقاً لرؤيتك، فأدرن فيك أعينها.
طربت مراكبنا فخلنا أنها ... لولا حياءٌ عاقها رقصت بنا
يقول: مراكبنا التي ركبناها إلى الممدوح استخفها السرور بقدومك، والمسير إليك، فلولا أن الحياء منعها من الرقص، لكادت ترقص بنا رقصا.
أقبلت تبسم والجياد عوابسٌ ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا
روى: يخببن من الخبب: وهو السير السريع، وروى يجنبن من الجنيبة وتبسم: في موضع نصب على الحال، وكذلك الجياد عوابس ويخببن: حال من الجياد، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً فيكون في موضع رفع.
يقول: أقبلت إلينا ضاحكاً مبتسماً وخيلك عابسة؛ لما لحقها من التعب فيسر عن المسير بالدروع المضاعف نسجها وبالرماح.
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقاً عليه أمكنا
العثير: الغبار. والعنق: ضرب من السير؛ ترفع فيه الدابة عنقها.
يقول: إن الغبار الساطع من حافرها قد يعقد، لكثافته حتى كأنه أرض صلبه، فلو أرادت الجياد أن تسير على هذا الغبار لأمكنها السير.
والأمر أمرك والقلوب خوافقٌ ... في موقفٍ بين المنية والمنى
قيل: الأمر هنا بمعنى الحال، أي أقبلت وحالك في طلاقة وجهك، مثل حالك إذا كنت في الحرب، حين تخفق القلوب من الرعب، فتكون القلوب واقفة بين الموت والبقاء.
يعني: أنه في الحرب ضاحك السن، مثل حاله القديمة. وقيل: أراد به أن أمرك نافذ في الأولياء والأعداء. وقلوب أعدائك خائفة واقفة بين الخوف من الموت وبين الرجاء.
فعجبت حتى ما عجبت من الظبى ... ورأيت حتى ما رأيت، من السنى
الظبى: جمع الظبية، وهي حد السيف. والسنى مقصور: هو الضوء. تقديره: فعجبت من الظبى حتى ما عجبت، ورأيت من السنى حتى ما رأيت.
يقول: رأيت السيوف حولك متجردة فعجبت من كثرتها، وزاد الأمر حتى زال تعجبي مما رأيت من لمعان السيوف وبريقها، فبقيت متحيراً كمن لا حس له، وغلب لمعانها على بصري حتى ما رأيت؛ لأن لمعانها غشى عيني.
وقيل: أراد فعجبت من انهزامهم، حتى زال تعجبي، من أجل السيوف التي لمعت بأيديهم، فقلت حق لهذه السيوف أن تعمل هذا، فأزال تعجبي؛ لأني لم أستكره أن يكون ذلك الانهزام فعل ما رأيت.
وقيل: أراد أني عجبت من السيوف لكثرتها ولمعانها حتى التهيت بالعجب! فزال تعجبي كما قال أبو تمام:
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وكذلك بريق السيوف؛ لشدة بريقه ولمعانه كف ضوءها بصري.
إني أراك من المكارم عسكراً ... في عسكر، ومن المعالي معدنا
قيل: معناه إنك في نفسك عسكر، وحولك من مكارمك عسكر؛ فلهذا أراك عسكراً في عسكر من المكارم.
وقيل: معناه إني أراك عسكراً من المكارم، في عسكر من الخيل والرجال، وأنك معدن: أي أصل لكل خير وشرف. ومثل المصراع الأول لأبي تمام:
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسه وحدها في جحفل لجب
فطن الفؤاد لما أتيت على النوى ... ولما تركت مخافةً أن تفطنا
يقول: أنت عالم بما فعلت بعدك من شكرك والثناء عليك وغير ذلك، وعالم بما لم أفعله مخافة أن تفطنه. يعني: إني لو لم أتركه إلا مخافة أن تقف عليه تركته.
وقيل: أراد أنك تدرك غرضي فيما فعلته، لما بعدت عنك. وهو الاستزادة، ثم تركت البعد خوفاً من أن تقف على قصدي ومرادي. وقيل: أراد فعلت ذلك لأتجدد بالنوى عندك.
أضحى فراقك لي عليه عقوبةً ... ليس الذي قاسيت منه هينا
الهاء في عليه: راجعة إلى ما في قوله: لما أتيت أي صار فراقك عقوبة لي على ما أتيته من التأخر عنك وقد قاسيت منه وحشة عظيمة وأسفاً شديداً.
فاغفر، فدىً لك، واحبني من بعدها ... لتخصني بعطيةٍ منها أنا
يقول: اغفر ذنبي بعفوك عن التخلف عنك، وعلى التقصير الذي كان مني في حال البعد عنك، ثم صلني بعد المغفرة بصلة، لأكون مخصوصاً بها، واحبني في جملة من تحبه.
وانه المشير عليك في بضلةٍ ... فالحر ممتحنٌ بأولاد الزنا

يقول: ازجر من يشير عليك في بما لا يليق بكرمك، فإنه ضلة، وإن أطعته في ذلك تكون غير سالك طريق الرشد، فإنه ولد زنا والحر مبتلٍ بأمثاله: أي بأولاد الزنا.
وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً ... في مجلسٍ أخذ الكلام اللذ عنا
اللذ: بسكون الذال، لغةٌ في الذي.
يقول: إذا عرض الفتى بكلامه رجلاً، فإن المعنى يأخذ ما عرض به من الكلام.
ومكايد السفهاء واقعةٌ بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى
المقتنى: مصدر من اقتنيت الشيء، إذا اكتسبته، ويجوز أن يكون اسم المفعول.
يقول: إن السفيه لضعف رأيه إذا كان عدواً، رجع ضرر كيده عليه، ومن عادى شاعراً فقد اكتسب شراً طويلاً وهجواً كثيراً، وذلك بئس المدخر.
لعنت مقارنة اللئيم فإنها ... ضيفٌ يجر من الندامة ضيفنا
الضيفن: الذي يجيء مع الضيف من غير دعوة. روى: من الندامة ومن العداوة.
يقول: لعن الله صحبة اللئام؛ فإنها تعقب الندامة.
غضب الحسود إذا لقيتك راضيا ... زرءٌ أخف علي من أن يوزنا
الرزء: المصيبة.
يقول: إذا رضيت علي يحخف علي عضب من يحسدني. ومثله لأبي فراس:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
ومثله لآخر:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها
أمسى الذي أمسى بربك كافراً ... من غيرنا، معنا بفضلك مؤمنا
يقول: أمسى من يكفر بالله، مقراً بفضلك؛ لأنه يدرك بالأبصار، ومعرفة الله تعالى تستنبط بالنظر والاعتبار والمشاهدة.
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
الغزالة: الشمس في وقت الضحى. وقدم ضمير الغائب في قوله: فأعاضهاك. وأخر ضمير المخاطب، وذلك ليس بالاختيار إلا في ضرورة الشعر، والهاء: للبلاد. والكاف: للخطاب. وليلها: نصب على الظرف. وتحزن للبلاد.
يقول: لما غابت الشمس عن الأرض ليلاً، فخلت من الشمس جعلك الله لها عوضاً من الشمس؛ لئلا تحزن البلاد لفراقها. يعني: أنه يقوم للبلاد مقام الشمس.
ودخل عليه فوجده خالياً للشراب، وقد أمر الغلمان بحجاب الناس عنه. فارتجل:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
تأمر: خبر أصبح.
يقول: أمرت بالحجاب لخلوةٍ بنفسك، وما أبعد ما أردت! لأنك لا تقدر على الاحتجاب؛ للعلة التي ذكرها وهي قوله:
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
يقول: من كان نور وجهه ظاهراً، ونواله مبذولا، غير محجوبين، لم يحتجب هو عن عين، وإن أرخيت دونه الحجب.
فإذا احتجبت فأنت غير محجبٍ ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
يقول: إذا احتجبت فأنت غير محتجب في الحقيقة، وإذا استترت فأنت نفس الظاهر، وأنت الظاهر في الحقيقة.
وسقاه يوماً ولم يكن له رغبةٌ فقال يذكر وده لبدر:
لم نر من نادمت إلاكا ... لا لسوي ودك لي ذاكا
قال ابن جنى: من في قوله: من نادمت نكرة موصوفة بمنزلة رجل. وقوله: نادمت صفة له. لا صلة؛ كأنه قال: لم نر إنساناً نادمته غيرك. فحذف الهاء؛ وذلك لأنه استثنى منه الكاف، ومن إذا كانت نكرة تقع موقع الجماعة، فيصح الاستثناء منه.
وقد يجوز أن يكون بمعنى المعرفة، واقع موقع الجماعة. وقوله: إلاك قبيح لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، لأنه وصل الضمير في موضع الفصل.
يقول: لم نر أحداً نادمته سواك، وليس ذلك مني لسوى محبتك وودك لي. يعني: إني لا أحب الشراب وإنما نادمتك وشربته محبة مني إليك.
ولا لحبيها ولكنني ... أمسيت أرجوك وأخشاكا
الهاء في قوله: لحييها للخمر. ويجوز أن تكون للمنادمة.
يقول: ما شربت الخمر حباً لها؛ ولكن شربتها لأني رجوتك أن تقضي حاجتي، وخشيت إن لم أشربها ألا تقضي حاجتي.
وقال أيضاً يفخر بمنادمته الأمير ويمدحه:
عذلت منادمة الأمير عواذلي ... في شربها وكفت جواب السائل
يقول: إن منادمته شرفٌ لي ومجد، فمن عذلني عليها كان بالعذل أولى، ومن سألني عنها لم احتج إلى إجابته؛ لأن المنادمة جواب له بما فيها من الشرف. ومثله للطائي:
عذلت سواكب دمعه عذاله ... بمدامع فندن كل مفند
مطرت سحاب يديك ري جوانحي ... وحملت شكرك واصطناعك حاملي

يقول: أمطرتني حتى رويت وشكرتك على ذلك، ونعمك بلغتني المنزلة الرفيعة.
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني ... والقول فيك علو قدر القائل؟!
يقول: متى يمكنني أن أقوم بشكر ما أوليتني من النعم؟ فأنا إذا شكرتك ومدحتك، فإن مدحي فيك يرفع قدري ويشرفني، فيكون ذلك نعمة منك علي، يجب القيام بشكرها، وذلك الشكر نعمةٌ، فإذا كان الحال هذا، كيف يمكن القيام بشكرك؟ أخذه من قول محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف أداء الشكر إلا بعونه؟ ... وإن دنت الأيام واتصل العمر
وكان بدرٌ قد تاب من الشراب مرةً بعد أخرى، فرآه أبو الطيب يوماً يشرب فقال له:
يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في ملكه لا ملكه
يقول: إن ندماءه شركاؤه في ملكه أي ماله مبذول لندمائه، وأما ملكه ورئاسته فمختصة به، لا يشركه فيها غيره؛ لأن بذله غير جائز ومثله:
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
في كل يوم بيننا دم كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ من سفكه
يقول: كل يوم بيننا خمر، وكل يوم توبةٌ من توبةٍ من سفكه. أي سفك هذا الدم أي أنك تتوب من التوبة التي هي توبة من سفكه.
والصدق من شيم الكرام فنبنا ... أمن الشراب تتوب أم من تركه؟
أصله: فنبئنا. فأبدل الهمزة ياء، ثم حذفها. وروى أيضاً: فنبئاً، وأصله: فنبئن وهي نون تأكيد ساكنة، فأبدلها ألفاً فقال: نبئاً.
يقول: أخبرنا أنك تائب من الشراب، أم من ترك الشراب؟ فقال بدر: بل من تركه يا أبا الطيب.
وقال فيه أيضاً يمدحه:
بدرٌ فتىً لو كان من سؤاله ... يوماً توفر حظه من ماله
يقول: إنك كثير العطاء. يعني من يأتيه فلو كان مثلاً يوماً واحداً من جملة سائليه، لكان له نصيب وافر من ماله.
تتحير الأفعال في أفعاله ... ويقل ما يأتيه في إقباله
روى: الأفعال في أفعاله. وروى: الأقوال في أقواله.
يقول: إنه يأتي بأفعال بديعة عظيمة، بحيث تتحير أفعال الناس فيها، وإن ما يأتيه من الأفعال العجيبة في جنب إقباله قليلة، وإقباله أعظم من أفعاله.
قمراً نرى وسحابتين بموضع ... من وجهه ويمينه وشماله
يقول: إن يديك كالسحابتين، تهطلان بالعطاء، وفي الحرب بالدماء، ووجهك كالقمر، ومن شأن السحاب أن يستر القمر وسحابتاه لا تستران ضياء نوره.
وقال ابن جنى: معناه أن يمينه تسح بالعطاء، وشماله تسح الدماء.
وهذا غير جيد، لأن أكثر الأعمال إنما تكون باليمين، وكذلك المحاربة. إلا إذا كان الرجل أعسر أيسر، أو يكون دون أعسر. والباء في قوله: بموضع بمعنى في: أي في موضع وإن شئت علقتها بالفعل، فيكون إذ ذاك فارغة لا ضمير لها، وإن شئت جعلتها صفةً لنكرة محذوفة: أي نرى قمراً وسحابتين كائنتين بموضع. وكذلك من إن شئت علقتها بالفعل، وإن شئت بمحذوف.
سفك الدماء بجوده لا بأسه ... كرماً لأن الطير بعض عياله
اللام في لأن بدل من اللام المقدرة في كرماً.
يقول: إنه تكفل بأرزاق الطير، وجعلها من جملة عياله، فهو يقتل أعداءه ليطعم الطير لحوم القتلى؛ لكرمه واعتياده إطعام الطير دائماً.
إن يفن ما يحوي فقد أبقى به ... ذكراً يزول الدهر قبل زواله
يقول: إن كان قد أفنى ماله بسخائه، فقد اكتسب ذكراً يبقى إلى آخر الزمان. وقوله: يزول الدهر إلى آخره. أي لا يزول ذكره أبداً، ما دام الدهر؛ لأنه أراد أنه يبقى بعد الدهر، وإنما قصد به تأكيد بقاء الذكر. وهو من قول الآخر:
تمر به الأيام تسحب ذيله ... وتبلى به الأيام وهو جديد
وسأله حاجةً فقضاها، فنهض وهو يقول شكراً له على قضاء حاجته:
قد أبت بالحاجة مقضيةً ... وعفت في الجلسة تطويلها
عفت الشيء: إذا كرهته.
وروى: في الجلسة بفتح الجيم وكسرها.
يقول: رجعت بقضاء حاجتي، وكرهت تطويل الجلوس بعد قضاء الحاجة.
أنت الذي طول بقاءٍ له ... خيرٌ لنفسي من بقائي لها
وروى: طول بقاء به.
يقول: بقاءك خيرٌ لي، من حياتي لنفسي؛ لأني منك في راحة، وأنا من نفسي في عناء فزاد الله في حياتك من حياتي: دعاء له.
فسأله بدرٌ الجلوس فقال يذكر علو منزلة الأمير بدرٍ لما سأله أن يجلس:

يا بدر إنك، والحديث شجون ... من لم يكن لمثاله تكوين
شجون: أي ضروب. وهو مأخوذ من شجون الوادي: وهي شعبه. وهو مثلٌ قديم، وأصله: الحديث ذو شجون فحذف المضاف. والتكوين: الإيجاد. ومن بمعنى: الذي. وهو خبر إن، واسمها: الكاف. من إنك وقوله: والحديث شجون. اعتراض بين اسم إن وخبرها؛ وإنما جاز ذلك لأن فيه ضرباً من التوكيد. ويجوز أن يكون من نكرة موصوفة. أي إنك رجل ليس له نظير.
وتقدير البيت: يا بدر إنك من لم يكن لمثاله تكوين. أي لم يخلق له نظير.
لعظمت حتى لو تكون أمانةً ... ما كان مؤتمناً بها جبرين
اللام في لعظمت: جواب لقسم محذوف: أي والله لقد عظمت. ولا يجوز أن تكون لام الابتداء؛ لأنه مختص بالاسم. وجبرين لغة: أي جبريل. وقيل: إن النون بدل من اللام.
يقول: إنك عظيم القدر فلو كنت من جملة الأمانات لكان جبريل غير مؤتمن بها على الوحي، وهذا إفراط.
بعض البرية فوق بعض خاليا ... فإذا حضرت فكل فوق دون
خالياً: نصب على الحال.
يقول: إذا خلا الناس منك تفاضلوا في الشرف، فإذا حضرت استووا في التقصير، وصاروا كلهم دونك. أخذه من قول بشار:
وكانت نساء الحي ما دمت فيهم ... قباحاً، فلما غبت صرن ملاحا
غير أن المتنبي قلبه.
وقال يمدح بدر بن عمار:
فدتك الخيل وهي مسوماتٌ ... وبيض الهند وهي مجردات
مسومات: يجوز أن يكون أراد به معلمات. ويجوز أن يريد به مرسلات. والواو في قوله: وهي في الموضعين: واو الحال. المعنى يدعو له ويقول: الخيل المسومة والسيوف المجردة من الأغماد فداءٌ لك؛ وإنما فداه بها لأنها لو فقدته لم يعملها أحد إعماله.
وصفتك في قوافٍ سائراتٍ ... وقد بقيت وإن كثرت صفات
التاء في كثرت: ضمير القوافي: وصفات: رفع بقوله: بقيت.
يقول: قد وصفتك بقصائد يرويها كل واحد، وتسير بها الركبان، وقد بقيت صفات كثيرة، وإن كثرت القوافي.
أفاعيل الورى من قبل دهمٌ ... وفعلك في فعالهم شيات
أفاعيل: جمع أفعال. والدهم: السود. والشيات: جمع الشية في الفرس. وهو لون يخالف لون الجملة.
يقول: إن أفعالك مشهورة بين أفعال الخلق، فإن أفعالهم تشبه بعضها بعضاً، وأفعالك مباينة لها، مشهورة فيما بينها.
وقال أيضاً يذكر نعم بدرٍ عليه حين انصرافه من عنده ليلاً وقد سمر معه الليل كله:
مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
الرؤيا: هي ما يرى في النوم. واستعمل ها هنا بمعنى رؤية البصر.
يقول: إن الليل قد مضى، وفضلك باق، وخصالك المحمودة غير منقطعة ولا مبتذلة باختلاف الليل والنهار، ورؤيتك أحلى في العيون من النوم.
على أنني طوقت منك بنعمةٍ ... شهيدٌ بها بعضي لغيري على بعضي
بعضي: في موضع رفع؛ لأنه فاعل شهيد، وعلى: متعلق بفعل محذوف، أي أمدحك على ما طوقتنيه، أو أثني عليك أو نحوه من الأفعال.
يعني: أنك أنعمت علي نعماً نبت بها لحمي وحسن بها حالي، فظهر أثرها علي، فلو جحدها لساني أقر بها جلدي وحسن حالي.
سلام الذي فوق السماوات عرشه ... تخص به يا خير ماشٍ على الأرض
يستأذنه في الانصراف عن مجلسه إلى منزله.
يقول: سلام الله عليك، وصار مختصاً بك، يا خير من مشى على الأرض.
وأقبل يلعب بالشطرنج فقال له يمدحه قبل انصرافه من عنده والمطر يهطل:
ألم تر أيها الملك المرجى ... عجائب ما رأيت من السحاب؟
روى: مارأيت، وما رأيت. وهو أجود.
يقول: أيها الملك الذي يرجى خيره، هل ترى ما رأيت من عجائب هذا السحاب؟ وهي كثرة الأمطار المتواترة.
تشكي الأرض غيبته إليه ... وترشف ماءه رشف الرضاب
أراد: تتشكى، والهاء في غيبته وما بعده: للسحاب. وترشف: أصله تترشف. أي تمص. والرضاب: قطع الريق.
يقول: تظلمت الأرض إلى السحاب من غيبته عنها، فجاء المطر لتظلمها، فتمص الأرض شهوةً كما يمص العاشق ريق حبيبته. وقيل الهاء في إليه: للممدوح. أي تشكي الأرض إليه غيبته إلى السحاب.
وأوهم أن في الشطرنج همي ... وفيك تأملي ولك انتصابي
همي: أي قصدي. والانتصاب: التصدي للأمر، والقيام به.

يقول: أنا أظهر لك أني أنظر إلى الشطرنج وليس كذلك، فإني أنا أتأمل فيك، وأتمتع برؤيتك، وأنظر في أفعالك، وقيامي بين يديك خدمةً لك؛ لتأمرني بشيء فأمتثل أمرك.
سأمضي والسلام عليك مني ... مغيبي ليلتي، وغداً إيابي
روى: وعدي إيابي. يستأذنه في الانصراف.
يقول أغيب ليلتي هذه لا غير، وغداً أعود إليك.
قال ابن جنى: أنا اتهم هذه القطعة، ولم أقرأها عليه وكلامه عندي أجود من هذا.
وأخذ الشراب من أبي الطيب، وأراد الانصراف، فلم يقدر على الكلام. فقال هذين البيتين وهو لا يدري أنه قالهما، فلما أصبح أنشده إياهما ابن الخراساني وهما قوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وذا انصرافي إلى محلي ... اآذنٌ لي أيها الأمير؟
تقديره: نال مني الذي نلت منه.
يقول: شربت الخمر من عقلي ما شربت أنا منها. وقوله: لله ما تصنع الخمور عجباً من صنيع الخمور بالنا.
ثم قال: إأذن لي أيها الأمير في الانصراف إلى منزلي، فإني رأيت الخمر تغلب الإنسان.
وعرض عليه من غده الصحبة فقال ارتجالاً يعتذر عن الصبوح من غدٍ:
وجدت المدامة غلابةً ... تهيج للمرء أشواقه
تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسن أخلاقه
قوله: تهيج للمرء أشواقه. أي تهيج ما سكن من أشواقه. وقوله: تسيء إلى آخره المراد به: من حيث تحمله على الجهل، وطرح الحشمة وإظهار الوقاحة، ولكن تحسن أخلاقه من حيث تورث الفرح وتحمل الإنسان على السخاء. ومع ذلك لا يفي خيرها بشرها.
وأنفس ما للفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه
روى: مال الفتى وما للفتى.
يقول: أعز شيء في الإنسان عقله، والخمر تفسده والعاقل يكره تضييع عقله وإنفاقه.
وقد مت أمس بها موتةً ... وما يشتهي الموت من ذاقه
يقول: لما شربتها أمس فقدت حسي وصرت إلى حال الموت! ومن ذاق الموت لا يشتهيه مرة أخرى.
ذكر هذه الأبيات استعفاءً من شرب الشراب.
وقال يصف لعبةً وكان لبدرٍ جليسٌ أعورٌ يعرف بابن كروس، يحسد أبا الطيب لما كان يشاهده من سرعة خاطره؛ لأنه لم يكن يجري في المجلس شيءٌ إلا ارتجل فيه شعراً، فقال لبدر: أظنه يعمل هذا قبل حضوره ويعده معه، ومثل هذا لا يجوز أن يكون، وأنا أمتحنه بشيءٍ أحضره للوقت، فلما كمل المجلس ودارت الكئوس استخرج لعبةً قد استعدها، لها شعرٌ في طولها، تدور على لولب، إحدى رجليها مرفوعةٌ، وفي يدها طاقةٌ ريحانٍ، تدار فإذا وقفت حذاء إنسانٍ شرب ووضعها من يده، ونقرها فدارت فقال المتنبي:
وجاريةٍ شعرها شطرها ... محكمةٍ نافدٍ أمرها
قوله: محكمة أي جعل الحكم لها. وشطر الشيء: نصفه.
يقول: إن شعرها على مقدار نصفها، وهي مقبولة الحكم، وأمرها نافذ؛ لأنها كانت إذا وقفت عند إنسان شرب قدحاً، فكأنها حكمت عليه بأن يشرب.
تدور وفي يدها طاقةٌ ... تضمنها مكرهاً شبرها
أراد بالشبر: اليد. يعني أن في يدها ريحان، وأن يدها تضمنته مكرهة؛ لأنها لا اختيار لها.
فإن أسكرتنا ففي جهلها ... بما فعلته بنا عذرها
تقديره: ففي جهلها عذرها بما فعلته بنا.
يقول: إن كانت حكمت علينا بالشرب حتى سكرنا، فإن جهلها بما فعلته بنا، عذرها لنا.
وأديرت فوقفت حذاء أبي الطيب فارتجل يصف اللعبة نفسها:
جاريةٌ ما لجسمها روح ... بالقلب من حبها تباريح
التباريح: جمع التبريح، وهو شدة الشوق. وجارية: رفع؛ لأنها خبر ابتداء محذوف. أي هذه جارية.
يقول: إنها وإن كانت غير ذات روح، فإن حبها قد برح بقلبي.
في يدها طاقةٌ تشير بها ... لكل طيبٍ من طيبها ريح
سأشرب الكأس من إشارتها ... ودمع عيني في الخد مسفوح
الواو في قوله: ودمع عيني واو الحال.
يقول: إن رائحة كل طيب مكتسبٌ من هذه الطاقة التي في يدها، ثم قال: أشرب الخمر بإشارتها، ودمع عيني في تلك الحال مصبوب؛ لأن كل من شرب الخمر تذكر حبيبه فيهيج له من ذلك الذكر الحزن، فيؤدي إلى البكاء.
وأدارها فوقفت حذاء بدرٍ فقال:
يا ذا المعالي ومعدن الأدب ... سيدنا وابن سيد العرب
أنت عليمٌ بكل معجزةٍ ... ولو سألنا سواك لم يجب
أهذه قابلتك راقصةً ... أم رفعت رجلها من التعب؟!

قوله: سيدنا أراد يا سيدنا، فحذف حرف النداء. وراقصة: نصب على الحال.
يقول: أنت تعلم بكل شيء خفي يعجز الناس عن إدراكه، ولو سألنا غيرك لم يجب، فأخبرنا عن هذه الجارية، هل قابلتك وهي ترقص، أو تعبت فرفعت رجلها من التعب؟ لأنها كانت قائمة على رجل واحدة.
وأديرت فسقطت فقال في الحال:
ما نقلت في مشيئةٍ قدما ... ولا اشتكت من دوارها ألما
روى: مشيئة ومشيةٍ بالتصغير.
على الأول: ما نقلت قدماً بإرادة منها ولا اشتكت من دوارها، حين سقطت من الألم؛ لأنها ليست مما يحس.
وعلى الأخرى: ما نقلت قدماً في مشيةٍ، لأنها وإن كانت ماشية، فلم تنقل قدماً.
لم أر شخصاً من قبل رؤيتها ... يفعل أفعالها وما عزما
يقول: لم أر شخصاً سواها يفعل مثل أفعالها، من غير عزم وقصد.
فلا تلمها على تواقعها ... أطربها أن رأتك مبتسما
تواقعها: أي رقصها.
يقول: لا تلمها على رقصها، لأنها تداخلها الطرب، فرقصت سروراً لما رأتك مبتسماً.
وقيل: تواقعها: سقوطها. يعني. لا تلمها على سقوطها؛ لأنها لما رأتك ضاحكاً طربت فسقطت.
وقال أيضاً فيها أي اللعبة نفسها:
إن الأمير أدام الله دولته ... لفاخرٌ كسيت فخراً به مضر
مضر: اسم قبيلة، فلهذا أنثه، وتقديره: كسيت مضر به فخراً، يعني ذو فخرٍ متناهٍ، حتى أن مضراً اكتست من فخره. وقيل تقديره: لفاخرٌ مضر به كسيت فخراً، يعني: أن مضر تفتخر به بما كساها من الفخر والشرف الزائد.
في الشرب جاريةٌ من تحتها خشبٌ ... ما كان والدها جنٌّ ولا بشر
الشرب: جمع شارب، يعني: فيما بين الشرب، جارية هذه صفتها.
قامت على فرد رجلٍ من مهابته ... وليس تعقل ما تأتي وما تذ
يقول: إنها قامت على فرد رجل؛ هيبةً من الأمير وخدمةً، مع أنها لا تعقل ما تفعل وما تترك.
ووصفها بشعر كثير وهجاها بمثله لكنه لم يحفظ فخجل ابن كروس وأمر بدرٌ برفعها فرفعت فقال:
وذات غدائرٍ لا عيب فيها ... سوى أن ليس تصلح للعناق
إذا هجرت فعن غير اجتنابٍ ... وإن زارت فعن غير اشتياق
العناق: المعانقة والاجتناب: المباعدة.
يقول: إنه لا عيب فيها، إلا أنها من خشب لا تصلح للمعانقة، وقربها وبعدها عن غير قصد منها.
أمرت بأن تشال ففارقتنا ... وما ألمت لحادثة الفراق
يقول: إنك لما أمرت برفعها، فارقتنا ولم تتألم لفراقنا، كما يتألم المحب لفراق حبيبه.
ثم قال لبدر ما حملك على ما فعلت؟ فقال له بدرٌ: أردت نفي الظنة عن أدبك، فقال المتنبي معتزاً بأدبه:
زعمت أنك تنفي الظن عن أدبي ... وأنت أعظم أهل العصر مقدارا
إني أنا الذهب المعروف مخبره ... يزيد في السبك للدينار دينارا
السبك: الصوغ.
يقول: إن كنت أردت إزالة القهر عني فقد زدت أنا على التجربة، مثل الذهب الذي إذا سبك زاد للدينار ديناراً، وليس كل ذهبٍ كذلك.
قال له بدرٌ: والله للدينار قنطاراً! فقال المتنبي يمدح بدراً وقد أطرى أدبه:
برجاء جودك يطرد الفقر ... وبأن تعادي ينفد العمر
فخر الزجاج بأن شربت به ... وزرت على من عافها الخمر
يقول: من يرجوك يغنى، ومن يعاديك يفنى وإن الزجاج فخر على سائر الجواهر من الذهب والفضة، لما شربت به، وعابت الخمر من عافها ولم يشربها، حين تشربها أنت.
وسلمت منها وهي تسكرنا ... حتى كأنك هابك السكر
أي شربنا الخمر معك فأسكرتنا ولم تسكرك! فكأنها خافتك ولم تقدر عليك.
ما يرتجى أحدٌ لمكرمةٍ ... إلا الإله وأنت يا بدر
يقول: ليس أحد يرتجى خيره، إلا الله عز وجل، ثم أنت.
وخرج أبو الطيب إلى جبل جرش: وهي مدينةٌ عظيمةٌ نسب إليها الجبل. فنزل بعلي بن أحمد المري الخراساني وكانت بينهما مودة بطبرية فقال يمدحه:
لا افتخارٌ إلا لمن لا يضام ... مدركٍ أو محاربٍ لا ينام
روى: مدركٍ أو محاربٍ، جراً. فيكونان صفتين لمن. ومن تكون نكرة.
وروى. مدركٌ أو محاربٌ بالرفع، فيكونان خبرين لمبتدأ محذوف. أي هو مدرك. ومن تكون معرفة بمعنى الذي. ويجوز: أن يكون الجر فيهما على البدل من من ويكون بمعنى الذي.

يقول: لا ينبغي أن يفتخر إلا من لم يلحقه ضيم وذل من قبل أحد، ولن يكون أحد بهذه الصفة إلا أنت، ومن يكون مدركاً لما رامه، لا ينام عن أعدائه ومحاربتهم.
ليس عزماً ما مرض المرء فيه ... ليس هماً ما عاق عنه الظلام
نصب عزماً وهماً، لأنهما خبرا ليس، واسمه ما وصلته مرض: أي فرط. والهم: الهمة ها هنا.
يقول: كل عزم يمرض فيه المرء ويفتر دون إمضائه، فليس بعزم على الحقيقة، وكل هم يمنع دون إمضائه ظلام الليل، فليس ذلك بهم على الحقيقة.
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... ه غذاءٌ تضوي به الأجسام
وروى: تتوي به الأجسام. أي تهلك. وتضوي: أي تهزل.
يقول: إن تحمل الأذى ورؤية من يؤذيك ويجني عليك غذاء تبلى به الأجسام وتهزل.
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
وروى: ألذ منه الحمام.
يقول: من يغبط الذليل على عيشه فهو ذليل: ورب عيش يكون الموت خيراً منه، إذا لم تنل المنية، ومثله قول بشار بن برد:
وللموت خيرٌ من حياة على أذى ... يضيمك فيها صاحبٌ وتراقبه
كل حلمٍ أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لاجىءٌ إليها اللئام
يقول: إنما يحسن الحلم مع القدرة. فمن لا يقدر على الانتصار إذا اعتصم بالحلم، فهو حجة يلتجىء إليها اللئام. ومثله قول الآخر:
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرةٍ فضلٌ من الكرم
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميتٍ إيلام
يقول: من كان مهيناً في نفسه سهل عليه إهانة غيره ولا يؤلمه ما يطوى عليه من الذل، فهو كالميت الذي لا يتألم من الجراحة وغيرها.
ضاق ذرعاً بأن أضيق به ذر ... عاً زماني واستكرمتني الكرام
الذرع: القلب، وأصله من الذراع، وكان الفصيل إذا مشى مع الإبل وكل عن سيرها، قالوا: ضاق ذرعه أي قصر خطوه، ثم قيل لكل من عجز عن شيء: ضاق قلبه به ذرعاً، وهو نصب على التمييز. وضاق: فاعله زماني. واستكرمتني: أي وجدتني كريماً.
يقول: إن الزمان ضاق قلبه بسبب ضيق قلبي، وذلك إشارة إلى عظم حال نفسه. وقيل: أراد أن الزمان قصدني بأحداثه، فلما لم يمكنه أن يؤثر في، وأن يضيق قلبي بسبه، ضاق قلبه عند ذلك؛ لعجزه عن التأثير في، ووجدني الكرام كريماً في جميع أحوالي.
واقفاً تحت أخمصي قدر نفسي ... واقفاً تحت أخمصي الأنام
الأخمص: تحت باطن القدم. ويجوز في واقف الأول: الرفع على إضمار المبتدأ أي أنا واقف والنصب على الحال من الضمير في استكرمتني: أي وجدتني الكرام كريماً في تلك الحال. وأما الثاني: فبالنصب على الحال لا غير. أي أنا دون قدري في حال علوي عن الخلق.
يقول: أنا واقف دون قدر نفسي وما بلغت المنزلة التي أستحقها بفضلي، وإن كان الخلق كلهم تحت قدمي. وهذا مثل.
أقراراً ألذ فوق شرارٍ! ... ومراماً أبغى وظلمي يرام!
يقال: لذ الطعام يلذه. إذا استلذه. والشرار: جمع شرارة.
يقول: كيف أستلذ القرار في موضع أكون فيه معذباً؟! كالواقف فوق شرار النار! وكيف أطلب حاجة أصل إليها! مع أن الأعداء يرومون ظلمي، فلا أستقر حتى أدفع هذا الظلم عني بحبس ضيقته.
دون أن يشرق الحجاز ونجدٌ ... والعراقان بالقنا والشام
دون قيل إنها بمعنى: قبل، وقيل بمعنى: سوى. وتشرق: أي تغص وتمتلىء.
يقول: لا أستقر دون أن تمتلىء هذه النوحي بالرماح فأنتصف منهم.
شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام
روى: شرق الجو وهو فعل ماض. ومشرق الجو وهو اسم الفاعل. وشرق الجو وهو مصدر. فيكون تقديره دون أن يشرق العراقان شرقاً مثل شرق الجو بالغبار؛ إذا سار الممدوح لمحاربة أعدائه. والقمقام: السيد. شبه امتلاء المواضع المذكورة بالجيش، بامتلاء الجو بالغبار، عند مسير هذا الممدوح.
الأديب المهذب الأصيد الضر ... ب الذكي الجعد السري الهمام
الأصيد: قيل هو المتكبر، وهو من صفة الملوك. والضرب: الخفيف الجسم. والعرب تتمدح به. والجعد مطلقاً: السخي. وقيل: هو الذي لا يضام لعزه. والذكي: التام العقل. والمهذب: المصفى من العيوب. والسري: الرفيع القدرز والهمام: العظيم الهمة.
والذي ريب دهره من أسارا ... ه ومن حاسدي يديه الغمام
ريب الدهر: صروفه، وحوادثه.

يقول: إن صروف الدهر لا يمتنع أحد من ضيمه، والدهر قد صار من أساراه يصرفه كيف شاء، ويمنع ضرره عن الناس، ومن جملة حاسدي يديه: الغمام المضروب به المثل في السخاء، فيحسد يديه على جوده.
يتداوى من كثرةٍ المال بالإق ... لال جوداً كأن مالاً سقام
نصب جودا. لأنه مفعول له.وقيل: نصب على المصدر؛ لأن ما ظهر من الكلام يدل عليه: أي يجود جوداً.
يقول: كأن الغنى عنده مرض يريد إزالته، فيتداوى منه بالإقلال والإنفاق، وكأن الإقلال عافية، فهو يريد بجوده إزالة السقم عنه وطلب العافية.
حسنٌ في عيون أعدائه أق ... بح من ضيفه رأته السوام
السوام: المال الراعي. وحسنٌ: خبر ابتداء محذوف. وتم الكلام عند قوله. حسن.
يقول: إنه حسنٌ على الحقيقة، غير أنه عند أعدائه وفي عيونهم لعلمهم أنه يهلكهم ويقتلهم أقبح منظراً من ضيف في عيون سوائمه؛ لأنها إذا رأت الضيف علمت أنها منحورة مذبوحة، لما جرت به عادته بنحر الإبل للضيف.
قال ابن جنى: على هذا استقر الكلام بيني وبين المتنبي. ومثله لبعض الأعراب:
حبيبٌ إلى كلب الكريم مناخه ... بغيضٌ إلى الكوماء والكلب أبصر
وقيل: معناه حسن في عيون أعدائه؛ من حيث أن حسنه قد بهر؛ فيستحسنه عدوه وصديقه، وهو مع ذلك أقبح في السوام من ضيفه، واستغنى بذكره في صدر البيت عن أعدائه في آخره، وإنما استعجبوا لهيبتهم منه وخوفهم من سطوته فيحذرون إيقاعه بهم، كما تخاف الماشية النحر عند رؤية الأضياف.
لو حمى سيداً من الموت حامٍ ... لحماك الإجلال والإعظام
الإجلال والإعظام: هو التبجيل والتعظيم.
يقول: لو منع سيداً من الموت مانعٌ، لكان إجلال الناس وإعظامهم إياك يمنعاك الموت، ولكان الموت يهابك ويخشاك.
وعوار لوامعٌ دينها الح ... ل ولكن زيها الإحرام
قوله عوار: أي سيوف مجردة من الأغماد.
يقول: وحماه أيضاً السيوف العواري من أغمادها، التي تلمع وتبرق. ودينها الحل؛ لأنها لا تتحرج من الدماء. وزيها الإحرام: لأنها مجردة عن أغمادها، كالمحرم العاري عن ثيابه المتجرد منها.
كتبت في صحائف المجد: بسمٌ ... ثم قيسٌ وبعد قيس السلام
يجوز في قوله: بعد قيس الفتح على ترك الصرف، حملاً على القبيلة، ويجوز الجر بلا تنوين، فيكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقوله بسمٌ: أراد " بسم الله الرحمن الرحيم " فجعل الباء من نفس الكلمة ورفع، الرواية الصحيحة: كتبت أي السيوف العواري كتبت: " بسم الله الرحمن الرحيم " في صحائف المجد أي لما أرادت إثبات أسماء المجد كتبت بعده: قيسٌ. أي أن المجد لهم، ثم لما لم ير أحداً يستحق المجد، كتبت في آخر الصحيفة، ما يختم به الكلام: وهو السلام. أي أن المجد مقصور على قيس.
ورفع بسم وقيس على سبيل الحكاية كقولك: قرأت الحمد لله، وكقول ذي الرمة:
سمعت: الناس ينتجعون غيثاً
وروى: كتبت: على ما لم يسم فاعله. فيكون بسم و قيس مرفوعين، ويكون نائب الفاعل محمولاً على أنه أراد الكلمة بقوله: بسم.
إنما مرة بن عوف بن سعدٍ ... جمراتٌ لا تشتهيها النعام
أراد بالجمرات جمرات العرب وهم: قيس وضب ونمير. وسميت جمرات؛ لقوتها وكثرة حروبها، فشبهها بالجمرة في الإحراق. يعني: أنهم جمرات في الحرب والغارة، وليسوا كالجمرة التي تشتهيها النعام، لأن النعامة تبتلع الجمرة فتسيغها.
وقال ابن جنى: أراد أنهم جمرات النار؛ لشدتهم على أعدائهم، وإحراقهم إياهم، كالجمرات، وليسوا كالجمرات التي تأكلها النعام، بل هم أشد منها.
ليلها صبحها من النار والإص ... باح ليلٌ من الدخان تمام
تمام: صفة الليل، وهو أطول ليلة في السنة. والهاء في ليلها: القيس، أو لمرة بن عوف.
يقول: ليلهم كالصباح من كثرة اشتعال النيران؛ ليهتدي بها إليهم الأضياف والضلال، أو لإحراقهم دور أعدائهم. وصباحهم كالليل المظلم؛ من كثرة الدخان، لإحراقهم بيوت أعدائهم.
هممٌ بلغتكم رتباتٍ ... قصرت عن بلوغها الأوهام
يقول: لهم همم قد بلغتهم منازل من المجد، بحيث تقصر الأوهام عن بلوغ تلك المنازل. ولا تبلغها أوهام الناس.
ونفوسٌ إذا انبرت لقتالٍ ... نفدت قبل ينفد الإقدام

روى نفدت قبل ينفد: أي فنيت. وروى فقدت قبل ينفذ الإقدام. ونفوس: رفع عطفاً على هممٌ، وانبرت: أي اندفعت وعرضت. أما بالذال: فمعناه إذا انبرت نفوسهم للقتال سبقت إلى الأعداء قبل سبق إقدام أعدائهم، وبالدال: معناه أن نفوسهم إذا انبرت لقتال فنيت بالقتال قبل أن يفنى الإقدام: أي يقتلون في الحال، وليس لهم إحجام.
وكفتك الصفائح الناس حتى ... قد كفتك الصفائح الأقلام
يقول: استغنيت بسيوفك عن نصرة الناس، ثم استغنيت بأقلامك عن سيوفك، بما حصل في قلوب الناس من هيبتك.
وقلوبٌ موطناتٌ على الرو ... ع كأن اقتحامها استسلام
الاقتحام: طرح النفس على الأمر من غير تأمل.
يقول: لهم قلوب قد وطنوها على الحرب، فكأن اقتحامهم استسلام. أي أنهم يسلمون أنفسهم للموت.
قائدو كل شطبةٍ وحصانٍ ... قد براها الإسراج والإلجام
الشطبة: الفرس الطويلة، وهي الأنثى. والحصان: الفرس الكريم. الذكر فقط، وقد أفرد الضمير في قوله: قد براها وحقه أن يقول: براهما اكتفاء بأحد الوصفين. وتقديره: قائدو كل شطبة قد براها، وكل حصان قد براه. الإسراج والإلجام. يعني أن هذه الأفراس قد أنحفها الإسراج والإلجام.
يتعثرن بالرءوس كما مر ... بتاآت نطقه التمتام
يتعثرن: أي الخيل، وموضعه النصب على الحال. والتمتام: الذي يتردد لسانه في التاء والفأفاء: الذي يتردد لسانه في الفاء والألثغ: الذي يبدل الحروف، وهو الأرت أيضاً. والألكن: الذي يصب كلامه في قوالب الفارسية. وقبل التمتام: هو الذي يعجل في الكلام ولا يكاد يفهمك.
يقول: إنهم يقطعون رءوس الأعداء في الحرب، فتعثر خيلهم بالرءوس كما يعثر لسان التمتام عند نطقه بالتاء.
طال غشيانك الكرائه حتى ... قال فيك الذي أقول الحسام
الغشيان: الملابسة. والكرائه: جمع كريهةٍ، وهي الحرب.
يقول: طال ملازمتك الحروب وملابساتها، حتى أن السيف يقول مثل ما أقوله: أي لو كان له نطق لقال كذلك.
وكفتك التجارب الفكر حتى ... قد كفاك التجارب الإلهام
الإلهام: حصول العلم في القلب من غير استدلال.
يقول: إن التجارب أغنتك عن الفكر، ثم استمررت على فعل الصواب، حتى أغناك الإلهام عن التجارب.
فارسٌ يشتري برازك للفخ ... ر بقتل معتل معجل لا يلام
أي من يبارزك، يختار القتل للفخر، فلا يلام عليه ولا يعزل؛ لما يحصل له من نشر الذكر.
نائلٌ منك نظرةٌ ساقه الفق ... ر عليه لفقره إنعام
يقول: من ساقه الفقر إليك حتى ينال منك نظرة واحدة، فإن لفقره إنعام عليه! لأنك تجبر فقره لامحالة؛ فيكون فقره سبباً إلى حسن حاله وانتظام أحواله.
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
يقول: إن الرءوس أفضل الأعضاء فينا؛ لما فيها من أنواع الحواس، غير أن الأقدام صارت أفضل منها؛ لقصدها إياك، وتقريب المسافة بيننا.
قد لعمري أقصرت عنك وللوف ... د ازدحامٌ وللعطايا ازدحام
خفت إن صرت ف يمينك أن تأ ... خذني في هباتك الأقوام
روى: ولعمري. يقول: أمسكت عن قصدك، والوفود مزدحمة؛ لأني خفت أن تهبني لبعضهم في جملة هباتك التي تهبها.
ومن الرشد لم أزرك على القر ... ب على البعد يعرف الإلمام
تم الكلام عند قوله: على القرب.
يقول: كان من الرشد ترك زيارتك على القرب؛ لأن الزيارة إذا كانت من بعدٍ كانت أوقع.
وعن ابن جنى قال: سألت المتنبي عن هذا؟ فقال. كنت بالقرب من الممدوح فلم أزره، فلما بعدت عنه زرته.
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
الجهام: السحاب الذي أراق ماءه.
يقول: إن تأخر عطاياك عني كان خيراً لي وأنفع؛ لأنه إذا تأخر كان أكثر، ولو كان سريعاً لكان قليلاً؛ لأن السحاب الجهام يكون أسرع سيراً، ومع ذلك لا خير فيه، وإنما يكون المطر فيما يتثاقل في السير.
قل فكم من جواهر بنظام ... ودها أنها بفيك كلام
الود والوداد: المحبة والإرادة.
يقول: تكلم وأسمعنا حسن كلامك، فكم جواهر منظومة منيتها أن تكون في فمك كلاماً.
هابك الليل والنهار، فلو تن ... هاهما لم تجز بك الأيام

يقول: إن الأيام والليالي تخافك وتطيعك، فلو نهيتها عن المرور عليك والاجتياز بك، لما اجتازت بك، أي لو أمرت الدهر أن يقف لوقف!!
حسبك الله؛ ما تضل عن الح ... ق وما يهتدي إليك أثام
الأثام: هو الإثم. وقد يكون بمعنى العقوبة.
يقول: دعاء له. الله كافيك، فإنك لا تزول عن الحق، ولا يهتدي إليك الإثم.
لم لا تحذر العواقب في غي ... ر الدنايا؟ أو ما عليك حرام!
الدنايا: جمع دنية، وهي كل فعل مذموم. قوله: أو ما قيل: بمعنى الذي: يعني أنك لا تحذر عاقبة شيء إلا عاقبة الأفعال الدنية، وعاقبة الذي عليك حرام. فلم لا تحذر عواقب غير هذين من الجود والإقدام، كا تحذر عاقبة الدنية والحرام. وقيل: إن ما نفى ومعناه: ليس عليك شيء حرام في الدنيا ممنوع عنك، فإنك تقدر على كل شيء، إلا على الدنايا.
كم حبيبٍ لا عذر للوم فيه ... لك فيه من التقى لوام
يقول: كم حبيب لك، لو واصلته لما لامك أحد فيه، فلم يمنعك عن مواصلته إلا التقى. وقيل: معناه كم فعل محبوب، لو فعلته فلا سبيل للوم عليك فيه، لكونه مباحاً، غير أنك تجتنبه للتقى، فكأن لك من التقى لائم.
رفعت قدرك النزاهة عنه ... وثنت قلبك المساعي الجسام
يقول: رفعت النزاهة والعفة قدرك عن هذا الحبيب، وصرفت قلبك مساعيك العظام واشتغالك بها.
إن بعضاً من القريض هذاءٌ ... ليس شيئاً، وبعضه أحكام
روى هراء وهذاء.
يقول: إن الشعر بعضه هذيان، وكلام لا معنى له، وبعضه حكمة وصواب. وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكما " أي يحكم على الإنسان، ويسمه سمة الخير والشر منه.
منه ما يجلب البراعة، والفضل ... ومنه ما يجلب البرسام
البراعة: الفصاحة. والبرسام: بالسريانية، ورم الصدر؛ لأن البر: الصدر، والسام: الورم. وهو داء يكثر فيه الهذيان. وهذا تأكيد للمعنى الذي ذكر في البيت الأول. أي بعض الشعر يكون من الفصاحة وبعضه من البرسام.
فحمله على فرسٍ وسأله المقام عنده فقال يعتذر عن تعجله في الرحيل:
لا تنكرن رحيلي عنك في عجلٍ ... فإنني لرحيلي غير مختار
وربما فارق الإنسان مهجته ... يوم الوغى غير قالٍ خشية العار
يقول: لا تنكرن رحيلي عنك، فإنني غير مختار لذلك، ومفارقتي إياك بمنزلة مفارقة الإنسان نفسه يوم الحرب؛ فإنه لا يكون مبغضاً لنفسه، وإنما يفعل ذلك لخوف العار، كذلك مفارقتي إياك، ليس لبغضي لك، وإنما هو بمعنىً آخر.
وقد منيت بحسادٍ أحاربهم ... فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري
منيت: أي بليت. وقد روى ذلك، وروى: أحاربهم وأحاذرهم أيضاً.
يقول: إني بليت بقوم حساد، أحاربهم وأنازعهم وأطلب قهرهم، فاجعل عطاءك بعض أنصاري عليهم. هذا عذر لمفارقته. وقيل: أراد أن لي حساد يحسدونني عليك، ويحاولون إفساد حالي عندك، فانصرني عليهم بجودك وإحسانك. ونظيره قوله:
أزل حسد الحاد عني بكبتهم ... فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
وقال يصف سيره في البوادي وما لقي في أسفاره، ويذم الأعور بن كروس بعد أن رجع من جبل جرش:
عذيري من عذاري من أمور ... سكن جوانحي بدل الخدور
العذير: الذي يقبل العذر، وهو أيضاً كل ما يعذر الرجل على فعله، ومعناه: من يعذرني. والعذارى: جمع عذراء، وهي البكر من النساء وأراد هنا بالعذارى الأمور العظام وجعل الأمور أبكاراً، لأنها لم تهجم على أحد قبله، ولم يحدث في مستقبل الأيام مثلها، ولم يطلبها أحد لصعوبتها. ولما جعلها أبكاراً جعل جوانح صدره لها خدوراً.
يقول: من يعذرني من أمور أبكارٍ هجمت علي وحلت قلبي بدل حلولها في الخدور، ولم تهجم على أحد قبلي؟!
ومبتسمات هيجاوات عصر ... عن الأسياف ليس عن الثغور
هيجاوات: جمع هيجاء، وهي الحرب. وأضاف مبتسمات إليها وهي إضافة الشيىء إلى نفسه.
يقول: من عذيري من حروب تبتسم عن أسياف مجردة مصقوله لا كالنساء اللاتي يتبسمن عن الثغور. شبه صفاء السيوف بصفاء الثغور.
ركبت مشمراً قدمي إليها ... وكل عذافر قلق الضفور

العذافر: الجمل الشديد. والضفور: جمع الضفر، وهو حزام الرحل. ونصب مشمرا على الحال من التآء من ركبت والهاء في إليها للأمور، والهيجاوات. وأراد بالقلق الضفور: أي أن الحزام كان قد قلق للجهد، وطول السير. وقيل: يقال للجمل الصعب إنه قلق الضفور.
المعنى: طلبت هذه الصعبة الشديدة، مرة راجلاً، ومرة راكباً، لبعير قد جهده السفر حتى قلق ضفوره.
أواناً في بيوت البدو رحلي ... وآونةً على قتد البعير
آونة: جمع أوان.
يقول: أكون مره في بيوت البدو، ورحلي محطوط هناك. وأزمنة على قتد البعير. وجعل سيره أكثر من استقراره.
وقيل: معناه أن رحله يكون في بيوت البدو مرة أي يترك رحله فيها ويسير راجلاً، ومرة. يحمل على البعير. وهو مثل البيت الذي قبله وأراد بالرحل: آلة السفر. والقتد والقتب والقتب رويا. وهو خشب الرحل.
أعرض للرماح الصم نحري ... وأنصب حر وجهي للهجير
أعرض: أي ألقى الرماح بنحري. وحر كل شيء: خالصه. والهجير: الوقت الذي يشتد فيه الحر.
معناه: أحارب مرة فألقى الرماح بنحري، ومرة أسير مقابلاً شدة الحر بوجهي وقت الهاجرة؛ رجاء أن أدرك معالي الأمور.
وأول البيت من قول الآخر:
تعرض للطعان إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض في السباب
وأسرى في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمرٍ منير
الهاء في منه للظلام. وقيل: للوجه في قوله: حر وجهي.
يقول: أنا أمضي في ظلمة الليل وحدي، لا أخاف أحداً فكأن سيري في ضوء القمر، وكأني من نور وجهي في ليلة قمراء.
فقل في حاجةٍ لم أقض منها ... على تعبي بها شروى نقير
روى تعبي وشغفي والشروى بمعنى: الشدائد التي قاسيتها لم أقض منها، حاجتي قدر نقير. وإذا كانت الحاجة في الشدة على ما وصفتها، فقل فيها ما شئت فإنك لا تبلغ وصف شدتها.
ونفسٍ لا تجيب إلى خسيسٍ ... وعينٍ لا تدار على نظير
وقل في نفسٍ لا تجيب إلى خسيس أي إذا دعيت إليه لم تجب، ولا تمدح من كان خسيساً. قوله: وعين لا تدار على نظير. أي إني وحيد في فضلي لا أرى في الناس مثلي! يعني: أن عيني لا ترى نظيراً لي وروى: لا تدور، ولا تدار جميعاً
وكفٍّ لا تنازع من أتاني ... ينازعني سوى شرفي وخيري
المنازعة: المجادلة.
يقول: إني لا أنازع من ينازعني في شيء من خيري، إلا من أتى ينازعني شرفي وكرمي، فأنا أنازعه
وقلة ناصرٍ؛ جوزيت عني ... بشرٍّ منك ياشر الدهور!
أي وقل في قلة ناصر ما شئت أن تقول فيها، إذ ليس أحد ينصرني. ثم صرف الخطاب إلى الدهر. فقال: جزاك عني على فعلك بي يا دهر شرٌّ منك. ويعاملك مثل ما عملت معي، فإنك شر الدهور، وكل ما ألاقي منك.
عدوي كل شيءٍ فيك حتى ... لحلت الأكم موغرة الصدور
الأكمة: الجبل الصغير، والجمع: آكام وأكم، والموغرة: هي المحماة من الغيظ.
يقول: إن كل شيء فيك يا دهر يعاديني!! حتى خيل لي أن الأرض تعاديني! وأن أكماتها تغلي صدورها بعداوتي! وإن كانت هي شخص بلا عقل. كما يقول الخائف: أخاف الجدار أن يذيع سري.
وذكر ابن جنى فيه وجهين: أحدهما: أن الأكم تنبو به ولا يستقر فيها، فكأن ذلك لعداوةٍ بينهما.
والثاني: أنه أراد بذلك شدة ما تقاسي منها من الحر، فكأنها موغرة الصدور من قوة حرارتها ويؤكد ذلك قوله أولاً: وأنصب حر وجهي للهجير.
فلو أني حسدت على نفيسٍ ... لجدت به لذي الجد العثور
روى: على نفيس وعلى خطير. ومعناه على شيء نفيس، وروى لذي الجد ولذا الجد، وعلى الجد وعلى الدهر.
يقول: لو حسدوني على شيء نفيس ومال خطير، لوهبته لمن له جد. أي بخت. عثور: أي منحوس. غير أني حسدت على حياتي.
ولكني حدست على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور؟
وما استفهام. يقول: ولكنهم حسدوني على حياتي وهي مشوبة بالحزن! وأي خير في حياة بلا سرور؟! فأنا لا أرضاها لنفسي، فكيف لغيري. وقيل: أراد أنهم يرومون قتلي. فهم يحسدوني على بقاء حياتي.
فيابن كروسٍ يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير
تعادينا لأنا غير لكنٍ ... وتبغضنا لأنا غير عور؟!
الكروس في اللغة: الكبير الرأس.

يقول: إن هجيت كنت نصف أعمى، وإن مدحت كنت نصف بصير، فأنت ناقص في الحالين. وأنت تعاديني؛ لأني فصيح، ولست بألكن مثلك، وتبغضني؛ لأني بصير غير أعور. وروى وتمقتنا.
فلو كنت امرءًا يهجى هجونا ... ولكن ضاق فترٌ عن مسير
الهجاء لا مجال لك فيه، كما أن الإنسان لا يمكنه أن يسير في فتر من الأرض وقال يمدح أبا عبد الله محمد بن عبد الله الخصيبي، وهو حينئذٍ يتقلد القضاء بأنطاكية:
أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
أفاضل الناس: جمع أفضل. والأغراض: جمع الغرض، وهوا ما ينصب للرمي، كالهدف. والفطن: جمع فطنةٌ يقول: إن الفضلاء في هذا الزمان مقصودون بالشر والحوادث، كالأهداف، فمن هو أخلى من العقل والفطنة، فهو أخلاهم من الهم. ومثله لابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ ... شرٍّ على الحر من سقمٍ على بدن
الجيل: الأمة من الناس. وسواسية: جمع سواء على غير قياس. ولا يستعمل إلا في الشر.
يقول: نحن فيما بين أمة سواءٌ في الشر، ليس فيهم شريف ولا كريم، منهم أشرار، أضر على الحر من السقم على البدن.
حولي بكل مكانٍ منهم خلقٌ ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
روى: خلقٌ، وهي جمع خلقة، وهي الصورة، وروى: حلقٌ: وهي جمع حلقةٌ من الناس، وروى حزق: وهي جمع حزقة، وهي الجماعة.
يقول: حولي خلق منهم في صورة الناس، وهم من جهلهم أنعام، فمن استفهم عنهم بمن فقد أخطأ؛ لأنه للناس، وينبغي أن يقول ما
لا أقتري بلداً إلا على غرر ... ولا أمر بخلق غير مضطغن
اقتريت البلاد: إذا سريت فيها وتتبعتها بلداً بلداً. والغرر: الخطر، وهو ما لا يوثق منه بالسلامة. ومضطغن: أي ذو ضغينة.
يقول: لا أمر على بلد إلا وأنا مخاطرٌ بنفسي، ولا أمر بأحد إلا وهو محتقد علي وكل أحد عدوي؛ لفضلي.
ولا أعاشر من أملاكهم أحداً ... إلا أحق بضرب الرأس من وثن
الوثن: الصنم، وهو ما عبد من الحجارة. وليس بمصور. ونصب أحق بدلاً من أحد.
يقول: ما عاشرت ملكاً من ملوك الناس إلا وجدته لا خير عنده ولا شر، فكأنه وثن، بل هو أحق وأولى بضرب الرأس من الوثن.
إني لأعذرهم مما أعنفهم ... حتى أعنف نفسي فيهم وأني
العنف: أشد اللوم. وأني: أي أفتر.
يقول: إني لا أزال ألومهم على ما فيهم من اللوم، فلما وجدتهم جهلة لا يفهمون قبلت عذرهم وصرت أعنف نفسي في لومهم.
وأراد: الملوك الذين تقدم ذكرهم سابقاً.
فقر الجهول بلا قلبٍ إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأسٍ إلى رسن
يقول: إنهم جهال، مفتقرون إلى الأدب، وليس لهم عقول، فافتقارهم إلى الأدب بلا قلب وعقل، كافتقار الحمار من غير رأس إلى رسن يقاد به
ومدقعين بسبروتٍ صحبتهم ... عارين من حللٍ كاسين من درن
المدقع: الفقر اللاصق بالدقعاء، وهي التراب. والسبروت: الأرض التي لا نبات فيها. والدرن: الوسخ.
يقول: رب قوم صعاليك من أهالي البادية مدقعين، بفلاة قد صحبتهم، فكانوا عارين من الثياب قد علاهم الوسخ.
خراب باديةٍ غرثى بطونهم ... مكن الضباب لهم زادٌ بلا ثمن
الخراب: جمع خارب، وهو سارق الإبل خاصة، ومكن الضباب، بيضها قال الشاعر:
ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم
وهذه صفات أهل البادية، وقوله: لهم زادٌ بلا ثمن إشارة إلى كونهم لصوصاً. وقيل إشارة إلى أنهم ليس لهم زاد إلا بيض الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى ثمن.
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهمٌ من الظنن
طاش السهم: إذا لم يصب الغرض. والظنن: جمع الظنة، وهي التهمة.
يقول: كنت أستر عنهم أمري، وما كانوا يظنون بي، يطلعهم على حقيقة حالي كقول الآخر:
وخبرا عن صاحبٍ لويت ... وقلت لا أدري وقد دريت
وخلةٍ في جليسٍ أتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوهن
الخلة: الخصلة. والوهن: الضعف. أي ورب جليس أظهرت له مثل ما هو عليه من نفسي، لئلا يعلم هو من حالي، وليظن أني مثله في الضعف والجهل. ومثله لآخر:
وأنزلني ذل النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأً لا أشاكله

أحامقه حتى يقال سجيةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنت أعاقله
وكلمةٍ في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتدي لي فلم أقدر على اللحن
اللحن بالسكون: العدول بالكلام عن ظاهره. كقوله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " أي بتعريضهم في القول. واللحن بالتحريك: الخطأ في الإعراب.
يقول: رب كلمة خفت في إظهارها، فلم أقدر على أن ألحن فيها؛ لأني مطبوع على الصواب في الإعراب.
قد هون الصبر عندي كل نازلةٍ ... ولين العزم حد المركب الخشن
يقول: قد جعل الصبر كل بلية تنزل بي خفيفة هنية، وأمضيت عزمي فيما أردت، فلين لي كل صعب خشن.
كم مخلص وعلاً في خوض مهلكةٍ ... وقتلةٍ قرنت بالذم في الجبن
القتلة بالفتح: المرة الواحدة. وبالكسر: اسم للحالة. والفتح الوجه الوجيه ها هنا.
يقول: كم شجاع خاض الهلاك فتخلص منه، واكتسب علاً وذكراً حسناً، وكم جبان في الحرب لم ينفعه حذره، فقتل واكتسب به مع قتله ذماً.
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... فهل يروق دفيناً جودة الكفن
المضيم: الذي أصابه الضيم. والبزة: اللباس.
يقول: إن الذليل لا يعجبه حسن لباسه، مع كونه ذليلاً، فإنه بمنزلة الميت المكفن في ثياب جيدة، كما أنه لا ينفع الميت جودة الكفن وحسنه، فكذلك لا ينفعه حسن بزته.
لله! حالٌ أرجيها وتخلفني ... وأقتضي كونها دهري ويمطلني
رجوت الأمر ورجيته بمعنىً. ولله!: تعجب. ودهري: مفعول أقتضى.
يقول: ما أعجب حالاً لا أزال أرجوها، فلا أصل إليها، وهي تخلفني وأنا أقتضي أبداً بكونها، وأطالب بحصولها، والدهر يدافعني بها ويمنعني عنها.
مدحت قوماً وإن عشنا نظمت لهم ... قصائداً من إناث الخيل والحصن
الحصن: جمع حصان، وهو الكريم من الفرس الذكر. وروى: من حجور الخيل: وهي الفرس الأنثى الكريمة.
يقول: مدحت قوماً رجاءً في العطاء، فلو عشت نظمت لهم قصائد من الخيل. وأراد به جمع الجيوش، ولما جعلها قصائد قال: نظمت.
تحت العجاج قوافيها مضمرةٌ ... إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
المضمرة: الخيل الخفيفة اللحم. وأراد بالقوافي: الخيل؛ فلذلك قال: مضمرة وبين أنها تخالف سائر القوافي، لأنها لا تدخل في الأذن.
فلا أحارب مدفوعاً إلى جدر ... ولا أصالح مغروراً على دخن
الدخن: الدخان، وأراد به الغش. ومدفوعاً ومغروراً: نصب على الحال من أحارب، وأصالح.
يقول: لا أحارب منهم، وأنا مدفوع إلى حصن، وملتجىء بدار، بل أحاربه في الفضاء، وإن صالحت أحداً منهم لا أصالحه إلا بعد الثقة، فلا أصالحه وأنا مغرور بظاهره حتى أعلم حقيقة أمره، وأن باطنه كظاهره.
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " هدنةٌ على دخن " وقيل: أراد لا أترك شيئاً في صدري ولا أقعد عن ثأري، ولا أبقى غاية من التشفي إلا بلغتها.
مخيم الجمع بالبيداء يصهره ... حر الهواجر في صمٍّ من الفتن
خيم بالمكان: إذا ضرب خيامه فيه. وصهرته الشمس وصهدته وصفرته: إذا أذابت دماغه. وقيل: إذا أحرقته. والهاجرة: عند انتصاف النهار في الصيف ومخيم: نصب على الحال. أي أفعل ذلك في هذه الحالة. والصم: جمع أصم، وهو الصلب، وأراد بالفتن: الحروب.
يقول: إني أحارب من أحارب في فضاء، وأضرب خيمي بها، وأقاسي حر الشمس، وأثير الفتن الشدائد. والضمير في يصهره: للجمع.
ألقى الكرام الأولى بادوا مكارمهم ... على الخصيبي عند الفرض والسنن
الأولى: بمعنى الذين.
يقول: إن الكرام الذين ماتوا تركوا مكارمهم على الممدوح، فمكارمهم موجودة فيه وهو يتصرف فيها كما يشاء.
فهن في الحجر منه كلما عرضت ... له اليتامى بدا بالمجد والمنن
يقول: إن المكارم صارت في حجره، لما مات عنها الكرام فتكفل هو بحفظها، فكلما عرضت له اليتامى، وهي التي في حجره لينظر فيها، بدأ بالمجد: وهو الكرم والمنن، فقدم النظر في مصالح اليتامى التي مات عنها الكرام، وألقوها عليه.
قاضٍ إذا التبس الأمران عن له ... رأيٌ يخلص بين الماء واللبن
قاضٍ: في موضع رفع، أي هو قاض. وعن: أي ظهر.
يقول: إذا التبس الأمر واختلط، ظهر له رأي نافذ، بحيث يمكن أن يفصل بين الماء واللبن.
غض الشباب بعيدٌ فجر ليلته ... مجانب العين للفحشاء والوسن

يقول: هو شاب. وقوله: بعيدٌ فجر ليلته. قيل: إنه يسهر في ليله للصلاة والتفكر فيها؛ ليكسب الفخر والشرف، فيطول عليه ليله لذلك.
وقيل: معناه أن الشيب بعيد عنه، فضرب الفجر: مثلاً للشيب، والليل: مثلاً للشباب. وأنه لا ينظر إلى فاحشة، ولا ينام الليل.
شرابه النشح لا للري يطلبه ... وطعمه لقوام الجسم لا السمن
النشح بالحاء والجيم: القليل من الشراب دون الري.
يعني أنه لا ينال من دنياه إلا كدر نفسه.
القائل الصدق فيه ما يضر به ... والواحد الحالتين: السر والعلن
نصب الصدق بالقائل وما رفع بالابتداء وفيه خبره.
يقول: إنه يقول الحق وإن كان عليه، وسره مثل علانيته ولا يضمر رياءً ولا خيانة أبداً.
الفاصل الحكم عي الأولون به ... ومظهر الحق للساهي على الذهن
الذهن: الذكي الفطن. والذهن والذهن: الفهم يقول: إنه يفصل الأحكام التي عي بها المتقدمون من الحكام ويظهر الحق للأبله الغافل، على المخاصم الجيد الذهن، الكثير الفطنة.
وعلى الثاني: يظهر الحق الذي ذهب عن أذهان الناس وخفي عنهم.
أفعاله نسبٌ لو لم يقل معها ... جدي الخصيب، عرفنا العرق بالغصن
يقول: إن أفعاله تشبه أفعال جده، فلو لم ينتسب لعرفنا أنه من ولده، كما تعرف عرق الشجرة بغصنها، ويستدل به عليها.
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
العارض: السحاب. والهتن: الغزير الكثير الصب، وهو وصف للسحاب.
يقول: إن الممدوح وأجداده أسخياء كالعارض الهتن.
قد صيرت أول الدنيا أواخرها ... آباؤه من مغار العلم في قرن
يقال: حبل مغار: أي جيد الفتل، واستعاره ها هنا في إحكام العلم.
يقول: إن آباءه عالمون بالسير والأخبار وضابطون للأيام، فقد جمعوا بين ما مضى من أحوال الدنيا، وما يأتي من بعد في علمهم، كما يجمع البعران في مغار واحد: وهو الحبل الذي يشد به البعير إلى الآخر.
كأنهم ولدوا من قبل أن ولدوا ... أو كان فهمهم أيام لم يكن
روى: لم يكن بالياء رداً إلى الفهم، وبالتاء رداً إلى الدنيا.
يقول: كأنهم ولدوا في الزمن الأول وشاهدوا أحواله وأحوال أهله.
الخاطرين على أعدائهم أبداً ... من المحامد في أوقى من الجنن
الجنة ما يتقى به كالترس ونحوه.
يقول: إن محامدهم تقي أعراضهم فإذا خطروا على أعدائهم لم يقدروا على ذمهم، لكثرة من يمدحهم.
وقيل: إنه يصف شجاعتهم فيقول: إنهم إذا خطروا برماحهم على أعدائهم لا يظفرون بهم لقصورهم عنهم، وإن محامدهم وهي الخصال التي فيهم من الشجاعة وغيرها تقي أعراضهم، فكأنهم منها في سلاح أوقى من سائر الأسلحة.
للناظرين إلى إقباله فرحٌ ... يزيل ما بجباه القوم من غضن
الغضن: تكسر الجلد وتثنيه. القوم: الناظرين.
يقول: من نظر إليه فرح بلقائه. وبإقباله إليهم تنبسط وجوههم ويزول التكسر عن جباههم
كأن مال ابن عبد الله مغترفٌ ... من راحتيه بأرض الروم واليمن
يقول: إن معروفه يسافر فيصل إلى من نأى عنه، فكأنه يوصله إليهم من راحتيه. وإنما خص أرض الروم واليمن لأنها معروفة بسعة المال، فيشير إلى نهاية الجود، لأن أمواله إذا كانت مغترفةً إليها، دل على كثرة عطائه.
لم نفتقد بك من مزنٍ سوى لثقٍ ... ولا من البحر غير الريح والسفن
اللثق: الندى، والوحل.
يقول: أنت كالسحاب المغيث، إلا أن الوحل غير موجود فيك، لأنه أذى. وكذلك أنت البحر في السخاء: فلا يفقد فيك من البحر إلا ريحه وسفنه، التي لا تعلق لها بالجود، فأنت أفضل منهما بكثير.
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
يقول: أنت أسد، لا يفقد فيك إلا قبح منظره، ولا يفقد فيك من سوى الأسد إلا ما هو قبيح غير مستحسن، فهو غير موجود فيك.
منذ احتبيت بأنطاكية اعتدلت ... حتى كأن ذوي الأوتار في هدن
الاحتباء: جلسة مخصوصة ويكنى بها عن السيادة.
يعني: منذ وليت وسدت بأنطاكية سكن أهلها وزالت أحقادهم فكأنهم مصالحون.
ومذ مررت على أطوادها قرعت ... من السجود فلا نبتٌ على القنن
الطود: الجبل. والقرع: ذهاب الشعر عن الرأس. والقنن: جمع قنة وهي أعلى الجبل.

يقول: لما مررت على جبال أنطاكية سجدت لك، وأطالت السجود تعظيماً لك، فانحسر النبات عن رأسها، فصارت قرع.
وقيل: إنه من قولهم قرع الإناء عما كان فيه: أي خلا عنه. يعني: أنك لما مررت عليها وجاوزتها ولم تقم بها، خلت عن السجود بعد ما لم تكن خالية منه، لأنك وأصحابك شغلتها بالسجود حين نزلت فيها. وروى: قرعت: أي قرعت إلى السجود. إعظاماً لك، فانحسر عنها النبات.
أخلت مواهبك الأسواق من صنع ... أغنى نداك عن الأعمال والمهن
الصنع: الحاذق بالصناعة. والمهن: جمع المهنة، وهي الخدمة والتبذل.
يقول: إنك أغنيت جميع الناس حتى خلت الأسواق من الصناع، وأغنيت الناس عن الصنائع والخدمة، لأن إحسانك قد كفل حاجاتهم وسد خلاتهم.
ذا جود من ليس من دهرٍ على ثقةٍ ... وزهد من ليس من دنياه في وطن
يقول: جودك بالأموال، جود من يعلم أنها زائلة عنه، وزهدك في الدنيا. زهد من يعلم أنه راحل عنها، فليس يرى دنياه من جملة وطنه، فلا يغتر بها ولا يثق بكونه فيها!
وهذه هيبةٌ لم يؤتها بشرٌ ... وذا اقتدار لسانٍ ليس في المنن
يقول: لم يؤت أحدٌ من البشر مثل هيبتك، وقدرة اللسان التي لك ليست في قوة أحد، والمنة: القوة.
وقيل: أراد بالثاني نفسه.
يعني: أن مدحي إياك وإنشادك القصيدة، ليس في مقدور أحد مثل ذلك، ولا لأحد من القوة مثل قوتي في المدح.
فمر وأوم تطع قدست من جبلٍ ... تبارك الله مجري الروح في حضن
حضن: اسم جبل بنجد. وفي الأمثال: أنجد من رأى حضناً.
يقول: مر الناس إن شئت، وأوم: أي أشر من الإشارة إن شئت، فإنهم يطيعونك. قدست: أي طهرت من جبل. شبهة بالجبل لعظم هيبته وهمته وثبات عزه فتبارك الله الذي أجرى الروح في جبل.
وورد على أبي الطيب كتابٌ من جدته لأمه من الكوفة تستجفيه فيه! وتشكو شوقها إليه، وطول غيبته عنها، فتوجه نحو العراق ولم يمكنه دخول الكوفة على حاله تلك، فانحدر إلى بغدد، وقد كانت جدته يئست منه، فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه، فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به! وغلب الفرح على قلبها فقتلها! فقال يرثيها ويتحسر على وفاتها في غيبته ويفتخر بنفسه:
ألا لا أرى الأحداث حمداً ولا ذماً ... فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
يقول: إني لا أظهر للحوادث ولا أريها حمداً ولا ذماً، لأنها لا تستحق ذلك، لأنها تأتي من غير قصد، وذلك فعل الله تعالى، فلا أحمدها إذا أمسكت ولا أذمها إذا أصابتني؛ لأن بطشها ليس بفعل منها فأعده جهلاً منها، ولا كفها حلماً، فلا معنى للمدح ولا للذم لها.
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكرى كما أرمى
أبدى: أصله بدأ. ويكرى: ينقص. وأرمى: زاد.
يقول: إن الإنسان إذا بلغ الغاية من عمره، أخذ في النقصان إلى أن يعود إلى ما كان عليه، ابتداء من العدم وإلى في قوله: إلى مثل متعلق بقوله: مرجع الفتى.
لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوقٍ غير ملحقها وصما
المفجوعة: المتألمة للمصيبة. وقوله: لك الله دعاء لها. أي كان الله لك حافظاً. وقيل: إنه تعظيم لحالها في شدة فجيعتها، والوصم: العيب، أي أنها ماتت شوقاً إليه!! وهذا الشوق الذي قتلها لا يلحق بها عاراً؛ لأنه شوق لولدها.
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوي لمثواها التراب وما ضما
الكأس: هو الموت. ومثواها: إقامتها.
يقول: أشتاق إلى الموت بعدها؛ لألحق بها، وأحب التراب، وما ضمها من القبر لأجل إقامتها فيه.
بكيت عليها خيفةً في حياتها ... وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
الثكل: موت الولد الحميم. وقدما: نصب على الظرف. أي في زمان وروى: خيفة وحقبة أي مدة من الدهر.
يقول: بكيت عليها قبل موتها خوفاً من ألا ألقاها، وذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قديماً؛ بما كان بيننا من طول الفرقة وبعد المشقة.
ولو قتل الهجر المحبين كلهم ... مضى بلدٌ باق أجدت له صرما
أجدت: أي جددت. وفاعله: المرثية.
يقول: إن أهل بلدها كانوا يحبونها؛ لسترها ودينها، فلو كان الهجر يقتل جميع المحبين لما كان أهل بلدها والذين يحبونها باقين بعدها، بل كانوا يمضون بمضيها ولا يبقوا بعدها. وقد جددت هذه المرأة لهم قطيعة.

منافعها ما ضر في نفع غيرها ... تغذى وتروي أن تجوع وأن تظما
تقدير البيت: منافعها ما ضرها في نفعها، غير محذوف العائد إلى ما وأضاف المصدر إلى المفعول. وحذف الفاعل كقوله تعالى: " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " . أي من دعائه الخير، وقوله: " بسؤال نعجتك " . أي سؤاله نعجتك.
يقول: إن منافع هذه المرأة فيما يضرها عند نفع غيرها. يعني: أنها كانت تضر بنفسها لتنفع غيرها، وإن ذكل كان نفعاً لها، لأنها كانت تؤثر غيرها على نفسها فتجوع وتظمأ، فكأن جوعها إذا أشبعت غيرها يقوم لها مقام غذائها، وكذلك عطشها إذا أروت غيرها يقوم مقام ارتوائها. والمصراع الثاني تفسير الأول.
وقال ابن جنى: إن الهاء في منافعها للأحداث أي منافع الأحداث فيما يضر غيرها وبأن تجوع وتظمأ، وهذا ضارٌّ لغيرها. يعني: أنها تريد أن تهلك الناس فتخلوا منهم الدنيا. كما قال:
كالموت ليس له ريٌّ ولا شبع
وقيل: إن في بمعنى اللام، أو بمعنى مع.
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
ما بمعنى المصدر: أي قبل صنعها بنا. وقيل: بمعنى الذي.
يقول: كنت عرفت الليالي وسوء صنيعها قبل وقوع ما أوقعت، فلما أوقعت ما أوقعت، وابتلتنا بموت الجدة، لم تصبني الليالي بشيء لم أعرفه من أحوالها، ولم تزدنا علماً بسوء تصرفها.
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ ... فماتت سروراً بي، فمت بها غما
نصب سروراً وغماً على المفعول له.
يقول: إن كتابي أتاها بعد ما يئست مني، وحزنت على فراقي، فماتت سروراً بي ومت من الغم الذي حصل لي بموتها.
حرامٌ على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
يقول: إن السرور حرام على قلبي؛ لأن موتها كان بالسرور! وذلك عندي كالسم. لما كان سبب موتها هو السرور، ولا ينبغي لأحد أن يقرب السم من قلبه.
تعجب من خطي ولفظي كأنها ... ترى بحروف السطر أغربةً عصما
العصم: جمع أعصم، وهو الذي في أحد جناحيه ريشة بيضاء. وقيل: هو الذي إحدى رجليه بيضاء، وذلك لا يكاد يوجد.
يقول: إنها تعجبت من كتابي! وكانت تنظر إليه وتكرر النظر اشتياقاً إلي واستعجاباً؛ لأن عندها أني قد مت، فكأنها ترى غراباً أعصم؛ لفرط التعجب.
وتلثمه حتى أصار مداده ... محاجر عينيها وأنيابها سحما
السحم: السود. والمحاجر: ما حول العينين.
يعني: أنها لم تزل تقبله وتمسح به على وجهها وعينيها وهي تبكي، حتى اسودت أنيابها ومحاجرها.
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها ... وفارق حبي قلبها بعد ما أدمى
رقا: أي انقطع.
يعني: أنها كانت تبكي علي وتحزن بسببي، فأراحها الموت من البكاء علي والوجد بي، فجفت دموعها وفارق حبي قلبها بموتها بعد ما كان جرحه وأسال دمه.
ولم يسلها إلا المنايا، وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقما
يقول: لم يصبرها عني إلا الموت، الذي هو أشد من السقم الذي كان بها؛ لأن السقم يزيل الصحة، والموت يزيل الحياة ويبطلها.
طلبت لها حظاً، ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت لها قسما
يقول: طلبت لها حظاً بالعود إلى العراق، واستدعائها إلي حيث كنت.
وقيل: طلبت لها بالمفارقة والغربة حظاً من الدنيا، فقد ماتت هي وفاتني ذلك الحظ المطلوب! الذي هو لقاؤها أو غيره. وقد كانت راضية من الدنيا كلها بمقامي عندها، لو كنت أرضى لها بذلك القسم، لكن لم أرض لها بما رضيت لنفسها.
وقد روى: لو رضيت بضم الراء: ومعناه أنها كانت راضية بي لو رضي الله تعالى بي لها، وأن أكون عندها، ولكنه لم يرض بذلك.
فأصبحت أستسقيي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
يقول: كنت قبل موتها أطلب لها الحظ بالقنا والحرب، وأدفع بالقتال والقوة والشجاعة، وكنت أدعو القنا لصب الدماء، فلما ماتت! عدت أدعو لقبرها وأستسقي الغمام له. على ما جرت به عادة العرب.
وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
يقول: كنت أستعظم النوى. أي فراقها، وهي سالمة، فالآن صار النوى الذي كنت أستعظمه صغرى، من حيث الموت.
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى ... فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟

يقول: لو كان موتك على يد عدو، لكنت آخذ الثأر منه، ولكنني لا أقدر على أخذ الثأر من الحمى التي قتلتك.
وما انسدت الدنيا علي لضيقها ... ولكن طرفاً لا أراك به أعمى
يقول: ما انسدت الدنيا علي لضيقها، ولكن بسبب فقدك، والعين التي لا أراك بها عمياء، فلذلك انسدت علي الدنيا وضاقت
فوا أسفاً ألا أكب مقبلاً ... لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما
أراد باللذي: اللذين، فحذف النون لطول الاسم. وهو مثل قول الأخطل:
أبني كليبٍ إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وأكب: إذا أقبل على الشيء.
يتأسف على فوته الانكباب على رأسها وصدرها مقبلاً ووصفها بأنها كانت ذات حزم ورأى، والحزم: جودة الرأي.
وألا ألاقي روحك الطيب الذي ... كأن ذكي المسك كان له جسما
أصله: أن لا ألاقي، فسكن ضرورة. والروح: يذكر في الأغلب وقد يؤنث. والذكي: الذي رائحته حادة.
يتأسف على فوته الملاقاة بها ليلقى روحها، ثم وصف الحب الذي هو قالب الروح بأنه كان من ذكي المسك.
وقيل: تأسف أنه لم يمت فيلقى روحها في الأرواح.
ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍِ ... لكان أباك الضخم كونك لي أما
الضخم: هو الشريف العظيم القدر.
يقول: لو لم يكن لك أبٌ شريفٌ، لكان كونك لي أماً يشرفك، ويغنيك عن شرف الآباء.
لئن لذ يوم الشامتين بموتها ... فقد ولدت مني لآنفهم رغما
يقول: لئن سرت الأعداء بموتها. أي يوم موتها فإن لقائي سيفهم، لأنها ولدت رجلاً يرغم أنفهم ويذلهم.
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
يذكر نفسه ويقول: إنه تغرب، لا يستعظم أحداً إلا نفسه!! ولا يرى أحداً فوقه! ولا يرضى بحكم أحد إلا بحكم الله تعالى.
ولا سالكاً إلا فؤاد عجاجةٍ ... ولا واجداً إلا لمكرمةٍ طعما
يقول: لم يزل في تغربه سالكاً، وسط غبار الحرب، ولا يلتذ بطعم شيء إلا طعم المكرمة، وليس تغريه لجمع المال مع الذي والهوان!!
يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدةٍ ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
ما الأولى: استفهام. أي: على أي صفة أنت؟ وكذلك الثانية. والثالثة: بمعنى الذي.
يقول: كل بلدة دخلتها فأهلها يستعظمون حالي، ويسألون عن مرامي، وأنا لا أخبرهم بحالي، فإنها أعظم من أن تسمى.
وقيل: أراد أنهم إذا سألوني: ما الذي تبتغي؟ فجوابي: ما أبتغيه جل أن يسمى! كأنه أراد: الملك، أو النبوة، أو الإمامة.
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوبٌ إليهم من معادنه اليتما
الكناية في بنيهم: للشامتين. والهاء في معادنه: لليتم، غير أنه قدمه في اللفظ، وهو مؤخر في المعنى.
يقول: إن أبناء أعدائي يفرون مني! فكأنهم يعلمون أني أجلب إليهم اليتم من معادنه، بأن أقتل أباءهم فأؤتمهم! وكثرة سؤالهم تدل على ذلك.
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
يقول: إن الجمع بين الماء والنار في موضع واحد، ليس بأصعب من الجمع بين البخت والعلم!! فهما منزلان في الاستحالة منزلة واحدة.
ولكنني مستنصرٌ بذبابه ... ومرتكبٌ في كل حالٍ به الغشما
أراد بالذباب: السيف، فأضمره، وذبابه: حده. والغشم: الظلم. يقول: إني وإن لم تساعدني الأيام، أطلب النصر بالسيف، وأرتكب الظلم، حتى أنال به ما أريد أخذه. من قول عمرو بن معد يكرب.
وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ ... تحية بينهم ضربٌ وجيع
وجاعله يوم اللقاء تحيتي ... وإلا فلست السيد البطل القرما
القرم: السيد الرئيس.
يقول: أعدائي يوم الحرب، ضربت وجوههم بالسيف، وأقمته مقام التحية وإن لم أفعل فلست بسيد شجاع، ولا كريم مطاع.
إذا فل عزمي عن مدىً خوف بعده ... فأبعد شيءٍ ممكنٌ لم يجد عزما
قوله: خوف: فاعل فل. وعزمي: فاعله.
يقول: إذا كسر عزمي؛ مخافة بعد المدى. يعني: كلما رمت أمراً بعيداً فأكسر عزمي خزفاً من بعده، فلم أظفر بمطلوب أبداً، فإنه إنما يدرك بصحة العزم، وأقرب الأشياء تناولاً إذا لم يكن عزم على تناوله فهو أبعد الأشياء.

وقيل: أراد أني إذا تركت أمراً بعيداً خوفاً من بعده؛ لانفلال عزمي دونه، فإني أركب ما هو أبعد منه، حيث لم يتقدمه عزم، من تعريض نفسي للقتل وطلب الموت.
قلت: يجوز أن يكون مراده بذلك الدعاء على نفسه. يقول: إذا تركت الأمر لبعد تناوله وعسر مرامه، فأبعد الأشياء إمكاناً لم يجد عزمي. فكأنه يقول: ما وصلت أبداً إلى مرام أصعب، على جهة الدعاء.
وإني لمن قومٍ كأن نفوسنا ... بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
كان القياس أن يقول: كأن نفوسهم، غير أنه يختار رد الكناية إلى الإخبار عن النفس؛ لما فيها من مبالغة المدح.
يقول: إنا نختار الموت ونلتذه؛ فكأن نفوسنا تأنف أن تسكن العظم واللحم، فتحب مفارقتهما وتحرص على التخلص منهما.
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
يقول: كذا أنا. أي: هكذا مذهبي. وقيل: أراد أنا مثل قومي، لا أرغب في الدنيا، فمتى شئت أيها الدنيا فاذهبي، ويا نفسي ازدادي في كراهة الدنيا وشدائدها، فإني لا أبالي بالدنيا وحياتها، وخيالاتها.
فلا عبرت بي ساعةٌ لا تغرني ... ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظلما
روى: غبرت وعبرت. أي مضت. يعني إنما أريد الحياة للعز، فكل ساعة لا أكسب فيها عزاً أماتني الله قبلها، ولا صاحبت نفسي محتملةً للظلم، وفرق الله بيني وبينها.
وجعل قومٌ يستعظمون ما قال في آخر هذه القصيدة فقال
يستكثرون أبياتاً نأمت بها ... لا تحسدن على أن ينئم الأسدا
نأم ينأم: أي صوت. والنئيم: الصوت والأبيات: تصغير الأبيات. وأراد بتصغيرها أنها صغيرة إلى جنب فعله. ونصب الأسد بتحسدن أي لا تحسدون الأسد. وأن مع الفعل: بمعنى المصدر. أي على نئيمه.
يقول: إنهم استعظموا هذه الأبيات، وفعالي أعظم منها، فأنا الأسد، والأسد لا يحسد على زئيره؛ لأن فعله أعظم من صوته، فلا ينبغي أن تحسدوني على ذلك.
لو أن ثم قلوباً يعقلون بها ... أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا
الهاء في تحتها: للأبيات، وفي بها: للقلوب.
يعني: لو كان لهم قلوب فيها عقول لأنساهم ما تضمنته أبياتي من الذعر والحسد الذي هم عليه.
وقال يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله بن الحسن الأنطاكي
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل
أواهل: جمع آهلة، أي عامرة.
يقول: يا منازل أحبائي، لك منازل في قلبي، أنت نازلة فيها. أي: إني أذكرك وأذكر أهلك، وقد أقفرت أنت عن أهلك النازلين بك. وقوله هن أي المنازل التي في قلبي عامرة بذكرك وذكر أهلك.
يعلمن ذاك وما علمت، وإنما ... أولاكما يبكي عليه العاقل
يعلمن: أي المنازل التي في القلب. والهاء في عليه للأولى.
يقول: منازلك في قلبي عالمةٌ بأنك قد أقفرت، وأنت لا تعلمين ذلك، فلما علمت أنك قد أقفرت، وتألمت، وحزنت، وهي عاقلة. فكانت هي أولى بأن يبكى عليه منك؛ لأنك غير عاقلة.
وقيل: أراد أنها تعلم ما يصيبها من ألم الشوق وأنواع الهم، وأنت الجاهلة بذلك فهي أولى بالبكاء.
وقيل: معناه أنها عالمة بنزولك فيها، وأنت جماد لا تعلمين من نزل فيك، فالعاقل منكما وهو قلبي أولى بأن يبكى عليه؛ لنزولك فيه.
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
يقول: طرفي جلب إلي هلاكي! فمن أطالب بدمي؟ والمقتول هو القاتل! لأن بعضي قتل بعضي. ومثله قول الآخر:
أذت ناراً بيدي أشعلتها في كبدي
وأحسن من ذلك قول ابن المعتز:
كنت صباحي قرير عيني ... فصرت أمسي صريع بيني
تخلو الديار من الظباء وعنده ... من كل تابعةٍ خيالٌ خاذل
التابعة: الغزالة التي تتبع أمها. والخاذل: المتأخرة عن القطيع في المرعى، والمختشية على خشفها. والهاء في قوله: وعنده راجع إلى الذي في قوله: وأنا الذي اجتلب وأراد نفسه.
يقول: تخلو الديار من أهلها الذين هم كالظباء وعند نفسي من كل كالغزالة التابعة للظبية، خيال متأخر عنهن، كالظبية الخاذل.
وقال ابن جنى: أراد بقوله: من كل تابع أي من كل جارية تابعة لأقاربها؛ لصغر سنها كما تتبع الغزال أمها.
اللائي أفتكها الجبان، بمهجتي ... وأحبها قرباً إلي الباخل

اللائي جمع: التي. وأفتكها: أي أكثرها فتكاً، ورجل فاتك: أي شجاع. والباء: متعلق بفعل مضمر تقديره: اللائي أفتكها الجبان، فتكت بمهجتي. فلما دل عليه أفتكها حذفه.
والمعنى: أن تلك الظباء من كان منها أجبن. كان أقدر على قتلي وفتك مهجتي. وذلك إشارة إلى نفارها، ومن كان منهن أبخل، فهو أحب إلي قرباً؛ لأن الوصل من الممتنع ألذ. ومنه قول جرير
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
الراميات لنا وهن نوافرٌ ... والخاتلات لنا وهن غوافل
يقول: إنهن يرميننا بسهام عيونهن، وينفرن منا والعادة أن ينفر المرمي من الرامي. ويخدعننا بمواعيدهن وهن غريرات لا يعرفن مكراً ولا خديعة، والعادة أن الخادع يكون ذا مكر وخديعة.
وقيل: أراد أنهن يصطدننا بعيونهن من غير قصد منهن، ويفسدن قلوبنا من غير إرادتهن؛ لأننا ننظر إليهن وهن غوافل والمصراع الثاني تأكيد كذلك.
كافأننا عن شبههن من المها ... فلهن في غير التراب حبائل
المها: بقر الوحش. شبه النساء بهن لسواد أحداقهن والحبائل: جمع حباله، وهي شرك الصائد.
يقول: إن هذه النساء جازيننا عن بقر الوحش التي أشبهتها هذه النساء، فاصطدننا كما صدناهن بالحبائل، غير أن حبائلهن بخلاف الحبائل التي يصطاد بها الوحش؛ لأنها نبت في التراب، وهذه الحبائل هي: العيون، والقدود، والوجوه، وما أشبهها.
من طاعني ثغر الرجال جآذرٌ ... ومن الرماح دمالجٌ وخلاخل
الثغر: جمع ثغرة، وهي النقرة بين بين. والجآذر: أولاد بقر الوحش.
يقول: إن هذه الجآذر يطعن في صدور الرجال كما يطعن الفرسان، ورماحهن الدمالج والخلاخيل فهن لهن بمنزلة الرماح للرجال، لأنهن يعملن بالقلوب مثل عمل الرماح.
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
يقول: إنما سميت أغطية العيون. جفوناً؛ لأن ما فيها من الأحداق تعمل عمل السيوف، ولولا أنها سيف لما سميت أغطيتها جفوناً.
كم وقفةٍ سحرتك شوقاً بعد ما ... غرى الرقيب بنا ولج العاذل
روى: سحرتك بالحاء أي أدهشتك. وبالجيم: أي: أوقدت فيك ناراً. وروى: شجرتك: أي طلبتك. وقوله غرى: أي ولع يقول: كم وقفة للوداع، ملأت هذه العيون قلبك شوقاً أو ملأته ناراً، وألهبت في قلبك نار من الشوق، وقد لج العاذل في العذل، ولازمك الرقيب في الحفظ.
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصبٍ أدقهما وضم الشاكل
نصب ناحلين: على الحال، والعامل فيه: وقفة. ودون: نصب على الظرف، والعامل ما تقدم.
يقول: كم وقفة وقفنا للوداع، وكنا ناحلين، وبقينا دون المعانقة من خوف الرقيب، وكنا قريبين، كتقارب شكلتي نصبٍ دقيقتين قريبتين بعضها من بعض، أدقهما الشاكل، وضم إحديهما إلى الأخرى. أي قارب بينهما. وقد احترز في ذلك عن البناء لأن الشكلتين إذا اجتمعا في النصب كانتا تنويناً، والتنوين يختص بالنصب؛ لأن الفتح لا يكون تنويناً.
إنعم ولذ فللأمور أواخرٌ ... أبداً إذا كانت لهن أوائل
لذ: أمر من لذ يلذ.
يقول: اغتنم الشباب وتنعم وتلذذ فإن للشباب آخر، كماله أوله فإن الأوائل لها أواخر.
ما دمت من أرب الحسان فإنما ... روق الشباب عليك ظلٌّ زائل
روق الشباب: أوله. والأرب: الحاجة.
يقول: تنعم ما دمت على حالة متعلق حاجات الحسان البكر. وهي حالة الشباب؛ فإن الشباب لا يبقى عليك، كالظل الذي لا يبقى بل يزول. وهو من قول امرىء القيس:
تمتع من اللذات إنك فاني
ومثله ليزيد بن معاوية:
خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرم
للهو آونةٌ تمر كأنها ... قبلٌ يزودها حبيبٌ راحل
آونة: جمع أوان. واللهو: السرور. وروى: يزودها ويزورها. فإن أردت بالحبيب. المحبوب، فالأجود كسر الواو وإن أردت به المحب فالفتح أولى.
يعني أن أوقات السرور سريعة المرور، كأنها قبل أحباءٍ في وقت الارتحال، في اللذة وسرعة الزوال.
جمح الزمان فما لذيذٌ خالصٌ ... مما يشوب ولا سرورٌ كامل
جمح: أي عصى.
يقول: إن الزمان جموح يكدر اللذات، فكل لذيذ مشوب بالتنغيص، وكل سرور فيه، ناقص غير كامل.
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهي المقام الهائل

يقول: كل لذة منغصة، حتى رؤية أبي الفضل، فإنها منية كل نفس، ولكنها مشوبة بالهول والهيبة؛ فهي منغصة من هذا الوجه. وصفة بالهيبة.
قال ابن جنى: هذا مخلص إلى المدح غريب ظريف، لا أعرفه لغيره.
ممطورةٌ طرقي إليها دونها ... من جوده في كل فجٍّ وابل
الهاء في إليها ودونها: للرؤية. والفج: الطريق الواسع.
يقول: إن الطرق التي سلكها إلى رؤيته، كانت غير خالية من عطاياه، التي هي كالمطر الوابل، فكأن الطريق أصابه المطر.
محجوبةٌ بسرادقٍ من هيبةٍ ... تثنى الأزمة، والمطي ذوامل
السرادق: خيمة تضرب على أبواب الملوك لقعود الناس فيها إلى وقت الإذن.
وقيل: هو ما يحاط حول الخيمة مثل السور. وتثنى: أي تصرف. وفاعله: ضمير الهيبة. وذوامل: جمع ذاملة، وهي السريعة السير. ومحجوبة: قيل أراد بها الطرق، أي أن الطريق التي مررت بها إليه، كانت عليها سرادق من هيبته، تمنع الناس من العدول عنه إلى غيره، ومطايا الناس إليه سريعة.
وقيل: إن رؤيته محجوبة مهيبة، تصرف الأزمة، حتى لو أن المطايا ذوامل في سيرها، واعترضتها هذه الهيبة لصرفتها، وعدلت المطية عنها. خوفاً من الإقدام واستعظاماً لهيبته.
للشمس فيه وللرياح وللسحا ... ب وللبحار وللأسود شمائل
الشمائل: الأخلاق.
يقول: للشمس فيه إضاءتها ومنفعتها وشهرتها وارتفاع محلها، وشبه الريح بدوام عطائه وقوته وكثرة تقلبه في الحروب وشبه السحاب بجوده، والبحار بهوله وسعة صدره وغزارته في العلم، والأسد في إقدامه وشجاعته.
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل
أراد. من العقيان: الذهب. والمناهل: المشارب.
يقول: عند موارده هذه أرى أشياء. فالذهب لسائله، والأدب لطالبه، والحياة لأوليائه؛ بالعفو عن الجاني، والممات لأعدائه.
لو لم يهب لجب الوفود حواله ... لسرى إليه قطا الفلاة الناهل
لو لم يهب: أي لم يخف. واللجب: اختلاط الأصوات وحواله: أي حوله: والناهل: العطشان. وهو نعت للقطا وهو مرفوع.
فإن شئت رفعته بالفعل الأول: وهو لم يهب. وأسندت الفعل الثاني: وهو لسرى إلى ضمير القطا. أي لو لم يهب قطاة الفلاة الناهل لجب الوفود لسرى إليه. وهذا اختيار أهل الكوفة.
فإن شئت رفعته بالفعل الثاني، وأضمرت للفعل الأول الفاعل، وهو اختيار أهل البصرة.
يقول: لولا أن القطا تخاف أصوات الوفود على بابه وحوله، لكانت تسري إليه لتشرب من مناهله وتفد مع جملة الوفود إليه.
يدري بما بك قبل تظهره له ... من ذهنه ويجيب قبل تسائل
الهاء في تظهره لما وفي له، وذهنه وغيره من الضمائر: للممدوح.
يقول لنفسه أو لصاحبه: إنه إذا رآك علم ما في نفسك قبل إظهارك له وأجابك عن سؤالك.
وتراه معترضاً لها وموليا ... أحداقنا وتحار حين تقابل
أحداقنا: رفع لأنه فاعل تراه والهاء في لها للأحداق. ونصب موليا ومعترضا على الحال. والاعتراض: هو المفاجأة. وقيل: هو أن يلي جنبه.
يقول: إن أحداقنا إنما يمكن أن تراه إذا ولي عنا ظهره، أو يظهر مفاجأة أو مولياً جنبه، فإذا قابلته لوجهه تحيرت من هيبته ونور غرته، فلا يمكنك أن تنظر إليه.
كلماته قضبٌ، وهن فواصلٌ ... كل الضرائب تحتهن مفاصل
القضب: السيوف. وفواصل: أي قواطع، أي تفصل الأمور. والضرائب: جمع الضريبة، وهي محل الضرب.
يقول: إن كلماته قواضب كالسيوف تفصل بين الحق والباطل وكل الضرائب: أي المشكلات عند هذه الكلمات كالمفاصل.
هزمت مكارمه المكارم كلها ... حتى كأن المكرمات قبائل
وروى قنابل: وهي جماعات الخيل.
يقول: إن مكارمه هزمت جميع المكارم وأبطلتها، فكأنها العساكر تقابل بعضها بعضاً.
وقتلن دفراً والدهيم فما ترى ... أم الدهيم وأم دفرٍ هابل
دفر: اسم الدنيا. ودهيم: اسم الداهية. والهابل: الثاكل. وأفرد الضمير في ترى، وكان حقه أن يقول: تريان فاكتفى بالواحدة، كذلك في هابل. وعلى هذا أم زائدة.
وقيل: أم الدفر: اسم الدنيا. وأم الدهيم: اسم الداهية على وجه الكنية.
ومعناه: أن مكارمه قتلت بنت الدنيا وبنت الداهية، فالدنيا والداهية قد ثكلتا ابنيهما، يعني: أن مكارمه كفت الناس حوادث الدهر.

علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي، ولكل لجٍّ ساحل
علامة: كثير العلم، والهاء: للمبالغة. وجعله علامة العلماء زيادة للمبالغة: يصفه بكثرة العلم. وشبهه بالبحر في علمه وجوده، وفضله على البحر.
لو طاب مولد كل حيٍّ مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
يقول: لو طاب مولد كل حيٍّ، مثل طيب مولده، لما احتاج النساء إلى القوابل، حتى لا يشاهدن المستور من أحوالهن. كأنه نزه أمه عن وقوع بصر القوابل على عورتها عند الولادة.
وهذا ليس فيه فائدة؛ لأن طيب المولد: أي علاقة له بسهولة الولادة. وأي مدح في ذلك وفي الاستغناء عن القوابل؟! وإن أراد به سعة الرحم بانحلال الرباط، لكان السكوت عنه أولى.
لو بان بالكرم الجنين بيانه ... لدرت به ذكرٌ أم أنثى الحامل
يقول: لو تبين الجنين بالكرم الذي له، لكان بان هو في بطن أمه، وكانت الحوامل تعلم أنه ذكر أم أنثى. وهذا لا طائل فيه ولا فائدة.
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعاً ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
يقول: ليزدد هؤلاء الأشراف تواضعاً؛ لأنهم في الشرف مشهورون، فتواضعهم لا يضع قدرهم؛ لأن شرفهم لا ينكتم بالتواضع، كما لا ينكتم ضوء المشاعل في الظلام، بل الظلام يزيدها ضوءًا، كذلك تواضعهم.
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفى الرباب الهاطل؟!
السفاد للطير: كجماع الإنسان. والرباب: السحاب الأبيض، وقيل: هو الذي فوقه سحاب آخر. والهاطل: المتتابع القطر.
يقول: إنهم اجتهدوا في إخفاء عطائهم فظهر ولم ينكتم، بل انتشر كالمطر الهاطل من السحاب.
جخفت وهم لا يجخفون بها بهم ... شيمٌ على الحسب الأغر دلائل
جخف وجمخ: إذ افخر والشيم الأخلاق. وقيل: هي الدلائل. وفاعل جخفت: شيم تقديره. جخفت بهم شيم وهم لا يجخفون بها.
يقول: إن شيمهم تفتخر بهم؛ لحلولها فيهم، وهم لا يفتخرون بها؛ لأن أخطارهم أعظم. مع أن تلك الشيم هي أشرف الشيم، من حيث أنها دلائل على حسبهم الأغر الكريم.
متشابهي ورع النفوس: كبيرهم ... وصغيرهم عف الإزار حلاحل
متشابهي: نصب على الحال. عفٌّ وعفيف: واحد. والحلاحل: السيد.
يقول: كلهم متشابهون في الورع: صغيرهم وكبيرهم، وكلهم سادة كرام، عفف الإزار، لا يقربون الفاحشة ولا يسعون إلى زنا، ولا ريبة.
يا افخر فإن الناس فيك ثلاثةٌ: ... مستعظمٌ، أو حاسد، أو جاهل
أي: يا هذا افخر فحق لك الفخر، ويجوز أن يكون بمعنى: التنبيه.
يقول: إن الناس فيك ثلاثة أقسام: إما مستعظم لقدرك، وإما حاسد لفضلك، وإما جاهل بك لا يعرف حقيقة حالك. ومثله قول ذي الرمة:
وما زلت تعطي النفس حتى تجاوزت ... مناها فأعط الآن إن شئت أو دع
ولقد علوت فما تبالي بعدما ... عرفوا: أيحمد أم يذم القائل
يقول: أنت علوت حتى استقر عند كل أحدٍ علو قدرك، فما تبالي بعد ذلك بحمد حامد ولا بذم ذام، وصارا عندك سواء.
أثني عليك ولو تشاء لقلت لي ... قصرت فالإمساك عني نائل
يقول: أثني عليك وأنا مقصر في وصفك، فلو شئت لقلت لي: إنك قصرت، فإذا أمسكت عني وقبلت مدحي مع تقصيري، فكأنك قد أعطيتني سوى ما أعطيت.
وقيل: أراد إن لم تعطني على مدحي فقد أحسنت لما في مدحي من التقصير.
لا تجسر الفصحاء تنشد ها هنا ... بيتاً ولكني الهزبر الباسل
وروى: لا تحسن. الهزبر: الأسد. والباسل: الشجاع.
يقول: لا يقدر أحدٌ من الفصحاء أن ينشد في مجلسك بيتاً واحداً؛ هيبةً منك. لكني خالفت سائر الفصحاء جسارةً وقوة قلب، فأنا كالأسد الشجاع، فلهذا تجاسرت عليك.
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري، ولا سمعت بسحري بابل
أرض العراق كلها: بابل وهي على ما يقال: قرية من العراق، وخصصت بالسحر؛ من أجل هاروت وماروت يقول: إن أهل الجاهلية ما نالو مثل شعري، وكذلك أهل بابل ما سمعوا بمثل سحري؛ لرقة ما أستنبط من المعاني. وأراد: أن شعري أجود الأشعار وأرق من السحر؛ لأن البليغ يمكنه أن يذم الممدوح، ويمدح المذموم! ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا " .
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني فاضل

يقول: إذا رأيت الجاهل والناقص يذمني، فذلك دليل على فضلي؛ لأنه إنما يذمني لأنه ضدي كما قيل:
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ومثله قول الشاعر:
وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
ومثله قول الطرماح
وإني شقيٌّ باللئام ولن ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
من لي بفهم أهيل عصرٍ يدعي ... أن يحسب الهندي فيهم باقل
أهيل: تصغير أهل. وباقل: هو المضروب به المثل في العي، وهو من بني مازن، وقيل: من بني قيس بن ثعلبة.
يقول: كيف أفهم أهل زمانٍ يدعى عندهم باقل، أن يحسب حساب الهند، وقد كان من عيه ما ضرب به المثل.
قال ابن جنى: هذا غير جيد، لأن باقلاً، لم يؤت من الحساب، وإنما أتي من النطق. فلو قال: أن ينظم الأشعار فيهم باقل. أو قال: أن يفحم الخطباء فيهم باقل. لكان أشبه بالقصة.
والجواب: أنه أراد إيراد لفظ الحساب للعجز عنه.
وأما وحقك فهو غاية مقسمٍ ... للحق أنت وما سواك الباطل
المقسم: الحالف. وبالفتح: هو القسم، وهو الأولى.
يقول: أحلف بحقك، وهو نهاية القسم، أنك ذو الحق، وما سواك ذو الباطل. وقيل: أراد أنك السيد حقاً، وكل سيد سواك فهو الباطل، ولا حقيقة له. كقوله:
كأنك مستقيمٌ في محال
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وروى: إذا اغتسلت الغاسل، تقديره: إذا أصابك الطيب، فأنت طيبة، والماء الغاسل أنت: إذا اغتسلت.
يجوز نصبه بفعل مضمر يدل عليه الغاسل: أي تغسل الماء إذا اغتسلت. ثم صار الغاسل بك لامنه ودالاً عليه.
ويجوز رفعه فيكون مبتدأ، والغاسل، صفته، وأنت خبره.
يقول: إن الطيب إذا أصابك يطيب بك! والماء إذا اغتسلت به، اكتسب منك الطهارة.
ما دار في الحنك اللسان وقلبت ... قلماً بأحسن من ثناك أنامل
الثنا: مقصور يستعمل في المدح والذم. والثناء: ممدود، في الحسن خاصة. والنثا: بتقديم النون، روى أيضاً.
يقول: ما دار في الفم اللسان، ولا قلبت الأنامل قلما بأحسن من ثناك: أي ما قيل، ولا كتب، أحسن من أخبارك، ومدحك.
وقيل: ما أنشد أحدٌ ولا كتب أحسن من شعري في مدحك وثنائي عليك.
وقال يمدح أخاه أبا سهل سعيد بن عبد الله الأنطاكي:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف في ذا القلب أحزانا
تقديره: قد علم البين أجفاناً منا البين، وتدمى الأجفان، وهي حال لها.
يقول: قد علم البين بيننا أجفاننا البين فلا تلتقي بكاءً وسهراً، وتدمى يدل عليها، لأن البكاء وطول السهر يؤديان إلى الإدمان، وكذلك جمع البين في قلبي هذا أحزاناً، فليس فيه سروراً، كما لا نوم في العين.
أملت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحي دون السير حيرانا
المعصم: موضع السوار من اليد.
يقول: رجوت وقت سير قومها أن تكشف هي معصمها ليقف قومها متحيرين عند رؤيته؛ لنوره وحسنه ويتعجبوا من ضوئه، فأتمتع أنا بالنظر إليها، والوقوف معها ساعة.
ولو بدت لأتاهتهم فحجبها ... صونٌ عقولهم من لحظها صانا
أتاهتهم: أي حيرتهم. وصون: رفع؛ لأنه فاعل حجبها. وعقولهم: نصب؛ لأنه مفعول صان، وفاعله: ضمير صون.
يقول: لو بدت هذه المرأة بأجمعها؛ لحيرتهم وأذهبت عقولهم؛ فحجبوها صيانة لعقولهم من لحظها. وتقديره: فحجبها صونٌ صان من لحظها.
بالواخدات وحاديها وبي قمرٌ ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا
الواخدات: الإبل السراع. والحشيان: الذي علاه البهر من التعب، وروى: بالخاء من الخشية.
يقول: أفدي بالإبل وحاديها وبنفسي قمراً، صفتها أنها يأخذها. البهر عند إسراع الإبل في السير، لنعومتها.
وبالخاء: أنها تخشى عند شدة سيرها من شدة إقلاقها إياه. أراد: أن هذا القمر الكافل بالإبل وحاديها وبنفسي، وأمرنا إليه وسرورنا بوصاله، وحزننا لفراقه، فهو المتصرف فينا كما يشاء.
أما الثياب فتعرى من محاسنه ... إذا نضاها ويكسى الحسن عريانا
التذكير: للقمر. والتأنيث: للثياب. وعرياناً: نصب على الحال، المعنى: أن الثياب تحسن به، لا أنه يحسن بها، فإذا أخلاها عريت من محاسنه التي اكتسبتها منه. وإذا عري هو من الثياب اكتسى حسناً أكثر وأزيد من لبسه الثياب.

يضمه المسك ضم المستهام به ... حتى يصير على الأعكان أعكانا
الأعكان: جمع العكن، وهو ما يتكسر في أسفل البطن من الشحم والسمن.
يقول: إن المسك يعبق بجسمها، ويضمه كأنه عاشق له، ويلصق به. كما ينضم العاشق إلى المعشوق، حتى يصير المسك أعكاناً فوق أعكانها.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيزٍ بعدكم هانا
يقول: كنت قبل الفراق أمسك عن البكاء؛ خوفاً على بصري أن يصبه دمعي، فاليوم لما نأيتم طال بكائي وهان علي كل عزيز!
تهدي البوارق أخلاف المياه لكم ... وللمحب من التذكار نيرانا
البوارق: السحائب ذات البرق. وعنى بالمحب نفسه.
يقول: إن السحائب ذوت البروق، تهدي إليكم فروع المياه، وأهدت إلي نار الشوق، عند تذكري إياكم.
يعني: أني إذا رأيتها تذكرت عهدي معكم، فألهبت في أحشائي نار الشوق إليكم، فجعلت السحائب المطر لكم والبرق لي. والأخلاف: جمع خلف، وهو للناقة بمنزلة الثدي للمرأة.
إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلبٌ إذا شئت أن يسلاكم خانا
السلو، والسلوة، والسلوان: طيب النفس عن المفقود.
يقول: إذا أردت الإقدام على الأمور الهائلة، فإن قلبي يشيعني على كل هول، إلا الصبر عنكم، فإن قلبي لا يشيعني على ذلك، بل يخونني ويخالفني؛ لأن ذلك أعظم من كل هول.
أبدو فسيجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحاً وإهوانا
إهواناً: جاء به على الأصل في الصحيح للضرورة. والاستعمال في القياس: إهانة. ونصبه: صفحاً على المفعول له، وقيل: على المصدر، بفعل مضمر. أي: أصفح عنه صفحاً، وأهينه إهواناً، ولا أعاتبه. دليل على المحذوف.
يقول: إذا ظهرت فإن من يذكرني بسوءٍ في حال الغيبة يسجد لي هيبةً مني، ولا أعاتبه على ما يذكرني به من السوء صفحاً. وإهانة. ومثله لجميل:
إذا أبصروني طالعاً من ثنية ... يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس غريبٌ حيثما كانا
يقول: هكذا كنت بين أهلي ووطني، لم أخل من حاسد يحسدني على فضلي، ويذكرني بسوءٍ من ورائين، فإذا ما ظهرت له يسجد لي والشريف حيثما كان غريب، لا يخلو من حاسدٍ ولا عاتب، فكنت أبداً غريباً بهذا الوجه؛ لأني لم أجد من يشاكلني ويوافقني.
محسد الفضل، مكذوبٌ على أثري ... ألقى الكمي ويلقاني إذا حانا
يقول: لم أزل محسوداً ومكذوباً على أثري؛ لأنه لم يمكن لأحد أن يواجهني بالسوء، ولم أزل شجاعاً ويلقاني الشجاع، إذا دنا هلاكه.
لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعاً ... ولا أبيت على ما فات حسرانا
طمعاً: نصب على المفعول له، أو على المصدر، كما في قوله: صفحاً يقول: لا أمد عنقي فيما لا يصل إلي طمعاً فيه، وإن فاتني شيء لم أتحسر عليه، وكأنه أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " .
ولا أسر بما غيري الحميد به ... ولو حملت إلي الدهر ملآنا
أي لا أسر بما آخذه من عطاء الناس؛ لأن المعطي هو المحمود به، ولو حملت أيها الإنسان إلى الدهر ملآناً من العطاء، فإني لا أفرح به، بل إنما أسر بما أعطى غيري بما فيه من الثناء والحمد. يعني: أن رغبتي في الحمد منه في الصلة.
لا يجذبن ركابي نحوه أحدٌ ... ما دمت حياً وما قلقلن كيرانا
قلقلن: أي حركن. والكيران: الرحل. واحده كور، وهو الرحل بأداته. والهاء في نحوه لأحد. أي لا يجذبن أحد ركابي. وما في قوله: ما دمت وما قلقلن نصب على الظرف.
يقول: لا يجذب إبلي أحد من الملوك نحوه ما دمت حياً، ودامت الإبل تحرك رحالها. أي ما دامت تسير الإبل، أي لا أقصد أحداً أبداً. وروى: بعده أحد. أي لا أقصد بعد هذا الممدوح أحداً.
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
يقول: لو قدرت ركبت الناس كلهم، كما يركب البعير.
وقصدت عليهم هذا الممدوح، وأراد بذلك أكثر الناس؛ لأنه يقال: إن أمة من الناس يقتضي ركوبها، وقد بين أنه أراد البعض فيما يليه. والبعران: جمع بعير، ونصبه يجوز من أوجه: أحدها: المصدر الواقع موقع الحال، أي ركبتهم مثل البعران، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
والثاني: بإضمار فعل دل عليه ركبت، أي صيرتهم بعراناً.

والثالث: على التمييز؛ لأن قوله: ركبت الناس احتمل الركوب والاستيلاء والقهر، ففسره بالمعنى المقصود، ونصبه على التمييز كقولهم: امتلأ الإناء ماءً.
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
تقديره: فالعيس أعقل من قوم رأيتهم عمياناً، عما يراه الممدوح من الإحسان، وما يأتيه من الكرم والشرف، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: " إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً " .
ذاك الجواد وإن قل الجواد له ... ذاك الشجاع وإن لم يرض أقرانا
يقول: نحن نصفه بالجود، وذلك أقل أوصافه، ونصفه بالشجاعة، وهو لا يرضى قريناً ينازله؛ لأن الشجعان دونه ولا يستطيعونه.
ذاك المعد الذي تقنو يداه لنا ... فلو أصيب بشيءٍ منه عزانا
المعد: المدخر. أعد واستعد: بمعنى. وروى: المعد، وهو الذي أعد لريب الزمان. وقنوت الشيء أقنوه: إذا اكتسبته.
يقول: إنه يجمع الأموال ليفرقها علينا، فنحن أحق بها منه، فإذا أصيب بشيء من ماله عزانا عليه؛ لأنه لنا دونه، وإن كان في يده.
خف الزمان على أطراف أنمله ... حتى توهمن للأزمان أزمانا
يقول: هان الزمان على أنامله، فيصرفه كيف شاء، كما يصرف الزمان أهله، فكانت أنامله أزمنة للأزمنة. ومثله قول الآخر:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حالٍ إلى حال
يلقى الوغى والقنا والنازلات به ... والسيف والضيف رحب الباع جذلانا
النازلات: مصائب الدهر. ورحب الباع: واسع القلب. الجذلان: المسرور.
يعني: أنه لا يضيق صدره بحوادث الدهر النازلة.
تخاله من ذكاء القلب محتمياً ... ومن تكرمه والبشر نشوانا
قوله: محتمياً، من الاحتماء، وهو قلة الأكل ومعناه: من فرط ذكائه. كأنه محتم من الطعام؛ لأن قلة الأكل تحد الفهم، وتقوى الحواس، كما أن كثرة الأكل تعمي القلب. وقيل: ملتهباً أي من الحمى، والحرارة، ومعناه: أنه من حدة ذكائه كأنه متوقد، ومن كثرة كرمه وبشره وسهولة خلقه كأنه سكران.
وتسحب الحبر القينات رافلةً ... في جوده وتجر الخيل أرسانا
الحبر: جمع حبرة وهي ضرب من ثياب بدوية وقينات: جمع قينة وهي الجارية مقنية. ورافلة! متبخرة.
يقول: إنه يحب القينات يجليهن حللهن فهن يسحبن ذيولهن وآلاتهن والخيل يسحبن أرسانهن.
يعطي المبشر بالقصاد قبلهم ... كمن يبشره بالماء عطشانا
يقول: إنه يعطي من يبشره بالقاصدين، قبل إعطائه القاصدين، وقبل وصولهم إليه، وأنه يفرح بهذه البشارة كما يفرح العطشان إذا بشر بالماء. وتقديره: كمن يبشره المبشر بالماء وهو عطشان. وذلك حال.
جزت بني الحسن الحسنى فإنهم ... في قومهم مثلهم في العز عدنانا
فاعل جزت: الحسنى. وعدنان: في موضع جر بدل من العز. وقيل: العز صفة متقدمة بعدنان. وأراد: بني عدنان، وهو أبو العرب، من ولد إسماعيل. والضمير في إنهم لقومهم.
يقول: جزت الحسنى بني الحسن، فإنهم في قومهم في الشرف، مثل قومهم في عدنان. أي: هم أشراف قومهم، كما أن قومهم أشراف عدنان. وروى: في الغر عدنانا.
ما شيد الله من مجدٍ لسالفهم ... إلا ونحن نراه فيهم الآنا
يقول: ما رفع الله لآبائهم السابقة، من المجد والعز، إلا ونحن نرى مثله في هؤلاء الآن.
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
يقال: فلان فارس هذا الأمر. أي حاذق فيه.
يقول: إنهم متقدمون في هذه الأمور كلها، ولقوا: أي في مشهد حدثهم فرسانا.
كأنهم يردون الموت من ظمأ ... أو ينشقون من الخطى ريحانا
الخطى: الرماح المنسوبة إلى الخط، وهي قرية بساحل البحر يعمل فيها الرماح.
يقول: كأن الموت ماء وهم إليه ظماء فهم يردون الموت كما يرد الظمآن الماء، وكأن الرماح ريحانهم، فهم يتلذون بهم، كما يلتذ باستنشاق رائحة الريحان.
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
الخرصان: جمع خرص، وهو السنان. شبه مضاء أسنتهم في الطعن، بمضاء ألسنتهم في النطق. والناس يشبهون الألنة بالأسنة، وهو قد عكس ذلك وجعله مضاءً ثابتاً في اللسان، ثم شبه به السنان.
الكائنين لمن أبغي عداوته ... أعدى العدى، ولمن آخيت إخوانا

الكائنين: نصب على الصفة لبني الحسن مجاز.
يقول: إنهم أعداء أعدائي، وأولياء أوليائي.
خلائقٌ لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمى الشفاه، جعاد الشعر غرانا
الظمى: جمع أظمى وظمياء، وهو اسم الشفة. وقيل: دقيق الشفة. ويروى: لمن الشفاه والغران: جمع أغر، وهو الأبيض.
يقول: لهم خلائق حسنة، لو كانت في الزنج لتحولوا عن سوادهم وصاروا بيض الوجوه، سمر الشفاه، جعاد الشعور.
وإنما قال ذلك لأن شفاهم بيض، وشعورهم قطط.
والجعد: هو الذي دون القطط. وفوق الرجل. والرجل: فوق السبط.
وأنفسٌ يلمعياتٌ تحبهم ... لها اضطراراً ولو أقصوك شنآنا
يقال: رجل يلمعي وألمعي: إذا كان ذكياً فطناً.
يقول: أنفس كريمة فطنة، تحبهم لأجلها اضطراراً، وإن أبغضوك وأبعدوك. وشنآنا: نصب على التمييز.
الواضحين أبواتٍ وأجبنةٍ ... ووالداتٍ وألباباً وأذهانا
الواضحين: نصب على التمييز. أو هو نعت لبني الحسن. وأجبنة: جمع الجبين. وروى: أخبية: وهي جمع خباء، ووضوحه؛ لغشيان القصاد. والأبوة: مصدر الأب.
يقول: إن غرتهم واضحة، أي صريحة، وكذلك جباههم واضحة، أي حسان المنظر، وهم أشراف من قبل الأمهات، وعقولهم وخواطرهم واضحة. يعني: يعرف ذلك كل أحد.
يا صائد الجحفل المرهوب جانبه ... إن الليوث تصيد الناس أحدانا
أحدان: جمع واحد والأصل وحدان، فأبدل. والمرهوب: إن جررته فهو صفة للحجفل. والهاء في جانبه تعود إليه. وجانبه: فهو صفة للصائد والهاء عائد إليه.
يقول: لك فضلٌ على الأسد؛ لأنك تصيد الجيش كله، والأسد يصيد الناس واحداً واحداً.
وواهياً كل وقتٍ وقت نائله ... وإنما يهب الوهاب أحيانا
واهباً: نصب؛ لأنه منادى نكرة، ونكره للتعظيم. وكل وقت: مبتدأ، ووقت نائله: خبره.
يقول: أنت تهب دائماً، والأجواد يهبون في وقت دون وقت.
أنت الذي سبك الأموال مكرمةً ... ثم اتخذت لها السؤال خزانا
سبك الذهب: إذا أذابه وجعله قطعة واحدة.
يقول: فكأنك سبكتها وجعلتها مكرمة، ثم جعلت السائلين خزاناً لها. قوله: سبك الأموال مكرمة. بمعنى صاغها كما يقول سبكت الذهب خلخالاً.
عليك منك إذا أخليت مرتقبٌ ... لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
أخليت: صادفت مكاناً خالياً.
يقول: إنك إذا خلوت، كان عليك رقيب من نفسك، فأنت لا تفعل سراً ما لا تفعله جهراً.
لا أستزيدك في ما فيك من كرمٍ ... أنا الذي نام إن نبهت يقظانا
واليقظان لا ينبه.
يقول: إنك قد بلغت الغاية في الكرم، فإن أردت منك زيادة، كنت كمن يجيء إلى اليقظان فينبهه، يحسب أنه نائم وتقديره: أنا النائم إن نبهت يقظانا.
فإن مثلك باهيت الكرام به ... ورد سخطاً على الأيام رضوانا
باهيت: أي فاخرت. والهاء في به للمثل، ويجوز أن يكون للكرم.
يقول: باهيت الكرام بمكانك، وعلمت أنك قد بلغت، فلا مزيد على ما أنت عليه من الكرم، وكنت ساخطاً على الزمان؛ لفقد الكرام فيه، فجعلت سخطي عليه رضاً؛ لأن كرمك أزال عن الزمان سخطي؛ حيث إني رضيت بك عنه.
وأنت أبعدهم ذكراً، وأكبرهم ... قدراً، وأرفعهم في المجد بنيانا
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
المنصوبات في البيت الأول: على التمييز. أي أنت أكرم الكرام، فذكرك أشهر وقدرك أشرف ومجدك أعلى وأرفع، وسواك: أي خلقك على استواءٍ. وفي القرآن: " خلقك فسواك " أي: أنت شرف الأرض، وزينة الناس. ومثله:
أرضٌ لها شرفٌ سواها مثلها ... لو كان مثلك في سواها يوجد
وإنسانا: نصب؛ لأنه مفعول ثان من سواك.
وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران ويذكر مرضاً ألم بأبي أيوب:
سربٌ محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها
السرب: جماعة النساء، ورفع؛ لأنه خبر ابتداء محذوف. أي: هذا سرب، أو: مرادي سرب. ومحاسنه: مبتدأ ثان، وقوله: حرمت ذواتها خبره. وقيل سرب رفع بالابتداء، ومحاسنه مبتدأ ثان، صفة له. وداني الصفات إن شئت جعلته: بدلاً من قوله: محاسنه وإن شئت جعلته: صفة له أخرى. وإن شئت جعلته خبر السرب.

وجاز أن يكون سرب مبتدأ، وإن كان نكرة؛ لأنه لما وصفه قربه من المعرفة، والهاء في ذواتها لمحاسنه وفي محاسنه لسرب وذوات محاسن السرب هي: السرب بعينه. والهاء في موصوفاتها للصفات.
يقول: هذا سرب حرمت ذوات محاسنه. الحسان منه. وهذا السرب صفاته دانية قريبة هي مني؛ لأنها ألفاظ أنا قادر عليها، فمتى شئت وصفتها. فأما الموصوف بالحسن، فبعيد عني، وهن: النساء المعبر عنهن بالسرب.
وإضافة ذوات إلى المضمر في قوله: ذواتها غير جائزة عند البصريين. وأبو العباس المبرد: يجيز ذلك.
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشراً رأيت أرق من عبراتها
أوفى: أي أشرف، يعني السرب. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. والهاء في عبراتها للمقلة.
يقول: إن هذا السرب لما أشرف علي وهي كناية عن علوهن في هوادجهن للمسير، رميت ببصري بشرات هذا السرب، فرأيت بشراته أرق وأصفى من عبرات عيني عند الارتحال. وإنما قال ذلك، لأن الدمع يضرب به المثل في الصفاء والرقة.
يستاق عيسهم أنيني خلفها ... تتوهم الزفرات زجر حداتها
يقول: كان أنيني على إثر الإبل التي كانت عليها الهوادج سابقاً، فكانت الإبل تظن زفراتي وراءها أنها زجر حداتها، فكانت تجد في السير. وروى: تشتاق عيسهم أنيني خلفها فلشدة شوقها إذا سمعت أنيني جدت في السير لزيادة أنيني.
وكأنها شجرٌ بدت لكنها ... شجرٌ جنيت الموت من تمراتها
روى: الموت والمر.
يقول: كأن هذه العيس، وعليها الهوادج شجرٌ، لعلوها وارتفاعها. إلا أني جنيت من هذه الشجر، الثمر الذي ليس بمعتاد! وهو الموت، أو المر، من الثمر.
لا سرت من إبل لواني فوقها ... لمحت حرارة مدمعي سماتها
السمة: العلامة التي تكون على الإبل بالنار، والمدمع: مجرى الدمع، وأراد به الدمع هاهنا، ووصفه بالحرارة؛ لأن ماء العين إذا كان من الحزن يكون حاراً، وإذا كان من السرور فهو بارد.
يدعو على الإبل فيقول لها: لا سرت أبداً، ولا قدرت على السير! ولو كنت فوق هذه الإبل راكباً. كانت دموعي تسيل عليها وتمحوا بحرارتها أثر سماتها، وتذهب شعرها كما تمحوه النار.
وحملت ما حملت من هذي المها ... وحملت ما حملت من حسراتها
المها: بقر الوحش.
يقول دعاء لنفسه، وعلى الإبل: ليتني حملت ما عليك من النساء، وحملت أنت ما حملت من حسرات فراقهن.
وقيل أراد: لو كنت فوقك لحملت ما عليك من هذه النساء وحملت أنت حسراتي التي أتحملها؛ لأني إذا حملتهن فرقت بينك وبينهن حسراتي لتبعدهن عنك.
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
الشغف: شدة الحب.
يقول: إني على شدة كلفي بما في خمر هذه النساء، وهي الوجوه. أكف نفسي عن مواقعتهن. ومثله: قول العباس بن الأحنف:
عف الضمير ولكن فاسق النظر
وترى المروة والفتوة والأبو ... ة في كل مليحةٍ ضراتها
كل مليحة: فاعل ترى والمروة وما يتبعها: مفعوله. وضراتها: المفعول الثاني. والهاء: للمليحة.
يقول: ترى التقاء الملاح. مروتي وفتوتي وأبوتي. مانعة لي عنهن، فكأن هذه الثلاثة ضرات للملاح؛ لما فيهن من المنع عنها.
هن الثلاث المانعاتي لذتي ... في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
يقول: هذه الثلاثة منعتني عن لذتي بالنساء في حال الخلوة؛ لأني لا أخاف تبعات ذلك: أي الخوف من الوشاة، أو عشائرهن أو غير ذلك؛ لأني كنت لا أخاف أحداً. وقيل: أراد خوف الألم والعقاب، لكن الأول أولى.
ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها
المطالب: جمع المطلب.
يقول: كم من مطالبٍ عظيمة الخطر، فيها الهلاك إذا أتيتها، فآتيتها وأوقعت نفسي فيها وقضيت منها حاجتي، وأنا ثابت القلب حتى كنت لثبات قلبي كأنني غير ملابس لها.
ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
المقانب: جمع المقنب، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل. وكن. للوحش.
يقول: رب جيش تركته بجيش آخر أقواتاً للوحوش، أي قتلته فأكلته الوحوش، بعد ما كانت الوحوش قوتاً له. يعني: أنهم صعاليك لا قوت لهم إلا ما يصيدون من الوحوش والسباع.
أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها

أقبلتها: أي صرفت وجوه الخيل إليها. ثم شبه غرر الجياد وما في جبهاتها من البياض، ببياض أيدي بني عمران: أي نعمهم. وهذا مما جرت عادته به في تمكين التشبيه؛ لأنه جعل حقيقة البياض أولاً للنعم، ثم شبه غرر الجياد بذلك البياض. والأيدي: استعمل ها هنا بمعنى النعم.
الثابتين فروسةً كجلودها ... في ظهرها والطعن في لباتها
الثابتين: في موضع جر، صفة لبني عمران.
يقول: هم أثبت في ظهور الخيل، من جلودها على ظهورها في أصعب الحالات. وهي تواتر الطعن في صدور الخيل. والواو في قوله: والطعن واو الحال.
العارفين بها كما عرفتهم ... والراكبين جدودهم أماتها
الأمات: جمع الأم. يقال: إن الهاء في الأمهات زائدة. وقيل: أمهات في الآدميين خاصة، والأمات مشتركة.
يقول: يعرفون الخيل وهي تعرفهم؛ لأنها نتجت عندهم، وتناسلت في بيوتهم، وأجدادهم كانوا يركبون أمهات هذه الخيل.
وقيل: أراد أنهم عارفون بالخيل لكثرة فراستهم لها، وكذلك آباؤهم وأجدادهم كانوا من الفرسان العارفين بالخيل والفروسية.
فكأنها نتجت قياماً تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها
صهوة الفرس: مقعد الفارس منه.
يقول: كأن الخيل ولدت وهي تحتهم، وكأنهم ولدوا على ظهور الخيل؛ لاعتيادهم ركوب الخيل مذ كانوا أطفالاًن وكانت خيلهم مهاراً.
وقيل: أراد كأنها خلقت لهم، وكأنهم خلقوا لها. وقيل: كأنه أعضاء لهم، وكأنهم أعضاء لها. وقيل: كأنهم خلقوا معاً.
إن الكرام بلا كرامٍ منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها
سويداء القلب وسوداؤه: الدم الذي في وسطه. وقيل: هو حبة فيه، مثل العنبة السوداء.
يقول: هم في الكرام كالسويداء في القلب، التي بها قوام القلب، فمتى ذهبت، بطل القلب، فكذلك الكرام، إذا خلوا منهم، بطل كرمهم واستووا مع غيرهم.
تلك النفوس الغالبات على العلا ... فالمجد يغلبها على شهواتها
المعنى: أنهم يغلبون الناس على المعالي، فيجوزونها دونهم، والمجد يغلبهم على شهواتهم، فيحول بينهم وبينها فلا يأتون ما يلحقهم فيه عار وشين؛ ويصرفون شهواتهم إلى اكتساب المجد والرفعة والعلا
سقيت منابتها التي سقت الورى ... بيدي أبى أيوب خير نباتها
يدعو لأبي الممدوح وأجداده بالسقيا. والياء في قوله: بيدي أبي أيوب، متعلقة بقوله: سقت.
فيقول: سقى الله منابت هذه النفوس. وهي آباؤها، بيد أبي أيوب: الذي هو الممدوح، وهو خير نبات تلك المنابت؛ لأن جوده أكثر من وبل السحاب. وخير نباتها: صفة لأبي أيوب. وجعله خير ما نبت على تلك الأصول. يعني: أنه خير قومه. قيل: الباء متعلقة بقوله: سقت الورى، وهو غير داخل في الدعاء، فكأنه يقول: إن منابتها سقت الورى بيديه.
ليس التعجب من مواهب ماله ... بل من سلامتها إلى أوقاتها
الهاء في سلامتها وأوقاتها: للمواهب.
المعنى: ليس التعجب من كثرة هباته، وإنما العجب من سلامة ماله إلى وقت الهبة؛ إذ ليس من عادته حبس المال.
عجباً له حفظ العنان بأنملٍ ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
عجباً: نصب على المصدر. وما حفظها الأشياء: في موضع الجر، لأنه صفة لأنمل. والأشياء: نصب بحفظها.
يقول: عجبت من كيفية حفظه للعنان! إذ ليس من عادته أن يحفظ شيئاً ويمسكه. ومثله لأبي تمام:
تعود بسط الكف حتى لوانه ... دعاها لقبضٍ لم تجبه أنامله
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
روى: كتابه وكتابةٍ على الاسم، والمصدر.
يقول: لو ركض مهره في سطور كتاب له، لأمكنه أن يضع حافره على كل ميم في سطوره، ويعدها به، لفروسيته وحذقه. وخص الميمات؛ لأنها مدورة تشبه الحافر. وقيل: لأنها أصغر أشكال المعجم. وخص المهر؛ لأنه إذا قدر على أن يحصي ذلك بحافر المهر مع صعوبتها كان ذلك أمكن، وقد بالغ في قوله: لو مر يركض؛ لأنه إذا فعل ذلك وهو يركض كان في حال الترفق وعدم الركض أمكن عليه.
يضع السنان بحيث شاء مجاولاً ... حتى من الآذان في أخراتها
مجاولاً: أي في حال الجولان مع الأقران. والأخرات: جمع الخرت، وأراد هاهنا ثقب الأذن.

يقول: وضع السنان في حال مجاولته الأقران حيث أراد، حتى لو أراد أن يضعه في خرت الأذن لأمكنه! وبالغ في وصفه بقوله: مجاولاً؛ لأنه إذا فعل ذلك بالفرسان في حال المجاولة في الحرب، ففي غير ذلك الحال أقدر، لأن الرجل قد يكون حاذقاً بالطعن في أوقات اللعب، فإذا حضر في الحرب تحير، ولهذا قال: في موضع الطعن في الهيجاء، لا الطعن في الميدان.
تكبو وراءك يا بن أحمد قرحٌ ... ليست قوائمهن من آلاتها
كبا الفرس يكبوا: إذا عثر، وفي المثل: لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة، ولكل عالم هفوة والقرح: جمع قارح، وهو الفرس إذا دخل في السادسة، وطلعت قوارحه، وهي أنيابه.
وقال ابن جنى: الهاء في آلاتها تعود إلى وراءك؛ لأنها مؤنثة. أي ليست قوائم تجاريك. من آلات جرى خلفك شبه الممدوح بفرس سابق، وجعل من يباريه في المجد خيلاً قرحاً تجري وراءه.
يقول: من جاراك كبا خلفك، وخانته قوائمه؛ لأنها ليست من آلات الجري خلفك. أي من باراك في مجدك عجز عن سعيك؛ لأنه ليس له آلة كآلتك.
وقيل: إن الهاء في آلاتها ترجع إلى القرح. يعني: أن القرح إذا اتبعتك وطلبت لحاقك كبت، فكأن قوائمها ليست من آلاتها؛ لأنها تنصرف عن إرادتها، ولكنها آلة لتلك، من حيث دلت على سبقك، وأظهرت قصورها عن لحاقك، فكأنك استعنت بها على إظهار عجز من يسابقك.
رعد الفوارس منك في أبدانها ... أجرى من العسلان في قنواتها
الرعد: جمع رعدة. والعسلان: الاضطراب. والقنوات: جمع قناة.
يقول: إن الفرسان إذا رأوك أو سمعوا بذكرك اضطربوا وارتعدوا؛ خوفاً منك. فكأن ذلك أجرى في بدنهم من اضطراب رماحهم واهتزازها، ومعنى اللفظ: أجرى من التحرك في قنواتها.
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
راء: مقلوب رأى.
يقول: ليس أحد أسمح منك إلا رجل يعلم حال جودك. فرأى نفسك ولم يستوهبها منك، فجوده في ترك ذلك يزيد على جودك.
غلت الذي حسب العشور بآيةٍ ... ترتيلك السورات من آياتها
غلت: في الحساب. وغلط: في الكلام. والعشور: جمع عشر وهي عشور القرآن. وحسن ترتيلك: آية من آيات القرآن. فمن عد العشور في القرآن آيات السور، ولم يعد تلاوتك منها فقد غلط.
يعني: أن تلاوتك معجزة لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها! كما لا يقدر أن يأتي بمثل آية من القرآن. والهاء في آياتها للسور أو للعشور.
كرمٌ تبين في كلامك ماثلاً ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
ماثلاً: أي قائماً ظاهراً. والعتق: الكرم.
يقول: إن حسن صوتك وكلامك يدل على كرمك، كما أن صهيل الفرس يدل على كرمه.
أعيا زوالك عن محلٍّ نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها
الهالة: الدائرة التي حول القمر.
يقول: لا يقدر أحد أن يزيلك عن محلك وشرفك، كما لا يخرج القمر عن هالته.
لا تعذل المرض الذي بك، شائقٌ ... أنت الرجال وشائقٌ علاتها
وروى: لاتعذل. وشائق: اسم الفاعل، من شقته أشوقه شوقاً. إذا حملته على الاشتياق. وشائق: خبر مبتدأ. وأنت: مبتدأ. والرجال: نصب بشائق الأول. وعلاتها: بالتاء والهاء: للرجال.
يقول: لا تعذل المرض الذي بك، أو لا تلوم المرض الذي بك؛ لأنه قصدك زائراً، كما تزورك القصاد، وأنت تشوق الأمراض إلى زيارتك، كما تشوق الرجال.
فإذا نوت سفراً إليك سبقنها ... فأضفت قبل مضافها حالاتها
ومن روى: بالتاء، أي سبقتها قد صحف. ونوت: فعل الرجال. وسبقن: للعلات. والهاء: للرجال، وكذلك في مضافها وحالاتها والمضاف: مصدر، من قولك أضفت الرجل إضافةً ومضافاً: إذا قمت بضيافته.
يقول: إن الرجال إذا نوت سفراً إلى لقائك، سبقتها العلات إليك، فأنزلتها في جسمك وأضفتها قبل أن تضيف الرجال. وتقديره: فأضفت حالاتها. أي علات الرجال.
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها؟
الهاء في عذرها للحمى وفي خيراتها للجسوم.
يقول: إن منازل الحمى الجسوم، فإذا وجدت خير الجسوم فما عذرها في تركها لها، وعدولها إلى ما هو دونها؟! فأنت لما كان جسمك خير الجسوم قصدته رغبة فيه من غيره، كما أن من له منازل كثيرة فإنه ينزل فيما كان منها خير وأحسن.
أعجبتها شرفاً فطال وقوفها ... لتأمل الأعضاء لا لأذاتها

الأذاة، والأذى: بمعنىً. والهاء فيها: للأعضاء.
يقول: إنك أعجبتها لشرفك وفضلك؛ فطال وقوفها؛ لتأمل الأعضاء لا لتؤذيها.
وبذلت ما عشقته نفسك كله ... حتى بذلت لهذه صحاتها
الهاء في عشقته وكله: لما. والهاء في صحاتها: للنفس.
يقول: قد بذلت كل ما عشقته نفسك، حتى بذلك لحماك صحة نفسك!!
حق الكواكب أن تعودك من علو ... وتعودك الآساد من غاباتها
علو: لغة في علا وروى: تعودك وتزورك.
يقول: على الكواكب أن تعودك من السماء، ويجب على الأسود أن تعودك من أماكنها؛ لأنك تشبه الكواكب بضيائها. والأسود بشجاعتها. والجنس يميل إلى الجنس.
والجن من ستراتها، والوحش من ... فلواتها والطير من وكناتها
الوكنات: جمع وكنة، وهي مواقع الطير، حيثما وقعت. وروى: وكراتها.
المعنى: أنه يجب على كل ما في العالم أن يعودك.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدةً ... كنت البديع الفرد من أبياتها
يقول: الناس بمنزلة القصيدة. والممدوح بمنزلة البيت البديع الفرد من أبيات تلك القصيدة.
قال أبو الفتح بن جنى: هذا البيت هو البديع الفرد من هذه القصيدة.
في الناس أمثلةٌ تكون حياتها ... كمماتها ومماتها كحياتها
روى: تدور حياتها. وأمثلة: أي أشباه.
يعني: أن أشباه الناس. وقيل: أراد أن الناس أمور لا خير عندها ولا شر، فموتها وحياتها سواء.
هبت النكاح حذار نسلٍ مثلها ... حتى وفرت على النساء بناتها
يقول: إن التزوج ربما ينتج ولداً لا خير فيه! مثل هذه الأمثلة، فتركت بنات النساء عليهن، لم أتزوج منهن واحدة.
فاليوم صرت إلى الذي لو أنه ... ملك البرية لاستقل هباتها
يقول: فاليوم رأيت أفضل الناس وأكرمهم، فلو ملك الخلق كلهم ثم وهبهم لسائل لاستقلهم.
مسترخصٌ نظرٌ إليه بما به ... نظرت وعثرة رجله بدياتها
نظرت: فعل البرية.
يقول: لو اشترت البرية نظرةً إليه، بعيونها التي تنظر بها، لكانت رخيصة! ولوفدت البرية عثرة رجله بداياتها: أي ديات البرية، لكانت رخيصة.
ونظرٌ وعثرةٌ مرفوعان بمسترخص والهاء في دياتها قيل: للبرية. وقيل: للرجل. والأول أولى.
وقال يمدح علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي وفيها يفتخر ويصف ما لاقاه في طريقه:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر ... وحيداً، وما قولي كذا ومعي الصبر!
يقول: أطاعن خيلاً، والدهر واحداً من فرسانها! وأنا وحيد ليس لي من يعينني، ثم رجع وقال: ليس قولي كذلك، بل معي صبري يعاونني على دفع هذه الخيل، التي هي الدهر، وحوادثه منها، وأراد أني أقاسي خطوب الدهر.
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
يقول: إن سلامتي أشجع مني؛ لأنها ثبتت على حالها في كل أمرٍ عظيم وهولٍ جسيم، وما ثبتت سلامتي في هذه الأخطار العظيمة، إلا وفي نفس السلامة أمر. يعني: أن بقاء سلامتي يدل على أمر عظيم يظهر مني.
تمرست بالآفات حتى تركتها ... تقول: أمات الموت أم ذعر الذعر؟!
تمرست: أي تعودت إلقاء نفسي في الآفات والشدائد، حتى تركت الآفاق متعجبة مني ومن سلامتي! يقول: لعل الموت قد مات، والخوف خاف أن يخالط قلبي!
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي ... سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
الأتي: السيل الذي يأتي من بلد إلى بلد فلم يصبك مطره.
يقول: إن إقدامي على الشدائد كإقدام السيل الذي لا يرد في شيء، فكأن لي نفساً غير نفسي هذه، حيث لا أبالي بهلاكها، وكأن لي عند نفسي ذخلاً، أريد أن أتلف نفسي لأجلها!.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترقٌ جاران دارهما العمر
أراد بالنفس: الروح.
يقول: دع نفسك تأخذ من الدنيا ما قدرت عليه من العلو والشرف، قبل أن تفارق الجسد، فإنهما جاران فلابد من افتراقهما، والعمر دارهما، ولابد من نفاذ العمر فإذا نفذ افترقا.
ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
يقول: لا تشغل نفسك باللهو والشراب، فإنه ليس بمجدٍ، وإنما المجد يحصل بالسيف والإقدام على الحرب.
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
الهبوة: الغبار الكثير.

يقول: ليس المجد إلا السيف، وليس البكر إلا الفتك بالأعداء، وقتل الملوك، وزعامة الجيش، فيرى لك الغبار: السواد. والهبوة: غبار العسكر العظيم، فتكون زعيماً لهم تقودهم حيث شئت. وفسر بهذين البيتين ما أراد بقوله: تأخذ وسعها.
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
أنمله العشر: فاعل تداول. والهاء: للمرء. وتداولها للسمع: أنها تذهب عليه وتجيء.
شبه الصوت الذي يكون في الحرب بصوت البحار الذي يسمعه الإنسان، إذا سد بأنامله أذنيه أراد أن المجد ما تقدم ذكره، وأن تترك في الدنيا أصوات العساكر على هذا الوصف.
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... على هبةٍ فالفضل فيمن له الشكر
يقول: إذا كان فضلك لا يرفعك عن قبول صلة ناقصٍ، حتى تحتاج إلى أن تشكره على هبته! فالفضل له لا لك؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى.
قال أبو الفتح: أراد بذلك أنه إذا اضطرتك شدة الزمان إلى شكر الناقص من الناس لأجل ما تتبلغ به إلى مكان الفرصة، فالفضل فيك ولك لا للممدوح المشكور.
وأراد الأول وهو الظاهر.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقر
يقول: من يفن عمره في جمع المال؛ خوفاً من الفقر، فما يفعله هو الفقر!! لأنه أبداً في غم الفقر، ويشقى بما يجمع ولا ينتفع به.
علي لأهل الجور كل طمرةٍ ... عليها غلامٌ ملء حيزومه غمر
الطمرة: قيل إنها الفرس العالية المشرفة. والحيزوم: الصدر. والغمر: الحقد.
يقول: واجب علي أن أقصد كل ملك جائر بكل فرس طمرة، عليها كل غلام قد امتلأ صدره بالحقد ومحبة الحرب.
يدير بأطراف الرماح عليهم ... كئوس المنايا حيث لا يشتهى الخمر
يقول: كل غلام يدير على أهل الجور، بأطراف الرماح كئوس المنايا في مضايق الحرب، التي لا يشتهى فيها شرب الخمر.
وكم من جبالٍ جبت تشهد أنني ال ... جبال وبحرٍ شاهدٍ أنني البحر
يقول: كم من جبال قطعتها، فلو نطقت لشهدت أنني مثلها؛ لثباتي على الحالات، ولوقاري، وكم من بحر قطعته، لو نطق لشهد أنني بحر مثله؛ لسخائي وبعد غوري.
وقيل: أراد أن الجبال تشهد أني مثلها؛ من حيث أنها تندق تحت حوافر خيلي، فتصير أرضاً لها! والبحر يصير مغموراً بخيلي، فتكون به الخيل بحراً، والبحر قطراً.
وخرقٍ مكان العيس منه مكاننا ... من العيس فيه: واسط الكور والظهر
وخرق: عطف على جبال ومكان: ابتداء. ومكاننا: خبره. أي: مثل مكاننا، ثم حذف المضاف. وفيه: مع ما يتعلق به حال من العيس. أي من العيس الكائنة فيه. والضمير: لخرق. وواسط: بدل من مكاننا. ويجوز أن يكون تفسيراً له. والظهر: معطوف على واسط.
يقول: كم من أرض واسعة جئتها، وكانت الإبل تسير فيها أبداً، فكأنها واقفة في وسطها لا تبرح عن ظهورها.
والكور: الرحل. وواسط: وسط، الذي يركب فيه الراكب.
يخدن بنا في جوزه وكأننا ... على كرةٍ أو أرضه معنا سفر
الوخد: السير السريع. وجوزه: وسطه. والهاء في جوزه: للخرق. والسفر: المسافرون. وهذا البيت يتعلق بما قبله.
ومعناه: أن الإبل تسير بنا وسط هذا الخرق، ولا تبرح منه، حتى كأننا على كرةٍ؛ لأن من شأن الكرة أن تقطع الأرض سيراً، وليس لها حالة الاستقرار، حتى كأن الأرض مسافرة معنا. هذا بيان لقوله: كأننا على كرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد كأننا على الفلك الذي يدوم سيره ولا ينقطع، وكأن الأرض مسافرة معنا، ولقد أخذ هذا المعنى السري الكندي فقال:
وخرقٍ طال فيه السير حتى ... حسبناه يسير مع الركاب
ويومٍ وصلناه بليلٍ كأنما ... على أفقه من برقه حللٌ حمر
الهاء في أفقه وبرقه: لليوم.
يقول: وكم من يوم وصلنا سيره بسير الليل، فكأن برق ذلك اليوم المطير، على أفق هذا اليوم حلل حمر.
وليلٍ وصلناه بيومٍ كأنما ... على متنه من دجنه حللٌ خضر
الدجن: السحاب الدائم المنن، وأراد بالخضر: السود.
يقول: رب ليل وصلنا سراه بسير النهار، فكأنما على متن هذا الليل من العتمة، حلل خضر: أي سود. وروى: من صحوه، فيكون أراد بالخضرة: لون السماء.
وغيثٍ ظننا تحته أن عامراً ... علا لم يمت، أو في السحاب له قبر
عامر: جد الممدوح.

يصف في هذه الأبيات أنه كان يواصل سيره بسراه، في المطر والغيم والبرق، حتى وصل إلى الممدوح، ثم شبه كثرة الغيث، بجود عامر.
فيقول: من كثرة الغيث ظننت أنه رفع إلى السماء، أو قبره في السحاب، فهو يجود به فينهمل هذا المطر من جوده. وهو من قول أبي تمام:
كأن السحاب الغر غيبن تحته ... حبيباً فلا يرقا لهن مدامع
أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمدٍ ... يجود به لو لم أجز ويدي صفر
الأولى في ابن ابنه: النصب؛ عطفاً على عامر. ويجوز رفعه على الابتداء.
يقول: لولا أني مررت بهذا الغيث، ويدي خالية منه، لظننت أنه من جهة الممدوح.
وإن سحاباً جوده مثل جوده ... سحابٌ على كل السحاب له فخر
يقول: كل سحابٍ يكون مطره في الغزارة مثل جود الممدوح، فله على كل السحائب فخر. كما للممدوح على جميع الأسخياء من الناس، الفخر التام.
فتىً لا يضم القلب همات قلبه ... ولو ضمها قلبٌ لما ضمها صدر
الهاء في قلبه: للممدوح. وفي ضمها: للقلب. وفي ضمها الثانية: للهمات.
يقول: إن همته عظيمة لا يسعها قلب أحد، ولو ضمه همة قلب أحد، لكان شيء من الصدور لا يضم ذلك القلب؛ لأن ذلك القلب لعظمه لا يسعه صدر، بل ينشق.
وقيل: أراد أن همته لا يسعها قلبه؛ للطافته. وإن كان منه منشؤها.
ولا ينفع الإمكان لولا سخاؤه ... وهل نافعٌ لولا الأكف القنا السمر
الإمكان: الغنى.
يقول: لا ينفعك ماله، الذي يمكنه أن يصلك به، لولا سماحته التي توصله إليك.
وقيل: أراد لولا سخاء نفسه وجوده، لكان لا ينفعك كثرة ماله، كما أن القناة لا تنفع للطعن، لولا الأكف.
قرانٌ تلاقي الصلت فيه وعامرٌ ... كما يتلاقى الهندواني والنصر
الصلت: جد الممدوح لأمه وعامر: جده لأبيه. وفيه حذف: أي أتى به قران.
يقول: لما اقترن في نسبه هذا، الشريفان. اللذان كل منهما سيداً شريفاً. فكان في ذلك كالمشتري وزحل. إذا اقترنا؛ فإنه يدل على ملكٍ عظيم. ثم شبه اقترانهما باجتماع السيف والنصر.
فجاءا به صلت الجبين معظماً ... ترى الناس قلاً حوله وهم كثر
صلت الجبين: أي واضحة.
يقول: إن جديه أتيا به وولداه، وهو صلت الجبين، شريف كبير، ويرى الناس حوله قليلين في المعنى، وإن كانوا كثيرين في العدد.
مفدى بآباء الرجال سميدعاً ... هو الكرم المد الذي ماله جزر
السميدع: السيد. والمد: الزيادة. والجزر: النقصان.
يقول: إن الناس يفدونه بآبائهم؛ لجلالته وكثرة نفعه لهم، وهذا هو الكرم الذي يزيد ولا ينقص، فهو مدٌّ بلا جز. بخلاف الأنهار، فإنه لا مد لها ولا جزر، وأما كرمه فمد بلا جزر.
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركبٍ له ذكر
يقول: ما زلت يسايرني ذكره، حتى قادني الشوق نحوه. أي ما زلت أسمع بخبره وكرمه، حتى اشتقت إلى لقائه فقصدته.
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
الخبر: الإخبار بالشيء. والخبر: الاختبار.
يقول: كنت أستعظم ما أسمعه من ذكره، فلما رأيته، زاد الاختبار على الخبر.
إليك طعناً في مدى كل صفصفٍ ... بكل وآةٍ كل ما لقيت نحر
المدى: الغاية في البعد. والصفصف: الأرض الملساء الواسعة. والوآة: الناقة الصلبة. وأراد بقوله: طعنا: أي قطعنا. وكل ما لقيت: مبتدأ، وأراد: كل ما لقيته. ونحر: خبره.
يقول: قطعنا إليك بعد كل أرض ملساء، بكل ناقة صلبة، فكل موضع لقيته هذه الناقة، هو نحرٌ يلاقيه الطعن، وقيل: أراد به مصدر نحرت: أي الناقة لمشقة السير، كأنها لقيت نحرها.
إذا ورمت من لسعةٍ مرحت لها ... كأن نوالاً صر في جلدها النبر
النبر: دويبة تلسع الإبل فيرم موضع لسعته.
يقول: إذا لسعها النبر ورم جلدها، فرقصت واضطربت لشدة لسعته، فكأن النبر صر في جلدها نوالا: أي عطية، فهي ترقص فرحاً؛ لأجله. فشبه ورم اللسعة بصرة.
فجئناك دون الشمس والبدر في النوى ... ودونك في أحوالك الشمس والبدر
يقول: أنت دون الشم والبدر في البعد، وهما دونك في أفعالك؛ لشرفك وعلوك، وأنت أنفع في المخاوف منهما.
كأنك برد الماء لا عيش دونه ... ولو كنت برد الماء لم يكن العشر
العشر: أبعد أظماء الإبل.

يقول: إن كل أحد يحتاج إليك، ولا عيش له مع فقدك، كما لا عيش له مع فقد الماء، بل الحاجة إليك أشد؛ لأن الماء قد يصبر عنه عشرة أيام، إلا أنت فلا يمكن الصبر عنك ساعة.
وقيل: أراد لو كان برد الماء مثلك، لكانت الإبل تتجاوز العشر؛ لاستقائها بعذوبتك وبرد قطرك.
وقيل: أراد أن جودك كثير، فلو كنت برد الماء لكنت موجوداً في كل موضع. فكان لا يحتاج الإبل إلى طول الظمأ وإلى الصبر على العطش عشرة أيام.
دعاني إليك العلم والحلم والحجا ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر
يقول: دعاني إليك ما فيك من العلم والحلم والعقل. وقد روى: والنهى والمعنى واحد. ونائلك الذي نثره بين يدي سؤالك، وتفرقه على الناس. وهذا الكلام، والنظم للشعر الذي تقوله. لأنه روى: أن الممدوح كان شاعراً حسن الشعر. وقيل: أراد به كلامه الذي نظمه في مدحه، وذكر أوصافه.
وما قلت من شعرٍ تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
روى: قلت على الخطاب. وقلت على الإخبار عن النفس. وهو أولى.
يقول: دعاني إليك شعري الذي يكاد نوره يبيض الحبر المكتوب به.
كأن المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الزهر
وروى: خلائفك يقول: كأن معاني هذا الشعر، في فصاحة لفظها وجودة نظمها، نجوم الثريا، وكأنها في حسنها، أخلاقك الحسنة الطاهرة.
وخص الثريا؛ لأنها ظاهرة يعرفها كل أحد، ولأنها منظومة مجتمعة، والشعر كذلك.
وجنبني قرب السلاطين مقتها ... وما يقتضي من جماجمها النسر
يقول: أبعدني من قرب السلاطين، بغضي لهم وحقدي عليهم، وكذلك أبعدني عنهم مقاضاة النسر بجماجمهم.
وإني رأيت الضر أحسن منظراً ... وأهون من مرأى صغيرٍ به كبر
يقول: إنما باعدتهم؛ لأني رأيت احتمال الضر أحسن وأسهل من رؤية رجل صغير الهمة متكبر، وروى: من مرءٍ صغيرٍ على أن يكون صغير صفة للمرء. وروى: من مرأى صغير على الإضافة. وهو مصدر رأيت. وروى: من لقيا صغير.
لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي ذا اسمها منك والشطر
أود: جمع ود. ويقال: رجل ود، وودود، ووديد. وأراد بالفؤاد: فؤادي.
يقول: هذه الأعضاء التي سميتها مني تود الأعضاء منك مثلها، فلساني: وديد لسانك، وعيني: تود عينك، وفؤادي: وديد فؤادك، وهمتي: تود همتك، والشطر: عطف على هذه الأعضاء. أي وهي الشطر منك.
يعني: أن الجسم جسمٌ واحد، فنصفه أنت ونصفه أنا. وغرضه بذلك شدة محبته له.
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
يقول: ما تفردت أنا بقول الشعر، ولكنه شعري أعانني على قوله.
يعني: لما أردت نظمه فيك كان يعين على مدحك فينظم نفسه افتخاراً بك، وقيل: أراد أن حسن شعري يقوم مقام شعرٍ آخر، فكأن ذلك الحسن شعرٌ في شعري فيك.
وماذا الذي فيه من الحسن رونقاً ... ولكن بدا في وجهه نحوك البشر
يقول: الذي فيه من الحسن، ليس برونق له، ولكنه لما رآك وصار منتظماً فيك، ظهر له سرور وبشر في وجهه.
وإني ولو نلت السماء لعالمٌ ... بأنك ما نلت الذي يوجب القدر
يقول: إني أعلم أنك وإن نلت السماء، فذلك دون ما يوجبه قدرك؛ لأن قدرك أعلى محلاً، أجل من السماء!
أزالت بك الأيام عتبي كأنما ... بنوها لها ذنبٌ، وأنت لها عذر
يقول: كنت أعاتب الأيام، فلما جئت رضيت عنها، فكأنها أذنبت بلوم أبنائها، فاعتذرت أنت إلي بكرمك، فكنت عذراً لذنبها، وأبناؤها ذنبٌ لها.
وقال يمدح علي بن محمدٍ بن سيار بن مكرم التميمي وكان يحب الرمي ويتعاطاه، وله وكيلٌ يتعرض للشعر، فمدح أبا الطيب فأنفذه إليه فصار إليه أبو الطيب فتلقاه وأجلسه في مرتبته وجلس بين يديه، فأنشده أبو الطيب:
ضروب الناس عشاقٌ ضروبا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا
الضروب: هي الأنواع. وأشفهم: أي أفضلهم. وضروبا: نصب بعشاق. وحبيباً نصب: على التمييز.
يقول: أنواع الناس على اختلافهم يعشقون أنواعاً من المعشوقات، ولكن أحقهم بالعذر من بينهم، من يكون حبيبه أفضل وأعدل وأنبل.
وما سكنى سوى قتل الأعادي ... فهل من زورةٍ تشفي القلوبا
السكن: من تسكن إليه، من أهل أو حبيب.

يقول: إن الذي أعشقه ويسكن قلبي إليه. قتل الأعادي، فهل لي سبيل إلى يارة حبيبي: الذي هو قتلهم؟ لأنه يشفي قلبي وقلب أحبائي.
وأراد به: هل أمكن من قتل الأعادي فأشفى به؟
تظل الطير منها في حديثٍ ... ترد به الصراصر والنعيبا
الصرصرة: صوت النسر والبازي. والنعيب: صوت الغراب. وتظل: في موضع الجر، صفة لترد.
يقول: هل من سبيل إلى وقعة بأعدائي يكثر فيها القتلى؛ فيجتمع عليها الطير، فينعب الغراب وتصرصر النسور والبازي، كأنهما في حديث.
وإنما ذكر البازي بصرصرة؛ لأنه لا يأكل الجيف.
لأنه لم يقل: إن هذه الطيور تأكل الجيف.
فكأنه قال: تجتمع على هذه القتلى ما تأكل الجيف. فمنها ما تأكل ومنها ما لا تأكل، فتساعد أكالة الجيف بالأصوات فتنشط بنشاطها، وإن كانت لا تأكل؛ لأن الطير جنس واحد، والجنس يفرح بفرح الجنس ويغم بغمه.
وقد لبست دماؤهم عليهم ... حداداً لم تشق لها جيوبا
يروى: دماؤهم بالرفع؛ فتكون لبست فعلها. ومعناه: أن دماءهم لما يبست اسودت، فكأنها لبست الحداد؛ حزناً على القتلى، ولكنها لم تشق جيوبها، كما يفعله المصاب. وروى: دماءهم فلبست على هذا. فعل الطير. أي قد لبست الطيور دماء هؤلاء القتلى حداداً؛ لأنها اختصت بها، فجفت عليها واسودت، غير أنها لم تشق بها جيوباً، أي للقتلى، وقيل للحداد.
أدمنا طعنهم والقتل حتى ... خلطنا في عظامهم الكعوبا
أدمنا: من الإدامة. وقيل: من الجمع والخلط من قولهم للمتزوجين في الدعاء: أدام الله بينهما. والكعوب: جمع كعب، وهو عقب الرمح.
يقول: ما زلنا نطعنهم حتى كسرنا الرماح فيهم، وخلطنا كعوبها في عظامهم؛ لكثرة طعنهم بها. وخص الكعوب؛ لأنها إذا انكسرت أشبهت العظام المتكسرة.
وقيل: أراد بالكعوب: كعب الإنسان. أي قطعنا الأرجل والأذرع والأسوق حتى صارت الكعوب مختلطة بكسير العظام المكسرة.
كأن خيولنا كانت قديماً ... تسقى في قحوفهم الحليبا
القحوف: جمع قحف، وهو عظم الرأس الذي على الدماغ. والحليب: اللبن المحلوب من ساعته. وقديماً: نصب على الظرف.
يقول: إن خيلنا تمر بنا على القتلى فتطأ رءوسهم وصدورهم، غير نافرة منهم، حتى كأنها كانت قد شربت اللبن فيما مضى من الأيام في عظام رءوسهم.
فمرت غير نافرةٍ، عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا
الجماجم: العظم الذي فيها الدماغ. والتريب: جمع التريبة وهي مجال القلادة.
يقول: هذه الخيل مرت بنا على جماجم الأعداء وترائبهم، ولم تكن نافرة عنهم؛ وذلك لإلفها هذه الأشياء وأمثالها.
يقدمها وقد خضبت شواها ... فتىً ترمي الحروب به الحروبا
يقدمها: أي يتقدم عليها، وهو في موضع النصب على الحال من قوله: فمرت والشوى: الأطراف والقوائم يقول: مرت الخيل بنا وقد خضبت قوائمها بالدم، يتقدمها فتىً متعود الحرب متى يخرج من الحرب يدخل في حرب أخرى. وهو المراد بقوله: فتى ترمي الحروب به الحروبا. وأراد بالفتى نفسه.
شديد الخنزوانة لا يبالي ... أصاب إذا تنمر أم أصيبا
وروى: إذا تيمم أي قصد الحرب. والخنزوانة: الكبرياء وأصاب: يجوز أن يكون الألف للاستفهام؛ لأن أم يدل على الاستفهام فتكون أصاب: بمعنى صاب. ويجوز أن يكون ألف الاستفهام محذوفاً لدلالة أم عليها؛ لأن صاب وأصاب بمعنىً. وتنمر: أي غضب. وشديد الخنزاونة: صفة للفتى.
يقول: هو شديد الكبرياء؛ لفضله وشجاعته، فإذا غضب في الحرب لا يبالي أيقتل أعداءه أم يقتلونه.
أعزمي، طال هذا الليل فانظر ... أمنك الصبح يفرق أن يئوبا؟
الهمزة في أعزمي للنداء.
يقول: يا عزمي، طال هذا الليل حتى كأن الصبح قد علم ما عزمت عليه من القتل والحرب، فهو يخاف منك يا عزمي أن يعود.
كأن الفجر حبٌّ مستزارٌ ... يراعى في دجنته رقيبا
الحب: الحبيب. والدجنة: الظلمة.
يقول: كأن الفجر طلب أن يزوره فجاءه لزيارته، ولكنه يراعي الرقيب حتى يغفل عنه، ويزوره حينئذ. فشبه الفجر بالحبيب. والظلام بالرقيب. حتى إذا زال الظلام، طلع الفجر، وإذا غاب الرقيب، وصل الحبيب.
كأن نجومه حليٌ عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا

الجبوب. وجه الأرض. وحذيت: أي جعلت له حذاء، وهو النعل. والكناية في نجومه وقوائمه وعليه لليل فكأنه أراد أن يشبه الليل بفرس أدهم مثل ما بين السماء والأرض، فجعل النجوم عليه مركبة، والأرض نعلاً لرجله.
فيقول: كأن نجوم هذا الليل حلى عليه، وكأن الليل قد جعل أنعال قوائمه الأرض؛ لطول امتلائه بين السماء والأرض. وقد سرق قوله: كأن نجومه حلىٌ عليه من قوله تعالى: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " والبيت من قول امرىء القيس حيث يقول:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتانٍ إلى صم جندل
كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا
الهاء في سواده لليل. وفي فيه للجو.
يقول: كأن الهوى لقي من العناء ما لقيته أنا في الحرب والأسفار، فتغير لونه كما تغير لوني، فهذا السواد تغيرٌ في لونه.
كأن دجاه يجذبها سهادي ... فليس تغيب إلا أن يغيبا
الهاء في دجاه لليل، أو للجو، وفي يجذبها: للدجى، وهي الظلم.
يقول: كأن ظلم هذا الليل يجذبها سهري، فهي متعلقة بسهري، فليست تغيب هذه الظلمة إلا إذا غاب السهر، وكما أن سهادي لا يغيب، كذلك دجى الليل، لا يزول ولا يغيب.
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا
الهاء في فيه: للجو، أو لليل. وفي بها: للأجفان.
يقول: إني أقلب أجفاني في هذا الليل والجو، يميناً وشمالاً، وأكثر من تقليبها، فكأني أعد بأجفاني عيوب الدهر، يعني: كما أن ذنوب الدهر كثيرة، لا تعداد لها، كذلك أجفاني لا انقطاع لتقليبها، ولا نوم لي هناك.
وما ليلٌ بأطول من نهارٍ ... يظل بلحظ حسادي مشوبا
أراد: بلحظي حسادي. فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول.
يقول: هذا الليل مع تناهيه في الطول، وسهري فيه، ليس بأطول من نهارٍ ألاحظ فيه أعدائي، فيكون النهار مشوباً برؤيتي حسادي. فيشكو الليل والنهار جميعاً.
وما موتٌ بأبغض من حياةٍ ... أرى لهم معي فيها نصيبا
أبغض: الوجه فيه أن يقول: اشد إبغاضاً، لكنه جاء به على حذف الزوائد.
يقول: كما أكره الموت أكره الحياة التي شاركني فيها الحساد، فليست الحياة أحب من الموت، ولا الموت أكره من الحياة، إذا كان لحسادي نصيب في تلك الحياة.
يعني: أني أحب الحياة إذا أفنيت حسادي.
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
النوائب: حوادث الدهر. والنقيب: العارف بالأشياء.
يقول: إني عرفت حوادث الدهر، حتى لو كانت الحوادث من الأحياء المنتسبين إلى الآباء لكنت العارف بها وبأنسابها، ومن أين تولد، وإلى من تنسب، كما يعرف النقيب الأنساب.
ولماقلت الإبل امتطينا ... إلى ابن أبي سليمان الخطوبا
امتطينا: ركبنا مطاها وظهورها. والخطوب: شدائد الأمور.
يقول: لما لم نجد الإبل وقل ما نركبه، ركبنا إليه ما أصابنا من الشدائد، فجعلناها مطايانا، لا سبب قصدنا إياه وهو الشدائد.
وقيل: لما حقرت الإبل في جنب قدره مشينا إليه بأقدامنا إعظاماً له وإجلالا.
مطايا لا تذل لمن عليها ... ولا يبغي لها أحدٌ ركوبا
يقول: إن الخطوب مطايا لا تطاوع راكبها؛ لشدتها وصعوبتها، ولا تنقاد لأحد، ولا يطلب أحد ركوبها؛ لصعوبتها لأنها غير ذلول.
وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلا جديبا
الجديب: المجدب. لما جعل الخطوب مطايا، جعلها ترعى في نفسه، فيقول: إنها تأكل من أبدانا، بدلاً من رعي الأرض، فما فارقت هذه المطايا جديباً، من السقم والهزال كالأرض الجدبة.
إلى ذي شيمةٍ شغفت فؤادي ... فلولاه لقلت بها النسيبا
الشيمة: الخلق. وشغفت: أي ملأت فؤادي حباً. والنسيب ذكر محاسن المرأة في الشعر.
يقول: امتطيت الخطوب، حتى وصلت إلى ذي شيمة كريمة، فلولا مراقبته وجلالة قدره، لنسبت بهذه الشيمة، كما ينسب الشاعر بالمرأة المحاسن.
تنازعني هواها كل نفسٍ ... وإن لم تشبه الرشأ الربيبا
الرشأ: الذكر من أولاد الظباء. والربيب: المربى في البيوت. والهاء في هواها: للشيمة.
يقول: ليس أحد يعشق هذه الشيمة كعشقي لها، وإن لم تشبه هذه الشيمة الغزال المربى في البيوت. أي الجواري الحسان، وإنما هي خلق وطبع، لا شخص وجسم.

عجيبٌ في الزمان وما عجيبٌ ... أتى من آل سيارٍ عجيبا
عجيباً: نصيب، لأنه خبر ما.
يقول: هو عجيب في زمانه، لعدم نظيره، ولكن كونه عجيباً ليس بعجب إذا كان من آل سيار؛ لأنهم معادن المجد والكرم.
وشيخٌ في الشباب وليس شيخاً ... يسمى كل من بلغ المشيبا
شيخاً: نصب؛ لأنه خبر. مفعول يسمى، وكل اسمه.
يقول: هو شيخ في شبابه؛ لحلمه وحكمته، وليس يسمى الشيخ كل من شاب، إذ من الشيب من لا يستحق اسم الشيخ.
قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا
رق: أي لان. وقد روى: ولان.
يقول: إنه قاسي القلب في الحروب على أعدائه، بحيث تخشى الأسود منه ومن صولته، ورق طبعه لأوليائه، بحيث نخاف نحن لرقته ولطافته أن يذوب، وروى: فالأسد تفزع من قواه وهي جمع القوة.
أشد من الرياح الهوج بطشاً ... وأسرع في الندى منها هبوبا
الهوج: أي الشديدة، التي لا تستقيم على سنن واحد. والبطش: الأخذ بالقوة.
يقول: هو أشد من الرياح الهوج بطشاً، فكل من يبطش به أهلكه وهو أسرع من هذه الرياح في العطاء: أي لا يرد سائلاً. وبطشاً وهبوباً: نصبا على التمييز.
وقالو: ذاك أرمى من رأينا ... فقلت: رأيتم الغرض القريبا
يقول: عجب الناس من إصابة رميه، قلت: إنما رأيتموه يرمي الهدف القريب ولم تروه يرمي الهدف البعيد، فأخفى عليكم من رميه أكثر.
وقيل معناه: أنكم رأيتم منه الغرض القريب، وأنا رأيت منه الغرض البعيد، فإنه يظن الظنون ويرى الآراء، فيكون كما رآه وظنه.
وهل يخطي بأسهمه الرمايا ... وما يخطي بما ظن الغيوبا
الأصل: يخطىء، بالهمزة فأبدلها ياء.
يقول: كيف تعجبون من إصابته الغرض يرميه؟! وهو يرمي الغيب بظنه فيصيبه! فإذا كان يصيب بظنه الغيب الذي لا يصيبه أحد، فكيف لا يصيب المرمى المشاهد!
إذا نكبت كنانته استبنا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا
نكبت: أي قلبت على رءوسها. ويروى نكتت بالتاءين. وهو في معنى الأول. والكنانة: الجعبة. واستبنا: أي تبينا وعلمنا. والندوب: جمع ندب، وهو أثر الجرح والهاء في بأنصلها: للأسهم.
يقول: إذا قلبت كنانته يوم الرمي رأينا في أنصلها الآثار الحاصلة من أنصلها؛ لأن أنصلها تقاتلت في الكنانة، لما أبطأت الرمي إلى الأعداء، لتعودها القتال والرمي، فجرح بعضها بعضا.
وقيل: معناه أن سهامه تنفذ في سمة واحدة فيصيب النصل النصل ويؤثر فيه.
يصيب ببعضها أفواق بعضٍ ... فلولا الكسر لاتصلت قضيبا
الأفواق: جمع فوق، وهو الحز الذي يجرى في وتر القوس.
يقول: إذا رمى سهماً، ثم رمى سهماً آخر، أصاب به فوق الأول، فلولا انكسار الأول لاتصل الأول بالثاني، وبالثاني الثالث فصار من ذلك قضيباً.
بكل مقومٍ لم يعص أمراً ... له حتى ظنناه لبيباً
يقول: يصيب بكل سهم مقوم حتى استقام له، فلا يعصي له أمراً، حتى كأنه عاقل يمتثل أمره.
يريك النزع بين القوس منه ... وبين رميه الهدف اللهيبا
روى: رمية الهدف على الإضافة. وروى رمية الهدف فيكون الهدف بدلاً من رميه.
يقول: يريك جذبه السهم بين القوس وبين المرمى، وهو الهدف اللهيب. وقيل: أراد وصفه بالسرعة، فشبهه بلهيب النار.
وقيل: أراد به حقيقة اللهيب للنار ويكون المراد به النار التي تتولد منه عند القدح.
ألست ابن الألى سعدوا وسادوا ... ولم يلدوا امرأً إلا نجيبا!
ألست: تقديره ليس للنفي. والألى: بمعنى الذين. فكأنه قال: أنت ابن الآباء الكرام، ذوي السعادة والمجد والسيادة، وهم لا يلدون إلا من هو نجيب مثلك
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هوناً ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
هونا: في موضع الحال. ودبيبا: حال من نملهم.
يقول: إن آباءك نالوا ما تمنوا من المجد والعلا بأهون سعي؛ بفرط حزمهم ونملهم يصيد الوحش.
ومعناه: أنهم ينالون الأمور الصعبة بأهون سعي منهم.
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الترب طيبا
الريح: الرائحة. والهاء في لها وكساها: عبث؟ يقول: إن الرائحة التي تشم من الرياض ليست للرياض! ولكن كسا هذه الرياض دفن آبائه في التراب طيباً وعطراً، فما يفوح إنما هو ريحهم وأراد به الثناء وحسن الذكر الجميل.

أيا من عاد روح المجد فيه ... وعاد زمانه البالي قشيبا
القشيب: الجديد والهاء في فيه تعود إلى من وفي زمانه إلى المجد وقيل: إلى من.
يعني: أن المجد مات منذ قديم وذهب زمانه، ثم انتقلت رفعته فيك، فعاد حياً وصار زمانه جديداً بعد البلى.
وقيل: أراد أن روح المجد بعد آبائه وأجداده انتقلت أيضاً إليه فصار هو المجد. على طريقة المبالغة، وعاد زمانه الذي هو فيه كثير الخير والخصب بعد ما كان قد بلي وأجدب بموته آبائه.
تيممني وكيلك مادحاً لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا
فآجرك الإله على عليلٍ ... بعثت إلى المسيح به طبيبا
تيممني: يعني قصدني. والباقي ظاهر. وطبيباً: حال من ضمير عليل، أو من المسيح. ومثله:
فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضعٍ تمراً إلى أهل خيبرا
يعني أن مثلك في إرساله إلي بمدحي؛ مثل من أرسل عليلاً ليداوي السيد المسيح. الذي كان يحيي الموتى ويصنع المعجزات
ولست بمنكرٍ منك الهدايا ... ولكن زدتني فيها أديبا
يقول: لا أنكر منك الهدايا، ولكنك زدتني في جملتها أديباً يمدحني وحكى أن الوكيل افتخر بذلك وقال: قد شهد لي بالأدب.
فلا زالت ديارك مشرقاتٍ ... ولا دانيت يا شمس الغروبا
يقول: لا زالت ديارك تشبه الشمس، وجعله شمساً لعلو محله وشهرة ذكره، وكنى بالغروب عن الموت، وذلك دعاء له بالبقاء.
لأصبح آمناً فيك الرزايا ... كما أنا آمنٌ فيك العيوبا
اللام في لأصبح متعلق بقوله: ولا دانيت أي إنما دعوت لك بالسلامة والبقاء لتأمن نفسي أن تنالك مصيبة كما آمنت أن يلحقك عيب.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر مهارته في الرماية وفيها يفتخر ويذم الزمان:
أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد
بله: أي دع، وقيل: كف، هو وضع لذلك. مثل: صه اسم فعل كقولك اسكت. وصهٍ: بمعنى كف. وفي أكثره: يجوز النصب، والجر، والرفع، أما النصب: فلأن بله اسم للفعل فينصب به كما ينصب بالفعل: ومعناه: دع أكثره.
والجر: فلأنه مصدر أضيف إلى مابعده.
وأما الرفع: فإن قطرباً أجازه على معنى: كيف أكثره؟ أو على معنى: بل أكثره. والجد: الاجتهاد والجد: الحظ. وأقل فعالي: مبتدأ. ومجد: خبره.
وتقدير البيت: أقل فعالي مجد وذا الجد فيه جد. أم لم أنل، والهاء في فيه: للمجد.
يقول: إن قليل فعالي مجد. أي لكنني مجداً وشرفاً حتى أكلي وشربي واضطجاعي وجلوسي، كل ذلك منسوب إلى المجد، لأن غرضي في جميع أفعالي اكتساب المجد.
فدع عنك أكثر أفعالي من المساعي الجسام، والأخطار بالنفس والمال. وقوله: ذا الجد أي هذا جدي في الأمور، واجتهادي فيها حظ وبخت سواء نلت أو لم أنل لأن الجد معدود في السعادة، كما أن التواني معدود في الشقاء؛ لأنه إذا ينل حظه كان قد أبلى عذره.
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
يقول: سأطلب ملكي الذي هو حقي برماح وبمشايخ كأنهم مرد لكثرة التثامهم.
يعني: أنهم عرب معودون التلثم حتى سقطت شعور عوارضهم فصاروا كالمرد.
وخص المشايخ لتجربتهم وثبات بصائرهم كما قيل في المثل: زاحم بعودٍ أو دع. العود: الجمل المسن. وهذا من قول البحتري:
حص التريك رءوسهم فأصابها ... في مثل لألاء التريك المذهب
والأصل فيه قول ابن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي ... فما أطعم يوماً غير هجاع
ومعناه: أنها من طول ما استعملت تساقط ريشه الذي به قوة التهام. والأول أولى.
ثقالٍ إذا لاقوا خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا قليلٍ إذا عدوا
يقول: هؤلاء المشايخ إذا لقوا أعداءهم ثبتوا ولم يتزعزعوا، وإذا دعاهم صارخ أسرعوا إليه، ولم يتباطئوا، وإذا حملوا في الحرب قاموا مقام الجيش الكثير وإذا عدوا كانوا قليل العدد. يعني فيهم قلة من العدد وكثرة من حيث الجلد.
وطعنٍ كأن الطعن لا طعن عنده ... وضربٍ كأن النار من حره برد
هذا عطف على ما تقدم. أي سأطلب حقي بالقنا وبمشايخ صفتهم ما تقدم.
يقول: وطعن كأن طعن الناس إذا قيس إليه ليس بطعن، أو بضرب بالسيف، كأن النار إذا قيست إليه فحرها برد، والهاء في عنده للطعن الأول والطعن: اسم كأن، والجملة بعده خبر، والعائد عليه محذوف.

إذا شئت حفت بي على كل سابحٍ ... رجالٌ كأن الموت في فمها شهد
حفت: أي أحدقت بي، وفاعله: رجال. والهاء في فمها للرجال والشهد: العسل مع ما فيه من الشمع.
يقول: متى شئت أحدقت بي رجال راكبون على فرس سابحٍ، وكانوا أبطالاً يجدون الموت في الحرب حلواً كالعسل. وروى حفت بي أي: أسرعت.
أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغد
صغر أهل الزمان على جهة التحقير. والفدم: هو الغبي. والوغد: العبد، وقيل من لا خير عنده.
يقول: أذم إلى أهل الزمان أهله؛ فأعلم هذا الزمان جاهل غبي، وأكثرهم حزماً ضعيف وحقير، لا خير عنده ولا غناء له.
وأكرمهم كلبٌ وأبصرهم عمٍ ... وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قرد
العمى: الذي عمي قلبه. ويضرب المثل في الكلب بالخسة، وفي كثرة النوم بالفهد وفي الجبن بالقرد لأنه لا ينام بالليل خوفاً على نفسه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
يقول: من محن الدنيا على الحر، أن يرى عدواً له، ويظهر من صداقته، بحيث لا يكون من إظهارها بد.
والأصل ما من إظهار صداقته بد، غير أنه حذف المضاف؛ لأن العدو لا يكون صديقاً.
وروى أن يرى بضم الياء، على ما لم يسم فاعله. أي يرى الدنيا. ومعناه: من لوم الدنيا أن الحر مجبول على حبها، وهي عدوٌ ولا يقدر أن يعرض عنها. وهذا من قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت ... له عن عدوٍّ في ثياب صديق
بقلبي وإن لم أرو منها ملالةٌ ... وبي عن غوانيها، وإن وصلت صد
الهاء في منها وغوانيها: للدنيا.
يقول: إني وإن لم أرو من الدنيا، ولم أقض منها وطري، فإني قد مللت منها، لما عرفت من تقلب أحوالها، ولذلك أعرضت عن غواني هذه الدنيا؛ لما عرفت من غدرهن وقلة وفائهن، وإن واصلتني فلا أبالي لوصالي.
خليلاي دون الناس: حزنٌ وعبرةٌ ... على فقد من أحببت ما لهما فقد
ما لهما: أي للحزن، والعبرة.
يقول: لما فقدت حبيبي أعرضت عن الناس وانفردت بالبكاء والحزن، فهما خليلاي، وليس لهما فقد.
تلج دموعي بالجفون كأنما ... جفوني لعيني كل باكيةٍ خد
يقول: لا تخلو جفوني من الدموع، فكأن جفوني خد لعيني كل باكية في الدنيا، وكأن كل دمع يجري من كل عين يجري على جفوني.
وإني لتغنيني من الماء نغبةٌ ... وأصبر عنه مثل ما يصبر الربد
النغبة: الجرعة، الربد: النعام، وهو جمع أربد، ورابد. والأربد: الذي يعلو سواده غبرة.
يقول: يكفيني من الماء جرعة، فإذا نلتها أصبر عن الماء، كما صبر النعام. والنعامة لا ترد الماء وتكتفي بالهواء، وكذلك الضب والحية.
وروى: وإني لتغنيني عن الماء نعته: أي وصفه، وهو أبلغ: يعني إذا وصف الماء أو نعت ارتويت بوصفه.
وأمضي كما يمضي السنان لطيتي ... وأطوي كما تطوي المجلحة العقد
الطية: النية. وروى: أطوي. أي أجوع. والمجلحة: الحادة في طلبها، المصممة على أطوادها. وأراد بها الذئاب، وهي أدوم السباع كلها، وأحرصها على الصيد. والعقد: جمع أعقد، وهو الذي في ذنبه عقد، وهي أخبث الذئاب.
يقول: إذا عزمت على شيء مضيت فيه مضاء السنان، وإذا عدمت الزاد صبرت عنه، كما تصبر الذئاب. وهي توصف بالطوى، ويقال: أجوع من ذئب.
وأكبر نفسي عن جزاءٍ بغيبةٍ ... وكل اغتيابٍ جهد من ماله جهد
الجهد والجهد: الطاقة.
يقول: أجهد نفسي ألا أجازي أحداً بغيبة إذا اغتابني؛ وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على المكافأة بالفعل.
وأرحم أقواماً من العي والغبا ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد
العي: العجز عن الكلام. والغباء: الجهل.
يقول: أرحم من فيه الجهل والعي، وأعذرهم إذا بغضوني؛ لأنهم ضدي؛ إذ ليس في مثل ما فيهم من العي والجهل.
ويمنعني ممن سوى ابن محمدٍ ... أيادٍ له عندي يضيق بها عند
جعل عند اسماً، وإن كان لا يستعمل إلا ظرفا؛ لأنه حمله على المعنى. كأنه قال: يضيق بها المكان، ولأن أصل الأسماء يجريها بوجوده الإعراب، فإذا اضطر الشاعر ردها إلى الأصل.
يقول: إن نعم ابن محمد كثيرة عندي، بحيث يضيق بها المكان من كثرتها، فلما أردت أن أمدح غيره منعتني تلك النعم أن أمدح أحداً سواه؛ حياءً منه.

توالى بلا وعدٍ ولكن قبلها ... شمائله، من غير وعدٍ بها وعد
أصله: تتوالى، فحذف إحدى التاءين. والشمائل: الأخلاق.
يقول: أياديه تتابعث علي من غير وعد تقدمها، غير أن شمائله الكريمة وطلاقة وجهه تقوم مقام الوعد، وإن لم يكن هناك وعد على الحقيقة.
سرى السيف مما تطبع الهند صاحبي! ... إلى السيف مما يطبع الله لا الهند
صاحبي: بدل من السيف.
يقول: سريت بسيفي الذي طبعته الهند إلى السيف الذي طبعه الله تعالى. وهو الممدوح، شبهه بالسيف لمضائه.
فلما رآني مقبلاً هز نفسه ... إلي حسامٌ كل صفحٍ له حد
حسام: رفع؛ لأنه فاعل رأى. ويجوز أن يكون مرفوعاً بهز.
يقول: إنه لما رآني مقبلاً نحوه اهتز إلي وقام إلي، واستعمل فيه هز لأنه جعله سيفاً، ثم قال: كل صفح له حد أي كل جانب له، وكل جزء منه حد، بخلاف السيف فإنه كله صفحة، وهو وجهه. لا يكون له غيره.
فلم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلاً قامت تعانقه الأسد
يقول: لم أر رجلاً قبلي مشى إليه البحر، وعانقته الأسد، شبهه بالبحر، لسخائه، وبالأسد؛ لشجاعته. وأراد بالرجل: نفسه.
كأن القسي العاصيات تطيعه ... هوىً أو بها في غير أنمله زهد
أراد بالعاصيات: الصعبة الشديدة.
يقول: إن القسي الصعبة تطيعه عند توتيرها ونزعها. إما حباً له أو قلة رغبة في غير أصابعه، فلا تجذب لأحد دونه.
يكاد يصيب الشيء من قبل رميه ... وتمكنه في سهمه المرسل الرد
يقول: إذا رمى شيئاً أصابه قبل أن يرميه، وإذا أرسل سهماً أمكنه رده قبل وصوله إلى الغرض، وقصد المبالغة.
وينفذه في العقد وهو مضيقٌ ... من الشعرة السوداء والليل مسود
يقول: لو عقد عاقدٌ عقداً ضيقاً، على شعرة سوداء، وتركه في ليلة مظلمة، لأمكنه أن ينفذ سهمه فيه، في ظلمة الليل.
بنفسي الذي لا يزدهي بخديعةٍ ... وإن كثرت فيها الذرائع والقصد
لا يزدهي: أي لا يستخف به مخادعة، والهاء في فيها للخديعة.
يقول: أفدي بنفسي الفصيح الفطن، الذي لا يستخفه أحد بالخديعة والمكر، وإن كثرت الوسائل في الخديعة، والقصد إليها، لأنه يقف عليها ويفطن لها سريعاً، فلا يمكن أحد خديعته.
ومن بعده فقرٌ، ومن قربه غنىً ... ومن عرضه حرٌّ، ومن ماله عبد
يقول: إن الغنى في يديه فمن بعد عنه حرمه، ومن قرب منه أغناه، وإن عرضه: أي نفسه وحسبه، حرٌّ: أي مصون صيانة الحر، وماله: مهان إهانة العبد. وطابق في هذا البيت. البعد: بالقرب. والفقر: بالغنى. والحر: بالعبد. والعرض: بالمال.
ويصطنع المعروف مبتدئاً به ... ويمنعه من كل من ذمه حمد
يقول: إنه يصطنع معروفه في مستحقه، فإذا رأى دنيا كفوراً للنعمة حرمه؛ لأن ذمه حمد، فلا يبالي بذمه، من حيث إنه يتضمن حمده؛ لأن الجاهل إذا ذم العالم، واللئيم إذا ذم الكريم فقد مدحه، ودل بذمه على أنه ضد له، فصار ذمه حمداً له من هذه الجملة.
وقيل: أراد أن حمده مثل ذمه، لأنه لخسته لا يكون لحمده أثر، فلا يبالي بحمده وذمه.
ويحتقر الحساد عن ذكره لهم ... كأنهم في الخلق ما خلقوا بعد
يقول: إنه يحتقر حساده، فلا يذكرهم حتى لا يشتهروا بذكره إياهم، فكأنهم لعدم ذكره لهم واحتقارهم. في العدم، ولم يخلقوا بعد، وليس لهم وجود.
ويأمنه الأعداء من غير ذلةٍ ... ولكن على قدر الذي يذنب الحقد
يقول: إن أعداءه آمنوا بالله تعالى من غير ذلة له. ولكن الحقد يكون على قدر المذنب. وأعداؤه صغار القدر، فهو لا يبالي بهم؛ لأنهم أقل من أن يحقد عليهم، فأمنوا لذلك.
وقيل: أراد أنه لا يجازي أحداً إلا بما يستحقه؛ لاتصافه بذلك، فلا يخافه أحد إلا على قدر ذنبه.
فإن يك سيار بن مكرمٍ انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
يقول: إن كان جدك قد انقضى ومات، فإنك تنوب عنه، كما أن ماء الورد ينوب عن الورد ويقوم مقامه إذا فقد الورد.
وفيه إشارة إلى تفضيله على جده، لأن ماء الورد أطيب من الورد وألطف وأكثر بقاء ونفعاً.
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألفٌ إذا ما جمعت واحدٌ فرد
ذكر بنوه في مضى من غير توكيده بالمنفصل، وكان الوجه أن يقول: مضى هو وبنوه وذلك أيضاً جائز.

يقول: مضى سيار بن مكرم ومضى بنوه، وهم أبوه وأعمامه، وانفردت أنت بفضلهم، أي جمعت فضائلهم، فكأنك جميعهم، كما أن الألف واحد؛ من حيث اللفظ وإن كان ألفاً في المعنى، وأعداد كثيرة ومنتهى الأعداد، فهي تجمع الأعداد مع أنه واحد.
لهم أوجهٌ غرٌّ، وأيدٍ كريمةٍ ... ومعرفةٌ عدٌّ، وألسنةٌ لد
لهم: أي لأجداده، أوجه بيض وأيد كريمة: أي سخية. وقيل: نعم خالصة من المن، ومعرفة عد: كثيرة، وألسنة لد: فصيحة شديدة الخصومة ماهرة بالجدال.
وأرديةٌ خضرٌ، وملكٌ مطاعةٌ ... ومركوزةٌ سمرٌ، ومقربةٌ جرد
وأردية خضر قيل: أراد نعمٌ سابغة وعطاي هنيةٌ. كما قال:
غمز الرداء إذا تبسم ضاحكاً... البيت.
وقيل: أراد به الرداء، وخص الخضر؛ لأنها من ثياب الملوك في ديار العرب. وقيل: أراد بالخضر السود، أي اسودت موضع حمائلهم لكثرة تقلدهم بالسيوف. قوله: وملك مطاعة أنث الملك على معنى السلطان، وهو مؤنث ذهاباً بها إلى القدرة. وقيل: أراد بالتأنيث المملكة ومركوزة سمر: أي الرماح ركزت. أي غرزت في بيوتهم. وذلك عادة. ومقربة جرد: أراد به الخيل المقربة من البيوت، فهي لا ترسل لكرمها وخوفهم عليها وحبهم لها فتربط قريباً من البيوت. والجرد: جمع أجرد، وهي القصار الشعور.
وما عشت ما ماتوا ولا أبواهم ... تميم بن مرٍّ وابن طابخةٍ أد
ما الأولى للوقت، والثانية للنفي.
يقول: ما دمت تعيش، فما مات أحد من آبائك، ولا مات تميم بن مر، وابن طابخة، الذين أنت وآباؤك من نسلها؛ لأن فضائلهم موجودة فيك. وأد: اسم ابن طابخة.
وقوله: تميم بن مر. بدل من قوله: ولا أبواهم. وابن طابخة معطوف عليه، وإن شئت جعلته عطف على سيار، وأبدل من ابن طابخة، أو عطف بيان، ويجوز أن يكون تميم بن مر: خبر ابتداء محذوف أي هما تميم بن مر وابن طابخةٍ أد، كأن قائلاً قال: من هما؟ قال: تميم بن مرو وابن طابخة، فيكون تفسيراً لقوله: ولا أبواهم.
فبعض الذي يبدو الذي أنا ذاكرٌ ... وبعض الذي يخفى علي الذي يبدو
يقول: ما أذكر من أوصافك ومناقبك، بعض ما يظهر لي منها، والذي ظهر لي منها بعض ما خفي علي، فالذي خفي أكثر مما ظهر، وما ظهر لي أكثر مما ذكرت، لأن لفظي يقصر عنها.
وتقديره: وبعض الذي يبدو، مثل بعض الذي يخفى. فحذف المضاف.
ألوم به من لامني في وداده ... وحق لخير الخلق من خيره الود
الهاء في به للذكر، أو الوصف لفضله.
يقول من لامني في حبي إياه، ألومه بما وصفته من مفاخره، وأرد عليه بذكر محاسنه؛ لأن الممدوح خير الخلق، وأنا أيضاً كذلك، فحق لي أن أوده لأن الجنس يصبو إلى جنسه.
كذا فتنحوا عن عليٍِّ وطرقه ... بني اللوم حتى يعبر الملك الجعد
الجعد: السخي. وقيل: معناه أنه أبى الظلم منقبض عن الضيم، هذا إذا أطلق، فإذا قرن باليدين كان ما يعنون أنه بخيل وبني اللؤم نداء مضاف، وقيل نصب على الذم.
يقول: تنحوا أيها اللائمون طرق المكارم، حتى يعبرها الملك السخي الأبي الضيم من غير مشقة. ومثله لبشار:
سمعت بمكرمه ابن العلا ... ء فأنشأت تطلبها لست تم
فما في سجاياكم منازعة العلا ... ولا في طباع التربة المسك والند
يقول: ليس في طباعكم منافسة الكرام على المكارم، كما أن التراب ليس في طبعه أن يولد المسك والد وأراد أن يسافر فودعه صديقٌ له فارتجل وقال:
أما الفراق فإنه ما أعهد ... هو توأمي لو أن بيناً يولد
التوأم: الذي ولد معه آخر. وما بمعنى: الذي. أي الذي أعهد.
يقول: إني تعاهدت الفراق، وهو الذي أعهده منذ ولدت، ولو كان البين يولد لكنت أنا وهو توأمين. ومثله قول الآخر:
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
ولقد علمنا أننا سنطيعه ... لما علمنا أننا لا ينلخد
يقول: لما علمنا أن الموت كتب علينا، وأننا لابد لنا من الفراق! علمنا أننا في طاعته والانقياد له.
وإذا الجياد أبا البهي نقلننا ... عنكم فأردأ ما يكون الأجود
وروى: فأردأ ما ركبت الأجود.
يقول: يا أبا البهي، إذا كانت الخيل سبباً لفراقنا، فأجودها وأسبقها أردؤها؛ لأن أجودها أسرع في إبعادنا، فلذكل صار ذماً لها.

من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد
يقول: إن كان الناس يذمون الفراق خاصة، فأنا أذم جميع الدهر، ولا أرى في الدهر شيئاً يستحق الحمد والمدح.
وقال يمدح أبا بكر علي بن صالحٍ الروذباري الكاتب بدمشق:
كفرندي فرند سيفي الجراز ... لذة العين عدةٌ للبراز
الفرند، والإفرند: جوهر السيف، وهو خضرته التي تردد فيه والجراز: القاطع. والبراز: المبازة.
يقول: إن جوهر سيفي مثل مضاء حده، ومثل مضاء عزمي، وهو لذة العين حين تنظر إليه، وعدتي ليوم القتال، والحرب.
تحسب الماء خط في لهب النا ... ر أدق الخطوط في الأحراز
أدق: نصب على المصدر. وأراد: تحسب الماء في سيفي، فحذف للعلم به. والأحراز: جمع حرز، وهو التعويذة. شبه السيف بالنار، وفرنده بالماء.
يقول: إذا نظرت إليه حسبت أن الماء خط في لهيب النار! فهذا عجيب لأنهما لا يجتمعان، وإن ذلك الخط في الدقة أدق من خطوط الأحراز.
كلما رمت لونه منع النا ... ظر موجٌ كأنه منك هازي
أصله هازىء بالهمزة فقلبها ياء فصار مثل هازي.
يقول: إن ما يموج في صفحته، مرة تراه أصفر، وأخرى أخضر، وأخرى أزرق، ويجيء مرة ويذهب أخرى، فإذا نظرته لا يعطيك حقيقة لونه، فكأنه يهزأ منك.
ودقيقٌ قدى الهباء أنيقٌ ... متوالٍ في مستوٍ هزهاز
قوله: ودقيق أراد به: الغبرة التي تعلو متن السيف. وقيل أراد: جوهره الدقيق. والهباء: ما تراه في الشمس إذا دخلت البيت، من كوة. وقدى الهباء: بالفتاح والكسر أي مقداره. والأنيق: المعجب. والهزهاز: كثير الاهتزاز. وقيل هو الذي يجيء ماؤه ويذهب. قوله: في مستوٍ: أي متن مستوٍ. ومتوالٍ: أي غبار متوال.
يقول. عطفاً على ما تقدم: إن الناظر يمنعه غبار دقيق، أو جوهر دقيق كأنه الهباء وهو أنيق متتابع غير منقطع، في متنٍ مستوٍ يجيء ماؤه ويذهب لكثرة اهتزازه وجود صقاله.
ورد الماء فالجوانب قدراً ... شربت والتي تليها جوازي
جوازي: أصله بالهمزة.
يقول: ورد الجوازىء، أي الإبل التي تجتزىء بالرطب عن ماء هذا السيف، فشربت شفرتاه منه قدر الحاجة، واجترىء متنه وصفحته بما فيها من الرونق والصفاء، ولم يشرب الماء كله؛ ليكون أثبت له فلا ينكسر.
حملته حمائل الدهر حتى ... هي محتاجةٌ إلى خراز
حمائل السيف، وحمالته، ونجاده، ومحله: بمعنى.
يقول: كانت حمائله الدهور، فأخلقها وأبلاها فهي محتاجة إلى خراز: يرمم مارث. يعني: أنه قديم عتيق قد أبلى الأعوام، ومرت عليه الدهور؛ والسيف إذا كان أعتق، كان أجود وأقطع.
وهو لا تلحق الدماء غراري ... ه ولا عرض منتضيه المخازي
غراري السيف: حداه. والمخازي: جمع مخزاة، وهي المذلة. والمنتضى: المخرج له من الغمد.
يقول: لا تلحق الدماء غراريه؛ لسرعة مضائه، فيسبق الدم ويخرج الدم بعده! وقيل: أراد أنه جيد الصقل، ولا يقبل الدم لصقالته، وكما لا يلحق غراريه الدم، كذلك لا يلحق حامله الذي ينتضيه في الحرب؛ لفضله وشجاعته.
يا مزيل الظلام عني، وروضي ... يوم شربي ومعقلي في البراز
المعقل: الحصن. والبراز: الصحراء.
يقول مخاطباً لسيفه: أنت تزيل عني ظلم الخطوب والشدائد، وأنت روضي يوم أشرب: أي نظري إليك، وإلى جوهرك، يقوم لي مقام الروض. وأنت معقلي: ألجأ إليك إذا التجأ غيري إلى الحصون.
وقيل: أراد به أن رونقه وصقاله يضيء له الظلام. وكذلك أراد أنه في خضرته يشبه الروض.
واليماني الذي لو اسطعت كانت ... مقلتي غمده م الإعزاز
اليماني: صفة للسيف، أي أنه منسوب إلى اليمن.
يقول: لو استطعت أن أجعل مقلتي غمدك لفعلت؛ صيانة لك وإعزازاً.
إن برقي إذا برقت فعالي ... وصليلي إذا صللت ارتجازي
الصليل: صوت وقع الحديد بعضه على بعض. والارتجاز: من الرجز.
يقول: إذا لمعت في الحرب بروقك برقت أنا بفعلي وظهرت به كما ظهرت بلمعك، وإذا صللت عند الضراب ارتجزت أنا بشعري، فرجزي يقوم مقام صليك.
ولم أحملك معلماً هكذا إلا ... لضرب الرقاب والأجواز
المعلم: الذي يجعل من نفسه إشارة إلى الحال، وهو نصب على الحال.
يقول: لم أحملك يا سيف في حال ما أنا معلم، وهي حال الحروب، إلا لضرب رقاب الناس، وأوساطهم.

ولقطعي بك الحديد عليها ... فكلانا لجنسه اليو غاز
الهاء في عليها للرقاب والأجواز. الذي على الرقاب والأجواز، فتقطع أنت الحديد، وأقطع أنا الأبدان، فكل واحد منا يغزو جنسه. وموضع عليها نصب على الحال: أي لقطعي بك الحديد كائناً عليها، والهاء في جنسه عائد إلى الضمير في كلانا.
سله الركض بعد وهنٍ بنجدٍ ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
الركض: ضرب الراكب الدابة حثاً لها على السير. قيل: أراد به أهل الركض. وقيل: بل الركض نفسه. والوهن: قطعة من الليل.
يقول: سل هذا السيف أهل الركض بعد مضي صدرٍ من الليل.
وعلى الثاني: إن شدة الركض سلة: أي اندلق من الغمد لشدة الركض، فظهر عند السل لمعانه، فرآه أهل الحجاز فظنوا أنه برق، وتوقعوا الغيث. والتصدي: التطاول إليه عند لقائه.
حكى المتنبي قال: إنما خصصتهم؛ لأن فيهم طمعاً ليس لغيرهم! قال أبو الفتح: ولم أسمع هذا منه فإن لم يكن الأمر كذلك، فالذي أداه إلى ذلك هو القافية.
وقيل: إنما خصصهم لأن الغيث يقل فيهم، والقحط يكثر في أرضهم، فتصديهم له أكثر.
وتمنيت مثله فكأني ... طالبٌ لابن صالحٍ من يوازي
يقول: لا مثل لهذا السيف في السيوف، كما أن ابن صالح لا مثل له في الأنام!
ليس كل السراة بالروذبا ... ري ولا كل ما يطير بباز
السراة: جمع سرى أي شريف.
يقول: ليس كل رئيس له سؤدد، كما أن ليس كل طائر بازٍ، وإن شاركه في الطيران.
فارسيٌّ له من المجد تاجٌ ... كان من جوهرٍ على أبرواز
يقول: إنه من أهل بيت ملك قديم وشرف عظيم في الفرس.
وقيل: معناه إن التاج لأبرواز كان من جوهر، وتاجه من المجد والسؤدد، فهو أفضل منه.
نفسه فوق كل أصل شريفٍ ... ولواني له إلى الشمس عاز
يقول: هو أفضل من أصله الذي انتسب إليه، وإن كان ذلك الأصل شريفاً، ولو نسبته إلى الشمس لكان أعلا محلاً منها.
شغلت قلبه حسان المعالي ... عن حسان الوجوه والأعجاز
يقول: إن المعالي الحسان شغلت قلبه باكتسابها عن طلب النساء الحسان الوجوه والأعجاز.
وكأن الفريد والدر واليا ... قوت من لفظه، وسام الركاز
نصب سام لأنه معطوف على ما تقدم. والسام: عروق الذهب. والركاز: معادن سائر الكنوز. والفريد: الدر الكبير الذي لا يكون معه في الصدفة غيره.
يقول: كأن هذه الأشياء حصلت من لفظ الممدوح؛ لحسنه ورونقه وعذوبته.
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
يقول: إن أعداءه يقضمون على الجمر والحديد حنقاً وغيظاً دون بلوغ مرتبته! فكأنهم يقضمون سكر الأهواز؛ لأن الإنسان يحب الإكثار من ذلك.
بلغته البلاغة الجهد بالعف ... و ونال الإسهاب بالإيجاز
يقول: إن البلاغة قد بلغته بالسهولة اجتهاد غيره، أي أن عفوه يزيد على اجتهاد غيره، وأدرك بالإيجاز إسهاب غيره: وهو الإطالة.
حامل الحرب والديات عن القو ... م وثقل الديون والأعواز
أي: وثقل الأعواز. وروى الإعواز، وهو المصدر، من أعوزني الشيء: إذا لم تجده. وروى: الأعواز: وهو جمع العوز، وهو الاسم.
يقول: إذا خاف الناس حرباًُ دفعها عنهم، وإن أثقلتهم ديات وديون أداها من ماله، وإن قل مالهم أغناهم.
كيف لا يشتكي وكيف تشكوا؟ ... به لا بمن شكاها المرازي!
المرازي: المصائب، وأصله الهمز.
يقول: إن الناس يشكون إليه ما لزمهم من الأثقال والمؤن فيحملها عنهم، وهم يشكون المصائب والأثقال! مع أنه يحملها عنهم بالمرازي، فهي واقعة به في الحقيقة لا بهم، فكيف لا يشكوها؟ وهم يشكون! وهو أولى بأن يشكو.
أيها الواسع الفناء وما في ... ه مبيتٌ لمالك المجتاز
الكاف في مالك للخطاب. وأضاف المال إلى الناس.
يقول: إن فناءك واسع ومع ذلك لا مبيت فيه لمالك؛ لأنك تفرقه في الوقت، فكأنه ليس له مبيت عندك.
بك أضحى شبا الأسنة عندي ... كشبا أسوق الجراد النوازي
شبا كل شيء: حده. والأسوق: جمع ساق، والنوازي: جمع النازية، من نزا ينزو، إذا وثب.
يقول: بك تعلمت الشجاعة، حتى حد الأسنة ونوائب الدهر لا تؤثر في! فكأنها أسوق الجراد النازية؛ في أنها لا تأثير لها في.
وانثنى عني الرديني حتى ... دار دور الحروف في هواز

يقول: إن الرمح إذا طعنت به انعطف عني مثل حروف هوز! وخص هذه الحروف؛ لأنها كلها: الهاء والواو والزاي. مستديرة منقطعة، والألف ليست فيها ولكنها زائدة. كما قالوا: أبو جاد وهواز وكلمون. وهي أبجد وهوز وكلمن.
وقيل أراد بذكر هواز جميع حروف المعجم، ومعناه أن الرماح لا تؤثر في ولا تخدشني كما لا تخدش هذه الحروف الأقلام ولا تؤثر فيها.
وبآبائك الكرام التأسي ... والتسلي عمن مضى والتعازي
يقول: إن آباءك الماضين الكرام، صاروا لنا أسوة عن كل هالكةٍ، فنحن نتسلى بهم عن مصائبنا؛ إذ لو بقي أحد لبقي آباؤك.
تركوا الأرض بعد ما ذللوها ... ومشت تحتهم بلا مهماز
المهماز: الحديدة يجعلها الفارس في نعله، يهمز بها الدابة.
يقول: إنهم مضوا بعد ما ملكوا الأرض، وذللوها وانقادت لهم أي أهلها، وأطاعوهم طوعاً، لحبهم إياهم من غير كراهة ولا إكراه.
وأطاعتهم الجيوش وهيبوا ... فكلام الورى لهم كالنحاز
النحاز: سعال يأخذ الإبل والغنم.
يقول: انقادت لهم العساكر وهابتهم! فكل من أراد أن يتكلم بين أيديهم تنحنح وسعل؛ كما يفعله الحصير إذا عيي بالكلام.
وقيل: أراد كأن لم يسمع من الناس إلا همساً شبيهاً بالنحاز؛ لهيبتهم.
وقيل: أراد أنهم لم يبالوا بكلام أحد لهيبتهم ولانقياد الناس إليهم، ولم يفكروا، كما لا يفكر الإنسان في سعالٍ يأخذ الغنم والإبل.
وهجانٍ على هجانٍ تأتي ... ك عديد الحبوب في الأقواز
الهجان الأول: الكرام من الناس. والثاني: الكرام من الإبل. تأتيك: أي تقصدك. وروى تأتتك: أي قصدتك. والأقواز: جمع القوز، وهي القطعة المستديرة من الرمل. وعديد: نصب على الحال من الضمير في تأتيك، والإضافة في تقدير الانفصال.
يقول: رب قوم كرام قصدوك على إبل كرام في عدد حبات الرمل؛ لأنك كريم والكريم إذا مسه الضر، ماله إلا الكريم.
صفها السير في العراء فكانت ... فوق مثل الملاء مثل الطراز
العراء: الأرض الخالية. والهاء في صفها للإبل. شبه استواء الإبل في العراء بطراز على ملاءة! وذلك أن الإبل الكرام لا تتقدم إحداها على الأخرى بل تصف على استواءٍ واحد في المكان الواسع.
وحكى في اللحوم فعلك في الوف ... ر فأودى بالعنتريس الكناز
حكى: أي السير حكى في اللحوم فعلك. في الوفر: وهو المال الكثير. والعنتريس: الناقة القوية. والكناز: المكتنزة اللحم.
يقول: إن السير أذهب لحوم الإبل وأفناها، فأشبه فعله بها فعلك في مالك الذي تفرقه. وأودى: فاعله السير أي أهلكه.
كلما جادت الظنون بوعدٍ ... عنك جادت يداك بالإنجاز
يقول: كلما ظننا في أنفسنا عنك بوعد، وقدرنا أنك تعطينا بوعد، وعدنا ظنوننا كأن ذلك على قدرنا، فتنجز ما قدرنا وتحقق ما أملنا.
ملكٌ منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز
يقول: إنه عالم بالشعر جيد الفكر فيه، فمنشد الشعر كأنه وضع ثوباً في يدي بزاز؛ لأن البزار يكون عارفاً بالثوب.
ولنا القول وهو أدرى بفحوا ... ه وأهدى فيه إلى الإعجاز
فحوى الكلام: معانيه، ومعاريضه.
يقول: إنه يقول الشعر، وهو أعلم بدقائق معانيه، ويقدر أن يقول ما يعجز عنه كل شاعرٍ فصيح.
ومن الناس من تجوز عليه ... شعراءٌ كأنها الخازباز
الخازباز: صوت الذباب، ونفس الذباب.
يقول: إنه عالم بجيد الشعر ورديئه وغيره يجوز عليه شعر شعراء كان شعرهم مثل طنين الذباب الذي لا معنى له.
ويرى أنه البصير بهذا ... وهو في العمى ضائع العكاز
يقول: إن من يجوز عليه مثل ذلك، هو يظن أنه عالم بالشعر، وهو كالأعمى بين العميان، إذا ضاع عكازه وعصاته التي يتوكأ عليها! قيل: إنه أراد بهذا رجلاً بعينه ضدٌّ للممدوح.
كل شعرٍ نظير قابله منك ... وعقل المجيز مثل المجاز
الكاف في منك للشاعر. والمجيز: المعطي، ويجوز أن يكون بمعنى المجوز القائل.
يقول: أيها الشاعر إن كل شعر يشبه من يقبله منك، فالرديء يجوز على الجاهل به، والجيد يعرفه العالم به، وعقل الممدوح الذي يعطي الجائزة على المدح ويقبل المديح ويجيزه، مثل عقل المادح المعطي، والذي قبله منه. فالأحمق يجيز الأحمق ويقبل منه. والعاقل يجيز العالم، وهو يقبل منه لأنه يرضى بشعره.

وقد قيل: نظير قائله ومعناه. موقع كل شعر منك أيها الممدوح كموقع قائله، فإن كان فاضلاً مقدماً فشعره مثله، وإن كان رذلاً فشعره كذلك، وكذلك عقل من يجيز عليه أو يقبله مثل عقل الشاعر الذي يقبل الجائزة عليه.
وقال أيضاً: يهجو علوياً عباسياً:
أماتكم من قبل موتكم الجهل ... وجركم من خفةٍ بكم النمل
يقول: إنكم من غلبة الجهل عليكم أموات وإن كنتم أحياء! ومن خفة أقداركم ومهانتكم يقدر أن يجركم النمل إلى حيث شاء.
وليد أبي الطيب الكلب مالكم ... فطنتم إلى الدعوى وما لكم عقل
وليد: تصغير ولد، ونصب على أنه منادى مضاف.
يقول: ليس لكم عقل، فكيف علمتم لؤم أصلكم، فرغبتم عنه وادعيتم إلى غير أبيكم!
ولو ضربتكم منجنيقي وأصلكم ... قوي لهدتكم فكيف ولا أصل؟!
المنجنيق: يذكر ويؤنث وقد أنث. والهد: الكسر.
يقول: لو كان لكم أصل قوي وتعرضت له لأفسدته وهديته، فكيف تثبتون لي وليس لكم أصل؟!
ولو كنتم ممن يدبر أمره ... لما كنتم نسل الذي ماله نسل
يقول: لو كان الأمر فيكم إلى أبيكم لم يرض أن تكونوا نسله؛ لأن من يكون نسله مثلكم فلا نسل له! غير أن الإنسان لا اختيار له في ولده.
وقيل: معناه لو كنتم ممن يحسن التدبير لما انتسبتم إلى من لا عقب له، بل كنتم تنتسبون إلى من كان له عقب.
وقال يمدح الحسين بن علي الهمذاني:
لقد حازني وجدٌ بمن حازه بعد ... فياليتني بعدٌ ويا ليته وجد
حازني: أي جمعني.
يقول: قد ملكني الوجد والحزن، بمن استولى عليه البعد، فيا ليتني البعد؛ لأكون معه، ويا ليته الوجد ليكون معي أبداً.
أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى ... وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد
ذكر نصب بتجديد الهوى وهو مصدر جدد، والصلد: الصلب اليابس.
يقول: أنا أسر إذا جدد لي الشوق ذكر الشدائد التي سرت على في الهوى، وإن كان مما لا يطيق الحجر الصلد احتماله.
نسب ذكر ما مضى إلى تجديد الهوى؛ إذ لولا الهوى. ما تجدد.
سهادٌ أتانا منك في العين عندنا ... رقادٌ، وقلامٌ رعى سربكم ورد
القلام: نبت خبيث الرائحة. والسرب: الإبل.
يقول: إني أستلذ الألم فيما ينالني من أجلك! وأستحسن القبيح في حبك، فالسهر في عيني ألذ من النوم، والقلام إذا رعت إبلكم أطيب عندي من الورد! ومثله:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
ممثلةٌ حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كأن اليأس من وصلك الوعد
يقول: أنت مصورة في قلبي، حتى كأنك لم تفارقيني، وإن بعدت عني حتى كأن يأسي منك وعدٌ بلقائك.
وحتى تكادي تمسحين مدامعي ... ويعبق في ثوبي من ريحك الند
يقول: من قوة تمثلك في قلبي، أظن أنك عندي تمسحين مدامعي وتعانقيني فأجد في ثوبي رائحة الند من ريح ثوبك.
إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... ومن عهدها ألا يدوم لها عهد
يقول: إن الحسناء تفي بعهدها، وعهده ألا يكون لها عهد! أي لا يكون لها لقاء، فغدرها إذاً يكون وفاء بعهدها! وقيل: معناه إن الحسناء إذا غدرت، وفت هي بعهدها؛ لأنها مخالفة لسائر النساء.
وقيل: أراد أن المرأة إنما عهدت على الغدر وبه جرت عادتها، فقد فعلت هي إذا غدرت بما جرت به عادتها، فإذا أوفت بعهدها، غدرت ووفت بعهدها؛ لأن عهدها ألا يدوم لها عهد ولا ود.
ومثله لأبي تمام:
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانيةٍ هند
وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصد
القصد: الاقتصاد.
يقول: إن المرأة إذا عشقت، أو أبغضت أفرطت في الحالين فعشقها بمن يعشقها أشد، وبغضها إذا أبغضت أشد، لا اقتصاد لها في ذلك. وقوله: فاذهب إشارة إلى أنه ليس يجب أن يعتمد عليهن في حال من الأحوال.
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضاً ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
وهذا تأكيد لما مضى من نفي الاقتصاد أيضاً.
كذلك أخلاق النساء وربما ... يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد
الهاء في بها وبها للنساء.
يقول: إن أخلاق النساء على ما وصفته لك، ولكن العاقل ربما ضل عقله بحبهن، وخفي عليه رشده، فيغلب هواهن رأيه.
ولكن حباً خامر القلب في الصبا ... يزيد على مر الزمان ويشتد

يقول: إن الحب إذا خالط القلب في الصبا، لا يزال يزيد على مرور الأيام ويشتد. ومثله قول الآخر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي فارغاً فتمكنا
سقى ابن عليٍّ كل مزنٍ سقتكم ... مكافأةً يغدو إليها كما تغدو
التأنيث لكل مزن؛ لأنه أراد جماعة المزن، ويغدو: فعل الممدوح.
يقول: دعاء للسحاب التي سقت ديار أحبائه، بأن يسقي الممدوح التي سقتكم أيها الأحباب؛ حتى يكون مجازاة السحاب على سقياها فيغدو هو إلى السحاب، كما يغدو السحاب إلى ديارهم.
لتروى كما تروى بلاداً سكنتها ... وينبت فيها فوقك الفخر والمجد
سكنتها، وفوقك: خطاب للمحبوبة.
المعنى: لتروي السحاب من صوب كرمه، كما أروت بلاداً سكنتها أيتها المحبوبة، وينبت السحاب فوقك الفخر والمجد، كما ينبت في ديار المحبوبة النور والعشب.
يعني أن سقياه للسحاب ليس مما ينبت العشب، وإنما سقيا كرم ينبت الفخر والمجد.
بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه ... ويخرق من زحمٍ، على الرجل البرد
الباء: متعلقة بقوله: لتروى أي لتروى بمن تشخص الأبصار. وقيل: بالفخر. أي يثبت الفخر بمن تشخص الأبصار.
يقول: إذا ركب تتحير وتشخص إليه أبصار الناس، ويزدحم عليه الناس ينظرون إليه لحسنه، حتى يخرق بعضهم ثياب بعض من كثرة الازدحام!
وتلقى، وما تدري البنان سلاحها ... لكثرة إيماءٍ إليه إذا يبدو
البنان: فاعل تلقى وتدرى، والمفعول السلاح.
يقول: إذا بدا للناس بهرهم حسنه فيشير بعضهم إلى بعض بأصابعهم وقد سقط سلاحه من يده، وهو لا يعلم لحيرته. ومثله للمعري في النعاس:
حيث اليسار عن العنان ضعيفةٌ ... فالسوط تسقط من يمين الفارس
ضروبٌ لهام الضاربي الهام في الوغى ... خفيفٌ إذا ما أثقل الفرس اللبد
يقول: إنه يضرب في الحرب الشجعان الذين يضربون الرءوس، وإنه فارس خفيف على ظهر فرسه، إذا أثقله لبده. الذي تحت السرج.
بصيرٌ بأخذ الحمد من كل موضعٍ ... ولو خبأته بين أنيابها الأسد
يقول: إنه عالم بطريق المجد، وكيفية أخذه، فهو يتحمل فيه الموت حتى لو كان في أفواه الأسد لاستخرجه!
بتأميله يغنى الفتى قبل نيله ... وبالذعر من قبل المهند ينقد
التأميل: الأمل، وينقد: ينقطع.
يقول: كل من أمله حصل له الغنى بمجرد أمله، قبل أن يصل إليه نائله! ومن قصده محارباً مات من خوفه قبل أن يقتله بسيفه!
وسيفي لأنت السيف لا ما تسله ... لضربٍ ومما السيف منه لك الغمد
وسيفي: قسم. ولأنت السيف: جوابه.
يقول: وحق سيفي، إنك السيف على الحقيقة. لا ما تسله: أي الذي تسله للضرب؛ لأنك أمضى منه، ولأنه لا يعمل إلا إذا ضربت به؛ فالقطع في الحقيقة لك لا له! وقوله: ومما السيف أي أن غمدك من الحديد الذي يطبع منه السيف. وهو الدروع والجواشن. وإذا لبستها كانت كالغمد لك. أي أت أفضل من السيف جوهراً، وغمدك أفضل من غمده؛ لأن غمدك من الحديد الذي يعمل منه السيف.
وقيل معناه: إن من جنس الحديد غمدك؛ لأنك تدفع ضرباً بالسيف عن نفسك؛ فقد صار الحديد غمداً يقيك كما يقي السيف غمده.
ورمحي، لأنت الرمح لا ما تبله ... نجيعاً، ولولا القدح لم يثقب الزند
يقول: وحق رمحي إنك أنت الرمح على الحقيقة، لا رمحك الذي تبله بالدم؛ لأن الرمح إنما يعمل إذا طعنت به، كما أن الزند لو لم يقدح لم تخرج منه النار.
من القاسمين الشكر بيني وبينهم ... لأنهم يسدى إليهم بأن يسدوا
يقول: هو من قوم قسموا الشكر بيني وبينهم، فأنا أشكرهم على إنعامهم، وهم يشكرونني على قبولي منهم برهم. وهذا معنى قوله: لأنهم يسدى إليهم بأن يسدوا أي أنهم يعدون نعمهم على غيرهم نعمة على أنفسهم، فيشكرون من قبل نعمهم ويثنون عليهم وهذا من قول التهامي:
ودعا لسائله وأعلن شكره ... حتى حسبنا السائل المسئولا
فشكري لهم شكران: شكرٌ على الندى ... وشكرٌ على الشكر الذي وهبوا بعد
يقول: إني أشكرهم من وجهين. أحدهما على نعمهم علي، والثاني على شكرهم لي في قبول نعمهم، وهذه نعمة مجددة.
وهذا البيت من بدائعه التي لم يسبق إليه.
صيامٌ بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصها في قلب خائفهم تعدوا
وروى: قيام.

يقول: إن خيلهم قيام على أبواب بيوتهم، وأعداءهم يخافون طلوعها عليهم فكأنها تعدوا في قلوبهم من خوفهم.
وأنفسهم مبذولةٌ لوفودهم ... وأموالهم في دار من لم يفد وفد
يقول: من قصدهم بذلوا له أنفسهم، ومن لم يقصدهم أنفذوا إليه صلاتهم وأنعموا عليه بأموالهم، فكأن أموالهم وفد.
ومثله لأبي تمام قوله:
فإن لم يفد يوماً إليهن طالبٌ ... وفدن إلى كل امرىءٍ غير وافد
كأن عطيات الحسين عساكرٌ ... ففيها العبدي والمطهمة الجرد
المطهمة: الخيل التامة الخلق، الكاملة الحسن.
يقول: إنه يهب العبيد والخيل والسلاح، فكأن ما يهبه عسكراً لكثرته.
أرى القمر ابن الشمس قد لبس العلا ... رويدك حتى يلبس الشعر الخد
شبهه بالقمر، وآباءه بالشمس؛ لشرفهما وعلوهما، إشارة إلى أنه اكتسب شرفه من أبيه كما يكتسب القمر نوره من الشمس، ثم قال: رويدك أي أمهل حتى تبلغ مبلغ الرجال. وهذا قلب ما ذكره الحكمي في قوله:
وترى السادات مائلةً ... لسليل الشمس من قمره
وغال فضول الدرع من جنباتها ... على بدنٍ قد القناة له قد
غال الشيء: إذا أهلكه. والهاء في جنباتها للدروع.
يقول: إن الممدوح أذهب بالدروع وفضولها أي استوفاها بقده، فكأن طوله قد القناة؛ لاعتداله.
وباشر أبكار المكارم أمرداً ... وكان كذا آباؤه وهم مرد
أبكار المكارم: هي المبتدئات منها التي سبق الممدوح إليها.
يعني: أنه سئل وهو أمرد، وكذلك كان آباؤه، فهو يجري على عادتهم أيضاً وسننهم.
مدحت أباه قبله فشفى يدي ... من العدم من تشفي به الأعين الرمد
يقول: مدحت أباه قبل مدحه، فشفاني من الفقر وأغناني، من إذا نظرت إليه الأعين الرمد، شفاها! ومثله لابن الرومي:
يا أرمد العين قم قبالته ... فداو باللحظ نحوه رمدك
حباني بأثمان السوابق دونها ... مخافة سيري، إنها للنوى جند
مخافة: نصب لأنه مفعول له.
يقول: أعطاني أبوك الدراهم والدنانير دون الخيل؛ خوفاً من أن أخرج عليها من حضرته؛ لأن الخيل معينةٌ على البعد، وجند له..
وشهوة عودٍ، إن جود يمينه ... ثناءٌ ثناءٌ، والجواد بها فرد
شهوة: نصب عطفاً على مخافة، والهاء في بها للأثمان. والألف واللام في الجواد بمعنى الذي. أي الذي يجود.
يقول: أعطاني أثمانها دونها مخافة سيري بها، وشهوةً منه أن يعود إلى العطاء؛ لأن جوده لا يقتصر على مرة واحدة، بل هو مثنى مثنى، أي إن عادته أن يجود مرتين مرتين. والذي يجود به فرد: أي الممدوح فرد لا ثاني له في شرفه، كما لا نظير له في زمانه وأقرانه.
فلا زلت ألقى الحاسدين بمثلها ... وفي يدهم غيظٌ وفي يدي الرفد
بمثلها: أي بمثل العطايا. وهي الأثمان.
يقول: دام لي عطاؤه ورفده حتى أغيظ بهما حسادي، فيكون معهم غيظ ومعي عطاء! وهذا دعاء لنفسه وعلى الحاسدين له.
وعندي قباطي الهمام وماله ... وعندهم مما ظفرت به الجحد
القباطي: جمع القبيطة، وهي ثياب مصر. والقبيطة منسوب إلى القباط وهم نصارى. كالذين يسكنون ريف مصر ورساتيقها، بمنزلة سواد العرب.
يقول عطفاً على دعائه الأول: لا زلت أبداً آخذ خلعه وأمواله وحسادي يجحدون ما ظفرت به لغيظهم فيقولون: لم يعطه شيئاً! ليطيبوا بذلك أنفسهم. وقيل: أراد أنهم يجحدون نعمه ويقولون: لم يعطه شيئاً، حتى يكون جحودهم سبباً لانقطاع صلاته عنهم.
يرومون شأوى في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما خلا المنطق، القرد
يقول: إن الحساد يحاولون بلوغ غايتي في الفصاحة والبيان، وهم قرود! والقرد يحاكي الإنسان في أفعاله، إلا في النطق فكيف يقدرون على ذلك؟!
فهم في جموعٍ لا يراها ابن دأيةٍ ... وهم في ضجيجٍ لا يحس به الخلد
ابن دأية: الغراب. ويوصف بحدة البصر والخلد: الفأرة العمياء، وتوصف بحدة السمع، وصدق الحس.
يقول: إنهم من قلتهم وخستهم لا يراهم الغراب مع حدة بصره، وإن كانوا كثيرين في العدد ولهم أصوات وضجيج، ومع ذلك فالخلد لا يحس بها مع صحة السمع.
ومني استفاد الناس كل غريبةٍ ... فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمد
كل غريبة: أي كل لفظ غريب، أو معانٍ غريبة، أو خصلة.
وفي جازوا قولان:

أحدهما: ما قاله ابن جنى. أنه من قولهم: هذه الدراهم جائزة. أي تجوز على خبث.
كأنه يقول: إن الناس استفادوا مني الأخلاق الغريبة والمعاني البديعة. فتكلموا ما ليس في طباعهم فجازوا ونفقوا بترك الناس ذمهم، وإن لم يحمدوهم.
والثاني: أن جازوا أمر من المجازاة. وعدل عن معاتبه إلى الخطاب فيقول: أيها الناس إذا استفدتم مني هذه المعاني فجازوني بترك الذم إن لم تحمدوني.
وجدت علياً وابنه خير قومه ... وهم خير قومٍ واستوى الحر والعبد
يقول: وجدت علياً وابنه أفضل قومه، وقومه خير الناس. من بعدهم متساوي في الفضل، لا فضل في ذلك بين الحر والعبد.
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
روى: في عنق الحسناء. أي عنق المرأة الحسناء وروي: وفي العنق الحسناء؛ على أن يكون الحسناء صفة للعنق. والكناية في منهما للممدوح وأبيه، وفي مكانه للشعر.
يقول: أصبح شعري فيهما حين مدحتهما به في مكانه. أي في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، فزاد حسنه، كما أن العقد إذا كان في عنق الحسناء، أو في العنق الموصوف بالحسن كان أزيد حسناً؛ لما كان ذلك مكانه.
قصائد ابن طغجوكثرت على أبي الطيب مراسلة الأمير أبي محمدٍ الحسن بن عبيد الله ابن طغج من الرملة فسار إليه فلما حل به حمل إليه وأكرمه.
وحدث أبو عمر عبد العزيز بن الحسن السلمي بحضرة أبي الطيب قال: حدثني محمد بن القاسم المعروف بالصوفي قال: أرسلني الأمير أبو محمدٍ إلى أبي الطيب ومعي مركوبٌ يركبه فصعدت إليه، إلى دارٍ كان نزلها فسلمت عليه وعرفته رسالة الأمير، وأنه منتظرٌ له، فامتنع علي وقال: أعلم أنه يطلب شعراً، وما قلت شيئاً. فقلت له: ما تفترق! فقال لي: فاقعد إذاً، ثم دخل إلى بيت في الحجرة ورد الباب عليه فلبث فيه مقدار كتب القصيدة ثم خرج إلي وهي في يده مكتوبةٌ لم تجف بعد. فقلت له: أنشدنيها فامتنع وقال: الساعة تسمعها. ثم ركب وسرنا فدخل على الأمير أبي محمد وعيني الأمير إلى الباب ممدودة منتظراً إلى وروده فسأل عن خبر الإبطاء فأخبرته الخبر فسلم عليه ورفعه أرفع مجلسٍ.
وأنشد أبو الطيب:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم
وقت نصب على الظرف. واللوائم جمع اللائمة. والمعالم جمع، وهي أثر العلامة. وقوله: أنا لائمي كالقسم، أو كالدعاء على نفسه بأن يكون من جملة لوامه، لأنه أبغض الناس عنده.
فيقول: لمت نفسي إن كنت وقت لامتني اللوائم، ما لحقتني عند وقوفي على آثار المحبوبة يعني: جعلني الله من لوامه إن كنت علمت ذلك.
وقيل: معناه الخبر، أي لو كنت علمت ما أصابني عند ذلك، لكنت أنا ألوم نفسي على ما ظهر من الجزع ولكني تحيرت حتى ذهب عقلي.
ولكنني مما ذهلت متيمٌ ... كسالٍ وقلبي بائحٌ مثل كاتم
ذهلت: أي غفلت والمتيم: الذي عبده الحب.
يقول: ولكنني تحيرت فبقيت ذاهل اللب عن الشكوى فأنا متيم ولكني كأني سالٍ صابر؛ لما لحقني من التحير وذهاب العقل، وكأن قلبي يحب ويخفق فيبوح بما كنت أكتمه من الشوق! فهو بائح بما يجده وكأنه كاتم؛ لأني لا أظهر الشكوى بلسان.
وقيل: إن قلبي بائح من حيث أنه يتوجع فتبكي العين، فيظهر ما في قلبي بالدمع واللسان، فسكت عن إظهاره بالشكوى.
وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم
الأذواد الإبل، ما بين الثلاثة إلى العشرة.
يقول: لما وقفنا بتلك المعالم أطلنا الوقوف، ولم تبرح إبلنا، فكأن ما في قلوبنا من الوجد في قوائم الإبل فهي لا تبرح!
ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
المنسم: طرف خف البعير. والهاء في ترابها للمعالم.
يقول: وطئنا تراب المعالم بأخفاف إبلنا، فما زلت أشفي غليلي بتقبيل مناسم الإبل.
ديار اللواتي دارهن عزيزةٌ ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
روى: ديار بالنصب بدلاً من قوله: ترابها. وروى: بالرفع على أنه خبر ابتداء محذوف: أي هي ديار.
يقول: هذه الديار ديار نساء عزيزات منيعات، لا يقدر أحد على الوصول إليهن، وإنما يحفظن بالرماح لا بالتمائم؛ إشارة إلى حسنهن وإلى صغرهن؛ لأن التمائم تعلق على من كان كذلك.

حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم
الهاء في مثله للوشي.
يقول: إنهن إذا تثنين فيؤثر ما عليهن من الوشي في أبدانهن، لنعومتها! فينقش عليها آثاراً مثل آثار الوشي، كما ترى نقش الخاتم في الشمع إذا وضع عليه.
ويبسمن عن درٍّ تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
المباسم: جمع مبسم وهو الثغر، ووشحت: أي قلدت. والهاء في مثله للدر.
يقول: إنهن إذا ضحكن أبدين ثغوراً مثل الدر الذي في قلائدهن فكأن الذي توشحن بها هي أسنانهن التي كالدر.
فما لي وللدنيا: طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم
روى: نجومها أي يكون منصوباً بالمصدر الذي هو طلابي. وروى: بالرفع على أن يكون خبر طلابي. وأراد بالنجوم: معالي الأمور، والأراقم: الحيات.
يقول: ما لي أطلب من الدنيا معالي الأمور! فأتحمل المشاق والأخطار وأقتحم المهالك. وهو من قول العتابي:
فإن جسيمات الأمور منوطةٌ ... بمستودعاتٍ في بطون الأساود
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
يقول: من الحلم، استعمال الجهل في بعض الأوقات وذلك إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم، أي إذا كان حلمك داعياً إلى ظلمك وإقدام السفيه عليك، فالجهل ها هنا هو الحلم. وهذا من قول أبي الأسود:
فإنك لم تعطف عن الحق جاهلاً ... بمثل خصيم عالمٍ يتجاهل
وأن ترد الماء الذي شطره دمٌ ... فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم
يقول: من الحلم أن ترد الماء الذي قتل عليه الوارد، حتى امتزج بدم القتلى وتسقي إبلك إذا لم يمكن الضعيف أن يسقيها، وأن تزاحم الناس.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
يقول: من عرف أحوال الأنام، وطباع الأيام، كما عرفت وجربت من لؤمهم لم يترك واحداً من أحيائهم. وروى رمحه من دمائهم!
فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
قوله: فليس بمرحوم، إشارة إلى من في البيت المتقدم، وكذلك الهاء في به.
يقول: إنما قلت ذلك لأنهم إذا ظفروا به لا يرحمونه، فكذلك هو إذا قتلهم لا يأثم به.
إذا صلت لم أترك مصالاً لفاتكٍ ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
يقول: إذا صلت في الحرب لم أترك فيه غاية لشجاع، وإذا قلت شعراً لم يقدر أحد أن يأتي بمثله.
وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
يقول: إن لم أكن كما قلت ووصفت من الشجاعة والعلم، خانتني الأشعار وهذا دعاء منه على نفسه وكذلك صرفني عن هذا الممدوح ضعف العزائم إن لم أكن كذلك.
عن المقتنى بذل التلاد تلاده ... ومجتنب البخل اجتناب المحارم
يقول: إن أكن كما وصفت وعاقني ضعف عزائمي عن الذي يكتسب المال مكان المال، فيقتني بذلك الثناء الحسن والذكر الجميل ويجتنب البخل كما يجتنب المحارم.
تمنى أعاديه محل عفاته ... وتحسد كفيه ثقال الغمائم
تمنى: أي تتمنى، فحذف التاء لدلاتها.
يقول: إن أعداءه يتمنون أن يكون لهم من هذا الممدوح محل قصاده؛ لأن قصاده، ينفذ حكمهم في ماله، ويملكون ويغيرون عليه! ومع ذلك لهم محل رفيع عند الممدوح! وغاية ما يتمنى العدو من عدوه، أن يحصل في عدوه مثل ذلك. وتحسده أيضاً الغمائم المطيرة، لأنه زاد عليها في الجود والعطاء.
ولا يتلقى الحرب إلا بمهجةٍ ... معظمةٍ مذخورةٍ للعظائم
معظمة: أي رفيعة مصونة عن الدنايا، وهي معدة لدفع الأمور العظائم.
يقول: إنه لا يباشر الحرب والشدائد الجسام إلا بنفسه.
وذي لجبٍ، لا ذو الجناح أمامه ... بناجٍ ولا الوحش المثار بسالم
اللجب: الصوت في الحرب. وتقديره: وجيش ذي لجب.
يقول: إنه لا يتلقى الحرب إلا بمهجة نفيسة، وجيش له أصوات كثيرة، فإذا عبر عليهم طير صادوه، وإن ثار وحش قصدوه. فلا يسلم منه وحش ولا طير.
تمر عليه الشمس وهي ضعيفةٌ ... تطالعه من بين ريش القشاعم
القشاعم: جمع قشعم، وهو النسر، وقيل: هو طائر يشبهه، والهاء في عليه وتطالعه تعود إلى ذي لجب.
يقول: إن النسور كانت تطير فوقه والغبار ساطع حوله، حتى حال بينه وبين الشمس، وهي تمر عليه ضعيفة، فيظهر الضوء من بين ريش النسور.

إذا ضوءها لاقى من الطير فرجةً ... تدور فوق البيض مثل الدراهم
يقول: إن الشمس إذا صادف ضوءها فرجة من أجنحة الطير، وقع على البيض مدوراً مثل الدراهم.
ويخفى عليك البرق والرعد فوقه ... من اللمع في حافاته والهماهم
الهماهم: جمع همهمة، وهي صوتٌ لا يفهم.
يقول: يخفى عليك البرق من لمعان السلاح، والرعد بصوت الجيش.
أرى دون ما بين الفرات وبرقةٍ ... ضراباً يمشي الخيل فوق الجماجم
برقة: مدينة قريبة من الاسكندرية إلى المغرب.
يقول: أرى بين هذين الموضعين ضروباً يكثر فيها القتلى حتى تمشي الخيل عليها.
وطعن غطاريفٍ كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم
الغطاريف: السادة. والمعاصم: موضع الأسورة من اليد.
يقول: وأرى في هذه المواضع طعن قوم سادة، تعودوا حمل الرماح من صغرهم، حتى كأن أيديهم وصلت بالرماح قبل أن توصل بمعاصمهم.
حمته على الأعداء من كل جانبٍ ... سيوف بني طغجٍ بن جف القماقم
القمقام: السيد، والقماقم: صفة لبني طغج.
يقول: إن قومه يحمون جيوشه بسيوفهم. والهاء في حمته للجيش وهذا من قوله:
بالجيش تمتنع السادات كلهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم
يقول: هم يحسنون، أي يعرفون، أو يأتون ما يستحسن من الكر في وسط الحرب، وكذلك يفعلون في المكارم، وذلك أحسن من كرهم في الحرب والطعن والضرب.
وهم يحسنون العفو عن كل مذنبٍ ... ويحتملون الغرم عن كل غارم
يعني بقوله: يحسنون أحد المعنيين، وأراد أنهم يعفون عن كل مجرم، ويحملون على أموالهم كل مغرم.
حييون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياءً من شفار الصوارم
يقول: من عادتهم الحياء في مواضع الحياء لكنهم في الحرب وقاح ولا يرتدون بشيء كحد السيف الذي لا يرتد من أحد.
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودةٌ في البهائم
يقول: لولا أنهم يحتقرون، لشيهت الأسود بهم، ولكنها من جملة البهائم التي لا تمييز لها. فلهذا لا أشبهها بهم.
سرى النوم عني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كل نائم
يقول: ذهب النوم عني في سراي إلى هذا الممدوح، الذي تسري مواهبه ليلاً لكل نائم على فراشه! لم يتعبه في طلبها.
إلى مطلق الأسرى، ومخترم العدى ... ومشكى ذوي الشكوى ورغم المراغم
المخترم: المهلك، والمراغم: الذي يحاول أن يذلك وتحول أن تذله. المشكي: المزيل. الشكوى.
يقول: إنه يمن على الأسارى بهلك الأعداء، ويزيل الشكاية، ويرغم أعاديه.
كريمٌ نفضت الناس لما بلغته ... كأنهم ما جف من زاد قادم
جف وخف رويا، وروى حف بالحاء.
يقول: لما ملت إليه طرحت الناس كلهم، كما يطرح القادم ما جف من زاده.
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
يقول: سررت بلقائه، وندمت على تركي قصده في متقدم عمري، حتى كأن ندامتي على تركه أكثر من سروري بلقائه وحضرته.
وفارقت شر الأرض أهلاً وتربةً ... بها علويٌّ جده غير هاشم
أهلاً وتربة: نصباً على التمييز.
قيل: أراد بهذا العلوي الذي قال فيه:
أتاني وعيد الأدعياء... البيت
وسئل عنه فقال: أردت بهذا طبرية لأن فيها أعداء الممدوح.
بلا الله حساد الأمير بحلمه ... وأجلسه منهم مكان العمائم
يقول: ابتلاهم الله بحلمه، ليروا من سعادته ما يديم حزنهم، وجعله في العز والشرف، وأذلهم له، حتى يكون منهم مكان العمائم: وهي الرءوس.
فإن لهم في سرعة الموت راحةً ... وإن لهم في العيش حز الغلاصم
الغلاصم: جمع الغلصمة، وهي قصبة الحلق. وهذا علة دعائه لهم بالحلم. يعني أن بقاءهم أشد لهم وعليهم من الفناء والهلاك.
كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك لا قاتلت من لم تقاوم
يقول: كل من جاودته زدت عليه وكل من قاتلته غلبته، وكأنك اخترت منهما من تعلم أنك تغلبه لا محالة، ولم تفعل ذلك قصداً، ولكن لما كان الظاهر من حالك الغلبة عليهم في الجود والشجاعة كنت كأنك فعلت ذلك.
وسأله الشرب معه فامتنع. فقال له: بحقي عليك إلا شربت. فقال:

سقاني الخمر قولك لي بحقي ... وودٌّ لم تشبه لي بمذق
يقول: حملني على شرب الخمر قولك لي: بحقي. فيلزمني رعايته. والثاني مودتك الخالصة لي التي لا يشوبها خلاف ولا مذق. والمذق: ضد الخالص.
يميناً لو حلفت وأنت ناءٍ ... على قتلي بها لضربت عنقي
يميناً: نصب على المصدر.
يقول: لو حلفت بمثل هذه اليمين، وألزمتني بقتل نفسي وأنت بعيد عني لفعلت! فكيف لا أشرب؟ وهو دون ذلك، وأنت قريب مني! ثم أخذ الكأس وقال:
حييت من قسمٍ وأفدي المقسما ... أمسى الأنام له مجلاً معظما
الأنام: اسم الجمع للناس، وليس بجمع؛ ولهذا وحد فقال: مجلاً معظما، ولو جمعه رداً على المعنى لكان جيداً.
يخاطب القسم ويقول: حياك الله من قسمٍ وأنا أفدي المقسم! وهو الممدوح؛ لأن الخلق أصبحوا كلهم مجلين له، ومعظمين قدره كما أعظمه وأجله أنا!
وإذا طلبت رضى الأمير بشربها ... وأخذتها فلقد تركت الأحرما
يقول: إن شرب الخمر، وإن كان حراماً، فعصيانه أحرم، فإذا شربتها لرضاه، فقد تركت ما هو أشد حرمة! والهاء في شربها و وأخذتها للخمرة.
وغنى المغني فقال له:
ماذا يقول الذي يغني؟ ... يا خير من تحت ذي السماء
شغلت قلبي بلحظ عيني ... إليك عن حسن ذا الغناء
يقول: يا خير من تحت ذي السماء، إني شغلت بالنظر إلى حسن وجهك، وتأمل شمائلك من استماع الغناء، فأخبرني: ماذا يقول هذا المغنى؟ وعرض عليه سيفاً فأشار به إلى بعض من حضر، وقال:
أرى مرهفاً مدهش الصيقلين ... وبابة كل غلامٍ عتا
أتأذن لي ولك السابقات ... أجربه لك في ذا الفتى؟
المرهف الذي رققت شفرتاه والبابة: الغاية.
يقول: أرى سيفاً محدوداً يدهش الصيقلين بحسن جوهره ورونقه، وقوله: عتا أي عدا عن الحق. فهل تأذن لي أن أجربه في هذا الفتى؟ قوله: ولك السابقات حشو مليح أي لك النعم السابقة علي.
وهذان البيتان يجوز أن يكون رويهما التاء فتكون الألف وصلاً، وأن يكون رويهما الألف. لأن الألف فيهما من نفس الكلمة.
وأراد الانصراف فقال يذكر تعلقه بالأمير.
يقاتلني عليك الليل جداً ... ومنصرفي له أمضى السلاح
يقول: إن الليل يغار من نظري إليك، فهو يدافعني ويقاتلني عليك غيرةً، فإذا انصرفت عنك يقوم مقام السلاح ويقتلني.
لأني كلما فارقت طرفي ... بعيدٌ بين جفني والصباح
بين: فاعل بعيد، وهو اسم غير ظرف، ومفعول فارقت: مضمر. أي كلما فارقت الممدوح. وطرفي مبتدأ، والجملة خبره.
وقيل: إنه أقام الممدوح مقام طرفه، على هذا مفعول فارقت. أي فارقت طرفي. بفراقي إياه، ويكون بعيد مبتدأ وبين جفني خبره، والجملة خبر أن.
يقول: إني إذا لم أرك، طال علي الليل شوقاً إلى لقائك، وبعد عني الصباح، وأسقم جسمي السهر، فكأن فراقك سيف لليل يقتلني.
وسايره وهو لا يدري أين يريد به؟ فلما دخلا كفر زنس قال يصفها:
وزيارةٍ عن غير موعد ... كالغمض في الجفن المسهد
يقول: رب زيارة من غير تقدم وعد بها، وهي في قلبي أحلى وألذ من النوم في الجفن الذي طال سهاده، وبعد عنه رقاده.
معجت بنا فيا الجيا ... د مع الأمير أبي محمد
المعج: ضرب من السير سهل لين من سير الإبل، واستعمله في الخيل ها هنا للزيارة.
يقول: سارت بنا الخيل في هذه الزيارة مع الأمير أبي محمد. وهو الممدوح.
حتى دخلنا جنةً ... لو أن ساكنها مخلد!
أي لو كان ساكنها مخلداً كانت الجنة بعينها!
خضراء حمراء الترا ... ب كأنها في خد أغيد
الأغيد: الطويل العنق. وقيل الناعم البدن، شبه خضرتها بخضرة الشعر، وهو العذار على الخد الأحمر.
وإنما وصف تربتها بالحمرة، لأن الطين الذي فيها يضرب لونه إلى الحمرة.
أحببت تشبيهاً لها ... فوجدتها ما ليس يوجد
الهاء في وجدتها مفعوله الأول وما المفعول الثاني لأنه بمعنى علمت.
يقول: طلبت لها نظيراً أشبهها به فلم أجد؛ لأنه لا نظير لها في الحسن.
وإذا رجعت إلى الحقا ... ئق فهي واحدةٌ لأوحد
أي إذا حققت وصفها فهي واحدة لا نظير لها في الحسن، لأوحدٍ: لا نظير له في المجد.
وقال أيضاً يمدحه وقد شرب معه:

ووقتٍ وفى بالدهر لي عند واحدٍ ... وفى لي بأهليه وزاد كثيرا
يقول: رب وقت اجتمع لي فيه من اللذات والسرور مثل ما في جميع الدهر عند فردٍ في عصره، وهذا الواحد اجتمع له من الفضائل مثل ما في جميع الخلق بل أزيد كثيراً.
شربت على استحسان ضوء جبينه ... وزهرٍ ترى للماء فيه خريرا
يقول: شربت مستحسناً ضوء جبينه، في بستانٍ ذي زهر. وماءٍ ترى له خريراً. والهاء في فيه للزهر.
غد الناس مثليهم به، لا عدمته ... وأصبح دهري في ذراه دهورا
مثليهم: نصب على الحال، ويجوز أن يكون خبر غدا من أخوات كان.
يقول: فيه من الفضائل مثل ما في جميع الناس، فهو قائم مقامهم فصار الناس مثليهم، واجتنيت أنا عنده من اللذات ما يجتنيه أهل الدهور، فقام دهري مقام دهور كثيرة.
يصف مجلسين للأمير وذكر أبو محمد انزواء أحد المجلسين عن الآخر ليرى من كل واحد منهما ما لا يرى من صاحبه فقال له:
المجلسان على التمييز بينهما ... مقابلان ولكن أحسنا الأدبا
كان المجلسان كل واحد منهما في الجهة التي تقابل الآخر، منحرفاً عنه. فهو يقول: إنهما متقابلان في الحقيقة، ومن حيث الحسن والبهاء، وإن كانا قد ميز بينهما. وإنما انحراف أحدهما عن الآخر؛ لحسن الأدب! لأن عادة الغلام أن يقف ناحيةً، حيث لا يراه السيد إلا عند الحاجة إليه.
وقيل: إن ما يجري في أحدهما لا يعرفه أهل المجلس الآخر.
إذا صعدت إلى ذا، مال ذا رهباً ... وإن صعدت إلى ذا، مال ذا رغبا
وروى في المصراعين رهبا.
يقول: إذا صعدت إلى أحد المجلسين انحرف الآخر عن مقابلة الآخر من مقابلة وجهك، هيبةً لك وخوفاً من سلطانك! وروى في الثاني: رعباً، ورغباً بالغين المعجمة، فالمعنى على هذا: إن أحدهما كان للسطوة والنكال، والآخر للرغبة والنوال، فإذا صعد إلى أحدهما خشي أن يميل إليه بسطواته، فإذا صعد إلى الآخر مال إليه رغبة فيما عوده به من نواله وهباته.
فلم يهابك ما لا حس يردعه؟ ... إني لأبصر من فعليهما عجبا
يردعه: أي يزجره.
يقول: كيف يخاف منك من ما لا حس له يزجره؟! وذلك عجب منهما، فإذا كان ذلك حالهما. فالعقلاء أولى أن يخافوا منك.
وأقبل الليل وهما في بستان فقال يمدحه:
زال النهار ونورٌ منك يوهمنا ... أن لم يزل ولجنح الليل إجنان
جنح الليل: قطعة من أوله، وقيل: نصفه الأخير. كأنه جنح إلى الذهاب وإجنان الليل: تغطية الأرض بالظلمة.
يقول: إن النهار قد زال، ونور وجهك في إشراقه يوهمنا أن النهار باقٍ بعد والليل قد أظلم بقطعه.
فإن يكن طلب البستان يمسكنا ... فرح فكل مكانٍ منك بستان
يقول: إن كانت إقامتك بالبستان هذا رغبة منه فارجع إلى منزلك فإن كل مكان تحله فهو بستان؛ لما فيك من المحاسن والألطاف.
فلما استقل في القبة نظر إلى السحاب فقال يمدحه:
تعرض لي السحاب وقد قفلنا ... فقلت: إليك إن معي السحابا
يقول: لما انصرفنا من البستان إلى المنزل تعرض لنا السحاب، وهم بالمطر علينا. فقلت: أمسك عن مطرك، فإن معي السحاب، وهو الممدوح.
وقوله: إليك. أي أمسك عني.
فشم في القبة الملك الرجى ... فأمسك بعد ما عزم انسكابا
شم: أي انظر، من قولك شمت البرق أشيمه شيماً: إذا نظرت إليه.
يقول: قلت للسحاب انظر إلى الملك المرجى في القبة، إن شككت في قولي، فإنه أكرم منك! فلما نظر إليه السحاب علم صدق قولي فأمسك بعد أن عزم على أن يسكب خجلاً واستحياءً.
وكره الشرب فلما كثر البخور وارتفعت رائحة الند قال يصف مجلس الشراب عند الأمير:
أنشر الكباء ووجه الأمير ... وحسن الغناء وصافي الخمور!
الكباء: العود الذي يتبخر به. ونشره: رائحته المنتشرة منه.
يقول لنفسه: هذه الأشياء مجتمعة في هذا المجلس ولا أشرب؟!
فداو خماري بشربي لها ... فإني سكرت بشرب السرور
يقول: شربت خمر السرور فسكرت، فهات الخمر لأداوي بها خماري! وهو من قول الأعشى:
وكأسٍ شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها
وأشار إليه بعض الطالبين بمسك فقال، وكان أبو محمدٍ حاضراً:
الطيب مما غنيت عنه ... كفى بقرب الأمير طيبا
يبني به ربنا المعالي ... كما بكم يغفر الذنوبا

يقول: قد استغنيت عن الطيب؛ لأن قرب الأمير طيب لي! وإن يبني الله بهذا الأمير المعالي، كما بكم أيها الأشراف يغفر الذنوب. أي لحب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجعل الأمير يضرب بكمه البخور ويقول: سوقاً إلى الطيب فقال يمدحه:
يا أكرم الناس في الفعال ... وأفصح الناس في المقال
إن قلت في ذا البخور: سوقاً ... فهكذا قلت في النوال
يقول: يا أكرم الناس خصالاً وأفعالاً، وأنصحهم كلاماً ومقالاً، إن سقت إلي البخور فقد سقت قبله النوال. وسوقاً نصب لأنه حكاية قوله. وقيل: نصب على المصدر.
وتحدث أبو محمد عن مسيرهم في الليل لكبس باديةٍ وأن المطر أصابهم فقال أبو الطيب في شجاعة الأمير:
غير مستنكرٍ لك الإقدام ... فلمن ذا الحديث والإعلام؟
قد علمنا من قبل أنك من لا ... يمنع الليل همه والغمام
يقول: غير مستعجب إقدامك على الأمور العظام! فلمن تحدث بهذا الحديث؟ وقد علمنا أن الليل والمطر لا يمنعانك عما هممت به، فلمن هذا الحديث والإعلام؟ ثم قال أيضاً لابن طغج وهو عند طاهر العلوي:
قد بلغت الذي أردت من البر ... ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق ... تك ذا خفت أن تسير إليكا
يقول: قد قضيت ما عليك من حق هذا الشريف وبره، فارجع إلى دارك، فإني أخاف أنها تسير شوقاً وتشرفاً بحلولك فيها، فقد أوحشتها بغيبتك.
وهم بالنهوض فأقعده أبو محمد فقال له:
يا من رأيت الحليم وغداً ... به، وحر الملوك عبدا
مال علي الشراب جداً ... وأنت للمكرمات أهدى
يقول: يا من رأيت الحليم بالإضافة إليه وغداً، ورأيت الحر من الملوك عند هيبته عبدا.
وجداً: نصب على المصدر، أي أجد جداً.
ويقول: إن السكر قد غلب علي وأنت للمكرمات أهدى من كل أحد فأذن لي فإنه من مكرماتك.
فإن تفضلت بانصرافي ... عددته من لدنك رفدا
الانصراف، صلة من عندك والرفد: العطاء.
يقول: إن أذنت لي في الانصراف حسبته صلة من عندك.
وذكر أبو محمد بن طغج أن أباه استخفى مرة، فعرفه يهوديٌّ فقال مجيباً له:
لا تلومن اليهودي على ... أن يرى الشمس فلا ينكرها
يقول: لا تلومن اليهودي في أن يعرفه، لأنه في اشتهاره كالشمس، فتنكره لا يصير كافياً. وأراد بقوله: لا ينكرها أن يعرفها.
إنما اللوم على حاسبها ... ظلمةً من بعد ما يبصرها
يقول: لا لوم على اليهودي في معرفة أبيك، وإنما اللوم على من يحسب الشمس ظلمة وهو يبصرها! وليس ذلك إلا من يعرف أباك.
وسئل عما ارتجل من الشعر بديها فأعاده، فتعجب قومٌ من حفظه إياه! فقال:
إنما أحفظ المديح بعيني؛ لما أرى في الأمير من خصال حميدة؛ إذا نظرت إليها نظمت إلي تلك الخصال غرائب المعاني المنثورة. فكأن أقرءها من كتاب!
وجرى الحديث في وقعة ابن أبي الساج مع أبي طاهر القرمطي، فاستعظم بعض الجلساء ذلك وجزع له، فقال أبو الطيب لأبي محمد منشداً.
أباعث كل مكرمةٍ طموح ... وفارس كل سلهبةٍ سبوح
المكرمة الطموح: بعيدة الصيت. والسلهبة: الفرس الطويل. والسبوح: الذي يجري جري السابح في الماء. وهي صفة يمدح بها الخيل.
يقول: يا من يفعل كل مكرمة بعيدة الصيت لا ينالها غيره، ويا فارس كل فرس كريمة عتيقة.
وطاعن كل نجلاءٍ غموس ... وعاصي كل عذالٍ نصيح
النجلاء: الواسعة. والغموس: العميقة القعر.
يقول: يا من يطعن كل طعنة واسعة عميقة، ويا من يعصي في القتال، والسخاء كل عذالٍ نصيحٍ في عذله! وروى: كل عذال فصيح.
سقاني الله قبل الموت يوماً ... دم الأعداء من جوف الجروح
يقول: سقاني الله دم الأعداء من جروحهم، وشفى قلبي من الغيظ. بقتلهم. وهذا دعاء بلفظ الخبر.
وأطلق أبو محمد الباشق على سماناتٍ: فأخذها فقال:
أمن كل شيءٍ بلغت المرادا ... وفي كل شأوٍ العبادا؟
فماذا تركت لمن لم يسد ... وماذا تركت لمن كان سادا؟
الألف: للتقرير والإثبات.
يقول: قد نلت مرادك من كل ما طلبت، وسبقت الخلايق في كل غاية أردت، فلم يبق شيء من الفضائل إلا حزته، ولم تترك لمن طلب السيادة فعلاً يسود به، ولم تبق لمن يسد فعلاً يتوصل به إلى السيادة!

كأن السماني إذا ما رأتك ... تصيدها، تشتهي أن تصادا
أي قد صدتها في أسرع وقت، فكأنها كانت تشتهي أن تصيدها، فمكنت الباشق من نفسها محبة لك.
واجتاز أبو محمد ببعض الجبال فأثار بعض الغلمان خشفاً فالتقفته الكلاب فقال يصف صيد كلاب ابن طغج: !وشامخٍ من الجبال أقود
فردٍ كيافوخ البعير الأصيد
شامخ: أي مرتفع. والأقود: قيل الطويل، وجمع بينهما في الوصف بالعلو. وقيل الأقود: الممتد على وجه الأرض، شبهه بيافوخ البعير الأصيد، لا عوجاجه وعلوه، ليكون متضمناً مع الارتفاع الاعوجاج.
يسار من مضيقه والجلمد
في مثل متن المسد المعقد
شبه ضيقه وخشونته؛ لما فيه من الحجارة بحبل من ليف، عليه عقد كثيرة؛ وذلك لما فيه من الالتواء والخشونة
زرناه للأمر الذي لم يعهد
للصيد والنزهة والتمرد
النزهة: الخروج إلى الخضرة والبساتين للراحة. والتمرد: اللعب والطرب ها هنا. روى: لم يعهد أي هذا الشامخ لم يعهد.
يقول: زرنا هذا الجبل الذي لم يعهد جبل مثله، لأنه لم يصد فيه أحد؛ لعلوه، إلا هذا الأمير، وذلك الأمر هو الصيد والنزهة واللهو، وليس هذا موضعاً لهذه الأمور، فلهذا قال: لم يعهد.
وروى أبو الفتح: أي أن الأمير لم يعهد على ذلك، لأن عادته الاشتغال بالجد والتشمر دون اللهو واللعب والطرب.
بكل مسقي الدماء أسود
معاودٍ مقودٍ مقلد
يقول: زرنا هذا الجبل بكل كلب أسود، قد سقى الدماء من الصيد، وهو معود للصيد ضار، وفي عنقه مقود: أي عليه قلادة.
بكل نابٍ ذربٍ محدد
على حفافي حنكٍ كالمبرد
الذرب: المحدود. والحفافان: الجانبان يقول: له ناب حاد، وهذا الناب على جانبي حنك صلب خشن كأنه مبرد.
كطالب الثأر وإن لم يحقد
يقتل ما يقتله ولا يدري
يقول: إنه لحرصه على الصيد كأن له عنده ثأراً، وإن لم يكن له حقد، وإنه إذا قتل صيداً لم يخف أن يطالب بديته فلا تجب عليه ولا يبالي لذلك.
ينشد من ذا الخشف ما لم يفقد
فثار من أخضر ممطورٍ ندي
يقول: الكلب يطلب هذا الخشف كأنه قد فقده، وليس الأمر كذلك. فثار: أي ظهر الخشف لما رأى الكلب يطلبه من بين روضٍ أخضر قد أصابه المطر فهو ندي من المطر والروائج الطيبة.
كأنه بدء عذار الأمرد
فلم يكد إلا لحتفٍ يهتدي
يقول: كأن هذا الروض الأخضر ابتداء عذار الأمرد حين خروجه. ثم يقول: إن الخشف لم يكد يهتدي إلا لما فيه هلاكه؛ لأن ثورانه كان سبباً لهلاكه.
ولم يقع إلا على بطن يد
ولم يدع للشاعر المجود
وصفاً له عند الأمير الأمجد
الملك القرم أبي محمد
يقول: لم يقع هذا الخشف إلا على بطن يد. وقيل: أراد أنه لم يقع على الأرض إلا اختطفوه في الحال، فلم يقع إلا على أيديهم.
ولم يدع هذا الغزال للشاعر الجيد الشعر وصفاً له! إنه صار عاجزاً من بين الغزلان. وقيل: إن الكلب بالغ في صيده حتى فاق الوصف، وأعجز كل شاعر عن وصفه عند الأمير.
والهاء في له للغزال وللكلب. وقيل: للشاعر.
القانص الأبطال بالمهند
ذي النعم الغر البوادي العود
يقول: هو الملك السيد الذي يصيد الشجعان بالسيف المهند، وهو ذو النعم الظاهرة المشهورة، يبتدىء بها ويعيد، فهي متتابعة.
إذا أردت عدها لم أعدد
وإن ذكرت فضله لم ينفد
يقول: إذا أردت إحصاء نعمه لم أجد لها عدداً لكثرتها، وإن أردت وصف فضله لم ينفذ ولم ينقطع.
وقال وقد استحسن عين بازٍ في مجلسه فقال يصفها:
أياما أحيسنها مقلةً ... ولولا الملاحة لم أعجب
الأصل: ما أحسنها مقلةً! فصغر فعل التعجب لنا للتعظيم أو للتلطف.
وإنما جاز تصغيره مع أنه فعل، لأنه أشبه الأسماء فلا ينصرف فأعطى بعض الأحكام.
يقول: ما أحسن هذه المقلة! ولولا ملاحتها ما عجبت منها. ولكن ملاحتها حملتني على التعجب.
خلوقيةٌ في خلوقيها ... سويداء من عنب الثعلب
خلوقية: خبر ابتداء محذوف، أي هي خلوقية. وهو ضرب من الطيب أحمر يميل إلى الصفرة.
يقول: إن عينها الموصوفة بالحسن خلوقية أي تشبه لون الخلوق. لونها: حبة سوداء كأنها من عنب الثعلب. وأراد بها الحدقة.
إذا نظر الباز في عطفه ... كسته شعاعاً على المنكب

يقول: هذا البازي إذا نظر إلى جانبه كسته مقلته الخلوقية شعاعاً على منكبه يعني: أن عينه من صفائها وصقالها، يقع شعاعها على منكب البازي، كما يقع شعاع المرآة على الحائط.
ولما نزل أبوالطيب الرملة سنة ستٍّ وأربعين وثلاث مئة يريد مصر، دعاه أبو محمد فأكل معه وشرب، وخلع عليه وحمله على فرس جوادٍ بسرج ولجام، محليين حلية ثقيلة وقلده سيفاً محلي، وعاتبه على تركه مدحه فقال:
ترك مدحيك كالهجاء لنفسي ... وقليلٌ لك المديح الكثير
يقول: تركي مدحك هجاء لنفسي! لأني كنت قد كفرت نعمك وكفران النعم من أعظم الهجاء، والمديح الكثير قليل لك بالنسبة إلى قدرك.
غير أني تركت مقتضب الشع ... ر لأمرس مثلي به معذور
اقتضاب الشعر: ارتجاله بديهة.
يقول: إني تركت ارتجال الشعر لا روي فيه؛ لأني على ظهر السفر، وهذا عذر بين، ويجوز أن يكون ذلك لأنه لا يمكنه استيعاب مدائحه على حد الارتجال، وقيل: كان عذره واضحاً عنده، فاكتفى بما عنده من ذلك.
وسجاياك مادحاتك لا لفظي ... وجودٌ على كلامي يغير
روى: لا شعري، ولا لفظي.
يقول: ما فيك من خلائقك الكريمة يقوم مقام شعري، لأن جودك يغير على كلامي، فليس يمكنني أن أحيط بجودك، فكلما قلت شيئاً غلب عليه جودك فأغار عليه.
فسقى الله من أحب بكفي ... ك وأسقاك أيهذا الأمير
يقول: سقى الله من أحبه على يديك، فنوالهما أنفع من مطر السحاب! وسقاك الله أيها الأمير.
فلما أراد أن يرحل قال يودع الأمير ابن طغج:
ماذا الوداع وداع الوامق الكمد ... هذا الوداع وداع الروح للجسد
الكمد: المغموم. والكمد: الغم.
يقول: وداعي لهذا الأمير ليس يشبه وداع عاشق لحبيبه ولكنه وداع الروح للجسد. أي هو موته.
إذا السحاب زفته الريح مرتفعاً ... فلا عدا الرملة البيضاء من بلد
زفته: ساقته. والرملة: مدينة بالشام بقرب بيت المقدس.
يقول: إذا ساقت الريح السحاب، فلا تجاوز هذه البلدة. دعاء لها بالسقيا؛ لأن الممدوح كان فيها.
ويا فراق الأمير الرحب منزله ... إن أنت فارقتنا يوماً فلا تعد
أي: إن جمع الله بيننا بعد هذا الفراق، فلا فراق بعده.
قال يمدح طاهر بن الحسين العلوي وحدث أبو عمر عبد العزيز بن الحسن السلمي قال: سألت محمد بن القاسم المعروف بالصوفي: كيف كان سبب امتداح أبي الطيب لأبي القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي؟ فحدثني أن الأمير أبا محمد لم يزل يسأل أبا الطيب في كل ليلة من شهر رمضان، إذا اجتمعنا عنده للإفطار، أن يخص أبا القاسم طاهر من شعره بقصيدة يمدحه فيها. ويذكر أنه اشتهى ذلك. ولم يزل أبو الطيب يمتنع ويقول: ما قصدت غير الأمير ولا أمتدح سواه، فقال له الأمير: قد كنت عزمت على أن أسألك في قصيدة أخرى تعملها، فاجعلها في أبي القاسم. وضمن عنه مئات دنانير، فأجابه إلى ذلك.
قال محمد بن القاسم: فمضيت أنا والمطلبي برسالة طاهر لوعد أبي الطيب، حتى دخلنا إلى بيته، فركب معنا ودخلنا على طاهر وعنده جماعة من أهل بيته، وأشراف، وكتاب فلما أقبل أبو الطيب نزل أبو القاسم طاهر عن سريره وتلقاه بعيداً من مكانه مسلماً عليه، ثم أخذ بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها قاعداً، وجلس بين يديه، فتحدث معه طويلاً ثم أنشده، فخلع عليه للوقت خلعة نفيسة.
قال عبد العزيز: وحدثني أبو علي بن القاسم الكاتب. قال: كنت حاضراً لهذا المجلس، وهو كما حدثك به أبو بكر الصوفي.
ثم قال لي: اعلم أني ما رأيت ولا سمعت في خبر أن شاعراً أجلس الممدوح بين يديه مستمعاً لمدحه غير أبي الطيب، فإني رأيت طاهراً تلقاه، وفعل كما ذكرنا فأنشده المتنبي:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
يقول: للذين ساروا بالجواري: أعيدوا علي الصبح، فقد ارتحل عني برحيلكم، أي أظلمت الدنيا علي لبعدكم! فردوا إلي النوم، فقد أخذتموه معكم. ومعناه: أعيدوا الكواعب ليرجع إلي صباحي، لأن الدنيا أظلمت على بعدهن! فهن صباحي الذي تزول به هذه الظلمة، وردوا أحبائي ليرجع إلي نومي؛ لأنه ارتحل برحيلهن.
وقيل: أراد طال ليلي فلو أعدتم إلي الكواعب والحبائب لقصر وعاد صبحي.
وقوله: لحظ الحبائب معناه: رقادي رؤية أحبائي ومشاهدتهن

============

ج4. أبو العلاء المعري


فإن نهاري ليلةٌ مدلهمةٌ ... على مقلةٍ من فقدكم في غياهب
مدلهمة: أي مظلمة. والغيهب: الظلمة.
يقول: إن نهاري أظلم من غيهب، منذ فقدتكم، فكأن مقلتي في ظلمات الليل.
وقيل: أراد أني قد بكيت لشدة الحزن حتى عميت عيني! فلا أبصر شيئاً، فصار نهاري، ليلاً وضيائي ظلاماً، لفقدكم وفراقكم.
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدبس بحاجب
بعيدة: جر لأنه صفة لمقلة وقيل: بدل عنها.
يقول: تباعد ما بين أجفان عيني فلا يلتقي الجفنان، فكأن أعالي أهداب الجفون معقود بشعور الحاجب فلا ينطبق. ومثله لبشار قوله:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
ومثله للتهامي:
قصرت جفوني، أم تباعد بينها؟ ... أم صورت عيني بلا أشفار؟
وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقته والدهر أخبث صاحب
أي: من عادة الدهر مخالفة هواي! فلو كنت أهوى أني أفارقكم لفارقت الفراق وواصلتموني. ثم ذم الدهر وقال: الدهر أخبث صاحبٍ للإنسان؛ لأن كل صاحب خالفك فهو خبيث. والهاء في فارقته للفراق.
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب
يقول: ليت ما بيننا من البعد الحاصل، كان بيني وبين المصائب.
يعني: ليت الأحبة قريبة مني والمصائب قد بعدت.
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدرٍّ عن لقاء الترائب
السلك: الخيط وعقته: منعته.
يقول: أظن أنك حسبت جسمي خيط العقد الذي عليك؛ لأنه يشبهه في الدقة، فحجبته بالدر الذي نظمته فيه عن ملاقاة نحرك كما حجبتني عنك، أبعدتني عن قربك.
ولو قلمٌ ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
يقول: صرت من الدقة بحيث لو وقعت في شق قلم كاتبٍ لم يغير شيئاً من خطه!! وهذا من مبالغات أبي الطيب المتنبي.
تخوفني دون الذي أمرت به ... ولم تدر أن العار شر العواقب
يقول: أمرتني المحبوبة بترك المخاطرة بالنفس والمال، وخوفتني عواقب المخاطرة، ولم تعلم أن العار الذي يحصل بتحمل الضيم شرٌّ في عاقبته من الخوض في المهالك.
وقيل: معناه أنها أمرتني ألا أزورها شفقة علي وخوفاً من أن أقتل، ولم تدر أن تركي زيارتها هو العار، لأنه يؤدي إلى الجبن والجبن عار العار، وشر العواقب.
ولا بد من يومٍ أغر محجلٍ ... يطول استماعي بعده للنوادب
يقال: أغر محجل إذا كان مشهوراً كشهرة الفرس الأغر المحجل.
يقول: لابد من أن أوقع بيني وبين أعدائي يوماً مشهوراً أقتل فيه الملوك والسادة فأسمع بعد مدة طويلة صياح النساء النوادب يندبن عليهم.
يهون على مثلي إذا رام حاجةً ... وقوع العوالي دونها والقواضب
الهاء في دونها للحاجة.
يقول: إذا طلب مثلي حاجة يسهل عليه الحروب، ولا يبالي بحلول الرماح به، ووقوع السوف عليه حتى يصل إلى مراده؛ لأن الوصول إلى الأمر العظيم يكون بالمخاطرة بالنفس العظيمة.
كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب
يقول: غاية الإنسان الموت، طالت حياته أم قصرت، وعيشه الباقي إلى نفادٍ، مثل عيشه الماضي، فلم أخاف الموت وأحمل الضيم والذل؟
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
يقول للعاذلة: إليك عني، أي كفي لومك، فلست ممن إذا اتقى عظيمةً صبر على مذلة وهوان. فشبه عظيمة بالأفاعي وشبه الذل بالعقارب.
يعني: إن نام فوق العقارب يؤده لسعها إلى الموت، كما لو نهشت الأفاعي، فكذلك العار يؤدي الإنسان إلى الهلاك، بل هو أشد منه؛ فإن ذلك يتكرر، والهلاك دفعة واحدة فهو أسهل، كما أن الهلاك بنهش الأفعى أطيب من تكرار لدغ العقرب.
وقيل: معناه إني لا أهرب من مكروه القتل والموت إلى مكروه العار وقبول الضيم، وإن كان أيسر من الموت، كما أن ضرب العقارب أسهل من ضرب الأفاعي، ومع ذلك فإن أحداً لا يختار ذلك إلا أنا وحدي.
أتاني وعيد الأدعياء وأنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب
كفر عاقب: قرية بالشام أو مدينة. وكل قرية يقال لها: كفر. والسودان: قيل أراد به جمع أسود سالح، وهو الحية السوداء.
يقول: إنهم أوعدوني وإنهم أعدوا لي في هذه القرية السودان: أي الدواهي. وقيل: أراد قوماً من الزنج أرصدهم هؤلاء لقتله.

ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في وحدي قولهم غير كاذب؟!
يقول: لو كانوا صادقين في انتسابهم إلى جدهم، لكنت أحذرهم لمكان وعيدهم، وأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم، وأعلم أنهم يقدرون على ما توعدوا لي به، من إلحاق المكروه بي؛ لأن تلك عادة الأشراف، ولكنهم أدعياء، فأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم إياي، كما كذبوا في نسبهم.
وقيل: أراد أنهم يكذبون علي في سعايتهم كما يكذبون في انتسابهم إلى غير أبيهم، فلا أخاف مهم، لأن كل أحد يعلم أن سعايتهم في زور وبهتان كنسبهم.
إلي لعمري قصد كل عجيبةٍ ... كأني عجيبٌ في عيون العجائب
يقول: كل عجيبة من حوادث الدهر تقصدني، وكأني عجيب في عيونها، فتقصدني لترى في عجباً!
بأي بلادٍ لم أجر ذوائبي ... وأي مكانٍ لم تطأه ركائبي
يقول: أي مكان لم أسحب فيه ذوائبي عرصاته؟! ولم أجر فيه ذيول الصبا والعز، وأي موضع لم تطأه إبلي؟ إما غزواً للأعداء، أو مدحاً للملوك. ومثله للنميري:
وفي كل أرضٍ للنميري منزلٌ ... وفي كل أرضٍ للنميري صاحب
كأن رحيلي كان من كف طاهرٍ ... فأثبت كوري في ظهور المواهب
يقول: لم يبق في الدنيا موضع إلا قصدته، حتى كأن خروجي من ظهر كف طاهر، وكأن رحلي مشدودة في ظهور مواهبه! فهي تسيرني شرقاً وغرباً.
يعني: أن مواهبه تصل إلى كل أحد، كما بلغت أنا كل موضع، فكأني راكب على ظهر مواهبه، ملتمساً من كفه.
فلم يبق خلقٌ لم يردن فناءه ... وهن له شربٌ ورود المشارب
الشرب: النصيب من الماء. والمشارب: موارد الماء. والكناية في يردن: للمواهب. وفي له: للخلق. وتقديره: فلم يبق خلق لم يردن فناءه ورود المشارب، وهن له شرب.
يقول: لم يبق أحد من الناس إلا والمواهب وردت فناءه، كما يرد الناس المشارب، وهذه المواهب شرب للخلق، ومع ذلك ترد أفنيته الناس، والعادة أن الناس يردون المشارب فيسقون، ولكن مواهبه شربٌ لكل أحد يرد عليه، لا يحوجه إلى أن يقصده المستسقي، وقيل: الهاء في له: للممدوح. يعني: أن المواهب شرب له ينتفع به، كما ينتفع بالماء وارده. وانتفاعه به وهو الدعاء له والثناء عليه.
فتى علمته نفسه وجدوده ... قراع الأعادي وابتذال الرغائب
الرغائب: جمع رغيبة وهو المال المرغوب فيه.
يقول: إن نفسه علمته مضاربة الأعداء والأبطال، وابتذال الأموال، وعلمه هاتين الخصلتين أيضاً آباؤه الكرام، وأجداده العظام وإن مجده وشرفه وسخاءه وشجاعته، ليست بطارئة عليه بل موروثة له.
فقد غيب الشهاد عن كل موطنٍ ... ورداً إلى أوطانه كل غائب
يقول: إن سخاءه انتشر في الناس، فدعا المقيم في وطنه إلى تركه وقصده، وأغنا كل وارد إليه، فرده إلى وطنه برفده. وقابل الشهاد، وهو جمع الشاهد، وأراد به الحاضرين. بقوله: كل غائب وهو واحد، لأنه في معنى الجمع وأراد به الغائبين.
كذا الفاطميون الندى في بناتهم ... أعز امحاءً من خطوط الرواجب
الرواجب: بطون مفاصل الأصابع. الواحد رجبة. وقيل: هي عصبة الأصابع. وروى: أشد امحاءً وأعز امحاءً أي أشد امتناعاً.
يقول: كل من كان من ولد فاطمة مجبول على الجود فلا ينمحي عز أصابعهم، كما تنمحي الرواجب عن الأصابع، بل هي أشد وأمنع.
أناسٌ إذا لاقوا عدىً فكأنما ... سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب
يقول: هم أناس إذا لاقوا أعداءهم في الحرب، كان سلاح أعدائهم ودرعهم غبار خيلهم التي ركبوها، فسلاحهم ودروعهم لا ترد عنهم ولا تمنعهم، كما لا يمنعهم الغبار.
وقيل: معناه إنهم إذا لقوا أعداءهم كان أمضى سلاحهم، إثارة الغبار في الهزيمة والهرب يعني أنهم إذا هربوا منعوا أنفسهم من الهلاك كما يمنعوها بالسلاح.
رموا بنواصيها القسي فجئنها ... دوامي الهوادي سالمات الجوانب
الهوادي: الأعناق. والهاء في نواصيها: للسلاهب. وفي جئنها: للقسي.
يقول: رموا بنواصي خيلهم القسي فوصلن إلى القسي داميات الأعناق بالسهام التي وقعت عليها قبل وصلوهن إلى القسي، وأصحابها لم يستدبرن، ولم يعرضن بل مضين قدماً إليهم، وسلمت جوانبهن وأعطافهن. وروى: سائلات الجوانب أي بالعرق.
أولئك أحلى من حياةٍ معادةٍ ... وأكثر ذكراً من دهور الشبائب

يقول: إنهم في قلوب الناس أحلى من الحياة التي عادت بعد ذهابها، وإن ذكرهم عند الناس، أكثر من ذكرهم لأيام الشباب.
نصرت علياً يا ابنه ببواترٍ ... من الفعل لا فلٌّ لها في مضارب
يقول: قد فعلت من المكارم ما دل على كرم أبيك، فكأن ذلك كالنصرة له، وهذه السيوف البواتر من الفعل ليس في مضاربها فل. وقيل: أراد بذلك أنك ملت إليه بشبهك له. يقال: نصرت له بني فلان أي أتيتها وقصدتها.
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوك وإحدى مالكم من مناقب
يقول: أعظم آيات التهامى كونه أباك، ولكم مناقب كثيرة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم جدك وأباك إحدى تلك المناقب.
وهذا في الظاهر يوجب تفضيله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن جنى أن أبا الطيب: كان يتعسف في الاحتجاج له والاعتذار بما لست أراه مقنعاً، وأعرضت عن ذكره.
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي يغني كرام المناصب؟
النسيب: ذو النسب الكريم. والمناصب جمع منصب والمنصب: الأصل.
يقول: إذا لم يكن الرجل كريماً في نفسه وفعله، لم ينفعه كرم أصله.
وما قربت أشباه قومٍ أباعدٍ ... ولا بعدت أشباه قومٍ أقارب
يقول: لا يغني تشابه الخلق إذا تباعدت الأفعال، ولا يضر فقد التشابه في الخلق، إذا وجد التشابه في الأفعال الشريفة الكاملة.
إذا علويٌّ لم يكن مثل طاهرٍ ... فما هو إلا حجةٌ للنواصب
النواصب: معادون لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
يقول: كل علويٍّ لا يشبهه من أولاده، فهو حجة للنواصب؛ لأنهم يتمسكون به.
يقولون: تأثير الكواكب في الورى ... فما باله تأثيره في الكواكب
يقول: إن الناس يزعمون أن الكواكب تؤثر في الخلق، فتسعد قوماً وتنحس آخرين! وهذا الممدوح يؤثر في الكواكب ويصرفها على مراده، ولا تقدر الكواكب على منعه منه، ولأنه علاها فجعلها معلوة بعد أن كانت عالية على كل شيء.
وقيل: إن تأثيره في الكواكب هو إثارة الغبار بخيله في غزواته حتى لا تظهر النجوم ويزول ضوء الشمس فتطلع الكواكب بالنهار.
علا كتد الدنيا إلى كل غايةٍ ... تسير به سير الذلول براكب
الكتد والكتد: أعلى الكتف. وقيل: العنق.
يقول: علا كتد الدنيا فهي تسير به إلى كل غاية، كما يسير الجمل الذلول، والفرس.
وحق له أن يسبق الناس جالساً ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
جالساً: حال من الضمير في يسبق. غير: حال من الضمير في يدرك.
يقول: حق للممدوح أن يسبق الناس جالساً، بما قد اجتمع فيه من الفضائل والمناقب، وأن يدرك من غير سعي ما لا يدركه أحد.
ويحذى عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب عرانين نصب لأنه مفعول ثان ليحذى. والمفعول الأول ضمير الممدوح.
يقول: حق له أن يجعل أنوف الملوك نعلاً لقدميه! وكأن ذلك أجل مرتبة لها، وأعز مكاناً؛ لأنها تتشرف بشرفه.
يدٌ للزمان: الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب
الجمع: مبتدأ، ويدٌ خبره. وهي النعمة.
يقول: جمع الزمان بيني وبينه أي الممدوح، فهذه نعمة للزمان علي، لأنه فرق بيني وبين نوائب الدهر.
هو ابن رسول الله وابن وصيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
يقول: هو يشبه رسول الله، وعلياً، فعلاً وفضلاً، ولم أقل ذلك من جهل، ولكن عن تجربة وعلم.
يرى أن ما ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب
ما: الأولى نافية. والثانية: بمعنى الذي، واسم أن: محذوف. والتقدير: أنه ليس الذي بان منك لضارب، بأقتل مما بان منك لعائب.
يقول: هو يرى أنه ليس ما ظهر منه لحد السيف، بأقرب إلى القتل مما ظهر منه للعائب أن يعيبه. أي أن القتل أسهل عنده من العيب! والعيب أشد من القتل ومثله:
فتىً يتقي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله في الكتائب
روى: أباره وأباده: أي أهلكه.
يقول لماله الذي قد فرقه في العطاء: تعز على إهلاكه إياك؛ فهكذا يفعل في الكتائب ويبرزها.
لعلك في وقتٍ شغلت فؤاده ... عن الجود أو كثرت جيش محارب

يقول: إنما أبادك يا مال؛ لأنك ربما حسنت عنده الإمساك، وشغلته بالعدو عن الجود، وأكثرت جيش عدوه بالاستعانة بك.
حملت إليه من لساني حديقةً ... سقاها الحجي سقى الرياض السحائب
شبه قصيدته بالحديقة، لأنها تجمع بديع المعاني، وغرائب الألفاظ، كما تجمع الحديقة من الأثمار والأنوار.
وتقدير البيت: سقى السحائب الرياض حر السحائب، بإضافة السقي إليها، وفصل بين المضاف والمضاف إليه.
يقول: حملت إليه حديقةً من المدح، سقاها العقل، كما يسقي السحاب الروض؛ وذلك لأنه بالعقل يرتب مثل هذا الترتيب وبه يستخرج مثل هذه المعاني.
فحييت خير ابنٍ لخير أبٍ بها ... لأشرف بيتٍ من لؤي بن غالب
خير: نصب على المنادى المضاف، أو على الحال، وروى: فحييت أي حييت أنا خير ابن. فنصبه على المفعول به. والضمير في بها: قيل: للحديقة التي هي القصيدة، أي حييت بهذه القصيدة خير ابن، وقيل: الضمير للأرض، وإن لم يجر لها ذكر: أي خير ابن لخير أب بهذه الأرض.
يقول: حييت بهذه القصيدة خير ابنٍ، أبوه خير أبٍ، وبيته لي لؤي بن غالبٍ، أشرف بيت؛ لأنه من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد أفضل منه، فكأنه قال: هو أشرف الناس.
وكانت لأبي الطيب حجرة تسمى الحمامة، ولها مهر يسمى الطخرور. فأقام الثلج على الأرض بأنطاكية، وتعذر الرعي على المهر فقال يصف تأخر الكلأ عنه:
ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرة العوائق
المروج: جمع مرج، وهو كل موضع لا ينقطع عنه العشب والماء. والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان ذو الحائط. والخلا: النبات الرطب، وهو فاعل يشكو ومفعوله كثرة. والعوائق: جمع عائق وهي الموانع.
يقول: أي شيء للمراعي والبساتين؟! فإن نباتها يشكو الموانع.
أقام فيها الثلج كالمرافق
يعقد فوق السن ريق الباصق
يقول: قد لازم هذه المروج والحدائق الثلج ملازمة المرافق لرفيقه، فاشتد البرد وعقد الثلج ببرودته ريق الباصق فوق سنه يجمده. يعني: لو أراد الإنسان أن يبصق ما أمكنه! بل وجد بصاقه معقوداً فوق سنه.
ثم مضى لا عاد من مفارق
بقائدس من ذوبه وسائق
يقول: أقام الثلج فيها مدة ثم مضى، فلا رده الله من مفارق، وجعل لذوبانه قائداً وسائقاً. على سبيل الاستعارة.
يعني: من سرعة ذهابه بعد إقامته مدة كأن قائداً يقوده وسائقاً يسوقه؛ لأن السائق والقائد إذا اجتمعا كان أبلغ في ذهابه، وجعل ابتداء الذوب قائداً وانتهاءه سائقاً وقيل القائد المطر، والسائق الريح.
كأنما الطخرور باغي آبق
يأكل من نبتٍ قصيرٍ لاصق
الطخرور: اسم مهر لأبي الطيب، كان ينتقل من مكان إلى مكان في طلب العشب، فهو يأكل من نبت قصير لاصق بالأرض.
كقشرك الحبر من المهارق
أروده منه بكالسوذانق
المهارق: جمع المهرق، وهو الصحيفة المصقولة، وهو فارسي معرب. أصله: مهرة كردة. والسوذانق: الشاهين. وقيل: الصقر. وقوله أروده: أي أطلبه. وقيل: أراد أرود فيه: أي أذهب وأجيء في طلبه، والهاء: للنبت وفي منه للمهر. والكاف: اسم. أي بمثل السوذانق يقول: كأن المهر حين يرعى يقشر حبراً من قرطاس، وأنا أطلب هذا النبت من هذا المهر بمهر يشبه السوذانق في حدته وذكائه وفطنته ومضائه.
بمطلق اليمنى طويل الفائق
عبل الشوى مقارب المرافق
مطلق اليمنى: أي ليس في يده اليمنى بياض. وقيل: يمناه بيضاء. والفائق: موصل الرأس والعنق، وإذا طال ذلك الموضع طالت عنقه. والعبل: الضخم. والشوى: القوائم. وقوله: مقارب المرافق: أي مرافقة متقاربة. وقيل: إحدى المرفقين تداني الأخرى. وقيل تشبه إحداهما الأخرى.
رخو اللبان نائه الطرائق
ذي منخرٍ رحبٍ وإطلٍ لاحق
اللبان: الصدر.
يقول: إن جلد صدره قد استرخى على صدره، وهو محمود في الخيل. ونائه: روى بالهمزة وهو العالي، من ناه نوها، ونوهته أنا: أي رفعته. وروى بالباء: وهو الشريف من قولهم: نبيه. والطرائق: الأخلاق. ويستحب في المنخر السعة؛ لئلا يحتبس النفس. والإطل: الخاصرة. ولاحق: أي ضامر.
محجلٍ نهدٍ كميتٍ زاهقٍ
شادخةٍ غرته كالشارق

محجل: أي في قوائمه بياض. ونهد: أي عالٍ مرتفع الشخص. كميت: أي أحمر اللون أسود القوائم والفرق. زاهق: أي سمين، وقيل هو المتوسط بين السمين والهزيل. والغرة الشادخة: التي تغشى الوجه من الناصية إلى الأنف. والشارق: الشمس. شبه بياض وجهه بالشمس حسناً وضياء.
كأنها من لون في بارق
باقٍ على البوغاء والشقائق
وروى: كأنه إلى المهر، وكأنها إلى الغرة. والبارق: السحاب ذو البرق.
شبه غرته بالشمس، ثم شبه لون المهر بالسحاب الذي فيه ضوء البرق وهو يكون مائلاً إلى الكميت. والبوغاء: التراب الدقيق. والشقائق: جمع شقيقة وهي أرض تنشق بين الرمال، تنبت الشجر والعشب. وقيل: أرض فيها حصاً ورمل. يعني أن لونه باقٍ سواء سرت في السهل أو في الجبل، وفي الحر أو في البرد. وقيل: معناه أنه صبور على الشدائد؛ لأنه معود مدرب.
والأبردين والهجير الماحق
للفارس الراكض منه الواثق
الأبردين: الغداة والعشي. والهجير: الحر الشديد، عند انتصاف النهار. والماحق: الذي يمحق كل شيء؛ لشدة الحر. أي يذيبه ويهلكه.
يعني: أنه صبور على الكد، لا يتعبه السير في الجبل والسهل، ولا يضره معاقبة الحر والبرد. ثم بين أن الفارس الواثق بنفسه في الفروسية، إذا ركضه خاف منه.
خوف الجبان في فؤاد العاشق
كأنه في ريد طودٍ شاهق
ثم إن الفارس الواثق بفروسيته، إذا ركبه وركض به، يحصل له خوف العاشق؛ وذلك لأن العاشق قلبه مضطرب، فإذا حله خوف الجبان مع اضطرابه يكون خوفاً على خوف.
وقيل: معناه أنه يخاف منه وهو يعشقه ويشتهي ركوبه. ريد الجبل: حرفه الثاني منه. والطود: الجبل. الشاهق: العالي.
يشأى إلى المسمع صوت الناطق
لو سابق الشمس من المشارق
يشأى: أي يسبق، والمسمع: الأذن وفي في قوله: في ريد طود بمعنى: على.
يقول: كأن الفارس على حرف جبل عالٍ؛ لخوفه منه.
شبه المهر بالجبل، ثم قال: إنه لو سابق صوت ناطق لوصل إلى أذن السامع قبل وصول صوت الناطق إليه. وقيل: أراد: أن الناطق إذا دعا هذا المهر أسرع كالصدى، حتى كأنه يسبق نطق الناطق في جبل عالٍ.
وقيل: معناه أنه يسبق إلى أذن الصيد صوت الفارس الذي ينطق على ظهره أي يلحقه قبل بلوغه هذا الصوت، ثم قال: لو سابق هذا المهر الشمس من شرقها لسبقها إلى الغرب.
جاء إلى الغرب مجيء السابق
يترك في حجارة الأبارق
آثار قلع الحلى في المناطق
مشياً وإن يعد فكالخنادق
الأبارق: جمع أبرق، وهو أرض يخالطها حجارة، وقيل: أكمة فيها طين وحجارة، وقيل: جبل فيه حجارة سود وبيض.
شبه آثار حوافره في الأرض الصلبة إذا مشى بآثار قلع الحلى من المنطقة؛ لأنه يكون مدوراً، شبه حافر المهر به لتدويره، وبين أنه إنما يؤثر في الأرض مثل هذه الآثار إذا كان ماشياً، فأما إذا عدا عدواً فإنه يشقها شقاً كالخنادق! وقوله مشياً مصدر واقع موقع الحال أي ماشياً.
لو أوردت غب سحابٍ صادق
لأحسبت خوامس الأيانق
قوله: غب سحاب. أي بعد سحاب صادق بالمطر. وقوله: أحسبت أي كفت. وخوامس الأيانق: هي الإبل العطاش التي لم ترد الماء خمسة أيام.
يقول: لو أوردت هذه الخنادق التي حصلت من حوافره، بعد سحاب صادق بالمطر لكفت هذه الخنادق الإبل التي لم تشرب الماء خمسة أيام. أي أن الماء الذي يحصل في هذه الخنادق يرويها على عطشها!.
إذا اللجام جاءه لطارق
شحا له شحو الغراب الناعق
قوله لطارق: أي لأمر طارق، أي جاء ليلاً.
يقول: إذا جئته باللجام ليلاً لأمر حادث من إغرة أو إغاثة، فتح فمه كما يفتح الغراب فمه حين ينعق.
كأنما الجلد لعرى الناهق
منحدرٌ على سيتي جلاهق
لكل ذي حافر ناهقان: وهما عظمان أو عرقان يكتنفان قصبة الأنف ويستحب ألا يكون عليه لحم. والجلاهق: قوس البنادق. والناهق: قيل هو العظم الشاخص في حنك الفرس عند مجرى الشدق.
شبه جلده على ناهقه، وقد عري من اللحم بمتن قوس البندق لصلابته وزوال رخاوته.
بذ المذاكي وهو في العقائق
وزاد في الساق على النقانق
بذ: أي غلب، وسبق الخيل القرح، التي تمت أسنانها. والعميقة: الشعر للمولود، الذي ولد وهو عليه. والنقانق: جمع نقنق وهو الظليم

يقول: إنه سبق الخيل القرح! وهو بعد في شعره الذي ولد فيه، وهو في العقيقة: في بطن أمه لم ينفصل بعد وهذا كقول الشاعر:
قد سبق الأبلق وهو رابض
فكيف لا يسبق وهو راكض؟!
ثم قال: إنه زاد في طول الساق على الظليم. وهو محمود في الخيل وتوصف به.
وزاد في الوقع على الصواعق
وزاد في الحذر على العقاعق
يقول: إن الصوت من وقع حوافره يزيد على وقع الصاعقة النازلة عند صوت الرعد! وقيل: أراد أن صوت وقع حوافره أشد من صوت الرعد، وإن زاد في الحذر على العقعق الذي ليس في الطير أحذر منه!
وزاد في الأذن على الخرانق
يميز الهزل من الحقائق
الخرانق: جمع خرنق، وهو الأنثى من ولد الأرنب. ولا شيء أسمع منها، وقيل إن أذنه زائد الطول.
ثم بين أنه يميز الهزل من الجد بحدة سمعه وذكاء فؤاده إذا ركبه.
وينذر الركب بكل سارق
يريك خرقاً وهو عين الحاذق
يريد: أنه لا ينام الليل، فمتى جاء السارق أصحابه صهل حتى ينبههم! كأنه حارس، ويريك من نشاطه وعدوه ما يوهم أنه أخرق وهو حاذق.
يحك أنى شاء حك الباشق
قوبل من آفقةٍ وآفق
الباشق: يكسر ويفتح، وها هنا لا يجوز إلا بالكسر.
يقول: إنه للين مفاصله وطول عنقه، يحك من جسده أي موضع شاء، كالباشق. والآفق: الفاصل الشريف من كل شيء. والآفقة: مؤنثة.
يعني أنه كريم من قبل أبيه وأمه وهو كريم الطرفين، قد قابلت أباؤه أمهاته في الكرم.
بين عتاق الخيل والعتائق
فعنقه يربي على البواسق
العتاق: جمع عتيق. والعتائق: جمع العتيقة. يعني: أنه كريم الآباء والأمهات.
ثم يقول: إن عنقه يزيد على النخل الطوال.
وحلقه يمكن فتر الخانق
أعده للطعن في الفيالق
يقول: إن حلقه لرقته يمكن فتر الخانق منه، فيمكنه أن يقبض عليه بفتره، ثم قال: هو عده لي، للطعن في الفيلق: وهو العسكر العظيم.
والضرب في الأوجه والمفارق
والسير في ظل اللواء الخافق
يقول: هو عدة لي أقاتل عليه أعدائي، وأسير عليه تحت اللواء الخافق: وهو المتحرك المضطرب.
يحملني والنصل ذو السفاسق
يقطر في كمي إلى البنائق
السفاسق: الطرائق في متن السيف كالسراب، وبنائق القميص: الخرق التي تلف البدن من جانبيه، وهي الدخرصة.
يقول: يحملني هذا المهر والسيف يقطر من دماء أعدائي فيختضب كمي وبنائقي.
وقيل: أراد أنه يحملني وأنا متقلد بسيفي، فهو يتحرك بين كمي وبنائقي
لا ألحظ الدنيا بعيني وامق
ولا أبالي قلة المرافق
يقول: يحملني وأنا على هذه الحالة، إذا ركبته في الحرب لم أرغب في الحياة، فأطرح نفسي على الموت ولا أبالي بقلة الأرفاق.
وقيل: هذا منقطع. أي لا أبالي بالدنيا! لعلمي أنها غدارة، ولا أبالي بقلة الأصحاب لعلمي بنفاقهم.
أي كبت كل حاسدٍ منافقٍ
أنت لنا وكلنا للخالق
يقول: يا مهري الذي يكبت كل حاسد كمداً، أنا أملكك والله يملك جميع الخلق.
وقيل: أراد الممدوح أي أنت ملجأنا وكلنا نفتقر إلى الله تعالى.
وكبست أنطاكية، فقتل المهر والحجرة فقال يندب مهره وفرسه:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ ... فلا تقنع بما دون النجوم
غامرت: أي طرحت نفسك في غمرة الحرب.
يقول: إذا غررت بنفسك في شرف طالباً له، فلا تطلب إلا أعظمه، وحدث نفسك بأنك تنال النجوم بعزمك.
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيم
يقول: إن طعم الموت في الحالين لا يختلف، فاختر لنفسك أشرف الأمور وأحسنها.
ستبكي شجوها فرسي ومهري ... صفائح دمعها ماء الجسوم
شجوها: نصب على المصدر، ويكون من الشجو، وقيل: نصب على المفعول له. كأنه جعل الشجو علة للبكاء، وفاعل تبكي: الصفائح ومفعوله فرسي.
يقول: سأشفي نفسي بقتل من قتلهما، فتجري دماء سيوفي كأنها دمع باكٍ على فرسي ومهري.
قربن النار ثم نشأن فيها ... كما نشأ العذارى في النعيم
يقول: إن هذه السيوف قد جعلت النار غذاء لها، وأراد أنها نشأت في النار واكتسبت منها جوهراً وصفاءً، كالعذارى إذا ربين في النعيم.
وفارقن الصياقل مخلصاتٍ ... وأيديها كثيرات الكلوم

يقول: إن الصياقل قد أخلصوها صقالاً، وإنها بحدة شفارها قطعت أيدي صياقلها عند صقلها، وتجربة حدها، فكيف يكون حالها مع غيرهم؟!
يرى الجبناء أن العجز عقلٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
يقول: إن الجبان يخدعه لؤم طبعه، ويصور له أن الاحتراز من الحرب رأي وعقل، وليس كما ظن، وإنما خدعه لؤم طبعه عما في الشجاعة من العز بالفخر بها.
وكل شجاعةٍ في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
يقول: الشجاعة محمودة، وتغني صاحبها وتنفعه، خاصة إذا كان صاحبها حكيماً عاقلاً مدبراً؛ لأنه يستعملها في وقتها ومحلها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
يقول: إن الشجاعة من الأخلاق الكريمة، وإنما يعيبها الجبان؛ لضعف قلبه، كما أن كثيراً من الناس يعيب الأشياء التي لا يلحقها عيب، لجهله بها. وقيل: إنه منقطع، أي كم إنسانٍ يعيب قولاً صحيحاً لا آفة فيه، وإنما يكون من فهم سقيم، حيث لا يتصور جودة الكلام وصحته.
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم
يقول: إن الآذان تدرك الكلام فيعلمه الإنسان، ويأخذ منه بقدر خاطره وعلمه، ويتصوره على حسب قريحته.
وقال يهجو ابن كيغلغ وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية سنة ستٍّ وثلاثين وثلاث مئة، فنزل بطرابلس، وبها إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان رجلاً جاهلاً، وكان يجالسه ثلاثة من بني حيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة. فقالوا له: ما يجب أن يتجاوزك ولم يمتدحك، وإنما يترك مدحك استصغاراً لك، وجعلوا يغرونه به، فراسله إسحاق وسأله أن يمدحه، فاحتج أبو الطيب بيمينٍ عليه: أنه لا يمتدح أحداً إلى مدة حدها، فعاقه عن سفره. ينتظر انقضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطرق وصبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يوماًن فقال أبو الطيب يهجوه وهو بطرابلس.
قال: ولو فارقته قبل قولها لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وخف عن لبنان، خرج كأنه يسير فرسه، وسار إلى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلاً ورجلاً، فأعجزهم وظهرت القصيدة واشتهرت وهي:
لهوى القلوب سريرةٌ لا تعلم ... عرضاً نظرت وخلت أني أسلم
قوله: عرضاً أي من غير قصد. يقول: للهوى سر لا يعرف لطفه ودقته، فلا يوقف عليه إلا بعد ابتلاء به. ونظرت من غير قصد وما ظننت أن الظن يوقعني في حبائل الهوى، بل قدرت أني أسلم ولا أهلك فخاب الظن الذي ظننته.
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرق منك وأرحم
هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه شبب بامرأة، ومدح أخاها بالشجاعة. إشارة إلى أنها ممتنعة لا يقدر على الوصول إليها. يقول: يا أخت الأخ الذي يخالط الأقران في الحرب بشجاعته، إن أخاك في الحرب إذا لقي عدواً أرحم منك وأرق على قربه منك علي، فأنت قد فعلت بالمحب بقلة رحمتك له، ما لا يفعله أخوك في الحرب حرب الأقران.
والوجه الثاني: أنه يهجو أخا المرأة المشبب بها وفيه قولان: أحدهما: أنه يتهمه بإتيان أخته! ومعناه: أن أخاك أرق منك، ثم إن عند خلوته بك، أرحم منك على العاشق.
والقول الثاني: أنه يرمي أخاها بالجبن وضعف القلب؛ لأنه مع وصفه بأنه معتنق الفوارس في الوغى، فإنه أرق قلباً من هذه المرأة مع رقة قلوب النساء، فمن زادت رقته على رقة قلوبهن فهو في نهاية الضعف وقوله: ثم إشارة إلى موضع الحرب، أي أنه أرق قلباً من النساء في الضعف.
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم
يقول: إن أاك ينظر إليك مع العفاف لأنه يرى رأي المجوس! وهذا قول ابن جنى.
وقوله: مع العفاف يمنع من ذلك، فإنه ذكر ما لا يصح، ويمكن أن يقال: إنه صحيح ومعناه: أنه على رأي المجوس، لأن المجوسي يرى إتيان أخته من العفاف، لأنه يستبيحه! فهو صحيح من هذا الوجه هذا على الوجه الثاني.
وأما على الوجه الأول: فمعناه أنك قد فتنت أخاك بحسنك فهو ينظر إليك ويتمنى أن يكون دينه دين المجوس، وأنك محللة له، فكأنه يرى رأى المجوس في نكاح الأخوات ومثله لأبي تمام:
بأبي من إذا رآها أبوها ... شغفاً قال: ليت أنا مجوس
راعتك رائعة البياض بعارضي ... ولو أنها الأولى لراع الأسحم

راعتك: أي أفزعتك وروى: راعية الشيب، وجمعها رواعٍ. وروى: رائعة، وهي الفاعل من راعت. وقيل: هي منتشرة كانتشار الغنم في المرعى. والأسحم: الأسود.
يقول: راعتك الشعرات البيض التي انتشرت في عارضي، ولوكان الشعر يبدو أبيض ثم يسود، لخفت من السواد خوفك من البياض، والذي راعك إنما هو علو سني، لا البياض.
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا ... فالشيب من قبل الأوان تلثم
يقول: لو قدرت لكشفت البياض عن شعري، حتى أريك صباي، وتعلمين أنت أني شبت قبل الأوان، والشيب قبل أوانه بمنزلة أن يتلثم الإنسان بعمامة بيضاء؛ لأنه لا يورث ضعفاً ولا يوهن قوة، فإنه يكره الشيب لهذا المعنى.
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
يقول: جربت حوادث الدهر، فرأيت سواد الشعر لا يمنع من الموت، وبياضه لا يقرب منه، وقد يموت الشاب ويعيش الشيخ.
والهم يحترم الجسيم نحافةً ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
يقول: إن الهم يذيب الجسم، وينقصه حتى يموت الجسم نحافة، وتبيض ناصية الصبي، ويهرم قواه ومعناه: أن الشيب حصل لي من الهم.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
يقول: العاقل وإن كان في النعيم، فإنه لا يتهنأ به؛ لعلمه بزواله، والجاهل وإن كان في الشقاوة، فهو يتلذذ؛ لجهله بعواقبه.
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلقٌ ... ينسى الذي يولي وعافٍ يندم
يولي: أي يعطي.
يقول: إن الناس تنكر مراعاة الحقوق والذمم، فالمنعم عليه بإطلاقٍ من الأسر، ينسى يد المنعم عليه فلا يشكر نعمه، والعافي من الإساءة والمنعم على الغير، يندم على ما فعله من النعم.
لا تخدعنك من عدوٍّ دمعةٌ ... وارحم شبابك من عدوٍّ ترحم
أراد: ترحمه، فحذف الهاء.
يقول: إذا قدرت على عدوك فاقتله ولا يخدعنك بكاؤه: وارحم شبابك بذل عدوٍّ ترحمه!
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
يقول: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تحميه بالسيف.
قال ابن جنى أشهد بالله لو لم يقل إلا هذا البيت لوجب تقدمه:
يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقل كما يقل ويلؤم
من في موضع النصب؛ لأنه مفعول يؤذي.
يقول: إن القليل الحقير اللئيم يؤذي بطبعه، من لا يقل كقلته ولا يلؤم كلؤمه.
والظم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
روى: في خلق، وهي جمع خلقة، ويريد الطبيعة. وروى في خلق، وهو واحد الأخلاق.
يقول: إن الإنسان طبع على الظلم ومن لا يظلم فلعلةٍ تمنعه من ذلك: إما عجز أو خوف، فلو خلي وطبعه لاستعلى على من هو دونه.
يحمى ابن كيغلغ الطريق وعرسه ... ما بين رجليها الطريق الأعظم
أقم المسالح فوق شفر سكينةٍ ... إن المنى بحلقتيها خضرم
الخضرم معناه ظاهر. والمسالح: أصحابه الذين يحفظون الطريق.
يقول: أقم المراصدين فوق امرأتك التي سار الناس للفجور بها، حتى اجتمع هناك من المنى بحر غزير.
وارفق بنفسك إن خلقك ناقصٌ ... واستر أباك فإن أصلك مظلم
يقول: لا تتعرض لمناوأتي فإنك ناقص الخلق، ولا تظهر أباك، فإنك مدخول النسب لا يوقف عليه.
واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم
يقول: احذر معاداة الرجال، فإنما تقوى على استدخال كمر العبيد والإقدام عليها، وهذا رمى له بالأبنة.
وغناك مسألةٌ، وطيشك نفخةٌ ... ورضاك فيشلةٌ، وربك درهم
يقول: إن مالك مكتسب بالسؤال، وإن طيشك: أي خفتك. نفخة: أي لو نفخ عليه لطار، لضعف قلبه.
وقيل: أراد أن خفتك في المورد فلا تأثير له، وأنه إذا غضب ينكح فيرضى وأنه بخيل يعبد الدرهم ويعظمه كأنه ربه.
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
يقول: من البلية عذل من لا ينصرف عن الجهل، ومخاطبة الجاهل الذي لا يفهم ما يفهم.
في ذكر أمك للزناة دلالةٌ ... فأحب من ذكر ابنها من يشتم
يقول: إن ذكرت أمك استدل الزناة بذكرها عليها، وأحب الناس إليها من يشتم ابنها ويقول: يابن الزانية؛ ليدل الزناة عليها.
يمشي بأربعةٍ على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراءٍ يلجم

العلج: القوي البنية المعالج للتعب. وقوله: بأربعة أراد العضو. وينبغي أن يقول: إنه يمشي تحت العلوج إلى خلفه؛ حرصاً على استيفاء ما يدخل فيه! ولكن لجامه في خلفه: أي في إسته.
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفةٌ أو فت فيها حصرم
مطروفة من قولهم: طرفته، أي ضربت طرفه.
يقول: إن جفونه لا تستقر، فكأنه أصيب بشيء من رمد ونحوه، أو عصر فيها حصرمٌ أشار بهذا إلى أن في عينه آفة.
وقيل: أراد أنه يحرك أجفانه لاستدعاء العلوج للمعنى الذي رماه به أولاً.
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطم
يقول: إذا نطق ازداد حقارة، فكأنه قرد حين يضحك، أو عجوز لطمت في مناحة وبكت. ولا يضحك شيء من الحيوانات إلا الإنسان والقرد.
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يدٍ يتعمم
قوله: يقلى. أي يبغض، وفاعله: قذاله. ومفارقة الأكف: مفعوله.
يقول: إنه تعود أن يصفع، فقذاله: يكره مفارقة الأكف، حتى كأن الأيدي عمائم، لإحاطتها به.
وقيل: معناه لا يميل إلى مفارقتها. والقذال: مؤخر الرأس.
وتراه أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
يقول: هو حقير المنطق، فإذا تكلم زاد حقارة لعيه، ولكنه أكثر ما يكون كذلك في قوله: إذا وكد كلامه بقسم وأيمان.
والذل يظهر في الذليل مودةً ... وأود منه لمن يود الأرقم
الأرقم: ضرب من الحيات.
يقول: إن الذليل يظهر المودة لمن أذله؛ ليتقي شره، ولكن الأرقم أشد حباً منه لمن يحبه، إذا قدر عليه.
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
يقول: إن عداوة الساقط تدل على مباينة طبعه لطبعك فينفعك ومودته تدل على المناسبة فيضرك! وقيل: أراد أن عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل، فتلك العداوة ربما تتضمن منفعة وهذه الصداقة ربما تتضمن مضرة وشراً.
أرسلت تسألني المديح سفاهةً ... صفراء أضيق منك، ماذا أزعم؟!
صفراء: اسم أم المهجو، أو اسم امرأته. يعني: إنك تسألني المديح وما عسى أن أقول لك؟ وأنت أوسع منها!
أترى القيادة في سواك تكسبا ... يابن الأعير وهي فيك تكرم؟!
الأعير: تصغير الأعور.
يقول: إن غيرك يتكسب بالقيادة، وأنت تقود على أهلك وتعده تكرما! ومثله قول الآخر:
تراه من جوده ومن كرمه ... يحمل أضيافه إلى حرمه
فلشد ما جاوزت قدرك صاعداً ... ولشد ما قربت عليك الأنجم
شدما كقولك: نعما، وبئسما.
يقول: ما اشد ما جاوزت قدرك حتى سألتني أن أمدحك، وهو أبعد من النجوم، صاعداً نصب على الحال.
وأرغت ما لأبي العشائر خالصاً ... إن الثناء لمن يزار فينعم
قوله: أرغت. أي طلبت، وقيل: أملت إلى نفسك، وخالصاً نصب على الحال.
يقول: طلبت المديح الذي هو لأبي العشائر خالصاً، لأنه لا يستحقه إلا من ينعم على زائره، وهو أبو العشائر.
ولمن أقمت على الهوان ببابه ... تدنو فيوجأ أخدعاك وتنهم
الأخدعان: عرقان في العنق معروفان. وتنهم: أي تزجر.
يقول: إن الثناء لمن تقيم على بابه مهينا، كلما دنوت منه تزجر وتصفع، فكيف أمدحك وهذه حالك؟!
ولمن يهين المال وهو مكرمٌ ... ولمن يجر الجيش وهو عرمرم
العرمرم: الجيش الكثير. يمدح أبا العشائر. يعني: أنه يكرم نفسه بإهانة المال وهو يقود الجيش الكثير، يصفه بالكرم والشجاعة.
ولمن إذا التقت الكماة بمأزقٍ ... فنصيبه منها الكمي المعلم
المأزق: مضيق الحرب.
يقول: إن المدح يكون لمن يكون في مضيق الحرب، ويقتل كل شجاع معلم: أي له علامة.
ولربما أطر القناة بفارسٍ ... وثنى فقومها بآخر منهم
يقول: ربما طعن فارساً، فانعطفت قناته، فطعن بها آخر فقومها فيه كما تقوم الثقاف.
والوجه أزهر، والفؤاد مشيعٌ ... والرمح أسمر والحسام مصمم
يقول: يفعل ذلك بوجه أزهر وله رمح أسمر، وسيف مصمم قاطع يمضي في العظام.
أفعال من تلد الكرام كريمةٌ ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم
يقول: فعل كل أحدٍ على قدر أصله، وهو من قوله تعالى: " قل كلٌّ يعمل على شاكلته " .
ولقي أبا الطيب بعض الغزاة بدمشق، فعرفه أن ابن كيغلغ لم يزل يذكره في بلد الروم، فقال أبو الطيب يهجو ابن كيغلغ:

أتاني كلام الجاهل ابن كيغلغٍ ... يجوب حزوناً بيننا وسهولا
يقول: أتاني كلام هذا الجاهل، وتهدده لي من مكان بعيد، يقطع الجبال والمفاوز الذي بينه وبيني.
وقيل معناه: إن كلامه قد أتاني، وهو حينما تكلم كان يجوب حزون أرض الروم وسهولها. ويجوب: أي يقطع.
ولو لم يكن بين ابن صفراء حائلٌ ... وبيني سوى رمحي لكان طويلاً
صفراء: اسم أمه، ومعناه: يهددني ابن صفراء بوعيده! وأنا منه على بعد، فلو لقيته ولم يحل بيني وبينه إلا رمحي وحده، الذي أعتمد عليه وأدفعه به، لطال عليه الوصول إلي. فكيف وقد انضم إليه سائر أسباب القوة.
وقيل: معناه لو كان بيني وبينه من البعد مقدار رمحي لكان طويلاً عليه، فلا يمكنه أن ينالني. وقيل: إن صفراء كناية عن الأست والعرب تقول: ولد من أسته. فعلى هذا يكون رمياً له بالأبنة.
وإسحاق مأمونٌ على من أهانه ... ولكن تسلي بالبكاء قليلا
يقول: إن من أهانه وأساء إليه لم يخف غائلته؛ لأنه لا يقدر على شيء من النكير عند بلوغه إساءة من أساء إليه سوى التسلي بالبكاء.
وقد ذكره بالقبيح وكنى عنه بالبكاء وهذا غاية الحسن ومثله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
ولولا الذي في وجهه من سماجةٍ ... لنمت عليه بكرةً وأصيلا
وليس جميلاً عرضه فيصونه ... وليس جميلاً أن يكون جميلا
ويكذب، ما أذللته بهجائه ... لقد كان من قبل الهجاء ذليلا
يقول: نفسه لا جمال لها فيصونه عن الهجاء، ولا يستحق أن يكون جميلا، ثم يقول: زعم هذا الجاهل أني أذللته بهجائي فقد كذب في دعواه؛ لأني لم أنقص شيئاً من قدره بالهجاء، فإنه ذليل خامل لا قدر له.
وورد الخبر إلى مصر بأن غلمان ابن كيغلغ قتلوه بجبلة من ساحل الشام، فقال أبو الطيب يشمت به ويهجوه:
قالوا لنا: مات إسحاق. فقلت لهم: ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
يقول: بلغني موته، فقلت: قد أصاب دواء حمقه؛ فإن الأحمق ليس له دواء إلا الموت.
إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف ... أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خلق
يقول: إن حياته وموته سواء، فإن مات لا يحزن عليه أحد، ولم يشعر بموته لخموله، وإن عاش فلا نفع فيه، لأنه دميم الخلق سيىء الخلق، فليس له رواءٌ يملأ العيون، ولا خلقٌ يعطف عليه القلوب.
منه تعلم عبدٌ شق هامته ... خون الصديق ودس الغدر في الملق
قوله: دس الغدر في الملق أي يستر غدره في كلامه باللطف؛ ليتوصل به إلى الإيقاع بالغير.
يقول: إن عبده الذي قتله، منه تعلم الخيانة والغدر بالصديق، فحين رآه يخون أصدقاءه ويغدر بهم، اقتدى، به فقتله غدراً.
وحلف ألف يمينٍ غير صادقةٍ ... مطرودةٍ ككعوب الرمح في نسق
حلف: نصب عطفاً على قوله: دس الغدر وهو منصوب بتعلم ومطردة: أي متتابعة.
يقول: تعلم منه ألف يمين متتابعة، مثل كعوب الرمح على طريقة واحدة، فكان ذلك باعثاً له على قتله، فقتله ودفع عن نفسه قتله بالأيمان الكاذبة كما كان هو يفعل.
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنبٍ ... صفراً من البأس مملوءًا من النزق
النزق: الخفة والطيش.
يقول: في كونه قرداً ناقصاً؛ ليكون أعجب، وإنه مملوء من الخفة، وصفراً من الحلم والعقل والأدب.
كريشةٍ بمهب اليح ساقطةٍ ... ما تستقر على حالٍ من القلق
شبهه في خفته وقلقه بريشة ساقطة تهب عليها الريح.
تستغرق الكف فوديه ومنكبه ... وتكتسى منه ريح الجورب العرق
الفودان: جانبا الرأس.
يقول: إنه يكثر الصفع على جوانب رأسه ومنكبه، ويد من يصفعه تكتسب منه ريحاً منتناً مثل ريحة الجورب العرق! وفيه أنواع من الهجاء منها: قبح الخلقة، وصغر الجثة، وخبث الريح، ونتن الجسد، ومهانة النفس؛ حتى يصفعه كل أحد.
فسائلوا قاتليه: كيف مات لهم ... موتاً من الضرب أم موتاً من الفرق؟
وأين موقع حد السيف من شبحٍ ... بغير رأسٍ ولا جسمٍ ولا عنق؟!
موتاً نصب على المصدر.

يقول: سائلوا قاتليه. هل مات من ضربهم، أو خوفاً من الضرب؟! والشبح: الشخص. يقول: سائلوا الناس أي موضع أصاب السيف منه؟ فإنه ليس له جسم، لقصره وصغره، ولا رأس له، ولا عنق، حتى لا يجد السيف شخصه، ولكن الخوف قتله قبل أن يضرب منه السيف موضعاً!
لولا اللئام وشيءٌ من مشابهةٍ ... لكان ألأم طفلٍ لف في خرق
يقول: لولا أن في الناس المشابهة في اللؤم والخسة، لكان ألأم طفل لف في قماطٍ؛ لعجزه وصغر قامته.
والمشابهة: جمع الشبه على غير قياس.
كلام أكثر من تلقى ومنظره ... مما يشق على الآذان والحدق
يقول: إن أكثر الناس كلامه تمجه الآذان لثقله. وكذلك رؤيته مما تنكرها العين ويشق عليها. فله نظائر في الناس.
واجتاز ببعلبك فنزل على علي بن عسكر، وهو يومئذٍ صاحب حربها، فخلع عليه وحمل إليه وأمسكه عنده، اغتناماً لمشاهدته. وأراد أبو الطيب الخروج إلى أنطاكية فقال يعتذر من مفارقته:
روينا يا ابن عسكرٍ الهماما ... ولم يترك نداك بنا هياما
يقول: روينا أيها الممدوح بسحائب جودك، ولم يترك بنا هياماً: أي عطشاً.
وصار أحب ما تهدى إلينا ... لغير قلىً وداعك والسلاما
يقول: قد أفضت علي من برك ما كفاني، فليس شيء أحب إلي إلا الارتحال وتوديعك والسلام، وليس ذلك عن بغض ولا كراهة فيك، ولكن عن عذر اقتضى ذلك.
ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما
التفقد: التعهد. والموالي: المتتابع.
يقول: ولا أني أمللت إكرامك وتعهدك لأحوالي، ولا ذممت أياديك العظام، ولكن لعذر آخر أوجب طلب الإجازة.
ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافرٍ كره الغماما
يقول: إني في سؤال الإذن منك، كالمسافر الذي يكره المطر، وإن كانت فيه حياة البلاد والعباد، فلهذا كرهت المقام عندك.
قصائد أبي العشائر الحمدانيوقال يمدح أبا العشائر: الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي التغلبي وهي أول شعر في بني حمدان:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقةً في المآقي
المآقي: طرف العين مما يلي الأنف.
يقول لصاحبه: أحسبت هذه المرأة أنها لكثرة ما ترى من الدموع في عيون عشاقها أنه خلقة في عيونهم؟ فلهذا لا ترحمهم!
كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ... راءها غير جفنها غير راق
راءها: مقلوب رآها. وغير: الأولى نصب على الاستثناء، والثانية: على تفسير البيت الأول.
يقول: كيف ترحم هذه المرأة للباكين بسببها، لأنها ترى كل عين باكية غير راقية الدمع عنها، فهي تحسب أن ذلك خلقة، لأنها لم تر إلا باكياً سائل الدمع، واستثنى جفنها، فبين أن كل عين كذلك إلا عينها؛ لأنها لم تعشق أحداً فلا تجزع للفراق! وقال ابن جنى: إنها لا تبكي، لأنها لم تهجر نفسها.
وهذا البيت من بدائع أبي الطيب المتنبي.
أنت منا فتنت نفسك لكن ... ك عوفيت من ضنىً واشتياق
يقول: أنت منا أي من جملة العشاق، لكنك قد فتنت نفسك كما فتنا بحسنك! أي أنت عاشقة لنفسك كما نعشقك؛ لأن كل أحد يحب نفسك، غير أنك سلمت من ألم الوجد وطول المرض والاشتياق؛ لأن الإنسان لا يشتاق إلى نفسه فلا يتألم من حبها
حلت دون المزار، فاليوم لو زر ... ت لحال النحول دون العناق
حلت: أي منعت. والمزار: الزيارة.
يقول: منعتنا من الزيارة فنحلنا لذلك! وذابت أجسامنا، فلو أردت الآن وصلنا منع النحول من معانقتك.
إن لحظاً أدمته وأدمنا ... كان عمداً لنا وحتف اتفاق
يقول: نظر كل واحد منا إلى صاحبه عن تعمد منا، فاتفق في ذلك حتفي من غير قصد! وهذا من قولهم: رب حتفٍ في لحظة طرفٍ.
لو عدا عنك غير هجرك بعدٌ ... لأرار الرسيم مخ المناقي
عدا عنك: أي صرف. وبعدٌ: فاعله. وقوله أرار أي أذاب. والرسيم: هو سير شديد من سير الإبل. والمناق: جمع منقية: وهي السمينة التي في عظامها مخ.
يقول: إنما صرفنا عنك هجرك، ولو حال بيننا بعدٌ سوى الهجر لواصلنا السير إليك وهزلنا النوق بالسير، حتى يذوب بالسير مخ عظامها.
وقوله: لأرار الرسيم: أي لأذاب السير الشديد مخ المناق.
ولسرنا ولو وصلنا عليها ... مثل أنفاسنا على الأرماق
الأرماق: جمع الرمق، وهو بقية الحياة.

يقول: لو كان بيننا بعدٌ غير الهجر، لسرنا إليك ولواصلنا السير حتى تذوب أبداننا وتهزل رواحلنا فتكون في الخفة كأنفاسنا وتصير إبلنا مهزولةً وهذا من قول أبي الشيص.
أكل الوجيف لحومهم ولحومنا ... فأتوك أنقاضاً على أنقاض
ومثله قول الآخر
أنضاء شوق على أنضاء أسفارٍ
ما بنا من هوى العيون اللواتي ... لون أشفارهن لون الحداق؟
ما بمعنى التعظيم، أي: أي شيء؟ بنا من هذه العيون التي لون أشفارها في السواد، مثل لون أحداقها.
وهذا نهاية في الحسن كما ترى.
قصرت مدة الليالي المواضي ... فأطالت بها الليالي البواقي
قصرت: فعل المحبوبة. وقيل: فعل العين.
يقول: قصرت هذه المرأة علي مدة الليالي المواضي بالوصال الذي كان منها، وأطالت الآن لما هجرتني، الليالي البواقي.
وقوله: أطالت بها: أي قابلت قصر الليالي المواضي بطول الليالي البواقي فحصل طول هذه مكافأةً على قصر تلك.
وقيل: أراد طالت الليالي البواقي بسبب قصرها في المواضي، أي أن قصرها صار سبباً لطولها.
كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق
الإيراق: هو الإسهار. يقال: أرقه يؤرقه إيراقاً. مثل: أرقه يؤرقه توريقاً.
يقول: هذه المرأة تكاثر نائل الأمير؛ في إعطائها لنا السهر فتناهت في ذلك، كما أنه تناهي في إعطاء المال.
وقيل الإيراق: مصدر أورق الصائد إذا خاب. ومعناه: أنها تكاثرت في المنع، فمنعها مثل جوده.
ليس إلا أبا العشائر خلقٌ ... ساد هذا الأنام باستحقاق
طاعن الطعنة التي تطعن الفي ... لق بالذعر والدم المهراق
يقول: إنه يطعن الطعنة فتملأ هذه الطعنة قلوب الجيش، خوفاً ورعباً فكأنه طعن الفيلق وأرقا دمآءهم.
وقوله: ليس في البيت الأول مبتدأ وأبا العشائر خبره.
ذات فرغٍ كأنها في حشا المخ ... بر عنها من شدة الإطراق
ذات فرغ: جر لأنه بدل من الطعنة. وقد روي بالنصب: على الحال. والمخبر: بفتح الباء الذي أخبرته بخبر. وفرغ الدلو: مصب الماء منه. شبه الطعنة بالدلو لسعتها، أي أن الدم يسيل منها كما يسيل الماء من فرغ الدلو، ثم قال: لو أخبر مخبر إنساناً بصفتها لملأ قلبه ذعراً، حتى أطرق رأسه استعظاماً لها، حتى كأن الطعنة في حشا السامع بها.
ضارب الهام في الغبار وما ير ... هب أن يشرب الذي هو ساق
ما للنفي. يقول: إذا هاجت الحرب وارتفع الغبار يضرب رءوس الشجعان، ولا يخاف أن يشرب كأس الموت الذي يسقيه الشجعان.
فوق شقاء للأشق مجالٌ ... بين أرساغها وبين الصفاق
الشقاء: الفرس الطويلة القوائم، والذكر: أشق والأرساغ: جمع الرسغ، وهو موصل الكف في الذراع، والقدم في الساق. والصفاق: الجلد الرقيق تحت الجلد الظاهر من البطن في الإنسان والدابة.
واختلفوا في الأشق هاهنا.
ومعناه: أن يضرب الهام راكباً فرساً شقاء يجول تحت بطنها كما يجول المهر تحت بطن أمه. وقيل. أراد بالأشق: والد هذه الشقاء. ومعناه: أنه فوق فرس شقاء، لوالدها مشابة بها، وهو معنى المجال في أرساغها وصفاقها، أي قوية الأرساغ وسائر الأعضاء، كما كان والدها كذلك.
وقيل: أراد بالأشق الرمح، أي أنه فوق هذه الفرس، وللرمح مجال ومضطربٌ بين جلد بطنها وأرساغها. وقيل. الأشق من المشقة: والمراد به المصروع من الشجعان الذي يكون على أشق الحال، ومعناه أنه على هذه الفرس يطأ الشجعان بقوائمها، فيكون لهم مجال بين أرساغها وصفاقها.
وقيل: أراد أشق الممدوح. إما لأنه طويل القامة، أو أنه أشق الناس على أعدائه من المشقة، فيكون له مجال فوقها بالامتداد والانثناء لحذقه بالطعن.
همه في ذوي الأسنةلافي ... ها وأطرافها له كالنطاق
يقول: لا يبالي بالأسنة التي تحيط به من جوانبه كالنطاق، ولا يكون له بها همة ولا يحذر منها، بل يكون همه مصروفاً إلى أرباب الأسنة ليطعنهم ويأسرهم ومثله لأبي تمام:
إن الليوث ليوث الغاب شأنهم ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ما رآها مكذب الرسل إلا ... صدق القول في صفات البراق
هذا البيت زائد.
يقول: ما رأى هذه الفرس الشقاء، من يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله إلا صدق ما يذكر في أمر البراق، من السرعة في السير.

ثاقب العقل ثابت الحلم لا يق ... در أمرٌ له على إقلاق
ثاقب: قيل معناه: عقله صادق من الجهل منير، يرى به الأمور على حقائقها.
وقيل: بين العقل. وقيل: نافذ العقل ثابت الحلم أي أنه متمكن من حلمه لا يطيش ولا يزعجه شيء ولا يقلقه أمر، لثبات عقله وزيادة حلمه.
يا بني الحارث بن لقمان لا تع ... دمكم في الوغى متون العتاق
يقول لقومهم: لا عدمتكم ظهور الخيل في الحرب. وخص ذلك في حال الحرب؛ دلالة على شجاعتهم. لأن ملازمة ركوب الدواب عادة الرائضين.
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
يقول: ملئوا قلوب أعاديهم من الخوف، فانهزموا منهم قبل ملاقاتهم وقتالهم، فكان القتال والحرب قبل الالتقاء.
وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
الظبي: جمع ظبية وهي حد السيف. والتأنيث عائد إليها.
يقول: إنهم عودوا سيوفهم إخراجها من الأغماد، وضرب أعناق الأعداء بها، فهي تكاد تخرج نفسها من أغمادها، وتتوصل إلى الأعناق قبل أن يسلوها منها ويضربوا بها.
وإذا أشفق الفوارس من وق ... ع القنا أشفقوا من الإشفاق
يقول: إذا اشتدت الحرب وخاف الفرسان من الطعن، خاف هؤلاء من الخوف، فلا يقدمون في الحرب.
كل ذمرٍ يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
الذمر: الشجعان يقتحمون المعركة. وقوله: تمامها في المحاق إن أراد بذلك استكمال ضوئها، ففي الظاهر تناقض.
وتأويله: أن كل واحد منهم إذا مات زاد حسنه، لأنه لا يموت إلا قتلاً. فكأنه يقول: هم في الحسن بدور، وإذا قتلوا زاد حسنهم بما يظهر من صبرهم وإقدامهم فكأنهم بدور، تمامها في المحاق على سبيل التقدير: أي لو وجدت بدور إتمامها في محاقها لكانوا مشبهين بها.
وذلك من تعليق الجائز بالمحال.
وقيل: أراد بالتمام غاية ما يفضى إليه أمر البدور وهو المحاق. ومعناه: أن هؤلاء تمام أمرهم في قتلهم. كبدور يفضي أمرها بالمحاق فكذلك يفضي أمر هؤلاء إلى القتل، ولا يموت أحد منهم إلا حتف أنفه.
جاعلٍ درعه منيته إن ... لم يكن دونها من العار واق
الهاء في دونها للمنية.
يقول: كل واحد منهم إذا لم يمكن دفع العار عن نفسه إلا بتدرع الموت، يجعل المنية درعه حتى يقي بها عن نفسه.
كرمٌ خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
يقول: فيه كرم يحمله على خشونة جوانبه على الأعداء، ففيه لين من حيث الكرم، وخشونة من حيث البأس والامتناع من الأنفة، فهو كالسيف إذا سقي صلبت شفرته وألبسها خشونة مع ما فيه من الرقة والصفاء.
وهذا من بدائع المتنبي.
ومعالٍ إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
يقول: لهم معالٍ مشهورة لا يمكن لأحد أن يدعيها لنفسه، فإن ادعى مدع ذلك لزمه ما يلزم السارق من قطع اليد.
يابن من كلما بدوت بدا لي ... غائب الشخص حاضر الأخلاق
نصب غائب وحاضر على الحال. وبدا فعل من وأراد به الأب.
يقول: إذا رأيناك كأنا رأينا أباك، لأن أخلاقه موجودة فيك فلم تفتقد منه إلا شخصه.
لو تنكرت في المكر لقومٍ ... حلفوا أنك ابنه بالطلاق
يقول: إنك تشبه أباك في إقدامه وشجاعته، فلو تنكرت: أي أخفيت نفسك. في المكر: أي في الحرب. لحلفوا بالطلاق أنك ابنه. وخص المكر: إشارة إلى أنه في الإقدام والشجاعة لا يشبه إلا أباه، إذ مثل ذلك لا يوجد إلا منه، أو من أبيه، أو لأن هذا الموقف أشرف المواقف وأفخرها والشبه هنا أقوى الأشياء وأنفسها.
كيف يقوى بكفك الزند والآ ... فاق فيها كالكف في الآفاق
الهاء في فيها للكف.
يقول: كيف يطيق زندك حمل كفك؟ مع أن كفك قد أحاطت بنواحي الأرض! حتى صارت الآفاق في كفك بمنزلة كف الإنسان في الآفاق قلة وحضارة. وأراد بذلك سعة عطائه، وأنه يريد منافع العالم.
وقيل: معناه كيف يوري الزند النار ولا ينكسر من قوتك؟! وكفك يحيط بالآفاق إحاطة الآفاق بكف غيرك.
قل نفع الحديد فيك فما يل ... قاك إلا من سيفه من نفاق
يقول: الحديد لا يعمل فيك، فعجز أعداؤك عن المجاهرة بعداوتك وأعادوا السيوف والرماح واختاروا مواراتك والنفاق في حبك، فأظهروا الحب والانقياد. ولطوا على العماوة والشقاق.

وقيل على الثاني: استعمال الحديد معك لا ينفع ولا حاجة إلى الزند، مع أنك توري، ولذلك لا يلقاك أحد إلا من جعل سيفه من نفاق، وتصنع الاستماح منك دون المجاهرة بعداوتك.
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
يقول: هؤلاء الذين يداجونك بالعداوة، ألفوا هذه الدنيا وتنسم هذا الهواء، ومن ألف الدنيا واستطاب حياتها، فهو يختار ما يؤدي إلى القيام بأمرها، فإلفهم لها أوقع في أنفسهم: أن الموت مر المذاق.
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق
يؤكد المعنى الذي ذكره. يقول: الجزع من الموت قبل حلوله عجز وجبن، فلا معنى له والروح بعد لم تفارق، فإذا فارقت الروح بطل الجسم وزالت حياته وبطل حسه، فإذا ليس للجزع من الموت وجه.
كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق
الثراء والثروة: المال. والوثاق: بالفتح ما يوثق به. يقول: كم مالٍ كان في بيت بخيل قتلته واحتويت عليه وفرقته إلى أهله، وكان عندهم في وثاق البخل، ففرجت عنه وفككته من وثاقه.
والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قدر قبح الكريم في الإملاق
الإملاق: الفقر.
يقول: الغنى لا يحسن في يد البخيل إذ لا يفرح أحد به ولا يظهر عليه، فهو في القبح في اللئيم، كالفقر بالكريم.
ليس قولي في شمس فعلك كالشم ... س ولكن في الشمس كالإشراق
يقول: ليس ثنائي عليك. وضع لشمس فعلك كالشمس، لكنه دليل على فعلك، وإذاعة له وتسيير له في البلاد، كالإشراق للشمس إذ لولاه ما كانت الشمس تشمل العالم بضوئها، فكذلك لولا ثنائي لكاد لا ينشر ذكره.
وقيل: معناه إن قولي ليس نظيراً لفعلك، ولكنه صادر عنه، كانتشار الضوء عن الشمس، ففعلك شمس وثنائي إشراقها.
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
الخدن: الصديق، واراد به نفسه. وجعله خدناً تخصصاً به وتحققاً بمودته. وفيه ضرب من الكير وتطاول العنق! يقول: هو شاعر المجد يبدي فيه البدائع والغرائب، وأنا شاعر اللفظ، فكل واحد منا بديع في فنه، ويغرب في شعره، ويأتي بدقائق المعاني التي يعجز عنها غيره، فالملوك عجزوا عن مجده، والشعراء عجزوا عن شعري وهذا من قول البحتري:
غربت خلائقه وأغرب شاعرٌ ... فيه فأبدع مغربٌ في مغرب
لم تزل تسمع المديح ولكن ... صهال الجياد غير النهاق
يقول: كنت أبداً تسمع المديح، ولكن لم يمدحك أحد مثلي، فشعري كصهيل الفرس الجواد، وشعر غيري كنهيق الحمار!
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق
أي: ليت حظي من السعادة مثل حظ هذا الدهر الذي أنت فيه في الأدهر، وليتني رزقت مثل ما رزق هذا الدهر.
أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق
معناه: أنت في هذا الزمان، فكل زمان مضى قبله يشتهي أن يكون حصل له بعض ما حصل لهذا الزمان، لكونك فيه ومثله لمسلم:
الدهر يغبط أولاه أواخره ... إذا لم يكن كان في أعصاره الأول
ودخل عليه يوماً وهو على الشراب وبيده بطيخة من ند في غشاء من خيرزان، على رأسها قلادة لؤلؤ، فحياه بها وقال: أي شيء تشبه هذه فقال:
وبنيةٍ من خيزرانٍ ضمنت ... بطيخةً نبتت بنارٍ في يد
كل ما يبني: فهو بنية وبناء.
يقول: هذه بنية من خيزران، جعلت فيها بطيخة نبتت من نار في يد صانعها فنباتها من النار يخالف سائر البطيخ.
نظم الأمير لها قلادة لؤلؤٍ ... كفعاله وكلامه في المشهد
يقول: نظم الأمير في هذه البطيخة قلادة من لؤلؤ، وتشبه هذه القلادة فعله وكلامه في المجلس.
كالكأس باشرها المزاج فأبرزت ... زبداً يدور على شرابٍ أسود
شبه هذه البطيخة بكأس فيه شراب أسود، والقلادة التي عليها بالزبد. الذي يعلو الشراب إذا مزج.
وقال فيها أيضاً ارتجالاً يصف البطيخة:
وسوداء منظومٌ عليها لآلىٌ ... لها صورة البطيخ وهي من الند
كأن بقايا عنبرٍ فوق رأسها ... طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد
الواو بمعنى رب. يقول: إنها في صورة البطيخ، لكنها من الند! وقوله: رواعي: جمع راعية، وهي أول شعرة تبيض وقيل: ما انتشر منه في الرأس. وقيل: مقلوبة من رائعة، لأنها تروع.

شبه العنبر الذي كان فوق رأسها ببياض الشعر، في الشعر الجعد، لأن البطيخة كانت سوداء والعنبر ما ضرب إلى الشيبة، وخص الجعد؛ لأنه مع السواد في الأغلب. وقيل أتى به لأجل القافية.
وقال أيضاً يصف هذه البطيخة
ما أنا والخمر وبطيخةٌ ... سوداء في قشرٍ من الخيزران؟!
رفع الخمر وبطيخة عطفاً على ما. أي: ما أنا والخمر، وما بطيخة. ويجوز نصبه على معنى الفعل، وتكون الواو بمعنى مع.
يقول: أي شيء أنا، أي ما لي وملابسة الخمر وهذه البطيخة السوداء التي قشرها من الخيزران، عن الشغل بالحرب في طلب الذكر والصيت.
يشغلني عنها وعن غيرها ... توطئتي النفس ليوم الطعان
روى: توطئتي من وطأت الشيء: أي لينته. وروى: توطيني بها النفس من وطنت النفس على الشيء. والمعنى واحد.
يقول: يشغلني عن هذه البطيخة وغيرها من الطيب، استماع قصر نفسي على الحروب والمطاعنة فيها.
وكل نجلاء لها صائكٌ ... يخضب ما بين يدي والسنان
وكل عطف على توطئتي النفس. وهو رفع، ويجوز جره عطفاً على قوله: ليوم الطعان. وقوله: صائك أي دم يابس يلصق بالرمح.
يقول: يشغلني عما ذكرت، كل طعنة واسعة يخرج منها دم كثير حتى يخضب به الرمح واليد.
فقال أبو العشائر لجلسائه: لو أراد أن يقول فيها ألف بيت لفعل.
وكبس أنطاكية جيش السلطان وقصد دار أبي العشائر، وهو يومئذ يلي حربها، وكان قد بكر إلى الميدان، فلما رجع وقد تفرق الناس عنه، لقي أوائل الخيل فهزمها من السوق إلى باب فارس، فأصابه سهم في خده فأضربه. وضرب رجلاً منهم على رأسه فقتله، وكثر الناس عليه، فرجع حتى خرج من باب مسلمه وما تبعه أحد، ومضى إلى حلب، وعاد بعد ذلك إلى أنطاكية، واتصل خبر عودته بأبي الطيب وهو بالرملة، فسار إلى طرابلس فعاقه ابن كيغلغ على ما تقدم ذكره ثم سار إلى أنطاكية فقال يمدح أبا العشائر:
مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحر حشاي حاش
حشاه: فعل ماض. وفاعله: حاش، وحشاي اسم. والجمع: أحشاء.
يقول: كأنني من شدة الحزن وبعد النوم عني، على فراش قد حشي بما أجده من حرارة الشوق، فكأن حرارة حشاي نقلت إلى فراشي، وحشي بحرارتها.
شبه حرارة الفراش بحرارة أحشائه.
لقى ليلٍ كعين الظبي لوناً ... وهم كالحميا في المشاش
اللقى: الملقى. والحميا: الخمرة. وقيل: سورة الخمر. والمشاش: جمع مشاشة، وهي عظم رخو يمكن أكلها، ولوناً: نصب على التمييز.
يقول: أنا مطروح أو كالمطروح على فراشي، في ليل كأن سواده عين ظبي وأنا مطروح وهو يدب في عظامي كما يدب الخمر.
وشوقٍ كالتوقد في فؤادٍ ... كجمرٍ، في جوانح كالمحاش
المحاش والمحاش: لغتان، وهو ما أحرقته النار وقيل: هي خشبة يحرك بها التنور من خشب النار لتقد، فأصله الإدغام، غير أنه خفف.
يقول: إنا لفي شوق، كأنه في التوقد، في فؤاد هو كالجمر، وذلك الفؤاد في جوانح وهي الأضلاع كأنها المحاش: وهو ما أحرقته النار.0 شبه الشوق بالتوقد، والفؤاد بالجمر، والجوانح بشيء أحرقته النار.
سقى الدم كل نصلٍ غير نابٍ ... وروى كل رمحس غير راش
النابي: الكليل. يقال نبا السيف ينبو نبواً: إذا ضربت به فلم يقطع، ورمح راشٍ: أي غير ضعيف.
يدعو للرمح والسيف وبالسقيا فيقول: سقى الدم الذي هو كالماء كل سيف حاد غير نابي الضربة، وروى الدم أيضاً كل رمح غير ضعيف. فكأنه قال لا زالت السيوف والرماح تقتل الأعداء.
فإن الفارس المنعوت خفت ... لمنصله الفوارس كالرياش
المنعوت: أي الموصوف بالشجاعة المعروفة.
روى المبغوت وهي رواية ابن جنى أي الذي يؤتى على بغتة ولم يعلم هو والرياش: جمع ريش. والريش جمع ريشة.
يقول: إنما دعوت للسيف، لأن الممدوح لما فاجأته الخيل فرقها بسيفه، فصارت الفوارس لسيفه في الخفة بمنزلة الرايش.
فقد أضحى أبا الغمرات يكنى ... كأن أبا العشائر غير فاش
الغمرات: الشدائد. واسم أضحى ضمير الفارس المنعوت، ويكنى موضع الخبر، وأبا الغمرات: المفعول الثاني من يكنى، والأول ضمير الفارس، وهو في موضع الرفع. يقال: كنيت الرجل: أبا عبد الله. فإذا أسند إلى المفعول قيل: كنى الرجل أبا عبد الله، ويعدى بحرف الجر أيضاً فيقال: كنيت الرجل بأبي عبد الله. وكنو الرجل لغة.

يقول: إن أبا العشائر لكثرة ملابسته الحروب والشدائد صارت كنيته أبا الغمرات حتى كأن كنيته المعروفة التي هي أبو العشائر غير ظاهرة ولا معلومة.
وقد نسي الحسين بما يسمى ... ردى الأبطال أو غيث العطاش
يقول: إنه كثر منه البأس والجود. فكل أحد يسميه. إما: ردى الأبطال. وإما: غيث العطاش. ونسي اسمه الذي سماه به أبواه المعروف المشهور.
لقوه حاسراً في درع ضربٍ ... دقيق النسج ملتهب الحواشي
كأن على الجماجم منه ناراً ... وأيدي القوم أجنحة الفراش
الفراش: جمع فراشة وهي دويبة تدور حول السراج فتسقط فيه، والهاء في منه للممدوح أو القرب، وقيل: للسيف. فأضمره وإن لم يجر له ذكر.
يقول: من شدة ضربة الجماجم صار كأن عليها ناراً، وكأن أيدي القوم المتطايرة بالسيف عند ضربه إياها كالفراشات التي تطير حول النار، فإن كانت الهاء للسيف فمعناه: كأن السيف على رءوسهم مثل النار وأيدي القوم حول هذه، كأجنحة الفراش حول النار، فكأن هذه الأيدي تجيء لتأخذ السيف فيقطعها، ومثله لحارث ابن أبي شمر:
والبيض تختلس النفوس كأنما ... يوقدن في حلقٍ المفاوز نارا
كأن جواري المهجات ماءٌ ... يعاودها المهند من عطاش
أراد بالمهجات ها هنا: الدماء. والعطاش: داء يأخذ الإبل فلا تروى من الماء. وقيل هو لفظ العطش. والهاء في يعاودها للمهجات ويروى: يعاوده فيكون للماء.
يقول: كأن الدماء الجارية في قلوب الأعداء وجسومهم ماء، وكأن السيف به عطاش فهو يعاوده ولا يروى منه.
فولوا بين ذي روحٍ مفاتٍ ... وذي رمقٍ، وذي عقلٍ مطاش
مفات: جر لأنه نعت لروح، ومطاش: جر لأنه نعت لعقل. يقال: طاش السهم أو طاشه غيره.
يقول: أدبروا من بين يديه، وهم ثلاثة أقسام.
منهم قتيل قد فارق روحه، ومنهم من لم يبق له إلا بقية رمقه، ومنهم من طاش عقله وزال من شدة الخوف. واستوفى الأقسام في بيت واحد.
ومنعفرٍ، لنصف السيف فيه ... تواري الضب، خاف من احتراش
المنعفر: الساقط على العفر، وهو التراب. والاحتراش: الاصطياد، يقال احترشت الضب وحرشته، وذلك أن يأتي الرجل باب جحر الضب فيمر بيده عليه فيظن الضب أنه حية، فيخرج ذنبه ليضربها به، فيأخذه الرجل. وروى لنصل السيف. ومنعفر قيل: عطف على الأقسام المتقدمة أي وذي منعفر.
وقيل: معناه ورب عدوٍّ منعفر قد غاب نصف السيف فيه أو نصله مثل ما يغيب الضب في الجحر إذا خاف الاحتراش به، أي الاصطياد.
يدمي بعض أيدي الخيل بعضاً ... وما بعجايةٍ أثر ارتهاش
العجاية: عصب فوق الحافر. والارتهاش: أن يصطك عرقوباه فتقرح رواهشه وهو باطن الذراع.
المعنى: أن الخيل انهزمت من بين يديه وازدحمت في الهزيمة، وقصت حوافر بعضها بعضاً، حتى دميت أيديها، ولم يكن ارتهاش.
ورائعها وحيدٌ لم يرعه ... تباعد جيشه والمستجاش
رائعها: أي مفزعها. والمستجاش: من يطلب منه الجيش، وأراد به سيف الدولة، وقيل أراد العسكر: أي المستجاش فيه.
يقول: إن مخوف هذه الخيل كان وحيداً ليس معه أحد من جيشه، ولم يفزعه بعد جيشه بعد من يستمد منه الجيش.
كأن تلوي النشاب فيه ... تلوي الخوص في سعف العشاش
الخوص: ورق النخل. والسعف: الجريد الذي عليه الخوص، والعشاش: جمع عشة، وهي النخلة التي عطشت، فيقصر سعفها ويضعف.
يصف النشابة التي أصابته في خده، فشبهه بنخلة، وشبه النشابة بخوص سعفها قد تلوى على السعفة، وذلك لضعف الخوص ويبسه؛ لأنه إذا كان رطباً قوياً لا يتلوى على السعف، فكأنه لقلة مبالاته بها شبهها بتلوي الخوص على سعفه.
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
القماش: الأثاث المجموع من كل صنف.
يقول: إن أهل المجد والهمة العالية همتهم استيلاب النفوس وقتل الأبطال، دون الاشتغال بسلب القماش والغنائم ومثله لأبي تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
تشارك في الندام إذا نزلنا ... بطانٌ لاتشارك في الجحاش
الندام: المنادمة. والبطان: جمع بطين والجحاش: المجاحشة، وهي المقاتلة والمدافعة.

يعرض بقوم خذلوه ذلك الوقت فيقول: إذا كان يوم شرب ومنادمة شاركوه في الأكل والشرب ولا يشاركونه في القتال والدفاع! ومثله قول الآخر:
يفر عن الكتيبة حين يلقى ... ويثبت عند قائمة الخوان
ومن قبل النطاح وقبل يأتي ... تبين لك النعاج من الكباش
روى: يأنى أي يحين من قولهم: أنى يأنى، وروى يأتى أي يجيء. والنطاح. أصله ضرب الكباش بالقرون، ثم استعمل في كل محاربة.
المعنى: أن الشجاع يعرف من الجبان قبل المحاربة وقبل وقتها فجعل الكباش مثلاً للشجعان والنعاج مثلاً للأراذل والجبناء.
فيا بحر البحور ولا أوري ... ويا ملك الملوك ولا أحاشي
لا أوري: أي لا استر قولي لك يا بحر البحور، هذا ولا أحاشى أي لا أستنثي أحد من قولي لك يا ملك الملوك.
قال ابن جنى: وربما كان ينشد المتنبي ويا بدر البدور مكان قوله يا ملك الملوك.
كأنك ناظرٌ في كل قلبٍ ... فما يخفى عليك محل غاش
الغاشي: القاصد، يقال: غشيه يغشاه إذا قصده.
يقول: أنت عارف بمن يقصدك، ولا يخفى عليك محله، فتنزل كلاً منزلته الذي يستحقها، فكأنك مطلع على أسرار القلوب.
وقيل: أراد بالغاشي من الغش فخفف. والأول أولى أي من نزل بك فلا يخفى عليك محله.
أأصبر عنك لم تبخل بشيءٍ ... ولم تقبل علي كلام واش؟
كان قد وشى بالمتنبي بعض من يعاديه إلى أبي العشائر، فلم يسمع منه وأنفذ عقيب هذه الوشاية إليه مالاً فهذا هو المراد بالبيت.
وكيف وأنت في الرؤساء عندي ... عتيق الطير ما بين الخشاش
عتاق الطير: كرامها. والخشاش: صغارها.
يقول: كيف أصبر عنك وأنت بين الرؤساء في الفضل، كالبازي بين صغار الطير.
فما خاشيك للتكذيب راجٍ ... ولا راجيك للتخييب خاش
يقول: إن من يخافك حل به بأسك ووقع به سخطك، فلا يرجو تكذيباً لما يخافه، ومن يرجوك لا يخاف أن يكذب رجاؤه، فأنت تصدق ظن من يخافك ويرجوك.
وقيل معناه: ليس يرجو من يخشاك أن يلقى من يكذبه ويخطئه في خوفه، لأن الناس كلهم يخافون منك
تطاعن كل خيلٍ سرت فيها ... ولو كانوا النبيط على الجحاش
النبيط: أهل السواد بالعراق. وقيل أراد به: العجم.
يقول: كل خيل سرت فيها وبينها كانت الغلبة لهم، ولو كانوا نبطاً على حميرهم؛ لأنهم يشجعون بك ويصيرون أفرس الناس وأطعنهم. والجحاش: جمع جحش وهو ولد الحمار.
أرى الناس الظلام وأنت نورٌ ... وإني فيهم لإليك عاش
العاشي: القاصد ليلاً.
يقول: الناس كالظلام في الليل، وأنت فيما بينهم كالنور، وأنا ناظر بين الناس إليك، وقاصد نحوك مستضيء بنورك. والأصل فيه قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار
بليت بهم بلاء الورد يلقى ... أنوفاً هن أولى بالخشاش
الخشاش: الخشبة التي تكون في أنف البعير، فإن كانت من شعر قيل له: خزام، وإن كانت من ضفرٍ فهو: برة. والضمير في بهم للناس.
يقول: تأذيت بهؤلاء الناس الذين لا يشاكلونني، كما يتأذى الورد من شمه، بأنوف الذين هم بمنزلة البهائم! وقيل معناه: إني أتأذى بهم كما يتأذى الورد بأنوف الإبل، وروى بالحشاش وهي الكنف.
عليك إذا هزلت مع الليالي ... وحولك حين تسمن في هراش
الهراش والتهاريش: هو مخاصمة الكلاب.
يقول: هؤلاء الناس عليك مع الليالي، أي صاروا لأعدائك مع الزمان وحوادثه، إذا هزلت: أي أصابتك نوائب الدهر. ويصيرون حولك ومعك حين تسمن. أي إذا ساعدك الزمان كانوا معك يهارش بعضهم بعضاً في طلب النفع منك. ومثله لإبراهيم بن العباس:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انثنى صرت حرباً عوانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
والمقصود وصفهم بدناءة الأصل.
أتى خبر الأمير فقيل كروا ... فقلت نعم ولو لحقوا بشاش
وروى: أجل والشاش: بلدة بالترك. وروى: كروا بفتح الكاف وهي رواية ابن جنى.
والمعنى: بلغنا خبر الأمير وهزيمة الخيل منه. وقيل لنا: كروا عليهم. أي عطف الأمير وأصحابه على الخيل فقلت: نعم ولو أنهم لحقوا في الهزيمة بشاش، لوثقت بعودته وكره عليهم.

وروى كروا على الأمير. والمعنى: أتى خبر الأمير بظفره بالعدو فقيل لنا يا معاشر أصحابه اللائذين به كروا فقلت نعم ولو كانوا بشاش. أي لو كان البعد بيننا وبين الأمير مثل ذلك للحقنا به، وقوله بعد ذلك وأسرجت الكميت يدل عليه.
يقودهم إلى الهيجا لجوجٌ ... يسن قتاله والكر ناش
اللجوج: المتمادي في الشيء، الذي لا ينثني عنه، ويبالغ فيه. ويسن: أي يبالغ فيه، حتى يعظم ويكبر من المسن والمسنة. وناش: أي ناشىء، أي في أوله: يقول: يقود العسكر إلى الحرب. لجوج: أي مبالغ في الحرب، ليسن قتاله: أي يصير إلى آخر القتال، ومع ذلك فإن كره لا يصير إلى آخره، بل ينشأ شيئاً فشيئاً يعني أن قتاله قد بلغ الغاية، وكر في أول حاله كالغلام الناشىء.
وأسرجت الكميت فناقتل بي ... على إعقاقها وعلى غشاش
الكميت: يستعمل في الذكر والأنثى، وناقلت بي: أي أسرعت. وقيل: أدامت السير. وقيل المناقلة: أي تضع رجلها مكان يدها، وإنما تفعل ذلك في الأرض الكثيرة الأحجار. والإعقاق: مصدر أعقت الدابة. إذا عظم بطنها من الحمل. وقيل: إذا نبت شعر الجنين الذي في بطنها. والغشاش: العجلة.
يقول: لما أتاني خبره، أسرجت فرسي وركبتها على سرعة، وهي عقوق ولم أشفق عليها.
من المتمردات أذب عنها ... برمحي كل طائرة الرشاش
يعني: أن الكميت من الخيل المتمردات التي لا تبالي بشيء، ولا يقدر على الوصول إليها لسرعتها وخبثها وذلك من قوله تعالى: " شيطانٍ مارد " .
يقول: إنها من الخيل المتمردات، وإني أدفع عنها برمحي، كل دم رشاش. أي أني أذب عنه بنفسي ورماحي كل من يريد عقرها، وأدفع عنها كل طائرة الرشاش: أي كل دم ينط عند الطعن ويرش وينتضح.
ولو عقرت لبلغني إليه ... حديثٌ عنه يحمل كل ماش
يقول: لو عقرت هذه الفرس تحتي، لبلغني إليه حسن الحديث الذي أسمعه عنه، وهذا الحديث يحملني إليه لأنه يحمل كل ماش وإن لم يكن له فرس.
إذا ذكرت مواقفه لحافٍ ... وشيك فما ينكس لانتقاش
شيك: أي إذا دخل في رجله شوك والتنكس: هو تنكيس الرأس. لإخراج الشوك من الرجل، والانتقاش: إخراج الشوك. ومنه: المنقاش ومعناه: إذا ذكرت مواقفه في الحروب للحافي: الذي لا حذاء له، وشيك في رجله، فإنه لا ينكس رأسه لإخراج الشوكة من رجله، لما داخله من الخوف والتحير، إذا سمع ذلك تاق ورغب في صحبته فأسرع إليه ولم يلو على شيء، كما فعلت.
وقيل: إذا ذكرت مواقفه في السخاء للإنسان وكان حاف، ودخل الشوك في رجله فإنه لا ينكس رأسه إلى أسفل لاستخراج الشوكة من رجله بل يسرع إليه، لما تقو الدواعي في الاحتياج إليه. هذا تفسير أبي الفتح.
وقيل: إن أحاديثه الحسنة تؤدي سامعها أنه إذا أصابت رجلهشوكة لم يشعر بها فلا يقطع الحديث لحسنه، ولا ينكس رأسه لإخراجها.
يزيل مخافة المصبور عنه ... ويلهي ذا الفياش عن الفياش
الفياش: المفاخرة، وأكثره في الباطل. روى ابن جنى قال: تلهى بمعنى تزيل على الخطاب للمدوح. وقيل: إن التاء راجع إلى المواقف، أي إن المواقف تزيل وتلهى.
يقول على الخطاب: إنك تزيل مخافة المحبوس بأن تخلصه من الأسر والحبس، وتنسي صاحب الفخر فخره؛ لأنه إذا نظر في أوصافك علم بقصوره عنك فيمتنع عن الفخار.
وعلى الخبر عن المواقف يقول: إذا سمع مواقفه: من جنس القتل وغيره، أنساه ذكرها وحسنها ما هو فيه من الخوف، فإذا سمع مفاخرة أنساه ذكر مفاخرته.
وما وجد اشتياقٌ كاشتياقي ... ولا عرف انكماشٌ كانكماشي
يقول: كل أحد يشتاق إلى لقائك، وينكمش نحوك. ولكن ليس لأحد شوق مثل شوقي إلى لقائك ولا اجتهاد لأحد، مثل اجتهادي في المسير إليك.
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
يقول: إنما قصدتك لأبلغ المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وقصدك غيري لطلب المعاش، واقتناء الرياش، فلهذا صار شوقي أكثر وانكماشي أقدر.
وخرج أبو العشائر يوماً يتصيد، وخرج أبو الطيب معه، فأرسل بازياً على حجلة فأخذها فقال أبو الطيب يصف ذلك:
وطائرةٍ تتبعها المنايا ... على آثارها زجل الجناح
تتبعها: أي تتبعها، فحذف إحدى التاءين. والزجل: الصوت.
يقول: رب قبجةٍ رائشها يطير، وخلفها بازٍ يريد صيدها، فكأن المنايا تطلبها.

كأن الريش منه في سهامٍ ... على جسدٍ تجسم من رياح
الهاء في منه لزجل الجناح. وهو البازي، شبه ريشه بريش السهام؛ للسرعة، فيكون ريشه في نفس السهام، والسهام ظرف له.
ومعناه: كأن ريشه سهام على جسم يكون من ريح، لأن الريش سبب لقتل الطائر، كما أن السهام سبب للقتل.
وقيل في بمعنى على أي كأن ريشه على سهام كانت بهذه الصفة.
كأن رءوس أقلامٍ غلاظاً ... مسخن بريش جوجئه الصحاح
غلاظاً: نصب لأنه صفة لرءوس والصحاح: بمعنى الصحيح. وروى بالكسر: وهو جمع الريش. وقد يكون واحداً وجمعاً. والصحاح: نعت للريش. شبه السواد الذي في صدر الباز بآثار مسح رءوس الأقلام الغلاظ، وهو تشبيه مصيب. ويجوز أن يكون الصحاح بالفتح: صفة الجؤجؤ.
فأقعصها بحجنٍ تحت صفرٍ ... لها فعل الأسنة والرماح
يقال: طعنه فأقعصه. إذا قتله مكانه، بحجنٍ: أي بمخالب معقفة، وهو جمع أحجن. وتحت صفر: وهي أصابعه ورجله.
يقول: قتلها البازي بمخالبه أي أظفاره التي تحت أصابعه، وهذه المخالب لها فعل الأسنة والرماح. وهو القتل؛ لحدتها.
فقلت: لكل حيٍّ يوم سوءٍ ... وإن حرص النفوس على الفلاح
الفلاح: البقاء. وقيل الفلاح: الظفر بالخير.
يقول: كل حيٍّ لابد له من يوم سوء، يوافيه أجله فيه وإن حرص الناس على البقاء، فلا سبيل لهم إليه.
فقال له أبو العشائر أفي هذه الساعة قلت هذا؟! فقال مجيباً له على تعجب أبي العشائر لسرعة بديهته:
أتنكر ما نطقت به بديهاً ... وليس بمنكرٍ سبق الجواد؟!
بديهاً: مصدر في موضع الحال. يقول: لا تنكر بديهتي ولا تستبعد ارتجالي الأشعار، وأنا في ذلك بمنزلة الجواد، فإنه لا يستنكر منه سبق سائر الخيل.
أراكض معوصات القول قسراً ... فأقتلها وغيري في الطراد
أراكض: أي أسابق، وأجاري. والمعوص والعواص: الصعب.
يقول: إذا حاولت معنىً عويصاً من الشعر فرغت منه، وغيري بعد في التفكير.
ودخل عليه وعنده إنسان ينشده شعراً وصف به بركةً في داره فقال يمدح أبا العشائر:
لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك
يقول: إن كان قد أحسن في وصف هذه البركة، فقد ترك الحسن في وصفك وهو أولى من وصف البركة وأجمل.
لأنك بحرٌ وإن البحار ... لتأنف من حال هذي البرك
يقول: أنت بحر، والبحار تأنف من ماء هذه البركة. وهذا الوصف الذي وصفه، وهذه الأوصاف، دون الأوصاف التي أنت عليها.
كأنك سيفك لا ما ملك ... ت يبقى لديك ولا ما ملك
يقول: أنت مثل سيفك، إذا ملكت مالاً فرقته وأفنيته، والسيف إذا ملك مهجة أسالها وأفناها، فتبذل أنت ما ملكت، وتقتل بسيفك من وصل إليه.
فأكثر من جريها ما وهبت ... وأكثر من مائها ما سفك
الهاء في جريها ومائها للبرك. يقول: هباتك أكثر من مائها الجاري والدماء التي يسفكها سيفك أكثر مما فيها من الماء.
أسأت وأحسنت عن قدرةٍ ... ودرت على الناس دور الفلك
يقول: أسأت إلى أعدائك، وأحسنت إلى أوليائك، باختيار منك وقدرة، وأنت الدائر على الناس بالخير والشر، والإساءة والإحسان، والسعد والنحس، دور الفلك الدوار، إلا أنه لا اختيار له ولا قدرة، وأنت تفعل ما تفعله عن قدرة واختيار، فأنت الفلك الدائر في الحقيقة، وأنت أفضل منه للوجه المذكور.
وقال يمدحه ويذم قوماً من المتكسبة بالشعر:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ... أول حيٍّ فراقكم قتله
الربع: المنزل، وجعل العمارة حياة له فسماه حياً، لأن أضاف أول إليه، وجعل التفصيل مضافاً إليه ما هو بعض منه. وجعله قتلاً له على المجاز.
يقول لأحبابه لما فارقهم: ليس هذا الربع بأول هالك بسبب فراقكم، بل قد تلف منزلكم وعفا رسمه، ودرس أثره، فكأن فراقكم قتله، وهذا الربع ليس بأول حي قتله فراقكم. وقد بين ذلك فيما بعده بقوله:
قد تلفت قبله النفوس بكم ... وأكثرت في هواكم العذله
الهاء في قبله للربع. يقول: ليس هذا الربع بأول كثير العذل بسبب فراقكم، وقد أكثر العذل في حبكم، فلم يكف أحد من العشاق عن هواكم، لأجل عذل العذال. والعذلة: جمع عاذل.
خلا وفيه أهلٌ وأوحشنا ... وفيه صرمٌ مروحٌ إبله

الصرم: جماعة من البيوت بمن فيها أهله والمروح: الذي يرد إبله عن المرعى في الرواح، والهاء في فيه في الموضعين للربع وفي إبله للصرم.
يقول: لما ارتحل عنه من كنت أحبه، رأيته وإن كان عامراً بأهله موحشاً، وإن كان فيه بيوت وجماعة من الناس، ويروحون إبلهم إليه.
لو سار ذاك الحبيب عن فلكٍ ... ما رضي الشمس برجه بدله
برجه: فاعل رضي. ومفعوله: الشمس وهو أولى.
يقول: لو كان هذا الحبيب في فلك فسار عنه وحلت الشمس موضعه، لما رضي بها برجه الذي كان يحله، بدلاً منه.
أحبه والهوى وأدوره ... وكل حبٍ صبابةٌ ووله
الصبابة: شدة الشوق. والوله: ذهاب العقل.
يقول: أحب هذا الحبيب، وأحب أن أحبه! وأحب منازله لأجله، وكل حب فيه صبابة وشدة شوق وجنون وتحير.
وقيل: الواو في قوله: والهوى واو القسم. أي وحق الهوى، فيكون مجروراً.
ينصرها الغيث وهي ظامئةٌ ... إلى سواه وسحبها هطله
الهاء في ينصرها للأدؤر. أي: يكسوها العشب. يقال: أرض منصورة. إذا سقيت.
يقول: الغيث يسقيها وهي عطشى. إلى سوى الغيث، وهو الحبيب الذي ارتحل عنها، وسحب هذه الديار هاطلة بالمطر ولا تحتاج إليه.
وقيل معناه: إن هذه الأدؤر يصيبها المطر فيكسوها العشب فتستدعي معاودة من رحل عنها، وهو الحبيب. يقال: دار بني فلان منصورة. أي عادها من كان رحل عنها، ولهذا دعت العرب لديار أحبابها بالسقيا، ليعودوا إليها.
واحرباً منك يا جدايتها ... مقيمةً فاعلمي ومرتحله!
روى واحرباً، واحزناً لجداية أي وا أسفاً، واهلاكاً.
كأنه يقول: يا ظبية هذه الدار، ويلي منك! سواء كنت مقيمة أو مرتحلة؛ لأنك إن اقمت فممنوعة، وإن ارتحلت، حال البعد بيننا.
لو خلط المسك والعبير بها ... ولست فيها لخلتها تفله
العبير: الزعفران، عن أبي عبيدة. وقيل: أخلاط من الطيب فيه الزعفران، عن الأصمعي. والتفلة: المتغيرة الريح.
يقول: لو خلط المسلك والزعفران بتراب هذه الأدؤر، ولم تكوني فيها لظننت أنها متغيرة الريح لأن طيبها بك أنت!
أنا ابن من بعضه يفوق أبا ال ... باحث والنجل بعض من نجله
النجل: الولد والهاء في بعضه لمن الأولى وفي نجله لمن الثانية. ويريد بالباحث: إنساناً كان يبحث عن أصله، ويطعن في نسبه.
يقول: أنا ابن الرجل: الذي بعض ذلك الرجل: أي نفسه. يفوق والد الباحث، الذي يبحث عن فضل أبي، فإذا كنت أفضل من أبيه فالرجل الذي أنا بعضه لاشك في انه أفضل منه بكثير؛ لأن الولد بعض من ولده.
وإنما يذكر الجدود لهم ... من نفروه وأنفدوا حيله
نفروه: أي غلبوه بالنفر. يقال: نافرته. أي فاخرته بكثرة النفر فغلبته. يقول: أنا غني بفضلي عن الافتخار بجدودي، وإنما يفخر بالجدود من ليس يفضل في نفسه. فغلبه المفاخرون وأنفدوا حيله، فحينئذ يفتخر بآبائه وفضلهم.
فخراً لعضبٍ أروح مشتمله ... وسمهريٍّ أروح معتقله
مشتملة: أي مقلدة. يقول: لأفخر بالسيف فخر، حيث أتقلد به. والرمح حيث أمسكه بيدي؛ لأني إذا استعملتها كفاني فخراً وشرفاً.
وليفخر الفخر إذا غدوت به ... مرتدياً خيره ومنتعله
الهاء في خيره وفي به للفخر وفي منتعله لخير.
يقول: كل شيء يفتخر بي، حتى الفخر يفتخر بأن ألبسه، فأرتدي به وأنتعله؛ لأني أعلى من الفخر.
أنا الذي بين الإله به الأق ... دار والمرء حيثما جعله
يقول: أنا الذي جعلني الله تعالى من الفضل والكمال، فقدر كل إنسان يتبين إذا قدر بفضلي، وفيس محله إلى محلي.
وقيل معناه: إن أقدار الناس تتبين بمدحي أو بهجوي، فمن مدحته رفعت قدره، ومن هجوته وضعت قدره وأخملت ذكره، والهاء في جعله قيل: ترجع إلى اسم الله تعالى، وقيل: إلى المرء. أي حيثما جعل نفسه. قلت: ويجوز أن يكون راجعاً إلى الضمير الذي في أنا الذي بين الإله به أي المرء حيثما جعله هذا الرجل الذي بين الله به الأقدار.
جوهرةٌ تفرح الشراف بها ... وغصةٌ لا تسيغها السفله
يقول: أنا جوهرة تفرح الكرام بها. يعني: إذا مدحت شريفاً يفرح بي؛ لأني أناسبه، وكل لئيم يحسدني ويراني غصة له في صدره، لقصوره عني ولازدرائي به، فنظير الأول قول الشاعر:
وكل امرىءٍ يصبوا إلى من يجانس
ونظير المصراع الثاني قول الشاعر:

والجاهلون لأهل العلم أعداء
إن الكذاب الذي أكاد به ... أهون عندي من الذي نقله
الكذاب: مصدر كذب، أو كاذبني. وروى أكايده من الكيد.
يقول: إن الكذب الذي يكيدني به حسادي، لا أبالي به، وهذا الكذب أهون وأقل وزناً من الكاذب الذي نقل هذا الكذب، ولا قدر له.
فلا مبالٍ، ولا مداجٍ، ولا ... وانٍ، ولا عاجزٌ ولا تكله
المدجي: الساتر للعداوة، أي لا أدري هذا الحاسد، ولا أساتره ولا أواني. أي لست بضعيف عاجز مقصر في أمري. وروى ولا فان من قولهم: شيخ فان: أي ضعيف، ميتاً في الضعف. والتكلة: الضعيف الذي يكل أمره إلى غيره.
يقول: لا أبالي بهم لقلتهم ولا أؤاخيهم لخستهم، ولا أعجز عن مكافأتهم، ولا أستعين بأحد على نكايتهم.
ودارعٍ سفته فخر لقىً ... في الملتقى والعجاج والعجله
العجلة: السرعة. وقيل: أراد به الطين. وفي القرآن: " خلق الإنسان من عجل " . وسفته: ضربته بسيفي.
يقول: كم دارع. أي ورب دارع ضربته بالسيف عند الملتقى في الحرب فصرعته لوجهه على الغبار في الطين بسرعة.
وسامعٍ رعته بقافيةٍ ... يحار فيها المنقح القوله
المنقح: المهذب. وقوله: القولة أي الكثير القول. وقيل الجيد القول.
يقول: رب سامع خوفته بقصيدة حسنةٍ يتحير فيها الشاعر الفصيح المهذب لقوله وبجيد شعره.
يصف نفسه بالفصاحة وجودة الشعر.
وربما أشهد الطعام معي ... من لا يساوي الخبز الذي أكله
أشهد: فعل ما لم يسم فاعله، والطعام: مفعوله الثاني. واسمه من. كأنه يعرض بأبي العشائر بأنه لم يميزه عمن دونه.
ومعناه: أني مع فضلي ربما أواكل من لا يساوي ما يأكله من الطعام، وروى: يشهد وهو مضارع أشهد واسمه الضمير المستكن والطعام مفعوله الثاني.
ومعناه على هذا: وربما يشهد الطعام معي من لا يساوي الخبز الذي يأكله ومثله لابن بابك:
لا غرو إن جمعتنا دار مفضيةٍ ... فالصيد يجمع بين الكلب والبازي
ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدر درٌّ برغم من جهله
فيه وجوه: أحدها: أن الذي أواكله يظهر أنه جاهل بي! وأنا أعرفه على خموله ومعناه كيف يجوز ألا يعرفني وأنا في الظهور كالشمس وهو خامل مغمور؟! والثاني: أني عارف بفعله إنه يظهر الجهل بي مع أنه يعرفني.
والثالث: أنا أعرف جهله بي. ثم قال: والدر در برغم من جهله وهذا مثلٌ. أي لا يضرني جهل من لا يعرف فضلي، كما أن الدر لا يحط قيمته جهل من لا يعرف قدره وقيمته.
مستحيياً من أبي العشائر أن ... أسحب في غير أرضه حلله
يقول: إني إنما أحتمل معاشرة الأردياء، وأكون مع من لا يرى فضلي مستحياً منه أن أرتحل من بابه وأسحب حلله في غير أرضه ومحله.
أسحبها عنده لدى ملكٍ ... ثيابه من جليسه وجله
قول: لدى ملك بدل من عنده. يقول: أسحب هذه الحلل عند ملك ثيابه خائفة من جليسه؛ لأنه أبداً يخلع ثيابه على من يجالسه فهي تخاف أن ينزعها ويلبسها لجليسه، لأنها لا تتشهي مفارقته تشرفاً بكونها عليه.
وبيض غلمانه كنائله ... أول محمود سيبه الحمله
البيض: جمع أبيض، أي غلمانه البيض من جملة نائله: أي عطائه.
يعني: أنه يهب البدور والخلع والغلمان الذين يحملونها، فالحملة لنائله أول محمول إلى المعطى له.
مالي لا أمدح الحين ولا ... أبذل مثل الود الذي بذله
معناه: كيف لا أمدحه ولا أوده مثل ما يودني وأحبه مثل ما يحبني!؟ وجعل الممدوح ممن يحبه تعظيماً لنفسه ورفعاً لقدره.
أأخفت العين عنده خبراً؟ ... أم بلغ الكيذبان ما أمله!
الكيذبان: الكثير الكذب.
يقول: مالي لا أمدحه؟! ثم يقول: هل الكذاب الساعي بالنميمة بلغه أحوالي، كأنها خافية عنه. وهو معنى قوله: أأخفت العين أي أخفت عينه عنده خبري في المحبة له، أم بلغ ما كان يتمناه من فساد الحال بيني وبينه.
وقيل معناه: أخفت عيني عن قلبي خبر هذا الرجل في الإحسان إلي. وقيل أراد بالعين: الرقيب، وأنثه تشبيهاً بالعين التي هي الجارحة. أي أخفى الرقيب عنده خبري في الموالاة، فأخبره بخلاف ما أنا عليه، حتى يفسد ما بيني وبينه من الموالاة والمحبة.
أم ليس ضراب كل جمجمةٍ ... منخوةٍ ساعة الوغى زعله

المنخوة: المملوءة. من النخوة، وهي الكبر. وزعلة: أي مرحة بطرة.
يقول: لم أمدحه كأنه غير شجاع يضرب في الحرب رءوس الأبطال المتكبرين الذين في رءوسهم النخوة وفي قلوبهم المرح والبطر. وقوله: ساعة الوغى ظرف لنخوه: أي منخوة حالة الحرب، ولو جعله ظرفاً لضراب لجاز أن يضرب ساعة الوغى زعلة.
وصاحب الجود ما يفارقه ... لو كان للجود منطقٌ عذله
صاحب: نصب عطفاً على قوله: ضراب كل جمجمةٍ؛ لأنه خبر ليس. يعني أنه قد بلغ في السخاء حداً لو كان له لسان لعذله.
وراكب الهول ما يفتره ... لو كان للهول محزمٌ هزله
المحزم: موضع الحزام. والهاء في ما يفتره للهول الأول، وفي هزله للهول الثاني، وقيل للمحزم.
يقول: هو يركب الهول ولا يفتره أي لا ينزل عنه ساعة، فلو كان الهول مركوباً يشد عليه الحزم لهزله وأذاب لحمه، من كثرة ركوبه إياه.
وفارس الأحمر المكلل في ... طيىءٍ المشرع القنا قبله
الأحمر: فرسه الذي ركبه يوم وقعته بأنطاكية، والمكلل: بكسر اللام الأولى هو الحاد الماضي، فإن جررته فهو صفة للفرس وإن نصبته فهو صفة للممدوح وإن فتحت اللام الأولى وجررته فهو صفة للفارس. أي الملك المتوج، وإن نصبته فهو صفة للفرس وهو الذي على رأسه شبه الإكليل. والقنا، وإن كان جمعاً قد ذكر حيث قال: المشرع القنا لأنه أراد به الجنس. وروى المشرع فعلى هذا يكون صفة لطيىءٍ إنه كان فارس هذا الفرس في وقت إشراع الرماح قبله.
لما رأت وجهه خيولهم ... أقسم بالله لا رأت كفله
الهاء في كفله للممدوح. وقيل: إنه راجع للأحمر المكلل وهو الفرس..
يقول: لما رأت خيول الأعداء وجهه أقسم هو بالله ألا يولي ولا ينهزم، فلا يروا له قفاً.
فأكبروا فعله وأصغره ... أكبر من فعله الذي فعله
روى: أصغر بفتح الراء على الفعل الماضي، وفاعله أبو العشائر. وأكبر على هذا خبر ابتداء محذوف. أي: هو أكبر. وقيل: إنه مبتدأ والذي خبره. والمعنى: أنهم استعظموا فعله واستصغره هو، ثم قال: هو أكبر من فعله. أي هو أعظم من فعله وإن كان عظيماً وكل فعل عظيم ففاعله أعظم منه كما قال أبو تمام:
أعاذلتي ما أحسن الليل مركباً ... وأحسن منه في الملمات راكبه
أي أصغره على المبالغة فيكون أصغر مبتدأ وما بعده خبر له. ومعناه أنهم استكبروا فعله، وأصغره ما يفعله هو أكبر من فعله الذي فعله عندهم فاستكبروه.
القاتل الواصل الكميل فلا ... بعض جميلٍ عن بعضه شغله
الكميل: المبالغة في الكامل.
يقول: هو يقتل أعداءه، ويصل أولياءه، وإنه كامل الفضل فيهما، فبعض فعله في الجميل لا يشغله عن بعض، بل يحسن في حال القتال وغيره.
فواهبٌ والرماح تشجره ... وطاعنٌ والهبات متصله
تشجره: أي تدخله. يعني أنه هو يهب أمواله، ويطاعن أعداءه في وقت واحد، فلا الحرب تشغله عن الجود ولا الجود يشغله عن الحرب.
وهذا تفسير للبيت الذي قبله.
وكلما آمن البلاد سرى ... وكلما خيف منزلٌ نزله
آمن: أي وجدها آمنة. وقيل معناه: كلما وافى بلداً أمن من الحرب، وسار من هناك إلى بلد آخر يفتحه، وكلما خيف منزل: إما من الدعار، أو من الأعداء نزله فأزال الخوف عنه.
وكلما جاهر العدو ضحىً ... أمكن حتى كأنه ختله
الختل: الخديعة. أي إذا قصد عدوه مجاهرة أمكن منه، حتى كأنه أتاه غفلة منه، فمجاهرته تقوم مقام ختل غيره.
يحتقر البيض واللدان إذا ... شن عليه الدلاص أو نثله
اللدان: الرماح اللينة. الواحد لدن. وشن الدرع: إذا صبها على بدنه. والدلاص: الدرع الصافية البراقة. ونثل الدرع، وشنها، وأفرغها، وصبها: إذا لبسها. وذكر الضمير في قوله: نثله وإن عاد للدرع؛ لأن الذرع يذكر ويؤنث يقول: إذا لبس درعه لا يبالي السيوف والرماح وغيرها.
قد هذبت فهمه الفقاهة لي ... وهذبت شعري الفصاحة له
الفقاهة: الفطنة والعلم بغوامض الأمور.
يقول: فقاهتي في الشعر وعلمي بغوامض المعاني هذبت فهم الممدوح، وبصرته جودة الشعر من رداءته، حتى لا يستحسن شعراً هو دون شعري، وكذلك فصاحته هذبت شعري، وحملتني على التحفظ فيه، وتنقيحة حتى جاء مهذباً من كل عيب ومثله لأبي تمام:
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به ... سحرٌ وأشعاري لهم أشعار

فصرت كالسيف حامداً يده ... ما يحمد السيف كل من حمله
يقول: لما علمت بفصاحته، تأنقت في شعري، وهذبت ألفاظه، فصارت فصاحته سبباً إلى تجويد شعري، كما كان جودة ضربه وقوة ساعده سبباً لإظهار حد سيفه، فصار سيفه حامداً له حيث أظهر جودته، ثم قال: ما يحمد السيف كل من حمله يعني: أن السيف إذا كان في يد من لا يحسن الضرب نبا إن كان ماضياً، وإنما يعمل في يد الحاذق بتصريفه فلا يحمد السيف دون من لا يحسن الضرب به.
وجلس معه ليلة على الشراب فنهض لينصرف وقت انصرافه، فسأله الجلوس فجلس، فخلع عليه ثياباً نفيسة، ثم نهض لينصرف فسأله الجلوس فجلس، فأمر له بثمن جارية فحمل إليه، ونهض لينصرف، فسأله الجلوس بقود مهرة إليه، فقال له ابن الطوسي الكاتب: لا تبرحن الليلة يا أبا الطيب فأجابه:
أعن إذني تهب الريح رهواً ... ويسري كلما شئت الغمام؟!
ولكن الغمام له طباعٌ ... تبجسه بها وكذا الكرام
يقول جواباً لذلك: لا أنصرف استزادةً مني لهباته، ليس عن أمري ولا كان طلبي من الرجل، إن ما ترى من جود الأمير ورجوليته، كرم طبعه يدعو إليه. كما أن الغمام ليسح ماؤه لطبعه، دون أن يبعثه عليه باعث، ولا يقدر أحد أن يحبس مطره، فكذلك هذا الرجل لا يمكنه أن يمتنع عن العطاء، لأن الله تعالى فطره على ذلك وروى: تبجسه بها ولها والهاء: للطباع وفي تبجسه للغمام.
وأراد أبو العشائر سفراً فقال أبو الطيب يودعه:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظٌ وأنت معناه
المصراع الأول له معنيان أحدهما: أن الناس إذا لم تكن فيهم متساوون ليس لواحد منهم فضل على صاحبه، فإذا حضرتهم فضلتهم فتفاوتوا بك،فصاروا المفضولين وأنت الأفضل. والثاني: أن الناس ما لم يروك فهم سواء، فإذا رأوك تفاضلوا في أقدارهم، فكل من رآك أكثر فهو أشرف، وكل من قربت منزلته منك فهو أفضل.
يريد: أن الناس إذا رأوه تعلموا أسباب الرياسة منه، واهتدوا بأفعاله إلى المكارم، فمن صحبه أكثر كان إلى السيادة أقرب.
وأما المصراع الثاني فمعناه: أن الأفعال التي تنسب إلى الدهر من إعزاز وإذلال، وإحسان وإساءة، إنما هي عبارة عنه وإنها تنسب إليه بالقول، وإلا في الحقيقة فأنت فاعلها والمعني بها، لأنك تفعل ذلك دون الدهر.
والجود عينٌ وأنت ناظرها ... والبأس باعٌ وفيك يمناه
يقول: قوام الجود بك، كما أن العين بناظرها. والبأس: وهي الشجاعة، قوامها بك، ووجودها بسببك، كما أن الباع بطشه وفضله في اليد اليمنى.
أفدي الذي كل مأزقٍ حرجٍ ... أغبر فرسانه تحاماه
أعلى قناة الحسين أوسطها ... فيه وأعلى الكمي رجلاه
الحرج: الضيق. المأزق: المضيق في الحرب. والأغبر: المظلم الذي عليه غبرة. وتحاماه: تجنبه. والهاء في فيه ترجع إلى المأزق. وقيل: إلى الذي وقوله: كل مأزق مبتدأ، وأغبر في موضع جر، صفة لمأزق، وإن شئت رفعته فيكون صفة لكل، وفرسان مبتدأ آخر، وتحاماه خبره، وهذه الجملة صفة لمأزق، ولكل. والهاء في فرسانه تعود إلى المأزق وكذلك في فيه.
يقول: أفدي الفارس الذي إذا حصل في مضيقٍ أغبره. يحذر منه الفرسان ويتركونه، ويكون أعلى رمحه في ذلك المأزق أوسطه؛ لأنه يكثره بكثرة الطعن حتى يصير وسطه أعلاه، أو يثنيه إذا طعن فارساً فيصير أعلاه أسفله وكذلك ينكس الفارس الشجاع عن فرسه، فيكون رجلاه فوقه وأعلاه، أو ينتفخ بعد قتله إياه وترتفع رجلاه فوقه. وما بعد قوله: الذي إلى آخره، داخل في صفة الذي وموضعه نصب بأفدي، أي أفدي الذي هذه صفته.
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسنٍ ما لهن أفواه
يقول: إن أثوابنا تنشد مدائحه، من حي إن الناس إذا رأوها علينا علموا أنها من خلعه، حتى لو لم نشكر له لأعلنت هذه الثياب بمدحه.
والثاني: هو أن لأثوابنا التي خلعها علينا صوتاً لجدتها، فهذا الصوت كإنشادها مدائحه. ذكره ابن جنى.
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
هذا يؤكد المعنى الذي بدأنا بذكره. يعني أن هذه الثياب إذا مررنا بها على الأصم، فمتى رآها علم أنها من خلعه، فأغنته عيناه عن أذنيه.
سبحان من خار للكواكب بال ... بعد ولو نلن كن جدواه
نلن: أي أدركن وهو فعل ما لم يسم فاعله.

وحكى ابن جنى عن المتنبي: أنه كان يشير إلى الضمة رفعاً للالتباس بين فعلن وفعلن وقوله خار: أي جعل لها الخيرة.
يقول: لو نيلت هذه النجوم، لكانت يده تصل إليها وتجعلها من جملة عطاياه، ولكن الله تعالى بعدها منه خيرةً لها.
لو كان ضوء الشموس في يده ... لضاعه جوده وأفناه
ضاعه: أي فرقه.
يقول: لو كان ضوء الشمس في يده لفرقته هباته. وروى: أضاعه جوده أي ضيعه من الضياع.
يا راحلاً كل من يودعه ... مودعٌ دينه ودنياه
يقول: إن الدين والدنيا معك، فإذا فارقناك فارقنا ديننا ودنيانا بفراقك.
إن كان فيما نراه من كرمٍ ... فيك مزيدٌ فزادك الله
روى: من كرم ومن حسن.
يقول: لا مزيد على ما نلت من كرم في عقولنا، فإن كان في الكرم مزيد خفي علينا، فبلغك الله إليه، وأنا لك مرادك منه.
فقال قوم لأبي العشائر إنه ما كناك وإنما تعرف بكنيتك فقال:
قالوا ألم تكنه؟! فقلت لهم ... ذلك عيٌّ إذا وصفناه
أي قالوا: لم لا تذكر كنيته؟ فقلت لهم: إذا وصفته فذكر الكنية عي؛ لأن أوصافه تغني عن ذكرها، إذ لا يوجد في غيره ما فيه من الأوصاف. وهذا مثل قوله في مرثية أخت سيف الدولة:
ومن يصفك فقد سماك للعرب
لا يتوقى أبو العشائر من ... ليس معاني الورى بمعناه
وروى: من لبس فيكون نكرة. يعني: لا يتوقى رجلاً لبس معناه بمعاني الخلق، فيشاركه في هذا الوصف فيحتاج إلى تكنية، ليفصل بينهما. وروى: من ليس ومعنى البيت: أن الرجل إنما يذكر باسمه وكنيته لتميزه عن غيره، ومعاني أبي العشائر مخالفة لمعاني الناس فإذا وصف تميز عن غيره ولم يخف أن يلبس به غيره، لأنه لا يشاركه أحد في أوصافه فيحتاج إلى تمييز عنه بالكنية.
أفرس من تسبح الجياد به ... وليس إلا الحديد أمواه
يجوز نصب الحديد للضرورة؛ لأنها معرفه واسمه: أمواه، وهي نكرة. ويجوز أن تجعل خبر ليس محذوفاً، فتنصب الحديد على الاستثناء. المقدم. كأنه قال: وليس في الأرض أمواه إلا الحديد، فلما قدمه نصبه.
يقول: هو أفرس رجل تسبح به الجياد، ولما جعلها تسبح، جعل الماء الذي تسبح فيه الحديد، وهو الدروع والسلاح.
وأخرج إليه جوشناً حسناً أراه إياه بميا فارقين فقال يمدحه:
به وبمثله شق الصفوف ... وزلت عن مباشرها الحتوف
زلت: أي زلقت. والهاء في مباشرها للصفوف، ويجوز أن يكون للحتوف أي زلت الحتوف عن مباشرها.
يقول: بهذا الجوشن وبأمثاله تشق الصفوف في الحرب، ويندفع الموت عنه عند مصادقة الأقران والشجعان.
فدعه لقىً فإنك من كرامٍ ... جواشنها الأسنة والسيوف
يقول: دع هذا الجوشن مطروحاً، فإنك من قوم كرام ليس لهم جواشن إلا السيوف والرماح.
وضرب لأبي العشائر مضرب بميافارقين على الطريق، فكثر غاشيه وسائله، فقال له إنسان: جعلت مضربك على الطريق؟ فقال أبو العشائر أحب يا أبا الطيب أن تذكر هذا، فأنشد أبو الطيب قائلاً:
لام أناسٌ أبا العشائر في ... جود يديه بالعين والورق
أي: قد لام بعض الناس أبا العشائر في بذله الدراهم والدنانير على الناس.
وإنما قيل: لم خلقت كذا؟! ... وخالق الخلق خالق الخلق
يقول: من لامه على جوده بمنزلة من قال: لم خلقت كذا؟! لأنه طبع عليه ولا يمكنه الانفكاك منه، والله تعالى كما خلق الإنسان خلق له خلقاً، وما كان من فعل الله تعالى فلا سؤال فيه على العبد، ولا لوم عليه إذ لا فعل له فيه.
قالوا: ألم تكفه سماحته ... حتى بنى بيته على الطرق؟!
أي لاموه على جوده وقالوا: ألم يكفه ما فيه من الجود والسماحة حتى ضرب بيته على الطريق ليقصده كل وارد؟! فأجاب عن ذلك بقوله:
فقلت: إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
أي فقلت لهم: إن الفتى الشجاع يرى الشح كالفرق: وهو الجبن، فيجتنبه كما يجتنب الجبن؛ لأن البخيل إنما يبخل بماله خوف الفقر، فهو يقوم عليه كما يقوم على أمر مخوف، فكأنه يقول: إن السخي لتيقنه بالعوض، يسمح بما عنده فيرى البخل من الجبن.
بضرب هام الكماة تم له ... كسب الذي يكسبون بالملق
يقول: إن ما يكسبه أعداؤه بالملق والخديعة، يأخذه هو بسيفه؛ لأنه يضرب رءوسهم ويغير على أموالهم.

معناه: أن ما يأخذونه بالسؤال والملق حصل له بتقبيل الأيادي؛ لأن شجاعته معه، وفي أعدائه كثرة، فإن ذهب ما في يده رجع إلى أعدائه وغار عليهم واكتسب أموالهم.
وقيل: هو ملك يضرب هام الشجعان، وماله قليل، مثل مال من يكسب في الملق، لتسلط الجود عليه وتركه لادخار الأموال.
كن لجةً أيها السماح فقد ... آمنه سيفه من الغرق
يخاطب السماح ويقول له: كن أعظم ماشئت، فإن الممدوح لا يخشى أن يفرق ماله، لأن سيفه قد أمنه من ذلك، لأنه كلما نفذ ماله أخلف عليه سيفه مثله وأكثر منه، من مال أعدائه. والهاء في منه وسيفه للممدوح.
وانتسب له أي لأبي العشائر بعض من رماه أي المتنبي على باب سيف الدولة في الليلة التي نشرحها بعد قوله:
وأحر قلباه ممن قلبه شيم
وانتسب إلى أبي العشائر وذكر أنه هو الذي أمرهم بذلك فقال أبو الطيب:
ومنتسبٍ عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
حفيف النبل: صوته.
يقول: رب رام قصدني سهامه، وانتسب إلى من أحبه وقت رميه، وأنا أسمع حولي حفيف نبله.
فهيج من شوقي وما من مذلةٍ ... حننت ولكن الكريم ألوف
يقول: لما ذكر لي أبا العشائر هيج شوقي إليه، ولم يكن حنيني إليه من ذل أو حزن، ولكني ألوفٌ، والكريم يألف إلى من أحسن إليه.
وكل ودادٍ لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
يقول: كل وداد لا يكون دائماً على الأذى ممن يؤذيه، كما دام ودادي لأبي العشائر، فهو ود ضعيف.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
يقول: إن ساءني فعله مرة، فالذي سرني من أفعاله المواضي وأياديه السوالف، ألوف.
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه ... ولكن بعض المالكين عنيف
العنيف: ضد الرفيق. يقول: نفسي له. أي أنا عبده فليصنع بي ما أحب! ثم قال: نفسي فداء له. ثم عرض به فقال: ولكن بعض المالكين عنيف أي أنه لما ملك عنف عليها، وأراد إتلافها وكان حقه أن يرفق بها.
تمت الشاميات
الجزء الثالث
السيفياتوقال أبو الطيب يمدح سيف الدولة: أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ابن حمدون بن الحارث العدوي. عند نزوله أنطاكية ومنصرفه من الظفر يحصن برزويه، في جمادى الآخر سنة 337 وكان جالساً تحت شراع ديباج:
وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدّمع أشفاه ساجمه
خاطب صاحبيه، وقد لاماه على البكاء على الربع فقال: وفاؤكما بإسعادي كالربع أشجاه دارسه. والطاسم والطامس بمعنى الدارس. وأشجاه: أشده شجوا، والشجو: الحزن. أي: لا أبكي الربع وصرت أبكي وفاءكما معه ! وقال الشيخ أبو الفتح ابن جني: وهذا لفظه أملاه إملاء. وطسم يطسم طسما فهو طاسم إذا درس والخمحت آثاره وكذلك طمس يطمس فهو طامس طامس، وسجم الدمع فهو ساجم: إذا سال. وقوله: وفاؤكما خطاب للاثنين، وإنما كثر ذلك في كلام العرب لأن أقل رفقه عندهم ثلاثة، فلهذا قالوا الواحد شيطان والاثنان شيطانان، والثلاثة رفقه. وربما يخاطب الواحد بخطاب الاثنين والجماعة: تفخيماً له. أو إذا أراد تكرير الخطاب وتفصيل ما حكاه ابن جني عن المتنبي في معناه: أن صاحبيه واعداه بالمساعدة في البكاء على ربع حبيبه، والوقوف معه على أطلاله، ثم لم يفيا بما واعداه، فقال: وفاؤكما بالمساعدة دارس كهذا الربع الدارس. وقوله: أشجاه طاسمه أي كل ما كان منه طامساً كان أشجى بقلبي، كذلك وفاؤكما كلما رأيته دارساً زاد في شجوي وحزني.

وذكر صاحب الجليل ؟ في تلخيص هذا المعنى. ما هو في العموم مثل كلام أبي الطيب فقال معناه: يا خليلي وفاؤكما بأن تسعداني، كهذا الربع كلما أبصرته أشجاني، وفي قوله: والدمع أشفاه ساجمه إشارة إلى أن صاحبيه غدرا معه في البكاء. فقال: إنما يشفي الدمع من الصبابة إذا كان ساجما، وكلما كان أجرى كان الشوق أشفى، والباء في قوله: بأن تسعدا متعلقة بمحذوف ولا يجوز تعلقها بقوله: وفاؤكما لأنك حينئذ فرقت بين الموصول والصلة، لأنك إذا قدرت البيت على قوله: وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه كانت الباء وما بعدها صلة وفاؤكما، وقد فرق بينهما بقوله: كالربع فيجب أن يضمر بعد المصدر. وهو قوله: وفاؤكما ما يتعلق به ويجعل بأن تسعدا تفسيراً له. وتقديره: وفاؤكما بأن تسعدا، ثم يحذف هذا، ويجعل الثاني تفسيراً له ومثل هذا كثير في صناعة الإعراب.
وما أنا إلاّ عاشقٌ كلّ عاشقٍ ... أعقّ خليليه الصّفيّين لائمه
الصفيين: الذي يصفى لك المودة من الغش، فيكون بمعنى المصفى. فقيل بمعنى مفعل.
يقول: أنا عاشق. فقال: كل عاشق أعق خليليه الصفيين: من يلومه، فمن لا منى منكما كأنه قد عقني، وروى: وما أنا إلا عاشق كل بنصب اللام. ومعناه: أنا عاشق كل عاشق، بعد لوم خليليه له عقوقا منهما إليه وهذا أبلغ من الأول، ومثل هذا: ؟وإني لأعشق من عشقكم نحولي وكلّ امرئٍ ناحل وقد سئل أبو الطيب عن هذا فقال: إن الخليل الصفي لا يكون عاقا، وأفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه.
وقيل: معناه: إذا لام لم يكن خليلا مصافياً عند العاشق؛ لأنه قصد إساءته فكأنه قال وكل عاشق إذا لامه خليله، كان أعق له من عدوه.
وقد يتزيّا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
يتزيا: يتكلف يتفعل من الزي، وهو الهيئة، أي يجعل الهوى زيا له.
يقول: ربما يظهر الإنسان من نفسه أنه عاشق، وليس هو بعاشق حقيقة، كما أن الإنسان قد يصحب من لا يوافقه.
يعني: أنا عاشق على الحقيقة ولست في دعواي متكلفاً.
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيحٍ ضاع في التّرب خاتمه
يدعو على نفسه بالهلاك إن لم يطل الوقوف على أطلال دار المحبوبة.
وقد عيب عليه هذا البيت. وقيل: هذا يدل على تحمله مع دناءة همته، وعظم خطر الخاتم في عينه.
وإلى كم يكون وقوف الشحيح على خاتمه ولو كان ألأم الناس، حتى يجعل ذلك غاية الوقوف على أطلال دار الحبيب ؟.
وأحسن ما يمكن أن يقال إنما أراد: أنا أقف بها وقوفاً زائداً على عادة من وقف قبلي على أطلال حبيبة، كما أن وقوف الشحيح إذا ضاع خاتمه يكون زائداً على وقوف غيره، وطلبه له أشد.
قيل: إنما خص الخاتم لأنه ربما كان فضة كثيرة القيمة حليل الخطر وهذه صفته. فالوقوف على طلبه يدوم، والبحث عنه يطول من كل واحد، وهو من الشحيح أكثر، ومنه أطول.
كئيباً توقّاني العواذل في الهوى ... كما يتوقّى ريّ؟ض الخيل حازمه
نصب كئيباً على الحال. والكئيب: هو الحزين. والريض: الصعب الذي لم يرض. والحازم: الذي يشد الحزام. والهاء فيه تعود إلى الريض.
يقول: إن لم أقف وأنا كئيب والعواذل يريدون عذلي ويحذرون مني كما يحذر الرجل من الفرس الصعب، إذا أراد شد الحزام عليه، فهو يداريه حذراً أن يرمحه، فكذلك العواذل يحذرون صولته.
قفي تغرم الأولى من اللّحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلف الشّيء غارمه
الأولى في موضع الرفع لأنها فاعلة تغرم.
يقول: إنك لحظتني لحظة فأتلفت بها نفسي، فاغرميها بلحظة ثانية؛ تحييني بها، كما أتلفت مهجتي بلحظتك الأولى؛ فإن من أتلف شيئاً غرمه.
سقاك وحيّانا بك اللّه إنّما ... على العيس نورٌ والخدور كمائمه
الهاء: للنور، والنور: الأبيض من الزهر. والكمائم: جمع كمامة وهو وعاء الزهر قبل أن يتفتح.
شبه النساء بالنور، والهوادج بالكمائم، ولما جعلها نوراً دعا لها بالسقيا، وجعله تحية لها، كما يحيي الصديق صديقه بالورد والريحان.
ومعناه: رزقنا الله وصلك والتلذذ بطيبك. ومثل آخر هذا البيت قول الآخر وهو:
ولم أر كالأظعان يوم رحيلهم ... وأحداجهم تحكي الكمائم في الورد
وقريب من بيت أبي الطيب قول السري بن أحمد الرفاء.
حيّا به اللّه عاشقيه فقد ... أصبح ريحانةً لمن عشقا

وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى ... إلى قمر ؟ ما واجدٌ لك عادمه
الأظعان: الراحلون، والهاء في عادمه للقمر.
يقول: الراحلون معك في ظلمة الليل، لا يحتاجون إلى ضوء القمر؛ لأن من وجدك فقد وجد القمر.
إذا ظفرت منك العيون بنظرةٍ ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه
ثاب وأثاب: بمعنى. أي أرجع. والمعيي: الرازم، وجمعهما لاختلاف اللفظتين. وقيل الرازم: الذي قد قام من الإعياء.
يقول: إن الإبل المعيية إذا نظرت إليك عادت إليها نفسها، فكيف نحن مع شدة شوقنا إليك ! فهو أولى بنا.
حبيبٌ كأنّ الحسن كان يحبّه ... فآثره أوجار في الحسن قاسمه
روى في الحكم وفي الحسن والهاء في يحبه للحبيب، وكذلك في آثره وفي قاسمه للحسن.
يقول: كان الحسن يحب هذا الحبيب، فآثره على غيره وخصه بزيادة الحسن وبدائعه، أو جار من قسم الحسن في قسمته، فأعطى هذا الحبيب أكثر مما أعطى غيره.
تحول رماح الخطّ دون سبائه ... وتسبى له من كلّ حيّ كرائمه
الهاء في كرائمه تعود إلى حي وهو جمع كريمة.
يقول: إن الرماح تحول بين هذا الحبيب وبين من أراد سباءه؛ لعزة قومه وتسبى الرماح له من كل حي كرائمه.
ويضحى غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمة
الكباء: العود والبخور، والنشر: الرائحة الطيبة، والهاء في ستوره للحبيب وفي آخرها للستور وفي ملازمه لآخرها.
يقول: عليه ستور كثيره، فأدناها إلينا غبار الخيل التي تركض حوله، وآخرها داخلها يلازمه ريح العود ودخانه.
وما استغربت عيني فراقاً رأيته ... ولا علّمتني غير ما القلب عالمه
يعني: ليس هذا بأول فراق رأيته فأستغربه، بل رأيت مثله كثيراً، والهاء في عالمه راجعة إلى ما.
فلا يتّهمني الكاشحون فإنّني ... رعيت الرّدى حتّى حلت لي علاقمه
العلقم: شجر مر، وأراد به ها هنا الشدائد.
يقول: لا يتهمني الأعداء على الردي، أني أضعف عن احتماله، فإني قد تعودته وقاسيت أمثاله، حتى حلا في فمي كل مر، وهان علي كل صعب.
مشبّ الّذي يبكي الشّباب مشيبه ... فكيف توقّيه وبانيه هادمه ؟!
المشب: الذي يشب ويأتي بالشباب. والمشيب: الذي يأتي بالمشيب، والضمائر كلها تعود إلى الذي ويجوز أن يكون في مشيبه يعود إليه فقط، وفي توقيه وبانيه وهادمه يعود إلى الشباب.
يقول: إن الذي يبكي الشباب لا ينفعه، فإن الشيب الذي صيره شاباً، هو الذي أفضى به إلى المشيب، وهو الحياة، فإنه تنقله من حال إلى حال، فكيف نقدر على الاحتراز منه ؟! وهو الشيء الذي به بقاؤه وبه فناؤه. وقيل: هو الله تعالى الذي يأتي بالشباب والشيب. وقيل أراد به: الدهر على ما جرت عادته في نسبة الحوادث إليه.
وتكملة العيش الصّبا وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه
له معنيان: أحدهما: أن كمال العيش إنما هو في الصبا وفيما يعقب الصبا، فأما أيام الشيب فلا تعد من العيش، لأنها مشوبة بالأحزان والأسقام.
وقوله: وغائب لون العارضين وقادمه يعني أن هذا تكملة العيش، وأراد به حال نقاء العارض من الشعر، ثم غاب ذلك وقدم عليه بياض الشيب والشعر. وهذا أحسن.
والثاني: أن المراد به أن جميع العمر ما ذكر من هذا البيت وهو: أيام الصبي، ثم عقيبة الشباب، وبعده بياض الشعر بعد سواده، وهو أيام الشيب. والهاء في قادمه تعود إلى اللون.
قال ابن جني: سألته وقت القراءة عليه: أيقال تكملة العيش لجميعه ؟ قال: هو جائز لأنه بالجميع يكمل.
وما خضّب النّاس البياض لأنّه ... قبيحٌ، ولكن أحسن الشّعر فاحمه
الفاحم: الشديد السواد. يقول: إن الناس لا يخضبون البياض لأنه قبيح، بل هو حسن، ولكن الشعر الأسود أحسن في مرأى العين؛ لدلالته على فتى السن، والبياض يدل على الهرم.
وأحسن من ماء الشّبيبة كلّه ... حيا بارقٍ في فازةٍ أنا شائمه
الحيا: المطر، والبارق: السحاب الذي فيه برق. والفازة: الخيمة. وشمت البرق: إذا نظرت مخايله. والهاء في شائمه تعود إلى الحيا.
يقول: مطر سحابة في خيمة، وأنا أنظر إليه، أحسن من ماء الشباب، لأني أنال به من السرور واللذات، ما لا أناله بالشباب.
عليها رياضٌ لم تحكها سحابةٌ ... وأغصان دوحٍ لم تغنّ حمائمه

عليها: أي على الفازة. شبه النقوش التي عليها بالرياض المنورة، وقوله: لم تحكها أي ليست هذه الرياض من صنعة الغيث والسحاب، ولكنها من صنعة البشر، وعليها صور أغصان أشجار عليها حمائم، لكنها صامتة لا تتغنى ولا تتغرد. والهاء في حمائمه للدوح.
وفوق حواشي كلّ ثوبٍ موجّهٍ ... من الدّرّ سمطٌ لم يثقّبه ناظمه
الهاء في ناظمه للسمط.
يقول: على حواشي كل ثوب ذي وجهين عقد منظوم من الدر، غير أن ناظمه لم يثقبه؛ لأنه ليس بدر على الحقيقة، بل نقش على صورة خلقة الدر.
ترى حيوان البرّ مصطلحاً بها ... يحارب ضدّ ضدّه ويسالمه
يعني: عليها تصاوير الحيوان من كل جنس. كالسباع والوحوش والفرسان، فمرة يصالح الضد ضده، ومرة يحاربه، لأنه ربما يتصل تارة وينفصل أخرى عند ضرب الريح إياها.
وقيل: أراد أن عليها صور سباع تفترس وحوشا، فهي في صور المحارب ولكنها مسالمة، لا يقدر بعضها على بعض، فهي محاربة ومسالمة في وقت واحد.
إذا ضربته الرّيح ماج كأنّه ... تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
تدأى: أي تختل، وقيل: تسرع. والهاء في ضربته وفيما بعده: تعود إلى قوله: كل ثوب موجه وقيل: تعود إلى الحيوان.
يقول: إن الريح إذا ضربت هذا الثوب ماج: أي اضطرب، فحسبته خيلا تجول، وسباعاً تصول، وهو المراد بقوله: تدأى ضراغمه أي الأسود المصورة عليه.
وفي صورة الرّوميّ ذي التّاج ذلّةٍ ... لأبلج لاتيجان إلاّ عمائمه
أراد بالرومي: ملك الروم، وكان على الفازة صورته.
يقول: في صورة ملك الروم صاحب التاج ذلة: أي خضوع للملك الأبلج، وهو سيف الدولة. والأبلج: المنقطع ما بين الحاجبين. ثم قال: لا تيجان للعرب إلا العمائم والتاج لملوك العجم.
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه
البراجم: المفاصل التي تحت الأنامل، والواحد برجمة، وهي عبارة عن اليد.
يعني: أن الملوك إذا رأته قبلت بساطه؛ لأنها لم تكن أهلا لتقبيل يده ولا كمه.
قياماً لمن يشفى من الدّاء كليّه ... ومن بين أذنى كلّ قرمٍ مواسمه
قياماً: نصب بإضمار فعل. أي: تراهم قياما. وقيل: نصب على الحال. وقوله: يشفى من الداء كيه مثل. ومن؛ بمعنى الذي. المتقدم. والهاء في كيه تعود إلى من الأولى، وفي مواسمه إلى من الثانية. والقرم: الرئيس.
يقول: إنه يشفى من الداء كيه ويروض كل صعب. وكل قرم لقيه ولى عنه فآثار سيفه في قفاه وبين أذنيه. تلوح كالسمة.
وقيل: معناه: إنه يقهر كل قرم ويسمه سمة ذل وعجز. والمواسم: جمع ميسم وموسم.
قبائعها تحت المرافق هيبةً ... وأنفذ ممّا في الجفون عزائمه
قبيعة السيف: الفضة التي على قائمة مثل الكرة. والهاء في قبائعها للملوك وفي عزائمه للمدوح.
يقول: إنهم قيام بين يديه، وسيوفهم نحن مرافقهم وهم متكئون عليها، ثم قال: عزائم سيف الدولة في الأمور أنفذ من السيوف التي في الجفون.
له عسكرا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... بها عسكرا لم تبق إلاّ جماجمه
الوجه أن يقال: إذا رمى بها، ردا للضمير إلى أحد العسكرين.
معناه: له عسكر من الخيل، فإذا قصد إلى عسكر عدوه، قتلته الخيل وأكلته الطير، فلم يبق إلا عظام الرءوس. والهاء في جماجمه تعود إلى قوله عسكرا.
أجلّتها من كلّ طاغٍ ثيابه ... وموطئها من كلّ باغٍ ملاغمه
الملاغم: ما حول الفم. واحدها ملغم.
يقول: جلال خيله: ثياب كل طاغ قتله، وموطئها: ملاغم كل باغ. والتأنيث: للخيل: والتذكير: للطاغي والباغي.
فقد ملّ ضوء الصّبح ممّ تغيره ... وملّ سواد اللّيل ممّا تزاحمه
التاء في تغيره وتزاحمه للخيل. وأراد: مما تغير فيه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إليه.
يقول: إن الصبح قد مل من كثرة إغارة الممدوح فيه، وسواد الليل قد مل من كثرة سيره فيه، ومزاحمته إياه.
وملّ القنا ممّا تدقّ صدوره ... وملّ حديد الهند مما تلاطمه
تدق صدوره: أي تكسره. وتلاطمه: أي تضاربه.
يقول: إن الرماح والسيوف قد ملت؛ من كثرة ما تطعن بالرماح وتكسرها، وتضرب بالسيوف.
سحابٌ من العقبان يزحف تحتها ... سحابٌ إذا استسقت سقتها صوارمه

السحاب: يذكر على اللفظ، ويؤنث على معنى الجمع، فأنث السحاب الأول على المعنى، وذكر الثاني على اللفظ وإقامة القافية.
شبه الجيش، والعقبان فوقه، بسحاب يسير تحت سحاب آخر، ثم جعل الأسفل يسقي الأعلى، فجعل الغمام مستقياً، مع أنه يكون ساقياً.
سلكت صروف الدّهر حتّى لقيته ... على ظهر عزمٍ مؤيداتٍ قوائمه
مؤيدات: محكمات، لما جعل عزمه مركوباً، جعل له ظهراً وقوائما.
يقول: ركبت عزمي وسلكت إليه المؤيدات، مفاوز شديدة، كأنها صروف الدهر. يعني: أني قويت عزمي على قصده، فتكلفت الأسفار حتى لقيته.
مهالك لم تصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه
مهالك: بدل من صروف الدهر. والقوادم: ريش الجناح المقدمة، وفاعل تصحب: نفسه، ومفعوله: ذئب. وفاعل حملت: قوادمه، والغراب: مفعوله. والضمير: الغراب.
يعني: أن هذه المفاوز مهالك وحشة لا يقدر الذئب على قطعها، ولا الغراب على سلوكها؛ لشدتها. ومثله قول الآخر:
مهامة لا يسرى بها النّجم وحده ... ولا الطّيف إلاّ خائفاً يترقّب
فأبصرت بدراً لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحراً لا يرى العبر عائمه
عبر الوادي: شطه.
يقول: لما وصلت إليه رأيت بدراً لا يرى البدر الحقيقي مثله، وخاطبت بحراً ليس له عبر ولا نهاية
غضبت له لمّا رأيت صفاته ... بلا واصفٍ والشّعر تهذى طماطمه
الطماطم: جمع طمطمة، وهي ما لا يفهم من الكلام.
يقول: لما رأيت صفاته بلا واصف يصفها بحقائقها، غضبت لهذا الممدوح، فبصرت ببدائع شعري، وصار شعر غيري كالهذيان الذي لا معنى له.
فكنت إذا يمّمت أرضاً بعيدةً ... سريت فكنت السّرّ واللّيل كاتمه
الهاء في كاتمه للسر.
يقول: كنت أسير ليلاً مخفياً سيري، فكنت كأني سر في ضمي الليل، وهو يكتمني عن كل أحد.
وهذا البيت من بدائع هذه القصيدة وسيدها، وواسطة قلادتها.
لقد سلّ سيف الدّولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضّرب ثالمه
يقول: هو سيف سله المجد، ليضرب به رقاب البخل، فالمجد لا يخفيه والضرب لا يثلم حده.
على عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفي يد جبّار السّماوات قائمه
أي على عاتق الخليفة، لأنه من جملة أوليائه وأنصار دعوته. وقوله: وفي يد جبار السماوات قائمه أي أنه سيف الله يضرب به رءوس من كفر به وعبد إله غيره.
تحاربه الأعداء وهي عباده ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه !
يقول: إن أعداءه يحاربونه، وهم عباده، يعلمون أنه يأسرهم ويستعبدهم ويجمعون الأموال وهم يعلمون أنه يغنمها !
ويستكبرون الدّهر والدّهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه
يقول: إن الناس يستكبرون أمر الدهر في تصرفه، وهو أكبر منه قوة ! ويستعظمون الموت وهو خادمه ! يهلك من يأمره بقتله.
وإنّ الّذي سمّى عليّا لمنصفٌ ... وإنّ الّذي سمّاه سيفاً لظالمه
يقول: من سماه عليا فقد أنصفه؛ لأنه على المنزلة، رفيع المحل، ومن سماه سيفا فقد ظلمه؛ لأنه أمضى من السيف وأعظم تأثيراً منه.
وما كلّ سيفٍ يقطع الهام حدّه ... وتقطع لزبات الزّمان مكارمه
لزبات: أصله تحريك الزاي، ولكنه خففه وسكنه ضرورة: وهي الشدائد. يقول: من سماه سيفاً إنما ظلمه؛ لأن السيف عمله القطع فقط، وربما ينبو فلا يقطع رقاب الأعداء، والممدوح يكشف شدائد الزمان بمكارمه وبجوده فتسميته بالسيف ظلم؛ لأنه أعم منه نفعاً.
وقال أيضاً يمدحه وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية:
أين أزمعت أيّهذا الهمام ؟ ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام
الربا: جمع ربوة، وهي ما ارتفع من الأرض.
يقول: أي موضع عزمت أن ترحل إليه أيها السيد العظيم الهمة ؟ فنحن محتاجون إلى مقامك احتياج نبت الربا إلى مطر الغمام، وخص نبت الربا؛ لأنه أحوج إلى سقيا الغمام، ولأن الروضة إذا كانت على ربوة كانت أحسن وأنضر وأخضر.
نحن من ضايق الزّمان له في ... ك وخانته قربك الأيّام

حكى ابن جني عنه قال: أردت أن أقول: ضايقة الزمان، فزدت اللام فقلت: ضايق الزمان له. قال ابن جني: ومثله قوله تعالى: عسى أن يكون ردف لكم أي ردفكم؛ وخان: تعدى إلى مفعولين: أحدهما الهاء في خانته والثاني قربك وفاعله: الأيام. والهاء في له وخانته راجعة إلى من.
يقول: إن الزمان ضايقنا فيك، وحسدنا على قربك، فخانتنا الأيام في قربك، وفرقت بيننا وبينك.
في سبيل العلا قتالك والسّل ... م وهذا المقام والإجذام
الإجذام: سرعة السير، وأصفه قطع الأرض بالأسفار.
يقول: كل ما تفعله من قتال وسلم، وإقامة وترحال، يشيد مجدك ويرفع قدرك، فتنال معال مع معاليك.
ليت أنّا إذا ارتحلت لك الخيل ... وأنّا إذا نزلت الخيام
الخيمة في الأصل: بيت يتخذ في الصيف من الخشب، وأغصان الشجر، ثم استعمل في المضارب وبيوت الشعر مجازاً.
يقول: ليتنا كنا خيلك عند ارتحالك، وخيامك عند نزولك، حتى لا نفارقك. وقيل: أراد ليتنا نقيك الأذى من فوق: من الحر والبرد، ومن أسفل: من الخشونة والتعب.
كلّ يومٍ لك احتمالٌ جديدٌ ... ومسيرٌ للمجد فيه مقام
الاحتمال: الرحيل.
يقول: كل يوم تسافر، فالمسير لك مقام المجد والعز. يعني: أنك دائم السعي فيما فيه مجدك.
وإذا كانت النّفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
أراد بالنفوس: الأرواح والهمم.
يقول: إذا كان الإنسان كبير النفس عالي الهمة طلبت همته الأمور العالية، فأتعبت أجسامها في مرادها.
وكذا تطلع البدور علينا ... وكذا تفلق البحور العظام
يقول: كل رفيع القدر عالي الهمة، لا تدعه همته أن يستقر، كما أن البدر يطلع ولا يفتر عن المسير، وكذلك البحار العظام، لا يسكن موجها وعباؤها.
ولنا عادة الجميل من الصّب ... ر لوانّا سوى نواك نسام
نسام: أن نكلف.
يقول: من عادتنا الصبر الجميل على جور الزمان، ولكنا لا نقدر أن نصبر على فراقك والبعد عنك
كلّ عيشٍ ما لم تطبه حمامٌ ... كلّ شمسٍ ما لم تكنها ظلام
يقول: إذا لم يطب العيش بقربك، فهو من جملة الموت، وكل شمس سواك فهي ظلام، فطيب عيشنا بقربك، ونور أبصارنا برؤيتك.
أزل الوحشة الّتي عندنا يا ... من به يأنس الخميس اللّهام
الوحشة: انزعاج النفس من الوحدة. والخميس: العسكر الكثير. واللهام: العظيم الذي يلهم كل شيء فيبتلعه ويهلكه.
يقول: أزل عنا الوحشة التي نجدها لفراقك، بالمقام علينا. يا من يأنس به الخميس العظيم ويجتمع عيه، وإذا غاب وجد على نفسه.
والّذي يشهد الوغى ساكن القل ... ب كأنّ القتال فيها ذمام
الوغى: الحرب. والهاء في فيها ضمير لقوله: الوغى لأنه في معنى الحرب وهي مؤنثة.
يقول: أزل عنا الوحشة يا أيها الرجل الذي يحضر الحرب، وهو ساكن القلب، حتى كأن القتال - الذي يكون في الحرب - عهد وأمان.
والّذي يضرب الكتائب حتّى ... تتلاقى الفهاق والأقدام
الفهاق: جمع فهقة، وهي موصل الرأس في العنق، وقيل: هي عظم عند حالق الرأس، مشرف على اللهاة.
يقول: إنك تقطع رقاب الفرسان حتى تقع رءوسهم على أقدامهم. وقيل: إنه يقطع الأعضاء حتى يصير الأسفل أعلى والأعلى أسفل. حتى يلتقي طرفا الجسم على ما بعد بينهما.
وإذا حلّ ساعةً بمكانٍ ... فأذاه على الزّمان حرام
الهاء في أذاه تعود إلى المكان.
يقول: إذا نزلت بمكان فلا يؤذى الزمان ذلك المكان، فكأن أذاه على الزمان حرام.
والّذي تنبت البلاد سرورٌ ... والّذي يمطر السّحاب، مدام
يقول: إن الممدوح إذا حل بمكان، فالذي تنبته أرضها إنما هو السرور، والذي يمطر سحابها إنما هو الخمر. يعني: أنه إذا نزل بمكان أحسن إلى أهله، وبسط العدل فيهم، فاتصل سرورهم، وأمنت نفوسهم.
ولما جعل نبات أرضهم سروراً، جعل مطر سحابهم مداماً؛ لأن المدام تولد السرور، كما أن الغيث يولد العشب، والذي مبتدأ وسرور خبره وتنبت صلته، وفاعله: البلاد. وكذلك الكلام في المصراع الثاني.
كلّما قيل قد تناهى أرانا ... كرماً ما اهتدت إليه الكرام
يقول: كرمه لا نهاية له، فكلما قيل إنه قد بلغ الغاية في الكرم ابتدع كرماً ثانياً، لا يهتدى الكرام إليه، ولا يبلغ خاطرهم إلى بعضه

وكفاحاً تكعّ عنه الأعادي ... وارتياحاً يحار فيه الأنام
الكفاح: مباشرة الحرب. يقال لقيته كفاحاً: أي مواجهة. تكع: أي تجبن وتتأخر. وكفاحاً: نصب عطفاً على قوله: أرانا أي أرانا كرما وكفاحاً وارتياحاً.
يقول: أرانا شجاعة تعجز عنها أعداؤه، وجوداً يتحير الخلق فيه.
إنّما هيبة المؤمّل سيف الدّو ... لة الملك في القلوب، حسام
يقول: يهابونه وليس هو سيفا ! بل هيبته في القلوب سيف قاطع، حتى لا أحد يعدل عن طاعته.
فكثيرٌ من الشّجاع التوقّي ... وكثيرٌ من البليغ السّلام
يقول: إن هيبته قد همت الناس، والشجاع الفاتك إذا تحرز منه، فذاك غاية الشجاعة. والخطيب المصقع يستكثر أن يسلم عليه، فضلاً عن أن يبسط في الكلام معه. ومثله للفرزدق:
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلاّ حين يبتسم
وقال أيضاً عند مسيره عنها وقد نزل المطر في ذلك اليوم.
رويدك أيّها الملك الجليل ... تأىّ وعدّه ممّا تنيل
رويدك: أي أمهل، وهو اسم للفعل، ولا موضع للكاف.
الإعراب: تأىّ أي توقف وهو بدل من رويدك وإن شئت جعلته توكيداً، كأنه قال: رويدك رويدك فكرر المعنى، وخالف بين اللفظين، وروى: تأن أي توقف وتثبت. والهاء في عده ضمير للمصدر، وجل عليه قوله: تأي.
يقول: أمهل أيها الملك الجليل، وتوقف وعد وقوفك علينا من بعض صلاتك ونعمك.
وجودك بالمقام ولو قليلا ... فما فيما تجود به قليل
وجودك: نصب على تقدير: جد جودك، فهو مصدر في موضع الأمر كقوله تعالى: فضرب الرقاب وكذلك قليلا أي ولو فعلته وجدته، فهو صفة لموصوف محذوف. ويجوز نصبه على الحال. ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف. أي ولو زماناً قليلا.
يقول: جد علينا بالمقام ولو زماناً قليلا، ثم احترز وقال: كل ما تجود به ليس بقليل؛ لأن لنا فيه نفعاً كثيراً.
لأكبت حاسداً وأرى عدوّا ... كأنّهما وداعك والرّحيل
الكبت: القهر، والإذلال. وأرى: من الورى، وهو داء الجوف. وقيل: معناه أضرب رئته من قولهم: وريته أريه. كما تقول: رأيته.
يقول: جد علينا بالمقام؛ لأكبت بذلك حاسدي، وأمرض عدوي؛ لأنهما بغيضان عندي، مثل وداعك وارتحالك.
ويهدأ ذا السّحاب فقد شككنا ... أتغلب أم حياه لكم قبيل ؟
ويهدأ عطف على ما تقدم: أي يسكن. وتغلب رفع بالابتداء، وقبيل خبره. وقيل تغلب خبر ابتداء محذوف.
يقول: أقم علينا حتى يسكن مطر هذا السحاب، فإنا قد تشككنا في أمر هذا المطر، فلا ندري أنه مطر، أم قبيلك ؟ التي هي بنو تغلب. يعني: أن جود هذا المطر يشبه جود بني تغلب، أي كثرة هذا المطر يشبه كثرتهم. والحيا: مقصور، المطر العام.
وكنت أعيب عذلاً في سماح ... فها أنا في السّماح له عذول
له قيل: تعود الهاء إلى المطر. ومعناه: أني كنت أعيب كل من يعذل على السماح، فلما كثر هذا المطر صرت أعذله على كثرة سماحه. وقيل: إن الهاء تعود إلى سيف الدولة يعني: أني أعذل سيف الدولة على كثرة سخائه بعد ما كنت أعيب من يعذل السخي على سخائه.
وما أخشى نبوّك عن طريقٍ ... وسيف الدّولة الماضي الصّقيل
سيف الدولة مبتدأ. والماضي خبره. وهذه الجملة في موضع نصب على الحال. والكاف في قوله نبوك قيل: خطاب لسيف الدولة.
ومعناه: لم أقل لك أقم، حتى يهدأ هذا السحاب، لأنه يعوقك عن طريقك، لأني لا أخشى نبوك: أي كلالك وتقاعدك عن طريق تريد أن تسير فيه، وأنت سيف الدولة، وسيف الدولة لا يكون إلا ماضياً صقيلاً، لا ينبو عن شيء.
وقيل: إنه خطاب للسحاب. ومعناه: لا أخشى انقطاعك عنا أيها السحاب وفقدنا إياك في طريق نسلكه، إذا كان سيف الدولة ماضياً صقيلاً، لأنه ينوب عنك ويزيد عليك.
وكلّ شواة غطريفٍ تمنّى ... لسيرك أنّ مفرقها السّبيل
الشواة: جلدة الرأس. والغطريف: السيد. ومفرق الرأس: حيث يتفرق الشعر. وتمنى: الأصل فيه تتمنى، فحذف إحدى التاءين.
يقول: إذا ارتحلت فكل سيد يتمنى رأسه: أي مفرقه، طريقاً لك ليشرف بك وينال بسببك رفعة.
ومثل العمق مملوءاً دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول

العمق: الفج، وهو الطريق الواسع في الجبل. وقيل: موضع بالشام أوقع سيف الدولة فيها بالأعداء وقعة عظيمة. ويقال: هو موضع كثير الوحل. مملوءاً: قيل نصب على التمييز، وقيل: على الحال. وروى بالرفع فيكون خبراً عن مثل وروى بالجر فيكون بدلا من العمق.
يقول: كم من مواضع في الحرب قد امتلأت بالدم فخاضت بك خيلك، ومشت بك في مجاريه، فكيف بالوحل والمطر ؟! والهاء في مجاريه للعمق.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول
فأهون: مبتدأ. وما يمر به: صلة وما بمعنى الذي. ويجوز أن تكون نكرة موصوفة. يعني: فأهون شيء يمر به، وفاعل يمر ضميره. والوحول خبر أهون.
يقول: من تعود خوض المنايا والحروب، فخوض الوحل أهون شيء عليه.
ومن أمر الحصون فما عصته ... أطاعته الحزونة والسّهول
الحزون، والحزونة: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض وارتفع. وقيل: إن الحزونة مصدر مثل السهولة.
يقول: من رام القلاع الحصينة والحصون المنيعة فلم يصعب عليه فتحها وأخذها حتى كأنها مأمورة له، فكيف يصعب عليه السير في حزن الأرض وسهلها ؟!
أتحفر كلّ من رمت اللّيالي ... وتنشر كلّ من دفن الخمول ؟!
خفرت الرجل خفارة: إذا أجرته وحفظته، وأراد من رمته الليالي ومن دفنته الخمول فحذف الضمير. وتنشر: أي تحيي، والخمول: خفاء الذكر والألف في أتخفر للاستفهام، والمراد به التقدير.
يقول: كل من رمته الليالي بشدائدها فإنك تحفظه، وكل من كان خامل الذكر فإنك ترفعه.
وندعوك الحسام وهل حسامٌ ... يعيش به من الموت القتيل ؟!
يقول: كيف يجوز أن ندعوك الحسام وأنت أعظم منه فعلا ؟! وليس حسام يعيش به القتيل بعد الموت ! وأنت تحي من قتله الفقر، وترفع من خفضه الخمول.
وما للسّيف إلاّ القطع فعلٌ ... وأنت القاطع البرّ الوصول
إلا القطع: نصب لأنه استثناء مقدم. أي ليس للسيف فعل، وأنت تقطع رقاب الأعداء، وتبر قصادك وتصل أولياءك وعشيرتك.
وأنت الفارس القوّال: صبراً ... وقد فني التّكلّم والصّهيل
أي أنك تقول: صبراً صبراً ونصب صبرا على الحكاية، فحكى ذلك اللفظ على إعرابه. وقيل: نصب بقوال.
يقول: أنت الفارس الذي يصبر أصحابه إذا اشتدت الحرب، ولم يقدر الشجاع على الكلام، ولا الفرس على الصهيل، من التعب والخوف.
يحيد الرّمح عنك وفيه قصدٌ ... ويقصر أن ينال وفيه طول
يقول: هيبتك ملأت قلوب الناس، فمن بارزك تخذله يده وأقدامه، فيحيد الرمح عنك ويقصر، فلا يصل إليك، وإن كان طويلا. وقوله: وفيه قصد وفيه طول في موضع نصب على الحال.
فلو قدر السّنان على لسانٍ ... لقال لك السّنان كما أقول
يقول: إن ما أقوله لو علمه من لا ينطق لقال لك مثل ما أقول، وأثنى عليك مثل ثنائي.
ولو جاز الخلود خلدت فرداً ... ولكن ليس للدّنيا خليل
يقول: لو جاز أن يخلد أحد دائماً في هذه الدنيا، لخلدت أنت وحدك؛ إذ لا نظير لك، ولكن الدنيا ليست بخليل تدوم.
وقال يرثى والدة سيف الدولة، وقد ورد خبرها إلى أنطاكية في جمادي الآخرة سنة 337:
تعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
نعد: أي نجعل عدة. والمنون: الموت، وأنثه ذهاباً به إلى المنية.
يقول: نحن نعد للمنون السيوف والرماح للقتال، والموت يقتلنا قبل القتال، فليس فيما نعده فائدة عند دنو الآجال كأنه من قوله تعالى: " أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْمُ الْمَوْتُ " .
ونرتبط السّوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب اللّيالي
نرتبط: أي نشد. والسوابق: الخيل. ومقربات: أي مدنيات من البيوت والخبب: السير السريع.
يقول: نحن نرتبط السوابق لنهرب عليها، إن جاءنا حادث، ولكن لا تنجينا من سير الليالي، فإنها تدركنا لا محالة.
ومن لم يعشق الدّنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى وصال
يقول: إن الإنسان يعشق الدنيا من قديم الدهر. يعني: أن كل أحد يعشق الدنيا ويحب البقاء فيها والخلوص من شوائبها، ولكن لا سبيل إلى ما يحب.
نصيبك في حياتك من حبيبٍ ... نصيبك في منامك من خيال
نصيبك: الأول مبتدأ، ونصيبك الثاني خبره.

يقول: إن ما تناله من اللذة والسرور بقرب حبيبك لا حقيقة له، وإنه لزائل، كما لا حقيقة لما تراه في المنام من خيال الحبيب، فنصيبك منه عياناً كنصيبك من خياله الذي ليس هو بشيء حقيقة.
رماني الدّهر بالأرزاء حتّى ... فؤادي في غشاءٍ من نبال
يقول: إن الدهر رماني بسهام مصيبة، حتى عمت فؤادي وصار قلبي كأنه في غطاء أو غشاء من سهام.
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسّرت النّصال على النّصال
يقول: إن سهام الدهر لم تدع في قلبي موضعاً إلا وفيه سهم، حتى كأنه إذا رماني بسهامه وقع سهم على سهم آخر، ولم يجد في فؤادي مكاناً خالياً، فتكسرت السهام على السهام.
وهان فما أبالي بالرّزايا ... لأنّي ما انتفعت بأن أبالي
معناه: وهان على الدهر وحوادثه. وقيل: هان علي ما ألقاه، فأضمر الفاعل. وهان: أي خف.
يقول: خف علي أمور المصائب، فلا أبالي بها ولا أجزع عند نزولها. أي لأني ما انتفعت بما بليت قبل ذلك، فكذلك لا أنتفع بالمبالاة في المستقبل أيضا.
وهذا أوّل النّاعين طرّا ... لأوّل ميتةٍ في ذا الجلال
الناعي: المخبر بالموت. وطرا: نصب على المصدر، وهو توكيد. وميتة: تخفيف ميتة، وروى ميتة. والجلال كالجلة. وذا: بمعنى هذا. والجلال: هو ملك سيف الدولة.
يقول: هذا أول مخبر خبر بأول مصيبة في هذه الدولة ! يعني: أنه لم ير في ملكه شيئاً يكرهه قبل هذه. وقيل معناه: لأول ميتة في هذا الجلال والعظمة.
كأنّ الموت لم يفجع بنفسٍ ... ولم يخطر لمخلوقٍ ببال
تقديره: لم يفجع أحداً بنفس، فحذف المفعول.
يقول: كأن هذه المصيبة لعظمها، أنست كل مصيبة كانت قبلها، حتى كأن الموت لم يفجع أحداً بموت أحد، ولم يخطر على قلب أحد، لعظم هذه المصيبة، أو لأنه لم يمت له أحد قبلها. ومثله قول الآخر:
كأن لم يمت حيّ سواك ولم يقم ... على أحدٍ إلاّ عليك النّوائح
صلاة اللّه خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال
يقول داعياً لها: إن صلاة الله عليك حتى تقوم مقام الحنوط للميت. وخص الوجه المكفن بالجمال: تشريفاً للوجه وهو عبارة عن جميع الشخص.
على المدفون قبل التّرب صوناً ... وقبل اللّحد في كرم الخلال
على المدفون: بدل من قوله: على الوجه. ونصب صوناً: على التمييز.
يقول: إن رحمة الله على الميت كان مدفوناً في الصيانة والعفة قبل أن يدفن في التراب، كذلك مدفوناً في الخصال الكريمة قبل الدفن في اللحد. وروى: قبل الموت بدل الترب
فإنّ له ببطن الأرض شخصاً ... جديداً ذكرناه وهو بالي
أي للمدفون وذكرناه أي ذكرنا له. وجديداً: نصب صفة لشخص.
يقول: إن هذا الشخص ذكرنا له جديد، وإن بلي في التراب ومضى.
أطاب النّفس أنّك متّ موتاً ... تمنّته البواقي والخوالي
فاعل أطاب: أنك، وهو في موضع رفع.
يقول: طيب نفسي، ونفوس أوليائك، موتك في العز والإكرام. ومثل هذا الموت، في مثل هذا العز مما يتمناه كل أحد من الأموات والأحياء.
وزلت ولم ترى يوماً كريهاً ... تسرّ الرّوح فيه بالزّوال
يقول: طيب نفسي أنك زلت ومت من الدنيا مسرورة ولم تر فيها يوماً مكروهاً يتمنى فيه الموت.
رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك عليّ ابنك في كمال
مسبطر. أي ممتد طويل، وروى مستطيل.
يقول: لم تموني حتى رأيت رواق عز ابنك ممتداً وملكه كاملاً.
وذكر ابن جني وكثير ممن فسروا هذا الديوان: أن قوله: مسبطر لفظه مستقبحة خصوصاً في النساء، ولعلهم قالوا ذلك لما وقفوا على بيت لأني الشمقمق وهو قوله:
مررت بإير بغل مسبطر ... فويق الباع كالوتر المطوق
وليس كذلك، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في غير هذا المعنى. فقد وصف أمر السير بها وقال: ومن سيرها العنق المسبطرة وذكرها ذو الرمة في الكواكب فقال:
............. ... من اللّيل جوز واسبطرت كواكبه
سقى مشواك غادٍ في الغوادي ... نظير نوال كفّك في النّوال
يقول: سقى القبر الذي ثويت فيه سحاب غاد أي: مطر مدرار يشبه نوال كفك في كثرته وغزارته، فكما أن نوال كفك أغر من نوال غيرك، فكذلك هذا السحاب أغر من كل سحاب.
لساحيه على الأجداث حفشٌ ... كأيد الخيل أبصرت المخالى

الساحي: القاشر. والهاء في لساحية تعود على قوله غاد والحفش: الأثر. وقيل: هو مصدر السيل حفشاً: إذا جمع الماء من كل جانب. وقوله: كأيدي الخيل: أي كحفش أيدي الحيل، فحذف المضاف. والمخالي. جمع مخلاة، وهي وعاء يجعل فيه العلف.
يصف شدة وقع المطر الذي دعا لقبرها بسقياه فيقول: سقى قبرك غاد: مطر يقشر عنه ويترك على القبر أثراً مثل آثار أيدي الخيل إذا أبصرت المخالي ومثله. قول حميد:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمةٌ تهمى
وروى تنم. وقيل: هو من قولهم: حفش المطر الأرض: إذا أظهر نباتها. كأنه يقول: سقى قبرك غاد. مطر ينبت النبات. ثم شبهه بفعل أيدي الخيل في حالة مخصوصة، إشارة إلى معنى المبالغة في إنبات ما يدعو الناس إلى الإقامة بها والحلول فيها؛ لأنه كلما كان أشد كان أحسن لنباته. وقال ابن الأعرابي: حفشت السماء. إذا جاءت بمطر قليل، وهذا مما يزيد الطعن.
أسائل عنك بعدك كلّ مجدٍ ... وما عهدي بمجدٍ منك خالي
يقول: لما فقدتك جعلت أساءل عنك كل مجد؛ لأن المجد كان قرينك، وما رأيت مجداً خالياً منك، وكان هو الأولى بأن يسأل.
يمرّ بقبرك العافي فيبكي ... ويشغله البكاء عن السّؤال
يقول: إذا مر بقبرك من كان يقصدك، بكى أسفا لفقدك، فاشتغل ببكائه عن أن يسألك، كما كانت عادته في حياتك.
وما أهداك للجدوى عليه ! ... لو أنّك تقدرين على فعال
الهاء في عليه للعافي.
يقول: ما أرشدك إلى الإجداء عليه، والإنعام لديه ! لو قدرت على الفعل، ولكنك لا تقدرين على ذلك، لأنك ميته.
بعيشك هل سلوت ؟ فإنّ قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي
بعيشك: قسم على المتوفاة.
يقول: بعيشك، ألا أخبرتيني: هل سلوت عني وطابت نفسك بعدي ؟! فإني وإن كنت بعيداً عن أرضك غير صابر عنك.
وهذا قد ذكره على لسان سيف الدولة، ولو لم يرد هذا المعنى لكان سوء أدب ! ويحكى عن أبي الطيب أنه أنكر هذا البيت وقال: إنه زيد في القصيدة ليفسد به حالي عند سيف الدولة.
نزلت على الكراهة في مكانٍ ... بعدت عن النّعامى والشّمال
النعامى: الجنوب، وقيل: كل ريح، وقوله بعدت: أي بعدت فيه فحذف للعلم بذلك.
يقول: إنك قد نزلت على كراهة منك. وقيل: على كره منا، في مكان منعت فيه عن اللذات، وفقد الحياة، وتنسم رياح الجنوب والشمال !
تحجّب عنك رائحة الخزامى ... وتمنع منك أنداء الطّلال
الخزامى: نبت طيب الرائحة. وروى: الظلال والطلال بالظاء والطاء. ومعناه: إنك فقدت لذات الدنيا لفقدك الحياة.
بدار كلّ ساكنها غريبٌ ... طويل الهجر منبتّ الحبال
يقول: نزلت بدار كل ساكنها غريب، لأنه لم يكن به أحد قط، ولأنه منفرد لا يزوره أحد، وكل ساكنها طويل الهجر، لا يرجع إلى يوم الحشر، وهو منقطع الأسباب، إذ لا وصل بين الأحياء والأموات.
وقيل: أراد بقوله: منبت الحبال انبتات المودة كما قال أبو نواس:
وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا وصل إلاّ أن يكون نشور
حصانٌ مثل ماء المزن فيه ... كتوم السّرّ صادقة المقال
حصان بفتح الحاء: أي عفيفة. والهاء في فيه ترجع إلى المكان في قوله: نزلت على الكراهة في مكان. وقيل: ترجع إلى المزن يعني مثل ماء المزن في المزن قبل مفارقتها إياه.
يمدحها بالعفة والطهارة وكتمان السر وصدق القول. وشبهها في طهارة أخلاقها بالماء ما دام في السحاب لا يلحقه دنس ولا كدر. وقيل في قوله: صادقة المقال لأنها لا تقارب ريبة فتحتاج إلى العذر.
يعلّلها نطاسيّ الشّكايا ... وواحدها نطاسيّ المعالي
يعللها: أي يداويها. وعللت المريض: إذا أقمت عليه في علته. النطاسي: الطبيب الفطن. والشكايا: جمع شكية وهي ما يشكوه من مرض وغيره وأراد بواحدها: سيف الدولة والهاء: للمتوفاة.
يقول: إن طبيب الأمراض كان يداويها، وكذلك واحدها: أي ابنها الذي هو طبيب المعالي. أي أنه إذا وقع الخلل في المعالي سده برأيه.
إذا وصفوا له داءً بثغرٍ ... سقاه أسنّة الأسل الطّوال
يقول: إن طبيب المعالي، فإذا وصف له داء بثغر من ثغور المسلمين، سقاه الأسنة وداواه بها حتى يشفيه كما يشفي الطبيب من الأمراض بالعقاقير والأدوية ومثله لأبي تمام:

وقد نكس الثّغر فابعث له ... صدور القنا لابتغاء الشّفاء
وليست كالإناث ولا اللّواتي ... تعدّ لها القبور من الحجال
يقول: ليست من النساء اللواتي تكون القبور سترا لهن، ويعد موتهن كرامة، لأنها كاملة الخصال، شريفة الخلال، ليس لها نقص النساء الذي يحتاج إلى الستر بالقبر. وهذا كأنه من الخبر، دفن البنات من المكرمات.
ولا من في جنازتها تجارٌ ... يطون وداعها نفض النعال
يقول: ليست هي من نساء العامة التي يحضر جنازتها التجار فإذا دفنوها وودعوها نفضوا نعالهم وانصرفوا عنها.
مشى الأمراء حوليها حفاةً ... كأنّ المرو من زفّ الرّئال
المرو: جمع مروة، وهي حجر أبيض. والزفة: الريش تحت الجناح للطائر وهو ألين ما يكون من الأشياء. والرئال: جمع الرأل وهو فرخ النعام.
يقول: مشت الأمراء والملوك حول نعشها حفاة فلم يشعروا بخشونة الأحجار على أقدامهم الناعمة حزناً بها، حتى كأن الحجارة كانت عندهم في اللين كزف أفراخ النعام.
وقيل: إنهم لكثرتهم وشدة وطئهم على الحجارة وقلة مبالاتهم بها، صارت الأحجار مسحوقة لينة كريش النعام.
وأبرزت الخدور مخبّآتٍ ... يضعن النّقس أمكنة الغوالي
أبرزت: أي أظهرت. والخدور: الستور، وهي الفاعلة. ومخبآت: أي مخدرات، وهي المفعولة، والمراد بالنقس المداد، وهو السواد. والغالية: هي المسك والعنبر معجونان.
يقول: إن النساء المخبآت في الخدور برزن من خدورهن ووضعن المداد على خدودهن وشعورهن، ومواضع كن يضعن فيها الغوالي.
أتتهنّ المصيبة غافلاتٍ ... فدمع الحزن في دمع الدّلال
وروى: المصائب. يقول: إن هذه المصيبة أتت هؤلاء المخبآت وهو غافلات في السرور والدلال، بحيث كانت عيونهن تدمع من السرور، لحياة هذه المتوفاة ولوجوه أخر من المسرات، فأتتهن المصيبة فجأة فأخرجت من عيونهن دمع الحزن واختلط بدمع الفرح.
ولو كان النّساء كمن فقدنا ... لفضّلت النّساء على الرّجال
معناه ظاهر، وكونها كانت أفضل من الرجال، لما لها من زيادة العقل والرأي الكامل، والخصال الفاضلة. وروى: لفضلت النساء وذلك يلائم قوله: فقدنا فيكون كل واحد إخبار عن النفس. ويحكى عن سيد المؤيد ؟ قدس الله روحه. قال: كنت أقرأ هذه القصيدة على المتنبي فقرأت لفضلت على ما لم يسم فاعله فرد علي فقال: أما أنا فلم أقل إلا فضلت على أن يكون الفعل لي. وهذا يؤيد ما ذكرناه من الرواية.
وما التّأنيث لاسم الشّمس عيبٌ ... ولا التّذكير فخرٌ للهلال
يقول: لا اعتبار بالتذكير والتانيث، وإنما الاعتبار بالفضل والنقص، فالهلال مذكر، والشمس مؤنث، ومع ذلك الشمس أفضل من الهلال.
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
يقول: أعظم من فجائع المفقودين فجيعة من وجدناه قبل الموت وحيداً لا نظير له يخلفه.
يدفّن بعضنا بعضاً ويمشي ... أواخرنا على هام الأوالي
الأوالي: مقلوب من الأوائل، فقدم اللام وأخر الهمز، ثم أبدلها ياء، فصارت كالقاضي.
يقول: الحي يدفن الميت، والآخر يمشي على هام الأول.
وكم عينٍ مقبّلة النّواحي ... كحيلٍ بالجنادل والرّمال
الجندل: الصخر. يقول: كم عين كانت مقبلة النواحي، أضحت مكحلة بالرمل تحت التراب.
ومغضٍ كان لا يغضى لخطبٍ ... وبالٍ كان يفكر في الهزال
يقول: كم رجل مغض: خاشع الطرف لأجل الموت. وقد كان لا يغضى لخطب من خطوب الدهر؛ لعزته ومنعته، وكم رجل قد بلي تحت التراب وتمزقت أوصاله، وقد كان يتفكر في هزال نفسه، ويطلب صلاح جسمه.
أسيف الدّولة استنجد بصبرٍ ... وأين بمثل صبرك للجبال ؟!
يقول: يا سيف الدولة، استعن بصبرك الذي هو كالجبال الثوابت، على هذه المصيبة العظيمة. ومن أين للجبال مثل صبرك ؟!
وأنت تعلّم النّاس التّعزّي ... وخوض الموت في الحرب السّجال
الحرب السجال: مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء مأخوذ من المساجلة: وهو المغالبة في جذب الدلو، والسجل: الدلو العظيم.
يقول: لا تحتاج أن نعزيك على مصائبك؛ لأنك تعلم الناس التصبر وتعلمهم خوض المنايا في الحروب العظيمة.
وحالات الزّمان عليك شتّى ... وحالك واحدٌ في كلّ حال

ذكر الحال في قوله: وحالك واحد في كل حال لأنه يذكر ويؤنث.
يقول: أحوال الزمان عيك متفرقة ومختلفة، ولا يزعجك منها شيء، ولا يغيرك عن حالك من الصبر والثبات والحلم والوقار في جميع الأوقات.
فلا غيضت بحارك يا جموماً ... على علل الغرائب والدّخال
غيضت: أي نقصت. والجموم: الكثير. والعلل: الشربة الثانية. والغرائب: جمع غريبة، وهي الناقة تدخل في الإبل وليست منها. والدخال: جمع دخل، وهو أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا يساعدهما على الشرب.
يقول: لا نقص الله من جمام بحارك، على كثرة ما يرد عليها من غرائب المصائب، وتكرير الحوادث، وهذا مثل. والمراد: لا نقص الله صبرك بكثرة ما يصيبك من حوادث الأيام. فشبه سيف الدولة بالبحر الكثير الماء، وحوادث الأيام بإبل ترد عليه مرة بعد أخرى.
وقيل معناه: لا نقص جودك على كثرة من يرده ممن لا يستحقه، كما أن الغرائب والدخال لا يستحق ورود الحوض، إذ الغرائب ليست من إبل هذا الحوض، والدخال قد شربت مرة. وقيل معناه: أنك كثير العطاء لمن هو مقيم عندك وهو المراد بالدخال، ولمن يرد عليك من مكان آخر وهو المراد بالغرائب، وهذا أبلغ من قول الكميت:
أناسٌ إذا وردت بحرهم ... صوادى الغرائب لم تقرب
رأيتك في الذين أرى ملوكاً ... كأنّك مستقيمٌ في محال
يقول: أراك بين الملوك كالمعنى المستقيم، والكلام المستقيم، والأمر المستقيم، الظاهر إلى جنب المستحيل الفاسد، أي أنك الملك على الحقيقة وغيرك من الملوك اسم بلا جسم.
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
المسك للظبي: بمنزلة الحيض للنساء. وقيل: لا يكون إلا في إناثها.
يقول: إن فضلت الأنام وعلوتهم وأنت من جملتهم فليس ذلك بعجب فإن المسك دم، ولكن يخالف سائر الدماء ريحاً وطبعاً.
وهذا من اختراعات أبي الطيب وفرائده. وقوله فإن تفق شرط وأنت منهم حال. فإن المسك جواب الشرط.
وقال يمدحه ويذكر استنقاذه أبا وائل: تغلب بن داود بن حمدان لما أسره الخارجي الناجم من كلب. ويصف قتل الخارجي.
وكان أبو وائل قد ضمن لهم، وهو في الأسر خيلا طلبوا منها: العروس ومالا اشترطوه عليه وأقاموا ينتظرون وصول ذلك فصبحهم سيف الدولة بالجيش فأبادهم، وقتل الخارجي في شهر شعبان سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
إلام طماعية العاذل ... ولا رأى في الحبّ للعاقل ؟
إلى من حروف الجر دخلت على ما الاستفهامية، ثم حذف منها الألف وجعلت مع إلى بمنزلة اسم. ومعناه: إلى أي شيء. وقيل إلى متى والطماعية مصدر كالطمع وهي مخففة إليه.
يقول: إلى متى يطمع العاذل في رجوعي عن الهوى، والعاقل إذا ابتلى في الهوى فقد فقد رأيه وزال عقله.
يراد من القلب نسيناكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل
يقول: إني مطبوع على حبكم، ومجبول على هواكم، والعاذل يريد مني أن أنساكم، وهذا محال، لأن الطبع لا يقدر أحد أن ينقه إلى غره، ويغيره عما هو عليه، ومثله قول الآخر:
لا تحسبوني عنكم مقصّرا ... إنّي على حبّكم مطبوع
وإنّي لأعشق من عشقكم ... نحولي وكلّ امرئٍ ناحل
أعشق: يجوز أن يكون فعلا مضارعاً، من عشقت ويكون كل منصوبا عطفاً على نحولي وهو في موضع النصب.
ومعناه: أني من فرط عشقي لكم أعشق نحولي، وأعشق كل عاشق مثلي ناحل مثل نحولي، للمشاكلة التي بيننا. ويجوز أن يكون أعشق أفعل تفضيل وكل يكون مجروراً عطف على الياء في نحولي. ومعناه: أني أعشق لكم. أي أشد عشقاً لكم من عشقكم نحولي ونحول كل فتى ناحل. يعني: أنكم تعشقون نحولي ونحول كل عاشق، وعشقي لكم أشد من عشقكم نحولي ونحول كل فتى هذه صفته.
ولو زلتم ثمّ لم أبككم ... بكيت على حبّى الزّائل
يقول: لو فارقتموني وفراقكم دال على زوال حبي ثم لم أبك لفراقكم، لبكيت على حبي الزائل؛ لأني أحب حبي لكم، فإذا زال ساءني زواله فأبكي له، وإن لم أبك لفراقكم، ويجوز أن يكون بكيت دعاء على نفسه. أي: إن لم أبك لكم، جعل الله حبكم زائلا عني حتى أبكي عليه.
أينكر خدّي دموعي وقد ... جرت منه في مسلكٍ سابل ؟
قيل: سابل بمعنى مسبول: أي مسلوك للمارة. وقيل: سابل: أي عامر بالمارة والهاء في منه للخد.

يقول: إن خدي لا ينكر دموعي السابلة عليه؛ لأنها لم تزل تسيل على الخد حتى صار فيه طريق سابل، فهذا الذي يجري الآن يجري في ذلك الطريق المسلوك.
وروى: في مسلك سائل يقال: هذا المكان سائل الماء. أي يسيل عليه الماء
أأوّل دمعٍ جرى فوقه ؟ ... وأوّل حزنٍ على راحل ؟
يقول: ليس هذا بأول دمع جرى، لأني كثيراً ما ابتليت بذلك، وليس الحزن الآن بأول حزن على حبيب راحل، لأني قد تجرعت من غمومه غير مرة.
وقيل معناه: لست أول عاشق بكى من الفراق وحزن من ألم الشوق، وقد كان قبلي عشاق يبكون ويحزنون على فراق الأحبة.
وهبت السّلوّ لمن لامني ... وبتّ من الشّوق في شاغل
يقول: تركت السلو على من لامني، ويأمرني بالسلو، ويعذلني عليه، واشتغلت بما أنا فيه من الوجد والشوق والمحبة.
كأنّ الجفون على مقلتي ... ثيابٌ شققن على ثاكل
يقول: كأن جفوني على مقلتي - لتباعد ما بين الجفون من شدة السهر - ثياب شققن على ثاكل؛ لأنها إذا شقت تباعد ما بين جانبي المشقق.
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
يقول: لو كنت أسيراً كسائر الأسارى. الذين يكونون في أيدي الأعادي لضمنت لهم من المال ما ضمنه أبو وائل، واستعنت بسيف الدولة ليخلصني من الأسر، ولكني أسير الهوى، فلا أقدر على الخلاص منه، ولا أقهره بشدة ولا قوة.
فدى نفسه بضمان النّضار ... وأعطى صدور القنا الذّابل
يقول: فدى نفسه أبو وائل من الخارجي بأن ضمن لهم الذهب، وأعطاهم صدور القنا التي جاء بها سيف الدولة حين استنقذه من يديه.
ومنّاهم الخيل مجنوبةً ... فجئن بكلّ فتىّ باسل
مجنوبة: أي مقودة جنب الفارس.
يقول: مناهم أبو وائل الخيل مقودة ليفدى بها نفسه فجاءتهم الخيل بكل فارس شجاع يضرب رءوسهم ويهلكهم.
كأنّ خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
شبه أسره وخلاصه بالقمر إذا غاب ثم طلع. يعني عاد كالقمر، وهو في نوره كما كان.
دعا فسمعت وكم ساكتٍ ... على البعد عندك كالقائل
يقول لسيف الدولة: إن أبا وائل دعاك لتخلصه، فسمعت دعاءه ثم قال: فكم ساكب أي أنك تراعي أمر القريب منك وأمر البعيد الذي لا يسألك مراعاته، فكأنه في سكوته استجارك كالناطق؛ لأن معونتك تعم الخاص والعام.
فلبيّته بك في جحفلٍ ... له ضامنٍ وبه كافل
ضامن وكافل: نعت لجحفل.
يقول: لما دعاك لبيته بنفسك في عسكر ضامن لأبي وائل، وكافل به، فخلصته من يد الخارجي، ولم يكن هناك دعاء ولا إجابة، ولكنه جعل وقوعه في يد الخارجي دعاء منه، وخروج سيف الدولة إجابة منه إياه.
خرجن من النّقع في عارضٍ ... ومن عرق الرّكض في وابل
خرجن: أي الخيل. والركض: الضرب بالرجل جنب الدابة.
يقول: إن الخيل لما ركضت، ثار الغبار مثل السحاب، وسال عرقها مثل المطر الوابل.
فلمّا نشفن لقين السّياط ... بمثل صفا البلد الماحل
نشفن: أي جف العرق عنهن. والصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة البيضاء. والبلد الماحل: المجدب، فحجره أصلب.
يقول: إنها لما عرقت الخيل علاها الغبار، وتلبد التراب عليها، فلما جف عرقها أشبهت جلودها الصلاء؛ لصلابتها، فوقعت السياط على جلود هذه صفتها، وإنما خص البلد الماحل قيل: لأن أحجارها أصلب من غيرها. وقيل: هذا لا معنى له وأنها لا تتغير، وإنما خصها لأنها أكثر غباراً من البلد الكثيرة الري، فشبه تراكم الغبار على جلودها في صلابتها بصفاء البلد الكثيرة التراب.
شفنّ لخمسٍ إلى من طلب ... ن قبل الشّفون إلى نازل
شفن: أي نظرن. والشفون: النظر.
يقول: إن الخيل سارت خمس ليال لم ينزل عنها فارس، فنظرت هذه الخيل إلى من طلبته من العدو، بعد خمس ليال، قبل نظرها إلى نازل عن ظهرها؛ وذلك لأن فرسانها واصلوا سيرها حتى أدركوا مقصودهم ولم ينزلوا عنها حتى لحقوا الخارجي.
فدانت مرافقهنّ البرى ... على ثقةٍ بالدّم الغاسل
روى: البرى والثرى.
يقول: قاربت مرافقهن التراب وخالطته عند العدو، ووثقت أن دم العدو يغسل هذه المرافق من التراب الذي عليها. ويجوز أن يكون دانت بمعنى أطاعت مرافقهن التراب، لأنها وثقت أن الدم يغسلها.
وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل

الكاذة: لحم الفخذ.
يقول: إن الفرس التي تطلب الغارة قد اتسع ما بين فخذيه، من شدة العدو، مثل ما بينهما إذا أراد أن يبول.
وقيل: أراد بالمستغير. الخارجي؛ لأنه كالطالب لهذه الغارة من خيل سيف الدولة.
فيقول: الدم الذي يترشش بين لحمتي فخذ الخارجي أو فخذ فرسه كان كالبول: أي يترشش على هذه المواضع عند البول.
فلقّين كلّ وردينيّةٍ ... ومصبوحةٍ لبن الشّائل
المصبوحة: التي سقيت اللبن وقت الصبح. والشائل: التي لا لبن لها، والشائلة: التي حملت وقل لبنها.
قال ابن جني؛ قلت للمتنبي: إن الشائل هي التي لا لبن لها، وأنت تريد ما لها لبن، والتي لها لبن قليل يقول لها: الشائلة. فقال أردت الهاء فحذفتها كقول الشاعر:
إنّا بنو عمكم لا أن نباعدكم ... ولا نحاربكم إلاّ على ناجي
فإنه أراد: ناجية. فسألته عن غرضه. في ذلك، فقال: إن الناقة إذا قل لبنها، ونجع في شاربه، فلا يسقونها الإكرام خيولهم.
فكأنه يقول: إن خيول سيف الدولة لقين أي لقيت خيله في جيش الخارجي كل رمح رديني، وكل فرس مصبوح لبن الشائل. التي جف لبنها. وقيل أراد بالشائل: التي لا لبن لها أصلاً. ومعناه: أنها لا تطعم فتلزم الطوى توفيراً لها على العدو.
وجيش إمام على ناقةٍ ... صحيح الإمامة في الباطل
أي: ولقين خيل سيف الدولة، جيش إمام في الباطل دون الحق. وكان الخارجي يدعى الإمامة.
فأقبلن ينحزن قدّامه ... نوافر كالنّحل والعاسل
ينحزن: أي يجتمعن، من قولك انحاز القوم إلى ناحية. إذا التجئوا إليها.
وقيل: يتفرقن يميناً وشمالاً، تذهب كل فرقة إلى حيزة.
وقيل: هو من نحزت الناقلة برجلي: إذا ركلتها. أي أنهن يركلن بأرجلهن، قدامه: أي قدام الخارجي، والعاسل الذي يخرج العسل.
يقول: إن خيل الخارجي رأوا جماعات لها ضجيج ونفر، فشبههم بالنحل. وشبه الخارجي بالعاسل. والنحل عند معالجة العاسل، يكون لها ضجيج ونفر في وجه العاسل.
وقيل معناه: أقبلت خيل الخارجي - لما رأت جيش سيف الدولة - تتفرق عنه وتسلمه إلى سيف الدولة، كما يسلم النحل ويتفرق عنه، إذا دخل عليه العاسل.
فعلى هذا: العاسل: سيف الدولة، والنحل: جيش الخارجي.
فلمّا بدوت لأصحابه ... رأت أسدها آكل الآكل
يقول لسيف الدولة: لما ظهرت لأصحاب الخارجي، وكانوا كالأسود رأوا منك أسداً يأكل كل أسدٍ آكلة لهم يأكلهم ويفنيهم.
بضربٍ يعمّهم جائرٍ ... له فيهم قسمة العادل
له أي للضرب. والباء متعلق بقوله: آكل الآكل. أي يأكلهم بضربٍ. جعل الضرب مجاوزاً للحد، خارجاً عن المعتاد. وقوله: قسمة العادل. فيه وجوه: أحدها: قيل معناه: أنه عدل، لأنه قربة إلى الله تعالى، لأنهم خوارج على إمامهم.
والثاني: أنه كان عدلا لخصوصة بالشجعان.
والثالث: أنه مقسوم بينهم على سواء، له في كل واحد منه حصة مثل حصة الآخر، ولم يفت منه أحد، فهو عدل من هذا الوجه.
والرابع: أنه كان عدلاً من حيث أنه جعل كل واحد منهم بنصفين على سواء، فكانت صورة القسمة النصفة.
وطعنٍ يجمّع شذّانهم ... كما اجتمعت درّة الحافل
روى: شذاذهم بذالين، وشذانهم بذال ونون، أي المتفرقون.
يقول: إن سيف الدولة كان يطعنهم طعناً يجتمع عليه المتفرقون، ويتعجبون من سعتها، كما يجتمع الدر في الضرع الحافل، ووجه التشبيه أنهم يجتمعون عليه واحداً واحداً وينضم واحد إلى آخر، كما تجتمع الدرة شيئاً فشيئاً. وقيل: أراد أن خيل الخارجي من شدة الطعن تجمعوا ليتقوا كما يجتمع الدرة في الضرع الحافل.
إذا ما نظرت إلى فارسٍ ... تحيّر عن مذهب الرّاجل
أي عن مذهب مثل الراجل.
يقول: إذا نظرت إلى فارس منهم خذلته نفسه، وبقي متحيراً لا يقدر على أن يسير مثل سير الراجل، ولا أن يذهب مثل مذهبه.
فظلّ يخضّب منها اللّحى ... فتى لا يعيد على النّاصل
الناصل: المضروب بالنصل، وهو فاعل بمعنى مفعول، والهاء في منها للأسد، وهي خيل الخارجي. وفاعل ظل فتى وهو سيف الدولة.
يقول: إن سيف الدولة إذا ضرب منهم إنساناً ضربة قتله، فلا يحتاج إلى أن يعيد الضرب مرة أخرى.
وقيل: الناصل. من نصل الخضاب يعني: إذا ضرب فخضب المضروب بالدم، فإن خضابه لا ينصل عنه حتى يحتاج إلى إعادته.

ولا يستغيث إلى ناصرٍ ... ولا يتضعضع من خاذل
تضعضع البناء: إذا انهدت أركانه أي لا يتذلل هذا الفتى، ولا يستعين بناصر ينصره، ولا يضعف إن خذله أصحابه، لأنه مستقل بنفسه لا يحتاج إلى أحد.
ولا يزع الطرف عن مقدمٍ ... ولا يرجع الطّرف عن هائل
يزع: أي يكف. ومقدم: أي الإقدام.
يعني: أنه لا يرد فرسه عن الإقدام، ولا يرد طرفه أي عينه عن أمر مخوف ومنظر هائل.
إذا طلب النّبل لم يشأه ... وإن كان ديناً على ماطل
النبل: الحقد. يقول: إذا طلب ثأراً أدركه، فلم يفته وإن كان ثأره عند من لا يدرك لديه ثأر. فشبه هذا الثأر بدين على ماطل.
خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل
يقول للخارجي وجماعته الذين كانوا ينتظرون الفداء هزءاً بهم: خذوا ما أتاكم به سيف الدولة من الفداء، واعذروه في هذه الغنيمة المعجلة، فاغتنموا ذلك فإن الغنيمة في العاجل.
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص في القابل
يقول: لئن كان أعجبكم ما ملكتم في هذا العام من الخير، فعودوا في العام القابل إلى حمص، حتى تروا ما يزيد على ذلك فترضوا به.
فإنّ الحسام الخضيب الّذي ... قتلتم به في يد القاتل
يقول: السيف المخضب بدمائكم في يد القاتل، وهو سيف الدولة، فمتى شئتم فتعالوا إليه.
وقال ابن جني: أراد بالسيف. سيف الدولة. والخضيب: هو الخاضب اللحي بالدماء. والقاتل: هو الخليفة الذي ينصر سيف الدولة ويقاتل عنه.
يجود بمثل الّذي رمتم ... فلم تدركوه على السّائل
أي يجود على السائل بمثل المال الذي رمتم، فلم تدركوه على السائل: يعني أنه يعطي سائله مثل ما طلبتموه، وإنما لم يعطكم أنفة، من أن تأخذوه قهراً.
أمام الكتيبة تزهى به ... مكان السّنان من العامل
أمام: نصب على الظرف. وتزهى به: أي تفتخر به. والتاء: ضمير الكتيبة والهاء: ضمير سيف الدولة. وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلى الرمح.
أي أن سيف الدولة يكون أبداً أمام الكتيبة، كما يتقدم السنان على الرمح وأن الكتيبة تفتخر به، إذ لا غناء لهم عنه كما لا غناء للرمح عن السنان.
وإنّي لأعجب من آملٍ ... قتالاً بكمّ على بازل
البازل: البعير الذي دخل في السنة التاسعة. وكان الخارجي حينئذ على ناقة يومئ بكمه على أصحابه؛ يحرضهم على قتال سيف الدولة.
يقول: إني أعجب من ضعف رأي من يقاتل بكم على ناقة بازل.
أقال له اللّه: لا تلقهم ... بماضٍ على فرسٍ حائل ؟
الهاء في له للخارجي وفي لا تلقهم لأصحاب سيف الدولة. بماض: أي بسيف ماض. والحائل: خلاف الحامل، وخض الحائل لأنها تكون أشد على العمل، وأصبر على الشدة، وهم لا يركبون يوم القتال إلا الفرس الأنثى الحائل.
يقول: كأن الله تعالى قال له. لا تلق جيش سيف الدولة بسيف ماض على فرس حائل ! فلهذا ركب الناقة وأشار بكمه بدل السيف !
إذا ما ضربت به هامةً ... براها وغنّاك في الكاهل
الكاهل: أعلى الكتف بين المنكب والعنق. والهاء في به للسيف الماضي. أي كأن الله تعالى قال: لا تلقهم بسيف ماض، إذا ضربت به رأساً قطعه ووصل إلى العنق، وهامة قطعها، وسمعت له صليلا كالغناء.
وقيل: معناه: قال الله لهذا الخارجي. لا تحارب بسيف ماض مثل سيفك الماضي يا سيف الدولة، الذي إذا ضربت به رأساً تجاوزها وغنى لك في الكاهل.
وليس بأوّل ذي همّةٍ ... دعته لما ليس بالنّائل
يقول: إن الخارجي ليس بأول من لم يدرك مراده، وما دعته إليه همته، وقد خرج قبله كثير من الخوراج وطلبوا مثل ما طلب فقتلوا كما قتل.
يشمّر للّجّ عن ساقه ... ويغمره الموج في السّاحل
يقول: إن الخارجي كان يشمرّ عن ساقه؛ ليخوض لجة البحر، وقد علاه الموج في ساحل هذه اللجة.
أي قد تأهب لجيش سيف الدولة الذي هو كالبحر العظيم، والموج يغرقه في الساحل ! أي أنه لقي مقدم عسكر سيف الدولة فهزموه، فكيف إذا لقي معظم عسكره ؟! وقال ابن جني: إنه يصف تمويه الخارجي على الأعراب وادعاءه النبوة فيهم فكان يحسر عن ساقه عند الماء ليرى الناس أنه يخوضه تمويها ومخرقة، ومع ذلك قد غمره الموج وهو على الساحل.
أما للخلافة من مشفقٍ ... على سيف دولتها الفاصل ؟!

الفاصل: القاطع. يقول: هو أبداً على سيف الدولة. هذا الخليفة، لأن بقاء هذه الخلافة وبقاء دولتها بسيف الدولة، فهل أحد يشفق على هذا السيف القاطع؛ لتبقى هذه الخلافة.
يقدّ عداها بلا ضاربٍ ... ويسري إليهم بلا حاملٍ
يقد: أي يقطع. والهاء في عداها للخلافة وفي إليهم للعدا.
يقول: هذا السيف بخلاف سيف الحديد، فهو يقطع أعداء الخلافة بلا ضارب، ويسير إلى الأعداء بلا حامل.
وقيل: أراد أنه يذب عن الخلافة وحده، وليس من أوليائها معين ينصره.
تركت جماجمهم في النّقا ... وما يتحصّلن للنّاخل
النقا: الكثيب من الرمل.
يقول: رضضت جماجمهم فيما بين الرمل فصارت كالهباء، واختلطت بالرمل، فلو نخل الرمل أحد بمنخل لم يحصل له شيء.
وروى: وما يتخلصن أي ما يتميزن: أي أن جماجمهم، لا تتميز عن الرمل للناخل.
وأنبتّ منهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشّامل
يقول: طرحت هؤلاء السباع حتى أكلت، وأخضبت كما تخصب السوائم في الربيع، فصارت لحومهم للسباع كالربيع، فأثنت عليك السباع لذلك.
وعدت إلى حلبٍ ظافراً ... كعود الحلىّ إلى العاطل
العاطل: التي لا حلى عليها. يعني: أن حلب عريت عن زينتها لما فارقتها ! فلما عدت إليها ظافراً، عادت زينتها، كالحلي إذا عاد للعاطل.
ومثل الّذي دسته حافياً ... يؤثّر فِي قدم النّاعل
يعني: هذا الذي وصلت إليه من الفتح العظيم بالهويني، لا يدركه غيرك بمشقة وتعب، أي وصلت إليه من غير آلة وعدة.
وكم لك من خبرٍ شائعٍ ... له شية الأبلق الجائل
يقول: ذكرك وخبر وقائعك مشهورة، كشهرة الفرس الأبلق فيما بين سائر الأفراس؛ إذا كان الأبلق جائلا من مكان إلى مكان كان أشهر وأظهر.
ويومٍ شراب بينه الرّدى ... بغيض الحضور إلى الواغل
وكم لك من يوم. وأيام العرب: حروبها. والواغل: الداخل في القوم؛ يشرب من غير دعوة. والهاء في بنيه لليوم.
يقول: كم لك من يوم حرب سقيت فيه أعداءك الموت، حتى كأن الواغل يبغض حضوره، وكان من عادته ألا يبغض ذلك؛ لأنه ليس بيوم شراب في الحقيقة.
تفكّ العناة وتغنى العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل
يقول: تطلق الأسرى، وتغني العفاة: أي السؤال، بما تعطيهم من الأموال، ومن أذنب إليك بجهل عفوت عنه.
فهنّأك النّصر معطيكه ... وأرضاه سعيك في الآجل
فاعل هناك معطيكه وفاعل أرضاه سعيك والهاء فيه ترجع إلى المعطى وهو الله تعالى والهاء في معطيكه للنصر.
يقول: هناك الله النصر الذي أعطاك، وأرضى الله سعيك في الآخرة، فأما هذه الدنيا فليس لها قدر يكون ثواباً لك ! وهذا دعاء له.
فذى الدّار أخون من مومسٍ ... وأخدع من كفّة الحابل
ذي الدار: إشارة إلى الدنيا. والمومس: الفاجرة. والكفة: شرك الصائد. والحابل: صاحب الحبالة.
يقول: هذه الدنيا خبيثة كالمرأة الفاجرة، غدارة لا تدوم لأحد، فهي في الغدر كشرك الصائد الذي يظن الصيد فيه خيراً، فإذا فيه هلاكه !
تفانى الرّجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل
يقول: إن الرجال تفانوا جميعاً - بقتل بعضهم بعضاً - في حب هذه الدار الغدارة، ثم يتركونها ولا يحصلون منها على فائدة وخير. والطائل: هو الخير.
وقال عند مسيره نحو أخيه ناصر الدولة لنصرته لما قصده معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي إلى الموصل في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطّعن عند محبيّهنّ كالقبل
يقول: أشرف الممالك قدراً، ما ملك عنوة، وفتح بأطراف الأسنة، وكان الطعن عند من أحب هذه الممالك، أحلى من قبل الأحباب.
وما تقرّ سيوفٌ في ممالكها ... حتّى تقلقل دهراً قبل في القلل
أي ما تستقر مملكة سيف الدولة، ولا تستقر سيوف في مملكته، حتى يقلقل أعداءه، وتتحرك سيوفه دهراً في رءوس الأعداء. ومثله لأبي تمام:
سأجهد عزمي والمطايا فإنّني ... أرى العفو لا يمتاح إلاّ من الجهد
مثل الأمير بغى أمراً فقرّبه ... طول الرّماح وأيدي الخيل والإبل

معناه: من مثل الأمير ؟ وقيل معناه: لا تستقر المملكة حتى يفعل مثل ما فعله سيف الدولة. فإنه يطلب أمراً بعيداً فيقرب هذا الأمر عليه: طول الرماح وخيله وإبله، أي يقصد إليه برماحه وإبله.
وعزمةٌ بعثتها همّةٌ زحلٌ ... من تحتها بمكان التّرب من زحل
زحل: مبتدأ. والمكان: خبره. والهاء في تحتها: للهمة. وفي بعثتها للعزمة.
يقول: قرب عليه مرامه عزمة بعثتها همة عالية، بحيث زحل نحت هذه الهمة بمكان التراب من زحل ! أي أن ما بينها وبين زحل من البعد مثل ما بين زحل والتراب.
على الفرات أعاصيرٌ وفي حلبٍ ... توحّشٌ لملقّى النّصر مقتبل
الأعاصير: جمع إعصار، وهو غبار الحرب، ورهج الخيل.
يقول: على الفرات غبار الخيل من كثرة الحروب والنزول عليها، وفي حلب توحش بمفارقتها سيف الدولة، وهو ملقى النصر، ملقاه حيث توجه. مقتبل: أي هو في أول شبابه. وقيل: معناه أنه حسن تقبله العيون، وتحبه القلوب.
تتلوا أسنّته الكتب الّتي نفذت ... ويجعل الخيل أبدالاً من الرّسل
فيه وجهان: أحدهما: أن أسنته تتلوا الكتب الواردة إليه من أخيه ناصر الدولة، فجعل جواب كتبه خروجه إليه بنفسه، وجعل خيله بدل رسله. وهذا مثل قوله: فليته في محفل.
والثاني: أنه إذا كتب إلى الأعداء فأسنته تتبعها، وإنما يكتب إلى أعدائه ليعرفهم أنه متوجه إليهم، حتى لا يكون خروجه اغتيالاً؛ لأن هذا داخل في الشجاعة من أن يقصدهم مفاجأة، لأنه يدل على الجبن والاغتيال، وهذه فائدة كتبه إلى أعدائه.
يلقى الملوك فلا يلقى سوى جزر ... وما أعدّوا فلا يلقى سوى نفل
جزر: بمعنى مجزور، أي مقطوع. وقيل: هي جمع جزور. أي كأنهم جزر يساقون إليه لينحرهم.
يقول: إنه كلما لقى ملكاً في حرب قتله وغنم أمواله، فهي جزر لسيوفه، وما له غنيمة له ولعسكره.
صان الخليفة بالأبطال مهجته ... صيانة الذّكر الهنديّ بالخلل
الخلل: جمع الخلة، وهي غاشية جفن السيف. وقيل: هي واحد، وجمعه أخلة. والذكر الهندي: هو السيف. والهاء في مهجته قيل لسيف الدولة ومعناه: أن الخليفة صان مهجة سيف الدولة بما ضم إليه من الجند والفرسان، كما يصان السيف بالخلل.
لما كان للدولة سيفاً جعل الخليفة والأبطال جفناً، وفيه إشارة إلى أن الاعتماد في الحرب عليه والجند فضلة، كما أن العمل للنصل دون الجفن.
وقيل: الهاء في مهجته للخليفة أي أنه صان نفسه بالأبطال الذين مع سيف الدولة، صيانة السيف بالخلل؛ لأنهم يقاتلون عنه أعداءه مع سيف الدولة فيصونه عن الأعداء.
الفاعل الفعل لم يفعل لشدّته ... والقائل القول لم يترك ولم يقل
يقول: إنه يفعل أفعالاً تعجز الناس عنها فيتركونها، أو أنهم لم يعرفوا ما يفعله من الأفعال ولم يهتدوا إليها، ويقول أقوالا حاول البلغاء أن يقولوا مثلها فلم يقدروا على ذلك، ولم يأتوا بها على وجهها ولم يتركوها؛ لأنهم تعرضوا لها ولم يستوفوا ما فيها من أنواع الفصاحة، فهي غير مقولة ولا متروكة. ومثله قوله من قصيدة أخرى:
فأنطق واصفيه وأفحما
وقيل معناه: أنه يقول أقوالا لم تعرف فلم تقل، ولم تترك لأنها إذا لم تعرف لا يمكن تركها، لأنه ما لا يعرف، كما لا يفعل، لا يترك.
والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النّهار فصار الظّهر كالطّفل
غالت: أي أهلكت. وفاعله العجاجة ومفعوله ضوء النهار والهاء في عجاجته للجيش لفظاً، والطفل: آخر النهار.
يقول: هو الذي يبعث الجيش العظيم الذي يستر غباره الشمس حتى يصير وقت الظهر مثل آخر النهار: وقت المغرب.
الجوّ أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشّمس فيه أحير المقل
أضيق قيل: في معنى ضيق. أي أن الجو يضيق بما لاقاه من الغبار. وقيل: هي على أصلها. أي أشد ضيقاً. والهاء في ساطعها للعجاجة وفي لاقاه للجو وفي فيه لساطعها.
يقول: إن أضيق الأشياء - بما يسطع عن غبار هذا الجيش - هو الهواء: الذي هو أوسع الأشياء، وإذا كان الهواء كذلك فما ظنك بغيره ؟! وهذا الغبار أيضاً يغطي نور الشمس وقرصها حتى صارت عين الشمس أحير العيون في هذا الغبار، فكيف أحوال سائر العيون ؟!
ينال أبعد منها وهي ناظرةٌ ... فما تقابله إلاّ على وجل
ينال: فعل السيف. والهاء في منها: للشمس، أو لمقلتها.

يقول: إنه ينال ما هو أبعد منها. أي أبعد من الشمس. وهي ترى ذلك وتنظر إليه، فما تقابل هذه الشمس سيف الدولة عند طلوعها وفي سائر الأوقات، إلا وهي خائفة من أن يغير عليها.
قد عرّض السّيف دون النّازلات به ... وظاهر الحزم بين النّفس والغيل
قيل: أراد بالسيف نفسه، والهاء في به: ترجع إلى سيف الدولة.
يقول: جعل سيفه عارضاً بينه وبين النوائب وقد لبس الحزم مظاهراً. حاجزاً بين نفسه وبين اغتيال عدوه، فحزمه سلاح له كالسيف.
ووكّل الظنّ بالأسرار فانكشفت ... له ضمائر أهل السّهل والجبل
الهاء في له ترجع إلى سيف الدولة، وقيل: إلى الظن.
يقول: وكل ظنه بضمائر الناس، فظهرت له ضمائر أهل السهل والجبل.
هو الشّجاع يعدّ البخل من جبنٍ ... وهو الجواد يعدّ الجبن من بخل
يقول: إنه يتجنب من البخل، كما يتجنب الشجاع من الجبن، ويتجنب من الجبن، كما يتجنب الجواد من البخل، فأجرى البخل مجرى الجبن. فشجاعته تريه أن البخل من جملة الجبن؛ لأن البخيل يبخل بماله خوف الفقر، فهو جبن. وجوده يريه أن الجبن بخل بالنفس فشجاعته تمنعه من البخل، وجوده يمنعه من الجبن.
يعود من كلّ فتحٍ غير مفتخرٍ ... وقد أغذّ إليه غير محتفل
أغذ إليه: أي أسرع إليه في السير. والاحتفال: التأهب.
يقول: إنه يفتح البلاد ويعود، ولا يفتخر بما فعل ولا يعتد به؛ لأنه يستصغر ما يفعله، ويسير إلى الأعداء مسرعاً غير مبال بهم ولا مستعد لهم فيهزمهم.
ولا يجير عليه الدّهر بغيته ... ولا يحصّن درعٌ مهجة البطل
البغية: الطلبة، وهي المطلوب، ولا يجير: أي لا يعيب.
يقول: إنه الدهر لا يمنعه مراده، والدرع لا يحفظ منه مهجة الشجاع إذا أراد قتله.
إذا خلعت على عرضٍ له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
أراد بالحلل: القصائد.
يقول: كسوته مدائح من شعري، لأجمله بحسن ذكره في الآفاق، فاكتسبت منه مدائحي جمالاً، ولبست من عرضه حللاً وكمالا، فصار هو الذي ينشر شعري. ومثل هذا قول كثير:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
بذى الغباوة من إنشادها ضررٌ ... كما تضرّ رياح الورد بالجعل
يقول: إن الجاهل عن إدراكه وإدراك معناه، لا يعيب في شعري، بل هو على أبلغ وجوه الإحكام والجودة، وكما أن الجعل إذا شم ريح الورد غشى عليه وليس ذلك لنقص الورد، بل هو لخبث نفس الجعل ولؤم طبعه. ووجه ضررها بالغبي أنها تهتك ستر جهله، وتدل على بلادة فهمه، كما يظهر الورد لؤم طبع الجعل والهاء في إنشادها للحلل.
لقد رأت كلّ عينٍ منك مالئها ... وجرّبت خير سيفٍ خيرة الدّول
الهاء في مالئها للعين. والخيرة وإن كانت أفعل التفضيل، وهو لا يدخله الهاء، فإنها إنما حذفت منه الألف لحقت بغيرها فيقال: زيد خير الناس وهند خيرة النساء.
يقول: كل عين نظرت إليك ملأها حسنك وهيبتك، ولما كنت سيفاً كان مجربه: الذي هو الدولة. خيرة الدول.
فما تكشّفك الأعداء عن مللٍ ... من الحروب ولا الآراء عن زلل
يقول: إن الأعداء جرّبوك، فوجدوك لا تمل حروبهم، وكذلك لا تكشفك الآراء عن زلل؛ لأن رأيك لا يكون خطأ أبداً.
وكم رجالٍ بلا أرضٍ لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
يقول: كم رجال من الأعداء ضاقت الأرض بهم لكثرتهم، فأفنيتهم، حتى صارت ديارهم خالية ليس فيها رجل.
ما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتّى مشى بك مشي الشّارب الثّمل
يقول: قد أجريت دماءهم، وأكثرت من قتلهم، حتى كأن فرسك يتعثر فيهم؛ لكثرة جيفهم، ويتمايل بك كما يتمايل السكران الثمل.
يا من يسير وحكم النّاظرين له ... فيما يراه وحكم القلب في الجذل
الجذل: السرور.
يقول: إن الأرض كلها له، فحيثما سار يرى سروراً، وهو مأخوذ من قوله تعالى: " وَفِيهَا مَا تَشْتَهيِه الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ " .
إنّ السّعادة فيما أنت فاعله ... وفقت مرتحلاً أو غير مرتحل
يقول: كل ما فعلته مقرون بالسعادة والتوفيق، سواء ارتحلت أو أقمت. وقيل: إنه دعاء له بالتوفيق على كل حال.
أجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في أخلاقك الأول

عن ابن جني قال: سألت المتنبي عن هذا فقال: كان سيف الدولة ترك الركوب مدة لعلة أصابته، فحركته بهذا، فعلى هذا: البيت الأول بيت لهذا المعنى.
يعني أنك موفق الرأي فيما تفعله، ولكن الرأي أن ترجع إلى أمرك الأول من الغزو والقتال.
ينظرن من مقلٍ أدمى أحجّتها ... قرع الفوارس بالعسّالة الذّبل
الأحجة: جمع الحجاج، وهو العظم الذي فوق العين، وفاعل أدمى: قرع الفوارس. ومفعوله: أحجتها. وقرع: قيل مضاف إلى المفعول، ومعناه: قرعك الفوارس. أي أن خيلك ينظرن من عيون قد أدماها قرعك الفوارس بالعسالة: بالرماح اللينة الكثيرة الاضطراب؛ لأنها إذا شرعت للطعن يكون مرها على قرب الحجاج من الفرس. يعني أنها معودة للقتال. وقيل: إنه مضاف إلى الفاعل. أي أن خيلك قد أدمى عيونها طعن الفرسان إياها؛ لأنها تكون مقدمة لا تولى، فالطعن إنما يقع على وجهها.
فلا هجمت بها إلاّ على ظفرٍ ... ولا وصلت بها إلاّ إلى أمل
دعاء له بالظفر. يقول: كلما ركبت خيلك وصلت إلى ما ترجوه، وظفرت بما تطلبه والهاء في بها للخيل.
وقال يمدحه ويعتذر عن المسير معه وقد سأله السير معه في الطريق، لما سار لنصرة أخيه ناصر الدولي سنة 337:
سر حلّ حيث تحلّه النّوّار ... وأراد فيك مرادك المقدار
النور والنوار واحد. ويجوز أن يكون النوار: جمع نور. وحل: قيل: دعاء بلفظ الخبر، ومعناه: سر، حل النوار حيث تحله.
والمقصود: سقاك الله الغيث حيث حللت حتى يحل هناك النوار.
وقيل: إنه خبر على الحقيقة، ومعناه: أنه جعل سقياً. فيقول له: أنت السحاب فإذا حللت ببلد يحصل منك السقى، فيحصل بك النور والزهر.
وأما الصراع الثاني فأولى فيه حمله على الدعاء: معناه أن الأقدار ساعدتك على مرادك، وأرادت كما تريد أنت.
ويجوز حمل المصراع الثاني على الخبر: أي أن الأقدار، لا تريد إلا ما تريد أنت. وفاعل حل: النوار. وفاعل أراد: المقدار.
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ ... حيث اتّجهت وديمةٌ مدرار
توجهت: بمعنى اتجهت. والديمة. مطر يدوم أياماً في سكون ريح ورعد. ومدرار: قيل متصل المطر. وشيعتك: دعاء، ومعناه حيث قصدت صاحبتك السلامة، وديمة غزيرة تسقي محلك، وتخضب منزلك.
وصدرت أغنم صادرٍ عن موردٍ ... مرفوعةً لقدومك الأبصار
وهذا البيت أيضاً دعاء. وقوله: مرفوعة لقدومك الأبصار: إشارة إلى ما يحصل من السرور، لأن الأبصار إنما ترفع عند ذلك.
يقول: إذا رجعت من مقصدك رجعت غانماً قد شخصت الأبصار إليك وقوله: أغنم ومرفوعة: نصب على الحال.
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتّى كأن صروفه أنصار
يقول داعياً له: أراك دهرك من أعدائك ما تريده منهم، حتى تكون صروف الدهر أنصاراً لك، ومن جملة أوليائك.
أنت الذي بجح الزّمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار
بجح: أي افتخر. يقول: إن الزمان يفتخر بذكرك؛ لأن له فضلاً على سائر الأزمنة المتقدمة.
وقيل: أراد بالزمان أهله، والأسمار إذا تضمنت حديثك وحديث وقائعك تزينت، إذ فيها من العجائب أكثر مما في الأحاديث الموضوعة.
وإذا تنكّر فالفناء عقابه ... وإذا عفا فعطاؤه الأعمار
وله وإن وهب الملوك مواهبٌ ... درّ الملوك لدرّها أغبار
الدر: أول ما ينزل من اللبن الكثير. والأغبار: جمع الغبر، وهو البقية بعد الحلب. والهاء في لدرها للمواهب.
يقول: إن عطايا الملوك في جنب إعطائك كالأغبار. يعني أن أقل مواهبك أعظم من مواهب سائر الملوك.
وقيل معناه: أن عطايا الملوك هي بقايا عطاياه، ومعناه أنه أفضل منهم وهم دونه ومحتاجون إليه، وإن صلاتهم من صلاته.
للّه قلبك ! ما تخاف من الرّدى ... وتخاف أن يدنوا إليك العار
لله قلبك: أي ما أعجب أمرك ! وأعظم أمر قلبك ! لما فيه من القوة والشجاعة والهمة التي لا تخاف معها الهلاك ! ومع ذلك فأنت تخاف من أن يدنوا إليك العار.
وقيل: ألف الاستفهام محذوفة في الموضعين ومعناه: أما تخاف من الردى ؟! وأتخاف من العار؟! وهو دون الردى في الصورة.
وتحيد عن طبع الخلائق كلّه ... ويحيد عنك الجحفل الجرّار
الطبع: قيل هو الدرن. والخلائق الأخلاق ومعناه أنك تميل عن دنس الأخلاق ودنس الطباع.

وقيل الطبع: الخلق. والخلائق: البشر. أي أنك تميل وتكره أخلاق جميع الناس. والجحفل: العسكر. الجرار: الذي يجر نفسه أي بعضه بعضاً، وقيل: الذي يجر الرماح.
يقول: إنك تتجنب أخلاق الناس، أو دنىء الأخلاق، مع أن العسكر العظيم إذا أتبعته مال عنك.
يا من يعزّ على الأعزّة جاره ... ويذلّ في سطواته الجبّار
الأعزة: قيل هي أولاده وسائر من يعز عليه. ومعناه أن جاره المستجير به يكون أفضل في جواره من أعزته. وقيل أراد بالأعزة الملوك أي أن جاره عزيز، له فضل على سائر الملوك، والأعزة، فلا يمكن لأحد من الملوك ضيمه، ويذل الملك الجبار بسطوته. وعدوه. ذليل لفضل قوته.
كن حيث شئت فما تحول تنوفةٌ ... دون اللّقاء ولا يشطّ مزار
التنوفة: المفازة البعيدة الأطراف. وتحول: أي تمنع. ولا يشط: أي لا يبعد. والمزار: يجوز أن يكون كالزيارة، ويجوز أن يكون اسماً لمكان الزيارة.
يقول: كن في أي موضع شئت فما يحول بيني وبين قصدك، وبين من يقصدك لمعروفك مفازة بعيدة، ولا يبعد على من يقصدك مستميحاً ومثله:
من عالج الشّوق لم يستبعد الدّار
وله:
كن كيف شئت تسر إليك ركابنا
وبدون ما أنا من ودادك مضمرٌ ... ينضى المطيّ ويقرب المستار
المستار: بمعنى المسير، وهو مفتعل منه، ويجوز أن يكون اسماً لمكان السير.
يقول: ما أضمره لك من المودة والحرص على اللحاق بك - ومن ود إنساناً بعض ما أودك - فإنه يهز المطيّ في اللحوق بك، ويقرب عليه المسير والمسافة البعيدة.
إنّ الّذي خلّفت خلفي ضائعٌ ... ما لي علي قلقي إليه خيار
يقول: لولا أهلي الذين خلفتهم ورائي، لصحبتك، ولكنهم إن رغبت عنهم ضاعوا، فقلقي إليهم شغل قلبي بهم، فمنعني من اختياري وإيثار صحبتك عليهم.
وقيل أراد بالقلق الاضطرار أي أني مضطر إلى الرجوع إلى أهلي ومالي مع هذا اختيار.
وإذا صحبت فكلّ ماءٍ مشربٌ ... لولا العيال وكلّ أرضٍ دار
يقول: لولا العيال، لما كان شيء عندي أطيب من مصاحبتك؛ لأني إذا صحبتك فكل ماء مشرب. أي طيب زلال، وكل بلد يكون داراً لي؛ لأن كل راحة معك وكل عيش يتهيأ بك وبصحبتك. ومثله قول الآخر:
إذن الأمير بأن أعود إليهم ... صلةٌ تسير بشكرها الأشعار
وماهي إلا بلدة مثل بلدة ... وخيرهما ما كان عوناً على الزمن
يقول: إن أذن الأمير بالعودة إلى أهلي عددت ذلك صلة من صلاته، أشكره عليها، وأسير الأشعار بذكرها. وفيه تنبيه على أن الوقت وقت الصلة وعلى التحقيق أن سيف الدولة قدر رضى بالإذن من غير اقتران صلة.
وقال يرثى عبد الله بن سيف الدولة بحلب وقد توفى بميافارقين سنة 338 قال:
بنا منك، فوق الرّمل، ما بك في الرّمل ... وهذا الّذي يضني كذاك الّذي يبلي
الرمل ها هنا: الأرض والتراب. والضنا: طول المرض، والاضناء: الإمراض. وقوله منك أراد من الغم عليك، فحذف المضاف.
يقول: تحت التراب تبلى ونحن فوقه نضنى، فبنا من الغم عليك فوق الأرض من طول الضنا، مثل ما بك تحتها من طول البلى، فهذا الحزن الذي بنا يضنينا ويهزلنا، مثل الموت الذي يبلى جسدك ويفرق أوصالك، فنحن أموات في صورة الأحياء.
كأنّك أبصرت الّذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثّكل
الثكل: فقد المحبوب ! يخاطب الولد على لسان سيف الدولة فيقول: كأنك أبصرت قبل موتك ما بي الآن من الحزن عليك، فرأيته أشد من الموت ! وخفت أنك إن عشت تبتلى بثكل ولد كما ابتليت أنا بثكلك ! ويصيبك من ألم الحزن مثل ما أصابني، فاخترت الموت على الثكل.
تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموعٌ تذيب الحسن في الأعين النّجل
يقول: تركت النساء الغانيات يبكين عليك، حتى قرحت أجفانهن وذهب حسن عيونهن، وإنما اختار لفظ الإذابة، لأن حسن العيون لما كان كأنه يذهب بالبكاء على تدرج الأيام، ولم يذهب دفعة واحدة كان لفظ الإذابة أبلغ من قوله تزيل الحسن أو تذهب الحسن.
وقيل: إنما قال تذيب؛ لأن الذوب في معنى السيلان، والدمع سائل، فكما أن الحسن سال مع الكحل، فيزول حسن الكحل ويبقى حسن الكحل، وكأن الحسن قد ذاب ونقص.
تبلّ الثّرى سوداً من المسك وحده ... وقد قطرت حمراً على الشّعر الجثل

تبل أي من الدموع. والشعر الجثل: الكثير المجتمع. والهاء في وحده يرجع إلى المسك.
معناه: أن دموعهن كانت تقطر من أجفانهن حمراً؛ لامتزاجها بالدم، فإذا سقطت على شعورهن الكثيرة المنتشرة، لأجل المصيبة، المسترسلة على خدودهن، خالطها ما في شعورهن من المسك، فاسودت، فوصلت إلى الترب سوداء من المسك.
وقوله: من المسك وحده فيه وجوه.
قيل: معناه أن سواد دموعهن ليس لأجل الكحل، لأنهن مستغنيات عن التكحل بالكحل، فليس ذلك السواد إلا لأجل المسك فقط.
والثاني: أنهن يستعملن الكحل لأجل المصيبة، فاسودت دموعهن بالمسك الذي استعملته قبل المصيبة وكان قد بقيت رائحتها وأجزاؤها على شعورهن.
والثالث: أنه إشارة إلى أنهن من بنات الملوك، فلم يستعملن من الطيب إلا المسك الخالص، دون ما يخلط به من أنواع الطيب.
فإن تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطّفل
يقول: إن مت، ودفنت في القبر، فقلوبنا معمورة بذكرك، وأحشاؤنا محترقة بحزنك ! فكأنك حال في قلوبنا، وإن كنت طفلا، فإن حزننا عظيم عليك !
ومثلك لا يبكي على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل
المخيلة: الفراسة، وقيل: العلامة، وأصله في السحاب الذي يطمع منه المطر.
يقول: ليس نبكي عليك على مقدار سنك، ولكن على مقدار أصلك، وكرم منصبك وعلى ما يتفرس منك من الخصال الحميدة، وما كنا نتوقعه منك من الملك.
ألست من القوم الألى من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل ؟
ألست: استفهام، ومعناه التقرير. والألى: بمعنى الذين. وروى: من القوم الذي. ورده إلى لفظ القوم. وقيل: أراد الذين، فحذف النون.
قيل: في هذا البيت معنيان: أحدهما: ما قال ابن جني ومعناه: ألست من القوم الذين يقتلون البخل بنداهم ؟ فكأن نداهم من جملة رماحهم، يطعنون به في مهجة البخل. وعلى هذا روى من رماحهم نداهم.
والثاني: أن سخاءهم؛ لأنهم يغيرون برماحهم على أعدائهم، ويغنمون أموالهم ويهبون منها المواهب. ثم استأنف معنى وقال: البخل من جملة قتلاهم. يعني: أنهم يهبون المواهب العظيمة حتى يكون البخلاء أسخياء، فلا يكون في الدنيا بخيل ولا بخيلة.
بمولودهم صمت اللّسان كغيره ... ولكنّ في أعطافه منطق الفضل
روى: منطق الفضل، والفصل. بالضاد والصاد: وهو الكلام الفاصل بين الحق والباطل.
يقول: مولودهم لا يتكلم في المهد، كسائر الأطفال، ولكن دلائل الفضل ناطقة من أعطافه ! ومخايل النجابة موجودة في شمائله، فكأنها مقام النطق.
تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثّناء عن الشّغل
يقول: إذا أصابتهم مصيبة فإن علياءهم وسلامتها، تسليهم عن المصيبة، ويشغلهم اكتساب الثناء عن كل شغل سواه.
أقلّ بلاءً بالرّزايا من القنا ... وأقدم بين الجحفلين من النّبل
أقل بلاء: أي أقل مبالاة، وأقدم: من قدم يقدم إذا سبق، وفي القرآن: يقدم قومه وإن كان من أقدم فعلى حذف الزوايد.
يقول: إنهم أقل مبالاة بالمصائب من الرماح التي لا يتصور فيها المبالاة، ولا تخشى من الكسر، وإنهم أشد تقدما بين الجيشين من السهام التي هي أسبق الأسلحة.
عزاءك سيف الدّولة المقتدى به ... فإنّك نصلٌ والشّدائد للنّصل
عزاءك: نصب على الإغراء أي الزم عزاءك، والمقتدى به: نعت لسيف الدولة يعني يا سيف الدولة الذي يقتدى به. وقيل: نعت للعزاء المقتدى به.
يقول: أنت قدوة لنا في صبر أو جزع، فالزم صبرك، فإن سيف الدولة من شأنه ملاقاة الشدائد، وقلة المبالاة بالضرب والثلم، وترك الجزع عند لقاء الكرائه.
مقيمٌ من الهيجاء في كلّ منزلٍ ... كأنّك من كلّ الصّوارم في أهل
المقيم: ضد المسافر.
يقول: إنك مقيم في حروب، في كل منزل، فكل حرب كأنها منزلك ! وكأنها عشائرك وأهلك؛ لأنك سيف والسيوف منازلها الحروب، وعشائرها السيوف، فأنت أبداً في دارك، وبين قومك. وقيل: معناه أنك من قلة مبالاتك بالحروب كأنها منزلك، وكأن السيوف أهلك، حيث تسكن إليها سكون الرجل إلى أهله؛ لأنها تحيد عنك ولا تعمل فيك بل تعمل في أعدائك.
ولم أر أعصى منك للحزن عبرةً ... وأثبت عقلاً والقلوب بلا عقل

يقول: ما رأيت إنساناً أصبر على المصائب منك ! وأعصى عند الحزن عبرة منك، ولا أثبت عقلا عند شدة؛ لأنه أبداً ثابت لا يعتريه الطيش والخفة.
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل
السليل: الولد.
يقول: إن المنية عاهدته على أن تنصره في الحروب، ثم تخون عهده في ولده، فكيف تجمع بين الإحسان والإساءة ؟! لولا تقلب أحواله !!
ويبقى على مرّ الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصّقل
الفرند: ماء السيف، وجوهره.
يقول: إن الحوادث تظهر صبره، وكرم أصله، كما يظهر الصقل جوهر السيف ورونقه.
ومن كان ذا نفسٍ كنفسك حرةٍ ... ففيه لها مغنٍ وفيها له مسلى
حرة: صفة لنفس، والتذكير: لمن والتأنيث: للنفس.
يقول: من كانت له نفس حرة مثل نفسك، ففيه ما يغنى نفسه عن تعزية غيره عليه، وعن كل شيء، وفي نفسه ما يسليه عما يجده من الهموم والمصائب.
وما الموت إلا سارقٌ دقّ شخصه ... يصول بلا كفٍ ويسعى بلا رجل
يقول: لا عيب لك، فالموت. كالسارق الذي دق شخصه دقة، ليس له يد ولا رجل، ولو كان أراد أن يجاهرك وظهر شخصه لم يقدر على غضبك، وقيل: معناه أن السارق يستحق القطع، والموت ليس له محل القطع من اليد والرجل.
يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنّمل
أبو الشبل: الأسد، والشبل ولده. ويقال: إن ولد الأسد يجتمع عليه النمل - ما لم ينبت عليه الشعر - فيقتله، ولهذا لا تلد الأسدة إلا في ثجة؛ هرباً من ذلك.
فيقول: مثلك ومثل الموت، كمثل الأسد والنمل، فإنه يدفع الجيش عن ولده، ولا يقدر أن يمنعه من النمل، وليس ذلك لعجز الأسد، ولكن لقلة قدر النمل ودقة شخصه، وكذلك أنت، لو ظهر لك الموت لمنعته، ولكنه يأتي من حيث لا يراه أحد، ولا يدل ذلك على عدم شجاعتك.
بنفسي وليدٌ عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تطرّق بالحمل
طرقت المرأة بالولد: إذا نشب فيها، ثم يتسع فيقال: طرقت: أي ولدت.
يقول: نفسي فداء لهذا المولود الذي انفصل عن بطن أمه إلى بطن أم ليست كالأمهات في الولادة، أي أنا ليست بأم على الحقيقة. وقيل: معناه عاد إلى بطن أم لا تلد أبداً، يعني أنه لا يخرج منها، فكأنه يقول: لقصر أيامه كأنه انتقل من بطن أمه إلى القبر.
بدا وله وعد السّحابة بالرّوى ... وصدّ وفينا غلّة البلد المحل
الروى بالفتحة على المصدر من روى يروي روى، وبالكسر هو الماء الكثير.
يقول: كانت مخايله تعدنا بجوده وأفضاله، كما تعدنا السحابة بالغيث، فمضى عنا وخيب آمالنا. شبهه بسحابة نشأت على بلد خرب ثم أقلعت ! من غير شيء.
وقد مدّت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النّعل
يقول: كانت الخيل تنتظر كبره، لتتشرف بركوبه إياها، وبتنقله رجله إلى الركاب.
وريع له جيش العدوّ وما مشى ... وجاشت له الحرب الضّروس وما تغلى
ريع: أفزع. وروى: جاش العدو: أي قلبه، وجيش العدو، وجاش: أي هاج وارتفع. والضروس: الشديد.
يقول: إن أعداء أبيه خافوا منه وهو بعد في المهد لم يمش ! وهاجت له الحروب الشديدة وارتفعت قبل غليانها، وروى وما يقلى من قليت بالقلة أقلى بها، وقلوت أقلو يعني أنهم خافوه قبل أن يبلغ إلى أن يقلى بالقلة.
أيفطمه التّوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
التوراب: لغة في التراب. قال الأصمعي: التراب والتوراب، والتيرب والتورب، والترباء كل ذلك بمعنى.
يقول: فطمه التراب قبل أوان فطامه ! وأكله التراب قبل وقت أكله ! يقول ذلك على معنى الإنكار والتأسف.
وقبل يرى من جوده ما رأيته ... ويسمع فيه ما سمع من العذل
قبل: مضاف إلى يرى. وإنما جاز إضافة الظرف إلى الفعل لقلة تمكنها. وفي القرآن: " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُل " ، " يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ " . وقيل: إن فيه إضمار أن وتقديره: وقبل أن يرى. فيكون في معنى المصدر: أي وقبل رؤيته، فتجرى الإضافة على بابها. فعلى هذا يجوز. في يسمع الرفع، والنصب.
يقول: كيف جآءت قبل أن يرى من جوده ما رأيته من جودك ؟! من قصد العفاة، وعذل العذال، فيه ما رأيت وسمعت.

ويلقى كما تلقى من السلم والوغى ... ويمسى كما تمسى مليكاً بلا مثل
معناه: أكله التراب قبل أن يلقى من الصلح والوغى مثل ما نلقى، وكذلك قبل أن يسمى مليكاً بلا مثل، كما أنت تسمى كذلك الآن.
تولّيه أوساط البلاد رماحه ... وتمنعه أطرافهنّ من العزل
فاعل توليه: رماحه، ومفعوله الأول الهاء من توليه، والثاني أوساط البلاد.
يقول: مات قبل أن توليه أطراف الرماح أوساط البلاد والممالك، وتمنعه أطراف الرماح من العزل. طابق بين أوساط البلاد، وأطراف الرماح، وبين الولاية، والعزل.
نبكّى لموتانا على غر رغبةٍ ... تفوت من الدّنيا ولا موهبٍ جزل
يقول: نبكي على من مات منا، ولم يفته من هذه الدنيا حظ له خطر يوجب الأسف على مفارقته.
إذا ما تأمّلت الزّمان وصرفه ... تيقّنت أنّ الموت ضربٌ من القتل
يقول: إذا تأملت أحوال الزمان، رأيت أنه عدو للإنسان، فلذا يحاربه، فإذا مات الإنسان فكأن الزمان قتله وظفر به.
وقيل: معناه أن الموت كله قتل ! وأسبابه مختلفة، فلاختلاف الأسباب اختلفت تسميته، فبعضه يسمى قتلاً، وبعضه موتاً: وهو ما كان على الفراش.
هل الولد المحبوب إلاّ تعلّة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل ؟
التعلة: ما يعلل به الإنسان.
يقول: السرور بالولد ليس شيئاً يدوم، وإنما هو شيء يعلل به المرء نفسه ثم ينقطع ! فإن الخلة بالمرأة الحسناء ليس إلا أذى البعل، من حيث يؤدي إلى أذى شديد؛ لأن غم موت الولد أكثر من السرور بهذه اللذة، فسمى تلك الخلوة بأسرها أذى لما يؤدي إليها.
وقيل: معناه أن الذى فيها أكثر من حيث المؤن والكلف والغيرة عليها، والاشتغال بذلك يمنع من اكتساب المجد والأجر، فإذا كان هاتان اللذتان لا حقيقة لهما، فما سواهما أولى بذلك.
وقد ذقت حلواء البنين على الصّبا ... فلا تحسبنّي قلت ما قلت عن جهل
الحلواء: الحلاوة.
يقول: قد ولدت في حداثة سني، وجربت حلاوة الأولاد فلا تظنن أني قلت ذلك عن جهل.
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيّام تكتب ما أملي
يقول: علمي بالدهر أكثر من أحواله، فأزمانه لا تسع علمي بما أعلمه منه، ولو أمليت ما أعلم من أحوالها لم تحسن أن تكتبه.
وما الدّهر أهلٌ أن يؤمّل عنده ... حياةٌ وأن يشتاق فيه إلى النّسل
يقول: الدهر ليس بأهل أن يؤمل عنده حياة؛ لقلة وفائه ! وليس بأهل أن يشتاق فيه إلى الولد.
وقال يمدحه ارتجالا، وقد سئل عن وصف فرس يهديه إليه.
موقع الخيل من نداك طفيف ... ولو أنّ الجياد فيها ألوف
الطفيف: اليسير الحقير.
يقول: الخيل عند جودك لا قدر لها، ولو وهبت منها ألوفا لاستقللتها، ولم تعتد بها.
ومن اللفظ لقطةٌ تجمع الوص ... ف وذاك المطهّم المعروف
الفرس المطهم: هو الحسن التام الخلق، الذي كل عضو منه حسن على انفراده.
يقول: من الألفاظ لفظ يجمع جميع الأوصاف، وهو المطهم المعروف. أتى بوصفه على وجه الإجمال، فجمع الوصف في أقل الألفاظ وأوجزها، ولم يذكر الوصف على سبيل التفصيل.
ما لنا في النّدى عليك اختيارٌ ... كلّ ما يمنح الشّريف شريف
يقول: ما لنا في الندى اختيار: أي ليس الاختيار في ذلك إلينا فأنت كريم، وكل ما تمنحه شريف مثلك.
وقال يمدحه وقد خيره بين فرسين: دهماء وكميت:
اخترت دهماء تين يا مطر ... ومن له في الفضائل الخير
دهماء: مضاف إلى تين أي: دهماء هاتين.
يقول: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين، وسماه مطرا على المبالغة في الجود. أي يا من له في الفضائل الاختيار. والخير: جمع خيرة.
وربّما فالت العيون وقد ... يصدق فيها ويكذب النّظر
فالت: أي أخطأت وضعفت، والهاء في فيها للدهماء المختار، أو لجملة الخيل.
يقول: أنا اخترت منها هذه الدهماء؛ لأنها أحسن في عيني، وربما لم تكن كذلك بل غيرها خير منها؛ فإن العين ربما كذبت في النظر، وربما صدقت، وقد قلت ما رأيت.
أنت الّذي لو يعاب في ملإٍ ... ما عيب إلاّ بأنّه بشر
الملأ: جماعة الأشراف، والسادة.
يقول: لو عابك عائب فيما بين الملأ، لم يجد لك عيباً إلا كونك من البشر، ومعناه لا عيب فيك؛ لأن هذا ليس بعيب.

وأنّ إعطاءه الصّوارم والخي ... ل وسمر الرّماح والعكر
العكر: جمع عكرة: وهي ما بين الخمسين إلى المئة من الإبل.
يقول: لو عابك عائب ما وجد فيك عيبا ! إلا كونك من البشر، وأنك تعطى السيوف، والخيل، والرماح، والإبل الكثيرة. وهذا ليس مما يعاب. ومثله قول الآخر:
ولا عيب في أخلاقه غير أنّه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا
فاضح أعدائه كأنّهم ... له يقلّون كلّما كثروا
يقول: يفضح أعداءه بالقهر، وإظهار عجزهم، وكلما اجتمعوا عليه كان على كسرهم أقدر، فكأنهم عند كثرتهم يقلون له، وكأن كثرتهم سبب قلتهم.
وقيل: معناه أنهم كلما كثروا وازدادوا فضلاً، إذا قيسوا به صاروا إلى الإضافة إليه في حد القلة، وصار فاضحاً لهم.
أعاذك اللّه من سهامهم ... ومخطئٌ من رميّه القمر
وقال يشكره وقد أمر سيف الدولة بإنفاد خلع إليه:
فعلت بنا فعل السّماء بأرضه ... خلع الأمير وحقّه لم نقضه
الهاء في أرضه للسماء، ذكره لأنه أراد السقف، وقيل: أراد به المطر.
وقيل: إنه كناية الأمير، فأضمره قبل الذكر، كقوله تعالى: " فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَار " .
يقول: إن خلع الأمير قد زينتنا وكستنا بأنواع الوشى، كما يكسو المطر، الأرض، ويزينها بأنواع الأنوار، وألوان الأزهار، ونحن لم نقض حق الأمير من الخدمة، ولم أقدر على أن أمدحه بما يليق بأوصافه، لقصور المدائح عن أوصافه.
فكأنّ صحّة نسجها من لفظه ... وكأنّ حسن نقائها من عرضه
شبه صحة نسج هذه الخلع بصحة معاني الممدوح في لفظه، وشبه نقاءها من الدنس بعرضه. والعرض: يمدح به الرجل، أو يذم.
وإذا وكلت إلى كريمٍ رأيه ... في الجود بان مذيقه من محضه
المذيق: المشوب. والمحض: الخالص.
يقول: إذا جعلت إلى كريم رأيه، وفوضته إليه، في الجود والكرم، ظهر لك الخالص من المشوب، والطبيعي من التكلفي.
وقال يمدح سيف الدولة:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادكار وداعه وزياله
الزيال: المزايلة: وهي المفارقة. وقيل: هو الزوال. يقال: زال زوالا وزيالاً. والكناية في به ومثاله ووداعه وزياله للخيال. وقيل: إن الكنايات ترجع إلى الحبيب. والمثال: مثال الحبيب.
يقول: إن النوم لم يسمح لي برؤية هذا الحبيب، ولا أهدي النوم إلي مثاله: أي خياله، لولا أني أطلت الفكرة بذكر وداعه ومفارقته، فرأيت في النوم ما كان هاجساً في خاطري، من ذكره وذكر وداعه.
فإن كان الضمير للكناية، فمعناه لولا تذكري لوداعه ليلاً ونهاراً، لكان النوم لا يسمح لي بهذا الخيال، لا مثال الخيال ! يشبه قول الطائي:
زار الخيال لها بل أزاركه ... فكرٌ إذا نام فكر القوم لم ينم
ومثله لآخر:
وما زال حتّى سهّل الشّوق طرقه ... وقاد إليه ناظر العين مركبا
إنّ المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله
له معان: أحدها: أن ما أرانا المنام من خيال الحبيب - عوداً على بدء - ليس خياله، بل كان خيال خياله؛ لأن النوم أرانا أولا: خياله بعد الفراق؛ فأنبهنا، وفي نفوسنا طيب ذلك الخيال، فلما أردنا النوم ثانياً: كان خيال الخيال الذي أراناه قبل ذلك، فالأول خيال الحبيب والثاني خيال ذلك الخيال.
والثاني: أنا كنا تذكرناه بعد فراقه، وأدناه في عيوننا، فكأنه لم يغب عنا، فما رأيناه في النوم خيال ذلك الخيال الذي كنا نراه بالفكر والوهم.
والثالث: أن لقاء الحبيب صار خيالا لبعد العهد، وتطاول الأيام على هجره، فلما رأيته في المنام فكأني رأيت خيال خياله؛ لأن صورته كانت لنا كالخيال؛ لزوال الانتفاع، كما لا ينتفع بالخيال.
بتنا يناولنا المدام بكفّه ... من ليس يخطر أن نراه بباله
الهاء في نراه وبباله لمن وهو الخيال.
يقول: رأيت في النوم كأني أشرب المدام من كف حبيب، ليس يخطر على باله أن نراه؛ لبعده عني وقلة تفكره في، وخلو قلبه عن ذكرى، فضلا من أن يسقيني المدام بكفه.
نجني الكواكب من قلائد جيده ... وننال عين الشّمس من خلخاله
أراد بالكواكب: الدر الذي في العقود. وشبهه بالكواكب في الحسن والصفاء، وشبه الخلخال بعين الشمس؛ لما عليه من الحمرة والاستدارة.

وقيل: أراد بذلك بعد التناول، فكنت إذا أجلت يدي بين قلائده فكأني نلت الكواكب ! وإذا لمست موضع خلخاله فكأني لمست عين الشمس؛ لتعذر الوصول.
بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم طيّ الفؤاد الواله
الهاء في الواله أصلية، وقد استعملها وصلا، وهو جائز. وقد جاء مثله في الشعر. الواله: المتحير الذاهب العقل.
يقول: بعدتم عن عيني القريحة بالبكاء عليكم، ونزلتم وسط القلب المتحير لفراقكم، فإن لم أركم بعيني رأيتكم بقلبي وخاطري.
فدنوتم ودنوّكم من عنده ... وسمحتم وسماحكم من ماله
الها في عنده وماله للفؤاد، كأن الدنو من قلبي؛ لأنه هو الذي أدناكم مني، وسمحتم علي بالوصال والزيارة، وكأن هذا السماح من مال قلبي؛ إذ لولا تفكره لما زرتموني، وذكر المال لما ذكر السماحة.
إنّي لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله
يهجرنا: فعل الطيف، والهاء في وصاله لمن وهو الحبيب.
يقول: إني أبغض خيال حبيبي في النوم؛ لأني إنما أرى خياله أيام هجر الحبيب، فوصال الخيال إنما يكون عند بعد الحبيب؛ لأن الإنسان إنما يرى خيال المحبوب عند فراقه واشتغال قلبه بذكره.
مثل الصّبابة والكآبة والأسى ... فارقته فحدثن من ترحاله
يقول: إني أبغض طيف الحبيب؛ لأن رؤيته تكون بعد الفراق، كما أبغض هذه الأشياء؛ لأنها حدثت بعد فراقه، فالطيف لما كانت رؤيته بعد فراق الحبيب كانت هذه الأمور. والصبابة: الشوق، والكآبة: الحزن والاستكانة والأسى: الحزن أيضاً.
وقد استقدت من الهوى وأذقته ... من عفّتي ما ذقت من بلباله
الهاء في بلباله للهوى.
يقول: لما حيرني وقتلني شوقه أخذت القود منه؛ من حيث أني لما ظفرت بمن أهواه، عففت عنه، فأذقت الهوى من مرارة الصبر عن الحبيب، مثل ما أذاقني من الشوق والحيرة.
ولقد ذخرت لكلّ أرضٍ ساعةً ... تستجفل الضّرغام عن أشباله
تستجفل الضرغام: تهربه وتستعجله في الهرب عن أشباله: أي أولاده.
يقول: خبأت لكل أرض ساعة صعبة من الحرب، بحيث تزعج الأسد وتستعجله عن أولاده، وتحوجه إلى الهرب خوفاً على نفسه، ولا يبالي بولده !.
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضربٌ يجول الموت في أجواله
الأجوال: جمع الجول، وهو مصدر جال يجول جولا وجولانا. وقيل: أجواله: نواحيه. والهاء في بها قيل: للساعة، وقيل للأرض. وفي بينها للوجوه وفي أجواله للضرب.
يقول: ذخرت لكل أرض ساعة تلتقي فيها الفرسان، ويضرب بعضهم وجوه بعض ضرباً، يدور الموت في نواحي هذا الضرب.
ولقد خبأت من الكلام سلافةً ... وسقيت من نادمت من جرياله
السلافة والسلاف: أرق الخمر وألطفها، وهو ما يجري من العصير قبل أن يعصر، وهو يضرب إلى الصفرة، والجريال: ما كان أحمر، وهو دون الأصفر. وقيل: الجريال: نفس الخمرة. وقيل: لونها.
يقول: خبأت لسيف الدولة أحسن الكلام وأبدعه، ومدحت غيره بما هو دونه، الذي لم أتعب فيه فكراً، ولم أبدع فيه معنى.
وإذا تعثّرت الجياد بسهله ... برّزت غير معثّرٍ بجباله
الهاء في قوله بجباله وسهله للكلام. وبرزت: أي سبقت.
يقول: إذا تعثر غيري من الخطباء في السهل من الكلام، برزت عليهم، ولم أتعثر في الصعب البعيد المرام. وجعل الكلام سهلا وجبلا مجازاً، وقيل: وصف في ذلك فروسيته. وشجاعته، وأن غيره لا يقاومه.
وحكمت في البلد العراء بناعجٍ ... معتاده مجتابه مغتاله
أي: تحكمت وصرت فيها كما اخترت والبلد العراء: الخالي الذي لا نبت فيه. والناعج: الخالص البياض من الإبل. وقيل: سريع السير، ومعتاده؛ أي قد تعود السير، والهاء: عائد إلى البلد، وكذلك فيما بعده، مجتابه: أي قاطعه بسيره، مغتاله: أي تغوله وتهلكه وتفنيه بسيره.
يمشي إذا عدت المطيّ وراءه ... ويزيد وقت جمامها وكلاله
يمشي: فعل الناعج والهاء في وراءه وكلاله: للناعج. وفي جمامها للمطي. والجمام: الراحة. والكلال: الإعياء.
يقول: إذا مشى هذا الناعج كان مشيه مثل عدو المطي خلفه، ويكون أزيد من ذلك أيضاً، وذلك في وقت راحة المطي وكلال هذا الناعج، فكيف يكون سيره وقت الجمام ؟!!
وتراع غير معقّلاتٍ حوله ... فيفوتها متجفّلاً بعقاله

وتراع: أي تخوف المطي. متجفلا: أي سريعاً.
يقول: إن هذا الناعج إذا كان معقولا بعقاله فإنه يسبق سائر المطي، وهن غير معقولات.
وفائدة قوله: وتراع. قيل: إن هذا الناعج يفزعها ويثيرها وهو معقول ويسبقها.
وقيل: أراد أنها تفزع وتخوف بقطع المفاوز، ولا يفزع هذا الناعج بل يسبقها إلى حيث يريد صاحبه.
وقيل: معناه أنها تفزع من شيء أفزعها، وهي غير معقوله، ويفرق هو معقولا، فإنه يسبقها في العدو.
فغدا النّجاح وراح في أخفافه ... وغدا المراح وراح في إرقاله
الإرقال: ضرب من السير السريع. وراح فعل النجاح. والمراح: النشاط وراح، الثاني فعل المراح.
يقول: إن النجاح غدا وراح في أخفاف هذا الناعج. أي أن من ركبه ظفر بما طلب وأدرك ما أراد، وكذلك النشاط غدا وراح في سيره: أي لا يلحقه كلال ! فهو أبدا مرح نشيط. أي أنه مبارك حيثما توجه أدرك ما حوله، فنشط ومرح.
وشركت دولة هاشمٍ في سيفها ... وشققت خيس الملك عن رئباله
الرئبال: الأسد. والخيس: الأجمة. والهاء في سيفها للدولة وفي رئباله للخيس أو للملك.
يقول: صرت شريكاً مع دولة هاشم في سيف الدولة: أي كان لي حظ فيه كما للدولة فيه حظ، وشققت أجمة الملك حتى وصلت إلى أسده، فجعله أسداً والملك خيساً له.
عن ذا الّذي حرم اللّيوث كماله ... ينسى الفريسة خوفه بجماله
عن ذا الذي الذي بدل عن المبدل. وينسى: يتعدى إلى مفعولين، فنصب الفريسة على أنه مفعوله الأول وخوفه المفعول الثاني.
يقول: شققت أجمة الملك عن أسد منع الليوث كما له: أي ليس لها كما له؛ لأنه يفضلها بخلائق كثيرة، وليس لليوث إلا الإقدام، وهذا فيه كل خصلة جميلة، ثم قال: إن هذا الأسد إذا افترس فريسة أنسى هذه الفريسة خوفه بجماله ! أي أنها إذا رأت جماله يشغلها جماله عما يلحقها من الخوف عن افتراسه، والليوث تكون قبيحة المنظر.
وتواضع الأمراء حول سريره ... وترى لمحبّة وهي من آكاله
الآكال: جمع أكل، وهو الذي يؤكل، وهي ضمير: الأمراء.
يقول: إن الأمراء يتواضعون حول سرير سيف الدولة ويظهرون المودة له، وهم من قتلاه وفرائسه. يعني أنهم يظهرون المودة خوفاً لا حباً. وقيل: هي ضمير المحبة أي أن الأمراء يحبونه حباً مفرطاً، فلفرط حبهم لا يلتمسون منه العطاء ويرون من جملة أرزاقه إياهم المحبة؛ لأنهم يرون محبته فخراً وذخراً.
ويميت قبل قتاله، ويبشّ قب ... ل نواله، وينيل قبل سؤاله
وروى: ويعيش فيكون قد طابق بين: يعيش، ويميت. يعني أنه يقتل أعداءه بالخوف قبل القتال، ويظهر السرور بالعطاء، ويعطى قبل السؤال.
إنّ الرّياح إذا عمدن لناظرٍ ... أغناه مقبلها عن استعجاله
عمدن: أي قصدن. والناظر: هو ناظر العين، وقيل: اسم الفاعل من نظر والهاء في أغناه واستعجاله للناظر وفي مقبلها للرياح.
يقول: إنه لا يحتاج في إعطائه إلى السؤال والاستعجال، كما أن الرياح إذا قصدت لناظر لا يحتاج الناظر في حال إقبالها إلى الاستعجال بل تصل إلى كل أحد وإن لم يستعجلها، فكذلك هو يعطى قبل السؤال.
أعطى ومنّ على الملوك بعفوه ... حتّى تساوى النّاس في إفضاله
يقول: نعمه قد عمت الناس كلهم، فأعطى العفاة من ماله، وعفا عن الملوك؛ بأن أسرهم ثم أطلقهم وعفا عنهم، أو ترك قتلهم والتعرض لهم، فكلهم تساووا في فضله.
وإذا غنوا بعطائه عن هزّه ... والى فأغنى أن يقولوا: واله
والى: أي تابع، وواله: أمر منه. والهاء في منه للعطاء.
يقول: إذا استغنى الناس بعطائه عن تحريكه وسؤاله، تابع العطاء وأغنى في المتابعة عن الاستمداد والسؤال.
وكأنّما جدواه من إكثاره ... حسدٌ لسائله على إقلاله
الهاء في إكثاره للممدوح. وقيل: للجدوى. وذكر على معنى النوال، والعطاء، وفي إقلاله للسائل. والإقلال: الفقر. جعل جدواه حسداً، وجعل الممدوح حاسداً، والإقلال محسوداً عليه.
يقولك إذا رأى فقيراً أكثر له العطاء، فكأنه يحسده على إقلاله: أي فقره. فهو يحب إزالته، كما يحب الحاسد زوال نعمة المحسود.
غرب النّجوم فغرن دون همومه ... وطلعن حين طلعن دون مناله
غرب: أي غبن. والهموم: جمع الهم: الذي هو الهمة.
وقيل: أراد بهمومه مقاصده.

يقول: إن همم الممدوح فوق الكواكب، وهو قد نال ما هو أبعد منها، فتغيب الكواكب دون همته، وتطلع دون مناله، فهو أعلى منالاً منها في كل حال.
واللّه يسعد كلّ يومٍ جدّه ... ويزيد من أعدائه في آله
يقول: إن الله تعالى يخصه كل يوم بسعادة، ويظفره بأعدائه، فينعم عليهم ويعفو عنهم، فيعودون أولياءه بعد أن كانوا أعداءه، وعلى هذا معناه: الخبر.
وقيل: إنه دعاء أن الله تعالى يوفقه للسعادة ويزيد الله من أعدائه في أوليائه.
لو لم تكن تجري على أسيافه ... مهجاتهم لجرت على إقباله
الهاء في إقباله لجده: أي على إقبال جده. وقيل: إنه راجع إلى الممدوح.
يقول: لو لم يقتل أعداءه بسيوفه، لقتلهم إقباله وسعادة جده، وبلغته الأقدار مراده.
فلمثله جمع العرمرم نفسه ... وبمثله انقصمت عرى أقتاله
العرمرم: الكثير. والأقتال: جمع القتل، وهو النظير في الحرب. ويقال أيضاً للعدو: قتل.
يقول: لمثل هذا الممدوح يجمع الجيش الكثير: يعني أن من كان مثله في الإقدام يفنى الجيش العظيم، ويفرق جمعه، ويقتل أبطاله.
وقيل: جمع العرمرم نفسه: معناه الفزع. يقال: جمع فلان نفسه: إذا فزع. يعني: أن العسكر العظيم من مثله يفزع، وبمثله يقتل.
لم يتركوا أثراً عليه من الوغى ... إلا دماءهم على سرباله
يقول: إن أعداءه في الحرب لم يقدروا له على شيء، سوى أنهم خصبوا ثوبه بدمائهم؛ من جرحه إياهم، وانتضاح دمائهم إليه.
يا أيّها القمر المباهى وجهه ... لا تكذبنّ فلست من أشكاله
يقول للقمر: لا تكذبن. أي لا تغتر بما سولت نفسك من الكذب، ولا تباهى، ولا تفاخر وجهه في الحسن والبهاء، ولا تغتر بما حدثتك نفسك: بأنك مثله في الحسن والعلاء، فإنها كذبتك فسلت من أمثاله.
وإذا طما البحر المحيط فقل له ... دع ذا فإنّك عاجزٌ عن حاله
وهب الّذي ورث الجدود وما رأى ... أفعالهم لابنٍ بلا أفعاله
يقول: وهب ما ورث عن آبائه من الأموال، لأنه لم ير ما بنوه من المجد وشيدوه من الفخر فخراً ما لم يفعل هو لنفسه فوق ما ورث لنفسه ما هو فخر له. كما قال بعضهم:
إنّا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومثله لابن الرومي.
وما الحسب الموروث لادر دره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا لم يكن وإن كان شعبه ... من المثمرات اعتده الناس من خطب
حتى إذا فنى التراث سوى العلا ... قصد العداة من القنا بطواله
يقول: لما أفنى بهباته ما ورث من آبائه، فلم يبق منه شيء، إلا معالي آبائه، فإنه شحيح بها، قصد الأعداء وأغار عليهم، فاحتوى على أموالهم ووهبها.
وبأرعنٍ لبس العجاج إليهم ... فوق الحديد وجرّ من أذياله
الأرعن: الجيش العظيم، والهاء في أذياله للأرعن.
يقول: قصد الأعداء بجيش عظيم، قد لبس الغبار فوق الدرع، يعني أن الغبار قد علا الفرسان، حتى صار لها كالدرع السابغة وجر من أذياله يعني به التجافيف، وأنه يسحبها لطولها.
فكأنّما قذى النّهار بنقعه ... أو غضّ عنه الطّرف من إجلاله
يقول: إن غبار الجيش قد غير ضوء النهار، وكأن الشمس قد قذيت بهذا الغبار، أو غض عينه؛ من الإعظام للممدوح؛ فالهاء: للممدوح، وقيل للجيش، وقيل للغبار.
الجيش جيشك غير أنّك جيشه ... في قلبه ويمينه وشماله
يقول: الجيش لك، وأنت عليه أمير؛ لأنك تحميه بنفسك وتذب عنه بسيفك، فكأنك جيش الجيش. والكنايات للجيش.
ترد الطّعان المرّ عن فرسانه ... وتنازل الأبطال عن أبطاله
هذا تفسير البيت الأول.
يقول: إنك تباشر الطعان الصعب عن فرسان جيشك، وتقاتل شجعان العدو عن شجعان جيشك.
كلّ يريد رجاله لحياته ... يا من يريد حياته لرجاله
يقول: كل الملوك إنما يريدون الجنود لحياة نفوسهم، حتى يدفعوا عنها الأعداء، وهو يريد الحياة؛ ليدفع عن جيشه ويصونهم.
دون الحلاوة في الزّمان مرارةٌ ... لا تحتظى إلاّ على أهواله
الهاء في أهواله للزمان.

يقول: كلا حلاوة الدنيا دونها مرارة ! فلا تنال حلاوة الزمان إلا بتجرع مرارته وأهواله ! يعني أن معالي الأمور لا تدرك إلا باقتحام القتال والحروب ومباشرة الأمور العظام، وتحمل المؤن والمغارم.
فلذاك جاوزها عليّ وحده ... وسعى بمنصله إلى آماله
يقول: فلهذا احتوى سيف الدولة على معالي الأمور دون غيره، وأدرك بسيفه ما أمل من المعالي، مالا يأمل غيره.
وقال أيضاً يمدحه:
أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ... ومن ارتياحك في غمامٍ دائم
الفضائل: جمع فضيلة، وهي كل خلق شريف. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل كريم. والارتياح: السخاء، والاهتزاز.
يقول: حصلت أنا منك بين شرف أخلاقك، وكرم أفعالك، وحللت من جودك في مطر دائم، من غمام سخائك وغزارة عطائك.
ومن احتقارك كلّ ما تحبو به ... فيما ألاحظه بعيني حالم
يقول: أنت تعطى العطايا الجليلة وتحتقرها مع عظمها ! وإني وأنا أتعجب من عظم هذا الشان، فأقدر - فيما أشاهده من فعلك - أني نائم وأن ما أراه حلم !
إنّ الخليفة لم يسمّك سيفها ... حتّى بلاك فكنت عين الصّارم
بلاك: أي جربك. فكنت عين الصارم: أي حقيقته.
يقول: إن الخليفة لم يلقبك بسيف الدولة إلا بعد أن جربك، فوجدك أمضى من السيف الصارم.
فإذا تتوّج كنت درّة تاجه ... وإذا تختّم كنت فصّ الخاتم
يقول: أنت زينة ملكه، وقوام دولته فموقعك من الخليفة موقع الدرّة من التاج، إذ هي زينته، والفص من الخاتم؛ لأن قدر الخاتم بالفص.
وإذا انتضاك على العدى في معركٍ ... هلكوا وضاقت كفّه بالقائم
يقول: إذا جردك الخليفة على أعدائه أهلكتهم، وملأ يده قائمك. يعني أنت أعظم منه قدراً، وأنفذ أمراً، وإن كنت له مطيعاً.
أبداً سخاؤك عجز كلّ مشمرٍ ... في وصفه وأضاق ذرع الكاتم
الذرع: القلب ها هنا.
يقول: من اجتهد في وصف سخائك ظهر عجزه عن بلوغ كنهه، ومن أراد أن يكتمه ضاف صدره؛ ؟ لأنه لا ينكتم.
وقال أيضاً يمدحه بحلب وقد أر له بفرس وجارية:
أيدري الرّبع أيّ دم أراقا ... وأيّ قلوب هذا الرّكب شاقا ؟!
الألف: للاستفهام. ومعناه: النفي. أي لا يدري الربع. وشاقه الحبيب: أي هيج شوقه إليه.
سأل أصحابه وقوفهم ساعة على ربع حبيبه. هل يدري الربع من قتل منا لوجوده ؟! وقلب من هيه لشوقه ؟ أراد به دم نفسه وقلبه، تغظيماً لهما.
لنا ولأهله أبداً قلوبٌ ... تلاقى في جسومٍ ما تلاقى
الهاء في لأهله للربع. وتلاقى: أصله تتلاقى في الموضعين. وما: النفي. يقول: لنا ولأهل الربع قلوب تتلاقى بالذكر، وإن كانت الجسوم متباينة في العين.
وما عفت الرّياح له محلاً ... عفاه من حدا بهم وساقا
عفا المنزل، وعفتها الرياح: يلزم ويتعدى.
يقول: إن الرياح لم تعف محلاً بهذا الربع، فقد كانت تهب الرياح عليه، وهم حلول به، فلا تمحو له رسماً، ولا تعفو له أثراً، فلما حدى بهم حادي الرحيل، وساق إبلهم سائقه، عفت منازله ودرست أطلاله، فليس للرياح فيه صنع، وإنما ذلك من صنيع من حدى إبلهم وساقها.
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمّل كلّ قلبٍ ما أطاقا
يعني أن الحب قد جار على فحملين فوق ما أطيقه من الشوق، فليت الهوى كان بالتسوية والنصفة بين العشاق. فيكون حظ كل عاشق منه قدر ما يطيقه.
نظرت إليهم والعين سكرى ... فصارت كلّها للدّمع ماقا
سكرى: أي مملوءة من الدمع. والماق: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مصب الدمع.
يقول: نظرت للتوديع عند ارتحال الحبيب وعيني مملؤة من لدمع، فلما رحلوا فاض الدمع من كل جانب، فصارت الجوانب كلها والمآق سواء في انصباب الدمع منه.
وقد أخذ التّمام البدر فيهم ... وأعطاني من السّقم المحاقا
يقول: إن البدر فيما بين أهل هذا الربع، قد أخذ التمام والكمال، وأعطاني من السقم الذي في المحاق. يعني: أنا والحبيب بمنزله القمرين، فاختص التمام به، والمحاق بي.
وبين الفر والقدمين نورٌ ... يقود بلا أزمّتها النّياقا
النور: قيل: أراد به جسمها، وقيل: أراد به الوجه، وفاعل يقود ضمير النور.

يقول: بين أعلى هذه المرأة، وبين قدميها جسم، أو وجه، له نور. مضىء بحيث يقود الإبل بلا زمام؛ لأن الإبل - لحسنها - تنقاد لها، والهاء في أزمتها للنياق، فهو مؤخر في الرتبة وإن كان مقدما في اللفظ.
وطرفٌ إن سقى العشّاق كأساً ... بها نقصٌ سقانيها دهاقا
وطرف عطف على قوله: نور يعني لها طرف إذا سقى عشاقة كأساً من الهوى ناقصة، سقانيها مملوءة. أي حبه لطرفها أكثر من حب كل عاشق له.
وخصرٌ تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدثٍ نطاقا
وخصر أيضاً عطف على ما تقدم من البيت، والكنايات للخصر يقول: إن خصرها إذا بدا نظرت إليه العيون من كل جانب، وثبتت فيه شاخصة متحيرة، لا يمكن للناظر أن يصرف عينه، فيصير طرف الناس بإحاطته به كالنطاق المحيط بالخصر، وأخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
أحاطت عيون العالمين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق
وقال ابن جني: معناه أن الأبصار تؤثر فيه لنعومته، ورقة بشرته ! فيصير ذلك الأثر الحاصل عن الأبصار حوالي خصره كالنطاق. والأول أولى.
سلي عن سيرتي فرسي ورمحي ... وسيفي والهملّعة الدّفاقا
الهملعة: الناقة الخفيفة. والدفاقا. بكسر الدال وفتحها: الكثيرة السير فكأنها تتدفق كما يتدفق الماء، إذا جرى بشدة. والسيرة: الطريقة، والعادة.
يقول لعاذلته؛ سلى عن شجاعتي: فرسي ورمحي، وعن السير: ناقتي، فإنها تخبرك بأفعالي، فلا أصغو إلى عذلك.
تركنا من وراء العيس نجداً ... ونكّبنا السّماوة والعراقا
نكبنا: أي بعدنا، وعدلنا عنه. والسماوة: مفازة بين الشام والعراق.
يقول: وتركنا نجداً وراء ظهورنا، وعدلنا عن السماوة والعراق، وقصدنا سيف الدولة، بحلب.
فما زالت ترى والليل داجٍ ... لسيف الدّولة الملك ائتلاقا
الائتلاق: اللمعان.
يقول: ما زالت العيس ترى لمعان غرة سيف الدولة في ظلمة الليل، فتهتدي بضوء غرته في طريقها إليه.
وقيل: أراد أن مقصودنا لما كان سيف الدولة، كان الليل لنا بمنزلة النهار عند قصدنا إياه، من الفرح.
وقيل: أراد أنه قد بلغ من كرمه أن يوقد النار للضيوف في كل موضع، فترى العيس ذلك وتستأنس به. والأول هو الظاهر.
أدلّتها رياح المسك منه ... إذا فتحت مناخرها انتشاقا
الانتشاق: طلب الرائحة بالأنف، والهاء في منه للممدوح.
يقول: العيس كانت تستدل على مكانه بما تنتشق من رائحته، فكانت رياح المسك أدلة لها إليه إذا فتحت العيس مناخرها للانتشاق، فكأنه عبر عن كرمه بالمسك، وعن صيته بالرياح.
أباح الوحش ... يا وحش الأعادي فلم تتعرّضين له الرّفاقا ؟
تقدير البيت: يا وحش أباح سيف الدولة. الوحش الأعادي. فالوحش أحد المفعولين، والأعادي المفعول الآخر. وروى: أباحك أيها الوحش الأعادي والرفاق: هم قوم يجتمعون في السفرة. وكان الأسد افترس له ناقة في قصد مسيره إلى سيف الدولة. فيقول للوحش: يا وحش أباح لك سيف الدولة الأعادي؛ فإنه يقتلهم ويطرحهم لك، فلم تتعرضين الرفاق القاصدين إليه ؟ لأنك مستغنية عن ذلك بما مكنك من لحوم قتلاه.
ولو تبّعت ما طرحت قناه ... لكفّك عن رذايانا وعاقا
ما طرحت: في موضع نصب، لأنه مفعول تبعت أي لو تبعت مطروح قناته. والرذايا: جمع رذية، وهي البعير الذي قام من الإعياء، ولم يقدر على السير.
يقول للوحش: لو تبعت ما طرحت رماح سيف الدولة من القتلى لمنعك عن أكل الإبل المعيبة، لأن لك بقتلاه مندوحة عن إبلنا.
ولو سرنا إليه في طريق ... من النّيران لم نخف احتراقا
يقول للوحش: كيف تعرضت لنا ونحن نقصده ؟ ولم تخافي صولته وهيبته، فإن لو سرنا في طريق يلتهب ناراً، وعلمت النار أنا قاصدوه لم تضرنا ! ولم تقدر على إحراقنا، يعني أن كل شي من الوحش والعاتين في الأرض يخافه، حتى لو تصور في الجمادات أن تخافه لخافته.
إمامٌ للأئمّة من قريشٍ ... إلى من يتّقون له شقاقا
الهاء في له قيل: راجع إلى إمام، ويجوز أن يكون راجعاً إلى ضمير من تقديره: إلى من يتقون شقاقه. فلما قدمه أدخل فيه اللام كقوله تعالى: " لِلّرؤْيَا تَعْبُرُون " والشقاق: العصيان والمخالفة.

يقول: هو إمام للأئمة من قريش: أي الخلفاء من ولد العباس. يعني أن الأئمة إذا ساروا إلى عاص عليهم، خارج عن طاعتهم، كان سيف الدولة إمامهم في مقدمة جيوشهم، فهو لهم إمام في كل حرب يتبعون خطوه، ويرجعون إلى رأيه ومثله للبحتري:
ولو جمع الأئمّة في مكانٍ ... تكون به لكنت لهم إماما
يكون لهم إذا غضبوا حساماً ... وللهيجاء حين تقوم ساقا
يقول تأكيداً لما تقدم: إن الأئمة إذا غضبوا على مخالف، كان لهم سيفاً يقتلون به، ويكون ساقاً للحرب حين تقوم الحرب، فقوام الحرب به كما يقوم الإنسان على ساق.
فلا تستكثرنّ له ابتساما ... إذا فهق المكرّ دماً وضاقا
فهق: امتلأ.
يقول: لا تستعظم منه الابتسام، وإشراق الوجه عندما امتلأ مكان الحرب بالدماء، وصار كالسيول.
فقد ضمنت له المهج العوالي ... وحمّل همّه الخيل العتاقا
فاعل ..ضمنت: العوالي. ومفعوله: المهج.
يقول: إنما يبتسم في حال شدة الحرب؛ لأن الرماح قد ضمنت له نفوس الأعداء، فوثق بها، وحمل خيله العتاق همته، فكما أنه لا يولى عن العدو، كذلك خيله؛ لتحملها همته.
إذا أنعلن في آثار قومٍ ... وإن بعدوا، جعلنهم طراقا
الطراق: نعل يطرح تحت النعل يؤكد بها.
يقول: إذا أنعلت لطلب قوم أدركتهم، وجعلتهم نعلاً ثانية، لأنها تطؤهم وتدوسهم، وتجعلهم بين حوافرها، فتلحق بهم وإن كانوا على مسافة بعيدة وعليها نعلها الأولى فيصيروا نعلا ثانية.
وإن نقع الصّريخ إلى مكانٍ ... نصبن له مولّلةً دقاقا
نقع: ارتفع. وروى: وقع الصريخ والصريخ، والصراخ: الصوت. والمؤللة: المدققة المحددة، وهي الآذان ها هنا.
يعني: أن خيله قد تعودت إجابة الصارخ، واستغاثة المستغيث، فإذا ارتفع صوت مستغيث من مكان ووصل إليها. نصبت له آذانا محددة دقاقا. لاعتيادها إجابة الصارخ.
فكان الطّعن بينهما دراكاً ... وكان اللّيث بينهما فواقا
الفواق: الوقت الذي بين الحلبتين. ودراكا: أي متتابعة.
يقول: بين دعاء المستغيث، وبين إجابة سيف الدولة، لا يكون الليث إلا قدر ما بين الحلبتين، حتى يلحق به، ويداركه الطعن في عدوه: أي يتابع. ويروى بينهما جواباً أي يكون هناك الطعن بدل الكلام.
ملاقيةً نواصيها المنايا ... معاودةً فوارسها العناقا
نصب ملاقية ومعاودة على الحال أي لحقن الصريخ على هذا الحال.
يقول: إن الخيل تلاقي الموت بنواصيها، وتعانق فرسانها الأبطال:
تبيت رماحه فوق الهوادي ... وقد ضرب العجاج لها رواقا
الرواق: مقدم البيت. وقيل: سقف البيت المقدم، والهاء في رماحه للممدوح وفي لها للخيل والهوادي.
يقول: تبيت رماح سيف الدولة فوق أعناق الخيل في حال قد ضرب العجاج للخيل، ولهواديها، رواقا؛ لكثرته وتكاتفه عليها.
تميل كأنّ في الأبطال خمراً ... عللن به اصحباحاً واغتباقا
روى يميل وتميل يذكر ويؤنث، ولأنه أراد به الدم.
يقول: تميل هذه الرماح عند طعنه بها في أجسام الأعداء، فكأنها قد اصطحبت واغتبقت في الأبطال من الخمرة فصارت من شربها سكارى.
تعجّبت المدام وقد حساها ... فلم يسكر وجاد فما أفاقا
تعجبت الخمر حين شربها سيف الدولة ولم يسكر؛ لأنه شرب المسكر لا الجود ! وقيل: يمدحه بالإسراف في الجود والقوة على الشرب فهو سكران من الجود، وصاح من الشراب الذي شربه.
أقام الشّعر ينتظر العطايا ... فلمّا فاقت الأمطار فاقا
يقول: قام شعري ينتظر عطاياك، حتى يكون على قدرها، فلما فاقت عطاياك الأمطار، فاق شعري الأشعار.
وزنّا قيمة الدّهماء منه ... ووفّينا القيان به الصّداقا
الهاء في منه وفي به للشعر.
يقول: جازيتك على ما أعطيتني بمدحي إياك، فوزنت لك ثمن الفرس، ومهر الجارية.
وقيل: معناه أن عطاياك لما فاقت العطايا صار شعري الذي يفوق سائر الأشعار وفاء لها.
وحاشا لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الّذي لك أن يباقى
المباراة: المعارضة بالفعل. أي يفعل مثل فعله. ويباقي: يغالب في البقاء. واعتذر بهذا عن قوله: وزنا قيمة الدهماء وقيل: هو اعتذار من قوله: فلما فاقت الأمطار فاقا يعني: حاشا لجودك وكرمك أن يعارض بحمد، فجودك أكثر، ومدى كرمك أطول.

ولكنّا نداعب منك قرماً ... تراجعت القروم له حقاقا
المداعبة: الممازحة، والدعابة: المزاح. والقوم، الفحل الكريم من الإبل. والحقاق: جمع الحق، وهو الذي دخل في السنة الرابعة، والأنثى حقة.
يقول: جودك لا يقاومه شكر، وإنما قلت هذا مزحاً، وأنت سيد تفضل جميع السادة، فكل سيد قيس إليك وقوبل بك يعود ذليلا كالحقة إذا قيست إلى القرم، فكما أنه يفضلها كذلك أنت تفضل كل سيد كريم.
فتىّ لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
الوثاق: بالكسر والفتح ما يشد به الأسير.
يقول: هو لا يسلب قتيله أبداً ويفك الغل من الأسارى بالعفو والإحسان.
ولم تأت الجميل إليّ سهواً ... ولم أظفر به منك استراقا
يقول: لم يكن إحسانك إلي عن غلط منك، ولا عن خديعة واستراق مني له، ولكني نلته باستحقاق، وأحسنت إلي بعد الامتحان. والهاء في به يعود إلى الجميل.
فأبلغ حاسديّ عليك أنّى ... كبا برقٌ يحاول بي لحاقا
كبا الفرس يكبو: إذا عثر.
يقول: أبلغ من يحسدني على محلي عندك، ويحاول لحاق غايتي في مدحك: أن البرق إذا أراد اللحاق بي فإنه يكبو خلفي، فكيف يدركني ؟! ويحاول إدراك محلي.
وقيل: هذا أمر للممدوح ويقتضي أن يكون دون الأمر، وذلك قبيح، ولكنه لما قال: حاسدي عليك أخرجه عن حد القبيح بأن بين: أن الحسد كان لاختصاصه.
وهل تغني الرّسائل في عدوّ ... إذا ما لم يكنّ ظبي رقاقا
رجع عن قول: حاسدي وقال: الرسالة لا تشفيني منهم، إلا أن يكون بدلها السيف، فأقتلهم وأستريح منهم، والكناية في قوله: إذا ما لم يكن للرسائل.
إذا ما النّاس جرّبهم لبيبٌ ... فإنّي قد أكلتهم وذاقا
تقديره: إذا ما الناس جربهم لبيب وذاق، فإني قد أكلتهم.
يقول: إني أعرف بأحوال الناس من كل عاقل، فأنا بمنزلة الآكل وغيري كالذائق.
فلم أر ودّهم إلاّ خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
يقول: جربت الناس فوجدت باطنهم بخلاف ظاهرهم في الصداقة، ووجدتهم منافقين في دينهم ! قال علي بن عيسى الربعي: إن أبا الطيب كان يردد مع نفسه هذين البيتين كل يوم أكثر من خمسين مرة.
يقصّر عن يمينك كلّ بحرٍ ... وعمّا لم تلقه ما ألاقا
ألاق يليق إلاقة، ولاق يليق: إذا أمسك وحبس.
يقول: كل بحر يقصر عن جود يمينك، وما أمسكه البحر من جواهره، ومن بابه الذي هو فيه، يقصر عما لم تمسكه من العطاء، فيكون ما من عطائك أكثر من جواهر البحر ومائه.
ولولا قدرة الخلاّق قلنا ... أعمداً كان خلقك أم وفاقا ؟
يقول: لولا علمنا بقدرة الله عز وجل، على ما يعجز عنه كل قادر، ويخرج عن العادة، لشككنا في خلقك ! أوقع عن قصد واتفاق من غير مانع !؟
فلا حطّت لك الهيجاء سرجاً ... ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا
يقول: لا زالت خيالك مسرجةً أبداً في الحرب، ولا ذاقت الدنيا مرارة فراقك.
وقال يمدحه ويرثي ابن عمه أبا وائل تغلب بن داود، في جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة:
ما سدكت علةٌ بمورود ... أكرم من تغلب بن داود
ما سدكت: أي ما علقت. يقال: سدك به، لصق به، إذا لازمه ولم يفارقه. والمورود: المحموم الذي تتردد عليه الحمى كل يوم.
يقول: ما دامت علة على مريض ، أكرم من تغلب بن داود. يعني أنه أكرم من كل مريض طال عليه مرضه.
يأنف من ميتة الفراش وقد ... حلّ به أصدق المواعيد
الميتة: الهيئة. الجلسة.
يقول: كان يأنف من أن يموت على فراشه؛ بشجاعته في حال قد نزل به - وهو - الموت الذي هو أصدق المواعيد.
ومثله أنكر الممات على ... غير سروج السّوابح القود
السابح: الفرس السهل، الذي يمد ذراعيه في عدوه، كأنه يسبح. والقود: جمع أقود، وهو الطويل العنق.
يقول: من كان مثله في الشجاعة أنكر هذه الموتة، يعني أنه لا يرضى الموت إلا على سروج الخيل السوابح الطوال الأعناق.
بعد عثار القنا بلبّته ... وضربه أرؤس الصّناديد
العثار: السقوط على الوجه، وأراد ها هنا سقوط الرماح عليه. واللبة: النحر. والصناديد: السادات، وقيل: الشجعان.
يقول: إن مثله في شجاعته ينكر موته على فراشه، بعد مباشرته الحروب، وكثرة وقع الرماح بصدره، وضرب رءوس كثير من الشجعان الكرام.

وخوضه غمر كلّ مهلكةٍ ... للذّمر فيها فؤاد رعديد
الغمر: الماء الكثير، وجعل المهلكة غمراً اتساعاً، وأراد به معظمها، وقيل: أراد وسطها، والذمر: الشجاع، والرعديد: الجبان، الذي يرتعد من شدة الخوف، وقوله: للذمر إلى آخره. صفة للمهلكة.
يقول: إنه ينكر الموت على الفراش بعد خوض المهالك التي يصير قلب الشجاع فيها كقلب الجبان المرتعد من شدة الخوف، ومن كان هذه حاله، يستنكر موته على فراشه.
فإن صبرنا فإنّنا صبرٌ ... وإن بكينا فغير مردود
الصبر: جمع صابر، وقيل: جمع صبور.
يقول: إن صبرنا على هذه المصيبة، فكذلك عادتنا، وإن بكينا عليه، فغير مستنكر لعظم المصيبة.
وإن جزعنا له فلا عجب؛ ... ذا الجزر في البحر غير معهود
الجزر: نقصان الماء. والمد: زيادته.
يقول: إن جزعنا عليه فليس بعجب، لأن هذا الجزر في البحر غير معهود. يعني أن مثل هذا المصاب لم نعهده لنصب عليه، وعبر عن الرجل بالبحر، وعن المصيبة بالجزر، يعني: إنا وإن رأينا المصائب قبل هذا. فلم نر مثل هذه المصيبة، فهي جزر غير معهود على هذا الوجه.
وقيل: معناه أنه كالجزر لم يعهد في البحار، وإنما يكون في الأنهار، فهذا أمر هائل عجب، فجزعنا له غير عجب.
وقيل: أراد بالبحر سيف الدولة، ومعناه أن موت هذا الرجل كالجزر العظيم في البحر، الذي ليس بحر أعظم منه، وهو غير معهود. أي لم يمت لسيف الدولة أحد أجل منه.
أين الهبات الّتي يفرّقها ... على الزّرافات والمواحيد ؟؟
الزرافات: الجماعات. والمواحيد: جمع الموحد.
يقول: أين المواهب التي كان يفرقها على الجماعات والآحاد من قصاده.
سالم أهل الوداد بعدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
يقول: مات بموته أهل وده، فمن سلم منهم، فإنما يسلم لتجرع الحزن لا لأن يخلد في الدنيا ويدوم له البقاء، لن كلا يموت.
فما ترجّى النّفوس من زمنٍ ... أحمد حاليه غير محمود ؟!
يقول: أي رجاء يكون للإنسان في الدنيا، ويكون أحمد حاليه وهو البقاء غير محمود ! لأنه مشوب بأنواع من الحزن والمكاره، وغايته الموت.
إنّ نيوب الزّمان تعرقني ... أنا الّذي طال عجمها عودي
نيوب: جمع ناب في الكثرة، وتعرقني: أي ما علي من اللحم. والعراق: فجربني حتى عرفني؛ لكثرة تقلي لصروفه.
وفىّ ما قارع الخطوب وما ... آنسنى بالمصائب السّود
المقارعة: المضاربة. والخطوب: الأمور العظيمة. والمصائب السود: هي الشديدة التي يسود بها البصر. وقيل: وصفها بالسود للبس الحداد فيها، لشدتها.
يقول: فيّ من الصبر ما يقاوم الخطوب، ويؤنسني بالمصائب الشديدة.
ما كنت عنه إذا استغاثك يا ... سيف بني هاشم بمغمود
غمدت السيف وأغمدته: إذا أدخلته في الغمد، وهو قرابه.
يقول: استغاث بك وهو في أسر الخارجي، فلم تك بمغمود عنه، ومغيب عن نصرته وإغاثته، فلو قدرت الآن على تخليصه من الموت لخلصته، لكن لا يقدر أحد على دفع الموت.
يا أكرم الأكرمين يا ملك الأم ... لاك طرّاً يا أصيد الصّيد
الأصيد: المتكبر المائل العنق من الكبر، وجمعه صيد. والأملاك جمع في القلة وفي الكثرة: الملوك.
قد مات من قبلها فأنشره ... وقع قنا الخطّ في اللّغاديد
أنشر الله الموتى فنشروا هم: أي أحياهم الله فحيوا. واللغاديد: جمع لغدوج، وهي لحم باطن اللهوات، وهي أيضاً اللغنون. والنغنغ.
يقول: كان قد مات من قبل هذه المرة، أو هذه الحالة حين أسره الخارجي، فأحياه وقع الرماح الخطية، في اللغاديد. يعني: أن سيف الدولة أوقع بالخارجي واستنقذه منه، بعد ما قتل منه خلقاً كثيراً.
ورميك اللّيل بالجنود وقد ... رميت أجفانهم بتسهيد
رميك: عطف على قوله: وقع الرماح.
أي أنشره بعد موته، قصدك الخارجي بجنودك، وسيرك إليه ليلاً، حتى طلعت عليهم مع الصبح.
فصبّحته رعالها شزباً ... بين ثباتٍ إلى عباديد
الهاء في صبحته للمرثى ورعال الخيل: أوائلها، الواحد رعيل ورعلة، والهاء في رعالها للجنود. والشزب: الضوامر. والثبات: الجماعات. والعباديد: المتفرقون يميناً وشمالاً.
يقول: جاءت هذا الرجل أوائل خيلك يا سيف الدولة، وقت الصبح، جماعة ومتفرقين، حتى خلصته من أيدي بني كلاب.

تحمل أغمادها الفداء لهم ... فانتقدوا الضّرب كالأخاديد
الهاء في أغمادها للسيوف، وذكر الجنود يدل عليها، ويرجع إلى الجنود إذ لا بد من كون أغماد السيوف معهم؛ لكون السيوف فيها. والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض، وشبه الضربة العظيمة بها.
يقول: كانوا ينتظرون الفداء فجئتهم بخيلك، وفي أغماد سيوفهم الفداء، وهي السيوف ونقدوهم ضرباً فانتقدوا وكل شربة كأنها أخدود.
موقعه في فراش هامهم ... وريحه في مناخر السّيد
الفراش: عظام الرأس. والسيد: الذئب، وجمعه السيدان. والهاء موقعه راجعة إلى الضرب. والموقع: مصدر، وموضع الوقوع.
يقول: موضع هذا الضرب في رءوس - بني كلاب، ولكن ريحه في مناخر الذئاب؛ لأنها أكلتهم بعد ما صاروا جيفاً، فوصلت روائحهم إلى مناخرهم.
وقيل: معناه أنه إذا وقع بهم هذا الضرب، تطاير عنه الدم، وانتشرت رائحته إلى مناخر الذئب، واستدل به على القتلى، فأتى إليها وأكلها.
أفنى الحياة الّتي وهبت له ... في شرفٍ شاكراً وتسويد
شاكراً: نصب على الحال. وروى: في شامخ، وباذخ أي عال. والتسويد: السيادة.
يقول: أفنى أبو وائل الحياة التي وهبتها له حين استنقذته من يد الخارجي في شرف وزيادة، وهو لك شاكراً ولإحسانك إليه ناشراً.
سقيم جسيم، صحيح مكرمةٍ ... منجود كربٍ، غياث منجود
سقيم وما بعده نصب على الحال. والمنجود: المكروب.
يقول: أفنى الحياة التي وهبتها له وهو سقيم الجسم، ولكن مكارمه صحيحة، وهو منجود كرب: أي مجهود كرب العلة، وهو مع ذلك غياث كل مكروب. وهذا يدل على أنه لم يزل مريضاً منذ تخلص إلى أن مات.
ثمّ غدا قدّه الحمام، وما ... تخلص منه يمين مصفود
القد: السير. المقدود. والمصفود: المقيد المشدود.
يقول: كان أسيراً في يد الخارجي، فخلصته من أسره، ثم مات أسيراً للموت الذي لا يقدر أحد على الخلاص منه ! فمن صار مقيداً مغلولاً للموت، لم يخلصه أحد من قيده.
لا ينقص الهالكون من عددٍ ... منه عليّ مضيّق البيد
النقص ها هنا متعد والهاء في منه راجعة إلى العدد.
يقول: لا ينقص من هلك من عدد يكون من ذلك العدد سيف الدولة الذي يضيق المفاوز بجيوشه، ففيه خلق من كل هالك، وبدل من كل ناقص.
تهبّ في ظهرها كتائبه ... هبوب أرواحها المراويد
الهاء في ظهرها راجع إلى البيد وكذلك في أرواحها والمراويد: واحدها مرواد، وهي التي تجىء وتذهب. وقيل: هي الريح اللينة السهلة.
يقول: أن جيوشه تجري في المفاوز مجرى الرياح، غير مسترخية ولا ضعيفة، وخص المراويد؛ لأنه أراد أن عساكره جرارة لا تسير إلا بالهويني؛ من كثرتها.
أوّل حرفٍ من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
شبه آثار سنابك الخيل على الأحجار الصلبة بأول حرف من اسم سيف الدولة وهو العين من علي وهو يشبه أثر السنابك.
مهما يعزّ الفتى الأمير به ... فلا بإقدامه ولا الجود
الأمير رفع لأنه اسمه، والهاء في به تعود إلى مهما لأنه اسم موضوع للشرط، ومعناه مهما عزى الفتى: الذي هو الأمير سيف الدولة فلا يعزى بشجاعته وجوده، لأنهما لا يفارقانه أبداً، ويجوز أن يكون دعاء ومعناه: فلا عزى بهاتين الخصلتين؛ لأنهما متى سملا له فما سواهما حلل، وروى: مهام يعز، فيكون الفتى فاعله، والأمر ينصب لأنه مفعوله، ومعناه: مهما يعزيه بإقدامه وجوده.
ومن منانا بقاؤه أبداً ... حتّى يعزّى بكلّ مولود
يجوز من بالفتح بمعنى: الذي، فيكون عطفاً على قوله: فلا بإقدامه ولا الجود أي فلا يعزى بإقدامه وجوده، ونفسه التي نتمنى أن تبقى هنا أبداً، ويهلك كل مولود، حتى نعزيه بهم. والمراد: أنه لا يعزى بمصبة في نفسه. ويجوز من بالكسر فيكون مستأنفاً، والمعنى أن مرادنا أن يبقى. هو إلى أن يعزى بكل مولود ولد.
وقال أيضاً يمدحه وقد ركب سيف الدولة يشيع عبده يماك لما أنفذه في المقدمة إلى الرقة فهاجت ريح شديدة. فقال:
لا عدم المشيّع المشيّع
ليت الرّياح صنّعٌ ما تصنع

روى الأول بالكسر، والثاني بالفتح. وقد روى بالكسر، من ذلك يقول داعياً له: لا عدم يماك المشيع، سيف الدولة المشيع أو لا عدم سف الدولة غلامه المشيع، وهذا أيضاً يتضمن الدعاء لسيف الدولة. ثم قال: ليت الرياح كانت تفعل مثل فعله، لأن أفعاله تزيد على فعل الرياح.
بكون ضرّاً وبكرت تنفع
وسجسجٌ أنت وهنّ زعزع
وواحدٌ أنت وهنّ أربع
وأنت نبعٌ والملوك خروع
يقول مفضلاً له على الرياح: إنها تضر، وتنفع أنت. وقيل: إنه اتفق هبوب الريح الشديدة فذكر ذلك.
والسجسج: اللينة. والزعزع: الشديدة. يعني: هي شديدة صعبة، وأنت نفع خالص كالريح السجسج.
والرياح أربع: جنوب، وشمال، وصبا، ودبور، وأنت واحد تقوم مقامها أجمع. وقيل: أراد لا نظير له والريح له نظير.
والنبع: شجر صلب يتخذ منه القسى، والخروع: شجر ضعيف. شبه شجر التين. يعني أنت أفضل من الملوك، كالنبع أفضل من الخروع.
وقال أيضاً يمدحه وهو سائر يريد الرقة، وقد اشتد المطر بموضع يعرف بالثديين.
لعيني كلّ يومٍ منك حظّ ... تحيّر منه في أمر عجاب
العجاب: أبلغ من العجيب. والهاء في منه للحظ.
يقول: إن لعيني منك كل يوم حظاً ! يتحير من ذلك الحظ، ويتعجب منه.
حمالة ذا الحسام على حسامٍ ... وموقع ذا السّحاب على سحاب
حمالة: أي ذلك العجاب هو حمالة. هذا هو العجاب.
يقول: أرى أمراً عجيباً وهو حمالة السيف، وقعت على السيف، الذي هو سيف الدولة، لأنه سيف تقلد سيفاً، وكذلك وقوع السحاب الذي هو المطر، على سيف الدولة، الذي هو كالسحاب جوداً.
وزاد المطر فقال فيه أيضاً
تجفّ الأرض من هذا الرّباب ... ويخلق ما كساها من ثياب
الرباب: السحاب الأبيض، وأراد تجف الأرض من مطر هذا الرباب فحذف المضاف.
يقول: تجف الأرض من هذا المطر، وكذلك يخلق ما كسى هذا المطر الأرض من أثواب الربيع وأنواع الأزهار، وألوان الأنوار.
وما يتفكّ منك الدّهر رطباً ... ولا يتفكّ غيثك في انسكاب
يقول: إن الأرض تجف من هذا المطر، ولا يزال الدهر من سحاب جودك رطباً ولا يزال جودك متصلاً، فيبقى أثره على الدهر.
تسايرك السّواري والغوادي ... مسايرة الأحبّاء الطّراب
تسايرك: أي تسير معك. والطراب: جمع طرب، وهو الذي استخفه الشوق.
يقول: إن السحب التي تأتي ليلا والتي تأتي غدوة تسير معك حيث سرت، كما يسير الحبيب مع حبيبه، إذا طرب إليه واستخفه الشوق نحوه.
تفيد الجود منك فتحتذيه ... وتعجز عن خلائقك العذاب
تفيد: أي تستفيد، والتاء للسواري والغوادي. يقال: أفاد واستفاد والاحتذاء: أن تفعل مثل ما فعل صاحبك. ويروى فتحتديه: أي تطلب حدى جودك.
يقول: إن السحاب تسايرك حتى تستفيد الجود منك، وتحذو على حذوك من الجود، فهي وإن استفادت عنك الجود احتذاء، تعجز عن أخلاقك العذبة.
وأجمل سيف الدولة ذكره وهو يسايره في طريق آمد فقال.
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي النّدى ويذاع عنك فتكره
يقول: أنا إذا ذكرت جودك، وأثنيت عليك بإحسانك كنت بمنزلة من ينم عليك، ويفشي أسرارك؛ لأنك تفضل على الناس، وتستره، وتكره أن يظهر ذلك منك، فأنا إذا أظهرته كنت في حيز الواشين بك.
وإذا رأيتك دون عرضٍ عارضاً ... أيقنت أنّ اللّه يبغي نصره
يقول: إذا رأيتك عارضاً دون عرض إنسان، وذاباً عنه تيقنت أن الله تعالى ينصره على أعدائه.
وإنما قال ذلك؛ لأن سيف الدولة أحسن ذكره.
فقال: إذا أثنيت علي، لم أبال بمن عابني؛ وعلمت أن الله تعالى ينصرني على من يطعن علي ذنباً من عرضي.
وفي قافية البيتين اضطراب لأنا إن جعلناها رائية، فالهاء تكون وصلاً، وهذا لا يجوز؛ لأن الهاء أصل في البيت الأول، وهو قوله: فتكره وفي الثاني ضمير وهو نصره فالبيت الأول هائي والثاني رائي، وإن جعلناها هائية فالثانية تكون رائية لما بينا: أن الهاء أصل في الأول، ووصل في الثاني. والكلام في هذا المعنى يطول، وموضعه كتاب القوافي، وقيل القافية رائية وقد جاء مثل هذا في الشعر القديم، وقد تركت ذكره لئلا يطول.
وزاد سيف الدولة في وصفه فقال له.
ربّ نجيعٍ بسيف الدّولة انسفكا ... وربّ قافيةٍ غاظت به ملكا

النجيع: الدم الطوى، وقيل: اليابس، وقيل: الخالص.
يقول: رب دم أجراه سيف الدولة، ورب قصيدة نظمت في مدحه، أو نظمها الشعراء في مدحه، فغاظ الملوك حسنها، وحسدوه حيث قصروا عن صفاته وخصاله.
من يعرف الشّمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرّمكا
يقول: مثلك مثل الشمس، من عرفها لا ينكر مطالعها؛ لشهرتها، وفضلها، فكذلك أنت لا ينكر فضلك، وعلو محلك؛ فلهذا قصدتك دون سائر الملوك. وكذلك مثلك مع الملوك. مثل الخيل الجياد مع الرمك: وهي الإناث من البراذين.
تسرّ بالمال بعض المال تملكه ... إنّ البلاد وإنّ البلاد وإنّ العالمين لكا
يقول: نحن من جميع مالك، فأنت إذا وهبت لنا مالك فقد سررت بمالك بعض مالك الذي تملكه، لأنك تملكت البلاد والعباد، فكأنك وهبت مالك، من مماليكك، فالكل عائد إليك.
وقال يخاطب سيف الدولة وقد سار يريد آمد وتوسط جبالاً:
يؤمّم ذا السّيف آماله ... ولا يفعل السّيف أفعاله
وروى: يؤمل.
يقول: هذا السيف يقصد إلى آماله ويدركها بسعيه، ولا يفعل سيف الحديد مثل فعله، ولا يمضي مضاءه.
إذا سار في مهمةٍ عمّه ... وإن سار في جبلٍ طاله
طاله: أي علاه. يعني إذا سار في البر ملأه بخيله، أو بخيره وبركته أو هيبته، وإذا سار في الجبل: علاه وغطاه بجيشه. وقيل: علاه من حيث القدر والجاه، فهو أعلى منه وأعظم. وقيل: علاه بكثرة الخير والبركات.
وأنت بما نلتنا مالكٌ ... يثمّر من ماله ماله
نلتنا: أي أعطيتنا.
يقول: أنت بما أعطيتنا من العطايا، كالمالك الذي يكثر ماله بماله ويصلحه به، لأنا عبيدك، والدنيا كلها لك، وهذا كقوله: تسر بالمال.
كأنّك ما بيننا ضيغمٌ ... يرشّح للفرس أشباله
الضيغم: الأسد، وهو فعيل من الضغم: وهو العض والترشيح: التعليم والتدريب. ويروى: يحرض والفرس: الاصطياد، وأصله دق العنق.
يقول: أنت تعلمنا الحرب والشجاعة، كالأسد يعلم أولاده الاصطياد.
ونزل سيف الدولة آمد، وكثر المطر بها، ودعا أبا الطيب، فدخل وهو يشرب، فقال له: قال بعض الناس، في قولك:
ليت أنّا ارتحلت لك الخي ... ل وأنّا إذا نزلت الخيام
جعل الخيام فوقك، وعرض بجليس له. فأجابه أبو الطيب، وأراد بهذا قطع الكلام.
لقد نسبوا الخيام إلى علاءٍ ... أبيت قبوله كلّ الإباء
يقول: نسبوا الخيام إلى العلاء، فأبيت أنا قبوله، وامتنعت منه كل الامتناع، لأني لا أسلم أن تكون السماء فوقك، فكيف الخيام ؟!
وما سلّمت فوقك للثّريا ... ولا سلّمت فوقك للسماء
وقد أوحشت أرض حتّى ... سلبت ربوعها ثوب البهاء
يقول: إني لم أسلم أن السماء والثريا فوقك؛ لأن اعتقادي أنها دونك، وأنت فوقها ! وكيف أسلم أن الخيام فوقك مع أنها دونك ؟!
تنفّس والعواصم منك عشرٌ ... فتعرف طيب ذلك في الهواء
تنفس: أي تتنفس، فحذف تاء الخطاب. والعواصم: بلدان كانت من أعمال سيف الدولة، فتعرف: أي العواصم.
يقول: إذا تنفست وبينك وبين العواصم مسرة عشرة ليال، عرفت العواصم طيب نفسك في الهواء !! وأراد أهلها، وبالطيب: العدل والإحسان.
وذكر سيف الدواة لأبي العشائر جده وأباه، وفي نسخة ذكر سيف الدولة جد أبي العشائر فقال أبو الطيب:
أغلب الحيّزين ما كنت فيه ... وولىّ النّماء من تنميد
الحيز: الجانب، وقيل: الفريق، والجيش. ويجوز تنميه بفتح التاء: أي تنتمي إليه، ويجوز بضم التاء: أي تزيد فيه، من أنميت المال، ونمى هو.
يقول: هو أغلب الجانبين أو الفريقين أو العسكرين، الذي أنت فيه، والأولى بالكثرة من كنت منتسباً إليه، أو من كنت تزيد فيه.
ذا الّذي أنت جدّه وأبوه ... دنيةً دون جدّه وأبيه
دنية: أي قرباً، وهو مصدر في موضع الحال، لما قال: القبيل الذي أنت فيه أولى بالزيارة، استدرك ها هنا فقال: إنما يغلب الذي أنت جده وأبوه الأدنى، لا أبوه الذي ولده جده. فكأنه قال: إنما انتسبت هذه القبيلة إليك في الحقيقة.
وأذن المؤذن فوضع سيف الدولة القدح من يده، فقال أبو الطيب رحمه الله تعالى:
ألا أذّن فما أذكرت ناسي ... ولا ليّنت قلباً وهو قاسي
ولا شغل الأمير عن المعالي ... ولا عن حقّ خالقه بكاس

كان الوجه أن يقول: ناسياً، لكنه حذفه للضرورة، فجاء به على قول من قال: رأيت قاض.
يقول للمؤذن: أذن فإن أذانك لم ينبه سيف الدولة من غفلته، وليس قلبه قاسياً فتلينه بأذانك ولم يشغله الكأس عن حق الله تعالى، ولا عن المعالي.
وذكر سيف الدولة بيتاً أحب إجازته وهو:
خرجت غداة النّحر أعترض الدّمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب
الإجازة في البيت: إضافة بيت، أو أبيات إلى بيت آخر يتم به معناه، أو إضافة مصراع إلى مصراع يوافقهن ويتم معناه كقول بعضهم وقد شرب ماء:
عذب الماء وطابا
فقال أبو العتاهية:
حبّذا الماء شرابا
فما ذكره أبو العتاهية هو الإجازة ومعنى البيت: خرجت يوم الأضحى أنظر إلى وجوه الحسان وصورهم، فما رأيت فيه أحسن منك في عيني وقلبي. والدمى: جمع جمية وهي الصورة.
فقال أبو الطيب مجيزاً.
فديناك أهدى النّاس سهماً إلى قلبي ... وأقتلهم للدّارعين بلا حرب
أهدى الناس: أي أكثرهم هداية وأقصد، وسهماً نصب على التمييز، وأراد به العين. وقوله: أهدى يعني يا أهدى الناس، ويجوز أن يكون صفة لكاف الخطاب.
يقول: فديناك من معشوق يهدي سهمه إلى القلوب، ويقتل الرجال الشجعان اللابسين الدروع، وقيل أراد به سيف الدولة، يعني أنك تقتل أعداءك ولا تقيهم الدروع فعلى هذا يكون القلب بلا ياء. والأول أولى.
تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
يقول: حكم الهوى يخالف سائر الأحكام، فالكذب فيه حسن ! وخلف الوعد فيه جميل ! وإن كان قبيحاً من سائر الناس.
وإنّي لممنوع المقاتل في الوغى ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ
المقتل: الموضع الذي إذا أصيب من الجسد مات صاحبه.
يقول: مقاتلي ممنوعة في الحرب بشجاعتي، وإن كنت مبذول المقاتل في الحب، فيصيب الهوى مقتلي بأهون سعي ! وهذا أيضاً من أحكام الهوى المخالفة لسائر الأحكام.
ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السّهل في المرتقي الصّعب
يقول: مقاتلي مبذولة في الحب، وإن كانت ممنوعة في الحرب، لأن من كان له عينان مثل عينيك، سهل عليه المرام الصعب، وأدركه بأهون سعي.
وقيل: أراد من كانت عيناك نصب جفونه، صار طوعاً لهما، فلا يملك الامتناع من سهامها.
وهذه الأبيات ليست بجيدة في الإجازة؛ لأنها لا تتضمن معنى البيت الذي أجازه، غير أنها على وزنه ورويه، وهذا القدر لا يكفي في الإجازة، بل لا بد أن يكون له تعلق بالعنى الذي في البيت الأول.
وقال يمدحه بميّا فارقين، وقد نزلها سيف الدولة في شوال سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة وقد أمر الغلمان والجيش بالركوب بالتجافيف والسلاح:
إذا كان مدحٌ فالنّسيب المقدّم ... أكلّ فصيحٍ قال شعراً متيّم ؟!
كان ها هنا بمعنى: وقع، لا يحتاج إلى خبر.
يقول: من عادة الشعراء أن يقدموا النسيب على المديح، حتى كأن كل شاعر عاشق ؟! ليس الأمر كذلك بل يجوز أن يكون فيهم من يمدح ولا ينسب، إذ لا يجب أن يكون كل شاعر عاشقاً.
لحبّ ابن عبد الله أولى فإنه ... به يبدأ الذّكر الجميل ويختم
يقول: إذا كان ذكر النّسيب لا يدل على كون الشاعر عاشقاً، فذكر محاسن سيف الدولة، والتشبب بأوصافه أولى؛ فإن الذكر الجميل يبدأ به ويختم، إذ هو في جميع أوصافه.
أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم
طمح بنظره: إذا رفعه. وقيل: هو أن ينظر إلى مكان بعيد. وناظر العين: سوادها.
يقول: أطعت الغواني قبل أن أنظر إلى معالي الأمور، فلما نظرت إليها صغر في عيني أمر الغواني. وقوله: يصغرن أي الغواني ويعظم أي المنظر.
وقيل معناه أطعتهن قبل أن أرى سيف الدولة، فلما رأيته عظم في عيني شأنه وصغر أمرهن عندي.
تعرّض سيف الدّولة الدّهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم
تعرض: أي أتاه من عرضه: أي من جانبه. والتطبيق في القطع: أي يقطع المفصل فيكون أسهل، والتصميم: أن يمضي في العظم فلا ينبو عنه.
يقول: إن سيف الدولة قصد إلى الدهر فقطع أوصاله، وأمضى على أحكامه تارة بالعنف: وهو التصميم. وتارة بالرفق: وهو التطبيق، ولما جعله سيفاً: جعل مضيّ أمره على الدهر قطعاً لأوصاله.

فجازله حتّى على الشّمس حكمه ... وبان له حتّى على البدر ميسم
ميسم، قيل: هو الحسن. وقيل: هو من العلامة، وحكمه رفع بجاز أي جاز له حكمه على الشمس وميسم رفع ببان.
والميسم: من قوله وسمه يسمه، ومعناه على الأول أنه ملك الدهر حتى جاز حكمه على الشمس، ونفذ فيه مراده، وبان على البدر، وحسنه ظهر عليه وغلبه، وقيل: إن جواز أمره على الشمس هو أنه متى شاء غير لونها بغبار خيله، وأخفى ضياءها بلمع سيوفه، والأولى أن يحمل على مجرد الدعوى، مبالغة في المدح.
وإن أريد بالميسم العلامة فمعناه: أنه قد ظهر وسمه وأثره على كل شيء من الدهر، حتى على البدر، يعني أنه يذهب بضوء البدر.
وقيل: إنه أراد به الكلف الذي نراه في القمر، وأنه من تأثير سيف الدولة فيه، وقد وسمه، كما يسم الرجل دوابه وإبله.
كأن العدا في أرضهم خلفاؤه ... فإن شاء حازوها وإن شاء سلّموات
يقول: كأنّ أعداءه في بلادهم عماله وخلفاءه، فإن شاء حاز بلادهم بالقهر، وإن شاء سلموها وتسلمها منهم.
ولا كتب إلاّ المشرفيّة عنده ... ولا رسلٌ إلاّ الخميس العرمرم
العرمرم: الجيش الكثير المضطرب.
يقول: ليس له إلى أعدائه كتب إلا السيوف، ولا يرسل إليهم رسلا سوى الجيش.
فلم يخل من نصرٍ له من له يدٌ ... ولم يخل من شكرٍ له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبرٍ ... ولم يخل دينارٌ ولم يخل درهم
يقول: إنه ملك البلاد، وعم بإحسانه العباد، وليس أحد من الناس إلا ناصره، ولا ناطق إلا شاكره، وما من منبر في البلاد إلا وخطيبه يدعو له، ويذكر اسمه، ولا دينار ولا درهم إلا وهو مضروب باسمه.
ضروبٌ وما بين الحسامين ضيقٌ ... بصيرٌ وما بين الشّجاعين مظلم
يقول: إذا تدانت الأقران في الحرب، وضاق ما بين الحسامين فلم يتمكن الشجاع من الضرب وجد هو لسيفه مجالاً، وإذا اشتد الأمر، وعلا الرهج حتى يظلم بين الشجاعين، كان هو بصيراً في الحلة، ولا يخفى عليه وجوه الصواب.
تبارى نجوم القذف في كلّ ليلةٍ ... نجومٌ له منهنّ وردٌ وأدهم
تبارى: أي تعارض. ونجوم القذف: النجوم المنقضة لرجم الشياطين. والورد: الأشقر. والأدهم: الأسود.
يقول: خيله تعارض النجوم المنقضة في السرعة وفي رمي الأعداء، فكما أن النجوم لا يرمى بها إلا الشياطين وتحرقها، فكذلك خيله التي منها الورد والأدهم، تسري إلى الأعداء فتحرقها كالنجوم المنقضة على الشياطين.
يطأن من الأبطال من لا حملنه ... ومن قصد المرّان مالا يقوّم
القصد: ما تكسر من الرماح، الواحدة: قصدة. والمران: الرماح اللينة والضمير في يطأن: للخيل، والهاء في حملنه لمن.
يقول: تطأ خيله من الشجعان ما لا تحمله الخيل: يعني القتلى. وتطأ الرماح المتكسرة التي لا تقوم. وقوله: من لا حملنه. معناه من لم يحملنه. أقام لا، مقام لم ويجوز أن يكون وحملنه: بمعنى يحملنه. وتقديره يطأن من الأبطال من لا يحملنه، فيكون موافقاً لقوله: ما لا يقوم. وقيل: إنه دعاء. ومعناه من لا أظفره الله على الممدوح وجيشه، ومعناه من يستحق أن يقال: لا حملنه. أي من يستحق هذا الدعاء عليه. وهذا كقوله: فداءه: أي يستحق أن أقول له: جعلت فداءه.
فهنّ مع السّيدان في البرّ عسّلٌ ... وهنّ مع النّينان في الماء عوّم
وهنّ مع الغزلان في الواد كمّنٌ ... وهنّ مع العقبان في النّيق حوّم
السيدان: جمع السيد. وهو الذئب. والعسل: جمع عاسل، وهو المضطرب في عدوه. والنينان: جمع نون، وهو الحوت العظيم. والواد: أصله والوادي فاكتفى بكسر الدال. والنيق: رأس الجبل. والعقبان: جمع عقاب.
يقول: إن خيله قد ملأت البر والبحر والسهل والجبل، ففي البر كالذئاب، وفي البحر كالحيتان، وتكمن مع الغزلان في كل واد، وتحوم مع العقبان في كل نيق فلا موضع يخلو منها.
إذا جلب النّاس الوشيج فإنّه ... بهنّ وفي لبّاتهنّ يحطّم
جلب: حمل. والوشيج: أصول الرماح، وأراد به الرماح ها هنا. يعني أن خيله قد تعودت القتال، فإذا جلب الناس الرماح من معادنها، فإنها لا تتكسر إلا في صدورهن، أو بأيدي فرسانه؛ لأنه لا يكون حرب إلا معه.
بغرّته في الحرب والسّلم والحجا ... وبذل اللّها والحمد والمجد معلم
اللها: الدراهم.

يقول: سيف الدولة معلم بغرته، مشهور بوجهه في هذه المواضع، لا يحتاج إلى علامة غيرها؛ لشهرتها. وروى: معلم أي قد أعلم لذلك، أو عليه موضع علامة.
يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم
يقول: قد ظهر فضله في الناس، حتى تساوي في الإقرار به الأولياء والأعداء، وثبتت له السعادة، واستمرت له السلامة، حتى تشارك المنجم وغيره بالقضاء له بالسعادة؛ استشهاراً بظاهر الحال فيعتبر به المآل.
أجار على الأيّ؟ام حتّى ظننته ... تطالبه بالرّد عادٌ وجرهم
أجار على الأيام: أي منع جورها عن الناس. وعاد وجرهم: أمتان هلكتا في قديم الزمان.
يقول: إنه أجار جميع النام من حوادث الأيام، حتى ظننت أن عاداً وجرهماً. تجيئان إليه، وتطالبانه بردهما إلى الدنيا، والانتقام لهما من الأيام.
ضلالاً لهذي الريح ! ماذا تريده !؟ ... وهدياً لهذا السّيل ! ماذا يؤمّم
ضلالاً، وهديا: نصب على المصدر بفعل مضمر.
كان سيف الدولة زار قبر أمه فأصابه في طريقه ريح فيه مطر فقال للريح: ضلالاً: أي أضلها الله ضلالاً؛ لأنها تزعم أنها عارضته، وأرادت أن تثنيه عن طريقه. ودعا للسيل بالهدى؛ لأنه زعم أنه جاء مع سيف الدولة يزور قبر أمه، ويسقى تربتها.
وقيل: الدعاء على الريح؛ لأنها تضر في الغالب، ودعاء للمطر لأنه ينفع في الأكثر.
ألم يسأل الوبل الّذي رام ثنينا ... فيخبره عنك الحديد المثلّم ؟
يقول: هلاّ يسأل هذا المطر الذي أراد صرفنا عن مقصدنا، حتى يخبره عنك الحديد المثلم، بأنك إذا رمت مراماً لم يصدك عنه سيف حسام، فكيف يثنيك المطر والغمام. وأراد بالحديد سلاح الأعداء.
ولمّا تلقّاك السّحاب بصوبه ... تلقّاه أعلى منه كعباً وأكرم
الصوب: المطر. وأعلى منه كعباً: أي منزلة.
يقول: لما تلقاك السحاب بمطره في طريقك، تلقاه من هو أعلى منه محلاً وأجل منه قدراً.
فباشر وجهاً طالما باشر القنا ... وبلّ ثياباً طالما بلّها الدّم
يقول: باشر السحاب وجهاً أكثر منه مباشرة للرماح، وبل ثياباً بلها الدم قبل ذلك، فالمطر أهون شيء عنده.
تلاك ... وبعض الغيث يتبع بعضه من الشّام يتلو الحاذق المتعلّم
يعني يتبعك هذا المطر لأنك غيث مثله، والغيث يتبع بعضه بعضاً كما يتبع المتعلم الأستاذ.
فزار الّتي زارت بك الخيل قبرها ... وجشّمه الشّوق الّذي تتجشّم
فاعل زار: الغيث، ومفعوله التي والذي في موضع نصب؛ لأنه مفعول جشمه، والهاء للغيث.
يقول: زار هذا الغيث قبر والدتك، وكلفه الشوق من السير مثل ما تكلفت أنت، أي هو يشتاق قبرها كما تشتاقه أنت.
ولمّا عرضت الجيش كان بهاؤه ... على الفارس المرخى الذّؤابة منهم
يقول: لما عرضت الجيش، كان بهاء هذا الجيش وجماله بالفارس الذي أرخى ذؤابته. سيف الدولة الممدوح.
حواليه بحرٌ للتّجافيف مائجٌ ... يسير به طودٌ من الخيل أيهم
الطود: الجبل. والأيهم: الصعب الذي لا يهتدي إلى موضع صعوده. والمائج: الفاعل من ماج يموج إذا اضطرب. شبه تجافيف الخيل ببحر يموج لكثرتها وصفائها، وشبه الخيل في اجتماعها بجبل صعب المرتقى، فجعل التجافيف بحراً مائجاً على جبل شاهق.
تساوت به الأقطار حتّى كأنّه ... يجمّع أشتات الجبال وينظم
الأقطار: نواحي الأرض، والواحد قطر وقتر والهاء في به للجيش، أو للبحر أو للقطر.
والمعنى: أن هذا الجيش قد ملأ بين الجبال حتى تساوت به جميع نواحي الأرض، وصارت الأرض جبالاً؛ فكأنه جمع الجبال المتفرقة. وروى: أشتات البلاد.
وكلّ فتىً للحرب فوق جبينه ... من الضّرب سطرٌ بالأسنّة معجم
يقول: كل واحد من هذا الجيش فوق جبينه أثر الضرب والطعن؛ لشجاعته وتعوده الحرب. فشبه أثر الضرب بالسطر لا ستطالتها كالسطر وأثر الطعن بالمعجم؛ لاستدارته كالنقط، وهو أحسن من قول أبي تمام:
كتبت أوجههم مشقاً ونمنمةً ... ضرباً وطعناً يقدّ الهام والصّلفا
كتابة لآتنى مقروءةً أبداً ... وما كتبت بها لاما ولا ألفا
يمدّ يديه في المفاضة ضيغمٌ ... وعينيه من تحت التّريكة أرقم




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الثالث والرابع بدون توابع من كتاب ارشاد الفحول للشوكاني

  المحتوي  المحتويات المسلك الأول : الإجماع المسلك الثاني : النص على العلة المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه المسلك الرابع: الإستدلال على ...